شعراء في مواجهة الطغيان
أول كتاب تنبأ باشتعال الثورات العربية
عبد الرحمن العقالي
(ألف شاعر) واجهوا القمع والتعذيب والسجن والنفي والمطاردة!
شعراء مصر والشام واليمن أبرز من واجهوا الأنظمة الديكتاتورية والقمعية.
يحيى السماوي ومطر والنواب ومحمود الدغيم مهدوا الطريق للثورات العربية.
صدرت حديثاً عن مكتبة جزيرة الورد بالقاهرة، أول وأهم موسوعة عن تاريخ الشعر السياسي في الوطن العربي بعنوان (شعراء في مواجهة الطغيان) للكاتب الأديب محمد عبد الشافي القوصي- تقع في حوالي 500 صفحة من القطع الكبير، تستعرض لأكثر من ألف شاعر عربي تعرضوا لأشد أصناف القمع والتعذيب والمطاردة والتصفية الجسدية ... لذا فإن هذا الكتاب بمثابة صندوق للشكاوى، ودفتر للمظالم، وسِجل لروّاد المصحّات النفسية والسجون والمعتقلات، ومستودع للدموع والأحزان.
فهو أشبه بساحة مصارعة، ومحكمة علانية منعقدة، تتبادل فيها الاتهامات بين الظالمين والمظلومين، بين المفترِين والمُفترَى عليهم، بين الطغاة المسلحين والمستضعفين العزل.
وقد أكد –المؤلف– أن أزمة هؤلاء الشعراء تكمن في (أنظمة الحكم) الجائرة التي أنشبت أنيابها عبر حقب تاريخية طويلة، وعن طريق ثورات رعناء، وأنظمة ديكتاتورية حالتْ دون حدوث أي نهضة أو إصلاح، بسبب تهميشها ومطاردتها وتصفيتها للصالحين والمصلحين من أبناء الأمة، وعزلهم عن مواقع الريادة والتأثير، حتى يخلو الجو لحواشي السلطان من المتسلقين الذين هم –بمثابة– اليد اليمنى من الطغيان!
خصائص الشعر السياسي
يقول محمد القوصي: إن هــذا اللون الشعري له سمات خاصة به دون غيره من الألوان الشعرية الأخرى، كما أن شعراءه لهم خصائص نفسية معينة، وله ظروف زمانية ومكانية بذاتها، سوف نشير إلى جانب منها في السطور التالية:
- (الشعر السياسي) كثيراً ما يعبر عن "أيديولوجية" فكرية بعينها ... كالأحزاب والفِرق والمذاهب والعصبيات المتناحرة، وخير شاهد على هذا اللون الشعري ما كان في العصر الأموي بالذات، حيث ارتدت الحياة السياسية والاجتماعية إلى سابق جاهليتها في العصبيات المتأججة التي استشرت حتى أصابت بعض فضلاء المسلمين والصحابة غافلين عما في ذلك من الضرر.
- و(الشعر السياسي) يغلب عليه في بعض الأحيان طابع "الكتم" وهذا اللون ما أسماه النقاد بـ"المُكتمات" وهي أشعار موجودة في كل عصر، وقصائد المكتمات يصعب العثور عليها، فضلاً عن الاستدلال على أصحابها، فمصيرها الضياع والتلف والتشويه، والإحراق، والإغراق، لأنها ذات طبيعة معينة، وموضوعاتها ذات دلالة على طبيعة العصر، فهي أشبه بالقنابل والمتفجرات الممنوع اقتناؤها، أو هي كالسلاح غير المرخص به، فيتحول عندئذ إلى "السوق السوداء" ويتداول بين الناس سراً وعلى حذر.
