الشعراء الذين واجهوا الطغاة والجبابرة
أمَّا قبل: فإنّني لا أنصح بقراءة (هذا الكتاب) سيّما الذين يُعانونَ من أمراض الضغط والسكر ... لأنه يحتوي على "قماقم سليمانيَّة" لا تزال الأرواح محبوسة فيه حتى تُفكّ أوصادها، لتنطلق من معقلها وتنشب في قارئها، فترديهِ صريعاً، كيْ تستعيد حياتها مرةً أخرى!
ولوْ كانت تلك الوجدانات والعواطف تجيش في صدر الكِتَاب، كما كانت تجيش في صدور أصحابها الشّعراء لأحرقت صفحاته وجوه القُرّاء من شدة اللهيب المنبعث منها، ولأصمّ آذانهم الصراخ والأنين الصادر من أحشائه، وفتّت الأكباد ما ينبعث منه من الآلام والمظالم، وحَجَبَ شعاع الشمس ذاك الدخان الكثيف الذي يتخلّل القوافي والأوزان!
بلْ لكان الناسُ يفزعون مِن "هذا الكتاب" أشدّ مِن فزعهم مِن سياط الجلاّدين، ويَهُون عليهم أن يقضوا أعمارهم داخل المعتقلات والسجون مِنْ أن يقضوا لحظاتٍ قليلة بين يدي هذا الكتاب، وفضّلوا أن يسمعوا صرخات الثكالى ووجيب المنكسرين على أن يسمعوا أخبار هؤلاء الشّعراء ومصائبهم، واختاروا القراءة عن حوادث الموت الزؤام مِنْ أن يقرأوا القصائد التي حواها هذا الكتاب، واستطابوا أن يجمعوا دماء هؤلاء الشّعراء وبقايا رفاتهم على أن يجمعوا أشعارهم ومرويّاتهم، ولبّوا الدعوةَ إلى مشاهدة الضحايا والناجين من تحت الأنقاض على الدعوة إلى رؤية هؤلاء الشّعراء!
(هذا الكتاب) –بمثابة– صندوق للشكاوى، ودفتر للمظالم، وسجلّ روّاد السجون والمعتقلات، ومستودع للدموع والهموم والأحزان!
(هذا الكتاب) أشبه بساحة مصارعة، ومحكمة منعقدة، تتبادل فيها الاتهامات بين الظالمين والمظلومين، بين المُفترِين والمُفترَىَ عليهم، بين الطغاة المسلّحين والمستضعفين العزل ... وذلك كله في ثوبٍ أدبيٍّ قشيب، من خلال صفحات التاريخ، لاستخلاص الدروس والعبر!
(هذا الكتاب) ينشر قصائد وحكايات ومآسي (ألف شاعر) واجهوا الطغاة والجبابرة مِن مختلف العصور، وأعلنوا معارضتهم لحُكّام الجوْر؛ الذين أذلُّوا شعوبهم وساموهم سوءَ العذاب!
(هذا الكتاب) يجمع القصائد الناريّة الحارقة التي غَلَبَ عليه طابع "الكَتْم" ويصُعب العثور عليه! فأغلبها قد تعرَّضَ للضياع والتلف والتشويه، أوْ الإحراق، أوْ الإغراق، لأنَّ له طبيعة ذات مغزى، فهو أشبه بالقنابل والمتفجرات، أوْ هو كالسلاح غير المرخَّص به، والذي يباع في "السوق السوداء"، ويُتداول بين الناس سراً، وعلى حذَرٍ شديد!
ومن هؤلاء الشعراء الذين تحدّث عنهم هذا الكتاب، الشَّاعر العراقي (يحيى السماوي) الذي اصطلى بنيران "طاغية البعث" وتلظّى بسعيره! حيثُ قضى سنواتٍ مريرة في سجون صدّام، ثم استطاع الهرب بأعجوبة أثناء انتفاضة العراقيين أثناء حرب تحرير الكويت سنة 1991م.
فاستمع إليه وهو ينادي على بغداد، ويُكنّيها: (أخت هارون) فيقول:
يا أختَ "هارون" .. ما أنصفتِ هارونا فإنَّ كأسكِ فاض اليوم غِسلينا دالتْ علينا صروفُ الدهر وانقلبتْ صروحنا فإذا راياتنا الدُّونى! فأين منَّا زمان كان يَحسبنا فيه الطغاةُ -على ظُلم- براكينا؟ يا أخت "هارون" لمَّا صرتِ آنيةً لقيحِ "عفلق" صار الزادُ طاعونا! دعوتُ يوماً بوأدِ "البعث" في وطني فجلْجلَ الكونُ -كلّ الكونِ- آمينا! |
|
وتارة يدعوها (بنتَ جعفر) ويبثّ إليها هموم وطنه الذي هرب منه قسراً: فيقول:
يا "بنت جعفر" كمْ صرخت وراعني
أنّ الذي سمع الصراخ غلوسُ
ما للعراق اليوم يكظم غيظه
والبغيُ فوق الرافديْن جليسُ ؟
بغدادُ؟ ما عادت عروس عروبتي
وأخو الرذائل في العراق عريس!
