تدمر المجزرة المستمرة
نذير علمدار
إن توثيق المعلومات في كتاب لا يقل أهمية وخطورة عن الأطروحات الجامعية، لأنه وثيقة تاريخية قضائية في آن واحد.
يبدأ الكتاب بالحديث عن مدينة تدمر في التاريخ، ثم في ظل الإسلام، ثم في العصر الحديث، ومن المفارقات أن الشعب السوري لا يعرف من تدمر إلا الوجه المظلم وهو (سجن تدمر العسكري) وشتان ما بين تدمر التاريخ والحضارة، وتدمر التي ضمت فوق ترابها سجناً من أعتى السجون في العالم؟!
وهذا السجن في الأصل جزء من ثكنة عسكرية يعود تاريخها إلى زمن الاحتلال الفرنسي، وهو سجن مخصص لتأديب الناشزين والمنحرفين من العسكريين، وقد تحول في زمن البعث إلى معتقل للسياسيين (1966) وشهد اعتقال عدد من السوريين: حقوقيين – دعاة – سياسيين- قادة أحزاب- مفكرين.
وفي الانتفاضة الشعبية 1980 قدم رفعت أسد قائد سرايا الدفاع مشروعاً لجعله مقبرة أحياء للمعارضين وقد سماه الكثيرون (باستيل سورية) حيث جرت بين جنباته وعلى يد جلاوزته المجازر التي أزهقت فيها أرواح آلاف المواطنين، ولعل أكبرها مجزرة تدمر الكبرى يوم 27/6/1980 حيث توجه (200) عنصر من سرايا الدفاع بالطائرات، للإجهاز على أكثر من ألف سجين من النخب السورية الوطنية في سرية تامة إذ تم اختيار العناصر من فئة معينة دُربت على القتل بدم بارد، وعبئت حقداً وإيغالاً في الانتقام المبني على هلوسات طائفية وحزازات تاريخية، فانقض هؤلاء على المعتقلين وهم في مضاجعهم، يطلقون الرصاص والقنابل وخلال أقل من ساعة أصبح جميع المعتقلين في سجن تدمر العسكري صرعى يتخبطون بدمائهم، وحضرت جرافتان ضخمتان (من نوع قلاب) تسوي الأرض فوقهم في واد يقع شرقي تدمر.
وبقي دم الضحايا البريئة يغمر أرض السجن، وتجمد في كثير من الأماكن من الباحات والمهاجع فتكفل جهاز السجن بإحضار عناصر البلدية الموثوقين، وعملوا على تنظيف السجن من الدماء والأغراض المخضبة، كما أجري ترميم السجن وطليت جدران المهاجع بطلاء يستر ما تحته من آثار الجريمة، أما المجرمون منفذو هذه العملية فقد عادوا بالطائرات إلى مطار المزة قرب دمشق ظهراً ووقف الرائد معين ناصيف يشكرهم على جهودهم قائلاً:
- أنتم قمتم بعمل بطولي.
ثم أمرهم بكتمان ما حدث.
ولكنها جريمة أكبر من أن تكتم، فقد تسربت أخبارها منذ الأيام الأولى، كما أن اثنين من عناصر سرايا الدفاع الذين أسهموا في المذبحة قد أدليا باعترافاتهما المفصلة أمام التلفزيون الأردني بعد أن ألقي القبض عليهما في محاولة اغتيال السيد مضر بدران رئيس وزراء الأردن بعد أشهر من المذبحة.
ثم يستعرض الكتاب صوراً مذهلة للتعذيب الذي يلاقيه المعتقلون بشكل يومي منتظم لا يكاد يتوقف سواء في ذلك التعذيب الجسدي أم النفسي، لينتقل بعد ذلك إلى وصف الأمراض التي انتشرت نتيجة لسوء التغذية والتهوية، وإلى استمرار القتل في عمليات الإعدام التي لم تتوقف، إلى جانب إزهاق الأرواح نتيجة للتعذيب والتشفي، وكانت مواعيد الإعدامات يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، ويستعرض الكتاب أسماء بعض الشهداء وعمليات إعدامهم بشكل وحشي لم تعرفه الإنسانية في أحط أدوارها.
ويفرد الكتاب فصلاً يذكر فيه أسماء المجرمين والمخططين والمنفذين، بدءاً من رئيس النظام آنذاك (حافظ أسد) إلى أصغر عريف، وما يؤسف له أن هؤلاء جميعاً من لون واحد، وطائفة واحدة، بحيث ينطبق على تلك العمليات توصيف التطهير العرقي والديني، وهو ما لم تعرفه سورية إلا بعد انقلاب البعث.
وقد اعتمد الكتاب على (الوثائق الأردنية 1981) الذي يضم (تفاصيل مؤامرة النظام الطائفي الفئوي السوري للاعتداء على حياة السيد مضر بدران رئيس وزراء الأردن، وقد طبعت الكتاب وزارة الإعلام الأردنية في 25/2/1981) كما أذيعت تلك الاعترافات عبر التلفزيون الأردني) وقد أثبت الكتاب نص هذه الاعترافات.
وأما فيما يتعلق بأوضاع سجناء تدمر بعد تلك المجزرة فهو ما أفاد به – مشافهة وكتابة- عدد من أولئك السجناء الأبرياء الذين أطلق سراحهم، على أن أهم المعلومات كان مصدرها كتاب (في القاع: سنتان في معتقل تدمر الصحراوي) لخالد فاضل، وفي الفصل الأخير عرض الكتاب لنماذج أدبية من قصة وشعر تصور هذه الفاجعة، وتتحدث عن ذلك السجن المأساة.
وكذلك كتاب: (حمامات الدم في سجن تدمر الصحراوي)
تأليف الدكتور عبدالله الناجي، الذي اعتقل في ذلك السجن الرهيب مدة سنتين ونصف السنة، خرج بعدها برشوة كبيرة دفعها أهله لمدير السجن.
وفي الكتاب وصف دقيق للمهاجع والباحات وأنواع التعذيب والجلادين المجرمين الذين تجردوا من كل الأحاسيس الإنسانية.