- و(الشعر السياسي) وليد لظروف بعينها، فالشاعر مدفوع إليه دائماً بدافع قهري، فعندما تلح عليه فكرة أو موضوع القصيدة، فلا يستطيع صدها أو منعها أو حتى تأخيرها، إنها لحظة المخاض -كما وصفها الشعراء أنفسهم– فلابد لهذا الجنين أن يخرج إلى النور على الفور سواء كانت ولادته عادية ميسّرة أو قيصرية متعسّرة، المهم أن يخرج هذا الكائن إلى الحياة. أما عن اسمه ورزقه وأجله وشقي أم سعيد، فهذه مسائل أخرى تتضح معالمها فيما بعد الولادة .. حيث يبدأ صراع هذا "الوليد" الشعري مع الوجود الخارجي الملبّد بالسحب الداكنة، والدخان الكثيف، والعواصف الهوجاء، والحفر والمطبّات الطبيعية والصناعية، ولطالما نجد أن هذا الوجود الخارجي في حالة لا تسمح له بقبول هذا الوليد أو منحه مكاناً تحت النور، إما لسبب راجع إلى الشعر نفسه، أو إلى المجتمع، أو إليهما معاً!
وقد يفطن الشاعر إلى ذلك من نفسه منذ البداية فيمتنع عن إنشاد هذا الشعر أو يتخلص منه، كما فعل أبو نواس بأشعار له أحرقها قبل أن يموت، فلما سئل قال: هذه أشعار كنت أضنُّ بها أن يسمعها الناس وسمعها الناس وكرهت أن تبقى بعدي فينتحلوها، فأحرقتها.
و(الشعر السياسي) موصول بجميع الأزمنة والأمكنة ... فلا يخلو عصر من هذا اللون الشعري الغاضب، نظراً لوجود فئة من الأدباء "الراديكاليين" أصحاب الأفكار المرفوضة سياسياً أو عقدياً أو اجتماعياً، وهؤلاء تقوم السلطة القائمة بتكميم أفواههم، فلا يكادون ينطقون جهراً حتى يؤخذوا بجرائر ألسنتهم، وربما يشتد بهم الأمر فيؤخذوا بذنب فكرهم قبل نطقهم، فكلنا يعرف جيداً حكاية أمل دنقل وقصيدته "لا تصالح" التي لم تتجرأ على نشرها أي مطبوعة مصرية –آنذاك- ومظفر النواب وقصيدته اللاذعة "القدس عروس عروبتكم" التي لم تنشر في صحيفة أو كتاب، وكانت تتداول سراً بين عشاق الأدب والشعر، كالقصيدة الحارقة التي نشرتها الصحف المصرية بدون توقيع اسم صاحبها، وهي بعنوان "رسالة من صدام حسين إلى قمة الزعماء العرب في تونس"، حيث تضاربت الآراء في معرفة شاعرها، وإن كانت بعض أصابع الاتهام قد أشارت إلى الشاعر اليمني عبد الولي الشميري!
- و(الشعر السياسي) ينفرد بطبقة متميزة من المبدعين في كل العصور، ينقطعون له، ولا يعدونه شبراً واحداً، ويخلصون له أيما إخلاص، حتى يصبحوا من أعلامه ورواده الأوائل، كأمل دنقل، وسميح القاسم، ومظفر النواب، ويحيى السماوي، وأحمد مطر، ومحمود الدغيم، وغيرهم في العصر الحديث.
التحليل النفسي لشعراء الرفض
وعند حديثه عن (خصائص شعراء المعارضة) يقول المؤلف: إن المتأمل في (شعر المعارضة) يلحظ أنه يمثل قاسماً مشتركاً بين شعراء العربية كلهم ، فلا نكاد نجد شاعراً برئَ من هذا المرض أو رُقي من هذا السّحر، بل أُصيبوا كلهم بإصابات بالغة، ولُدغوا من نفس الجحر مرات ومرات، وكأنهم ولدوا في جحر العقارب والأفاعي.
و(شعر المعارضة) هو في الأغلب نتيجة أو ردّ فعلٍ من الشاعر للظروف الاجتماعية المحيطة به ... فقد يكون الشاعر مظلوماً، أو مضطهداً، أو خلاف ذلك من المآسي الحياتية التي تحيط بهم .
و(شعراء المعارضة) لم يكونوا متصالحين مع المجتمعات التي عاشوا فيها، بل عاشوا منبوذين فيها، لأنهم عادة لا يعيشون في الحياة، ولكن يعيشون ضيوفاً على الحياة!