طفح الأسى فغرقتِ يا "ابنة جعفر"
وعلى ضفافكِ أعشب التدليسُ
آهٍ على زمنٍ تعثّر صُبحه
فاسْتَعبدتْ جمعَ الكرامِ تِيوسُ!!
وتارةً، يتوجه بالخطاب إلى "هارون الرشيد" شاكياً ما آلتْ إليه عاصمة الخلافة، وكيف تبدّلت الأوضاع، فيقول في قصيدة أخرى:
هذا عراقُكَ يا رشيدُ .. رغيفهُ حَسَكٌ، وكوثرهُ دَمٌ ووحولُ تحت الكراسي في العراق جماجمٌ وعلى الكراسي في العراق مغولُ وإذا "العفالقةُ" استقام لأمرهم حُكْمٌ –فغانيةِ الكهوفِ بتولُ! للجاهلية، في العراق عقيدةٌ و"بني قُريظةَ" محفِلٌ وقبيلُ !! |
|
للهِ در (يحيى السماوي) فبسبب المنافي والاغتراب؛ نسيَه الوطنُ، ونسيَ لونه وملامحه أيضاً، فاستمع إليه وهو يصرخ ألماً في قصيدته (رفقاً بضعفي):
عندي مِن القلق المرير قوافلٌ ضاقتْ هوادجها ببعض عذابي! كل الدروبِ مشيتها، وفرشتها بلظَى ضياعي أوْ رماد شبابي! أدري بأنكَ يا عراقُ خذلتني ونسيتَ لون ملامحي وثيابي عاتبتُ قلبي يا عراقُ .. لأنني أدري بقلبكَ لا يطيقُ عتابي! |
|
ويمضي (يحيى السماوي) في لعن الطغاة الذين ساموا الناسَ سوء العذاب، وراح يصبّ جام غضبه على عصابة البعث، إذْ يقول في قصيدة (آهٍ على وطنٍ شُلّ الصباح به):
فأرضُ "دجلة" عندي عن مصائبها
ما لا يُقالُ، فماذا يكتبُ القلمُ؟
مدائنٌ أصبحتْ للناس مقبرةً
وأنهُرٌ ماؤها مما يُراقُ دمُ!
وأيُّ حاكم لؤمٍ بات يحكمنا
وقدْ تساوى لديهِ الدِينُ والنغمُ!
هو ابن ألف أبٍ نذلٍ لواحدةٍ
يكادُ يخجلُ منهُ العارُ واللؤمُ !
أمَّا العجب –كل العجب– فلا يكمنْ في شاعرية "السماوي" فحسب، بلْ في حسّه المرهف، وحدثه الشفّاف، ونبوءته الصادقة، إذْ تنبأ بسقوط نظام البعث بأصنامه وطواغيته، في الوقت الذي كان فيه هذا النظام مدججاً بالسلاح حتى أسنانه، وكانت تحرسه شياطين الإنس والجن من مشارق الأرض إلى مغاربها، فلنستمع إلى هذه النبوءة التي سجلها -الشاعر- قبل سقوط نظام البعث الفاشي، في قصيدته "قالت وجرحك جرحي" التي يقول في آخرها:
صدّام: يا وسخَ الدنيا برمّتها يا بئسَ مَنْ حُكِمُوا، ومَنْ حَكَمُوا تِهْ يا خبيثُ .. فللأيام ِدورتها وسوف يُنْتَعلُ الطاغوتُ والصنَمُ! |
|
أخيراً –وليس آخِراً- سلامٌ على (شعراء المعارضة) في العالَمين!
سلامٌ عليهم يوم مولدهم، ويوم موتهم ... ويوم يقفونَ على سُور (الأعراف) يُبكّتونَ الطغاةَ المستبدّين، ويسألونهم: ما أغنَى عنكم جمعكم وما كنتُم تستكبِرون؟
ويقولونَ لهم: ذوقوا ما كنتم تفعلونه بنا في جحيم الزنازين!!!
وسوم: العدد 1077