و(شعراء المعارضة) مُسيّرون لا مُخيّرون في هذا الأمر، وأنهم مُساقون إليه سوقاً، ومدفوعون إليه دفعاً، ربما بسبب طبيعتهم النفسية القلقة، أو بفعل شياطينهم المردة، أو من قسوة الحياة، ووحشية المجتمع، وعقابيل الطريق التي يسلكونها رغماً عنهم!
(شعراء المعارضة) تغلب عليهم روح التمرد أو الثورة، وقد ساعدهم هذا على أن يكونوا خارجين على الأنظمة، أو غير منتمين إليها، وإذا انتموا فإن غالب انتمائهم يكون للأنظمة والأحزاب المشاقّة والمكايدة للأنظمة القائمة، ويكون انتماؤهم كذلك للكيانات التي تضع "العدل الاجتماعي" في برامجها من قريب أو بعيد.
(شعراء المعارضة) يبدون ككتيبة من العُصاة، فقد أجبرتهم الحياة بصفة عامة على أن يعبروا عن القلق والفقر والهروب والموت والأشياء القريبة التناول، ولهذا يعتبرهم النقاد من رواد "الواقعية العربية" فقد كشفوا عن الشاعرية الكامنة في الأشياء البسيطة، واقتربوا من لغة الحكْي، وتنبهوا بشفافية إلى المرئيات التافهة، وأخذوا من الحياة شرائح ساخنة، ثم عبروا عنها من خلال نفوسهم .. ومن خلال نظرتهم الخاصة للحياة.
(شعراء المعارضة) يهتمون اهتماماً خاصاً بظاهرة الموت في أشعارهم، لأنهم يشعرون أنهم أبناء الموت، وأن حياتهم دائماً في خطر، ومن ثم فإن خلاصهم الحقيقي لابد أن يكون خارج الحياة لا داخلها، وهم في الغالب لم يمارسوا الحياة في "دائرة الأدب" وهكذا عاشوا يتامى في الحياة، وفي الوقت نفسه كانوا مطالبين بالحصول على "تصريح إقامة" داخل مناطق بعينها في المجتمع.
(شعراء المعارضة) لا نجد عندهم –أحيانا- محاولة للعودة إلى مسقط رءوسهم في حالة الاغتراب أو النفي –مهما أظهروا عشقهم لمنازلهم وتباكوا عليها في أشعارهم ورسائلهم- فسرعان ما نراهم يندمجون في المجتمع الجديد، لأنهم يجدون أمنهم فيه، ولا أدلّ على ذلك من الجواهري، وبلند الحيدري، ومظفر النواب، وأحمد مطر، وغيرهم ممن قضوا أعمارهم في المنافي والشتات.
(شعراء المعارضة) لا تظهر قصائدهم في حينها -في كثير من الأحيان- ولا تُسمع في الموطن الذي وُلِدتْ فيه، وربما لا يُعرف صاحبها، وقد تُنسب إلى غيره، إذْ يغلب عليها صفة الكَتْمْ، فهي من الممنوعات أو المحظورات، فهي أشبه بالديناميت، أو كأنها زجاجات حارقة وعبوات ناسفة، كقصيدة "القدس عروس عروبتكم" التي لم يُعرف شاعرها الأصلي سنيناً طويلة، وغيرها من القصائد الجارحة!
(شعراء المعارضة) يلجأون –أحيانا- إلى التعريض أوْ المواربة ، بدلاً من التصريح أوْ الهجاء المباشر، لأن التعريض أهجى من التصريح، لاتساع الظن في التعريض، وشدة تعلق النفس به، والبحث عن معرفته، وطلب حقيقته، وأن أجود ما في الهجاء أن يسلب الإنسان فضائله النفسية، وما تركب من بعضها مع بعض.
(شعراء المعارضة) يُركّزون في أشعارهم على كل ما يُوحي بالزوال والفناء والقتل، فلعلّ الإحساس بالفناء والعدم وغلبة التشاؤم هو بمثابة تعبير عن حياتهم البائسة، خاصة عندما يكون الإنسان مُضيّعاً، أوْ طريداً، أوْ منفياً، وفاقداً للأمل في العدل الاجتماعي أو الحرية أو الديمقراطية التي عاش يحلم بها ويدعو إليها.