د. غوشة والحياة الاجتماعية في القدس
د. غوشة والحياة الاجتماعية في القدس
جميل السلحوت
في كتابه الجديد(الحياة الاجتماعية في القدس في القرن العشرين) الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية في أواخر العام 2010 يحقق ابن مدينة القدس الدكتور صبحي غوشة حلما وطموحا راود كثيرين، -وأنا منهم- بجمع ما تيسر من تراث المدينة المقدسة والحياة الشعبية والاجتماعية فيها، وقد سبق وأن تحدثت مرات ومع كثيرين في ضرورة جمع التراث الشعبي للقدس الشريف كونها تمثل نموذجا للحياة المدينية ليس في فلسطين وحسب، بل وفي تراث المدن العربية خصوصا في بلاد الشام، وقد طرحت هذه الفكرة على اللجنة الوطنية لاحتفالية "القدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009" وعلى عدد من المؤسسات والناشطات والناشطين المقدسيين في المجالين الثقافي والاجتماعي، لكن أحدا منهم لم يستوعب الفكرة، أو بالأحرى لم يبدوا استعدادا للعمل على تنفيذها، وها هو الدكتور صبحي غوشة المنفي في عمان يقوم بهذا الجهد الكبير الرائع والهام بمفرده، ويقدمه لنا في كتاب بحثي يقع في 532 صفحة من الحجم الكبير.
وللتذكير فقط فان الذاكرة الشعبية في القدس وقراها لا تزال تذكر وتردد أسماء أطباء ثلاثة كانت لهم أياد بيضاء، وريادة في التميز بخدمة الشعب والالتصاق بقضاياه، وتقديم الخدمات الطبية مجانا أو شبه مجاني للفقراء، وهم: الدكتور يعقوب زيادين ابن مدينة مادبا الأردنية، والذي عمل في خمسينات القرن الماضي في مستشفى"أوغستا فكتوريا"-المطلع- وكافأه المقدسيون بانتخابه للبرلمان الأردني عن دائرتهم الانتخابية، وهو أيضا لا يزال يحتفظ بذكرياته عن القدس رغم بلوغه التسعين من عمره، ففي مقابلة تلفزيونية معه شاهدتها قبل أيام قال أن أمنيته أن يقف في باب العمود-الباب الرئيس للقدس- قبل أن يرحل عن الدنيا، والدكتور صبحي غوشة الذي وفاز بأعلى الأصوات في انتخابات بلدية القدس عامي 1959 و 1963، والدكتور نبيه معمر الذي اعتقل هو ايضا وأبعد عن القدس عام 1970.
والدكتور صبحي غوشة عرفته في طفولتي المبكرة أنا المولود في العام 1949في جبل المكبر- السواحرة-احدى قرى القدس- فلم تكن أمهاتنا- أنا وأبناء جيلي- يترددن في اصطحابنا الى عيادته اذا ما ألَمَّ بنا عارض مرضي، كن يشجعن بعضهن بعضا على ذلك" خذي ابنك للدكتور صبحي يا خيتي...ما هو بيحكم ببلاش، وبيعطي الدواء ببلاش"
وعرفت الدكتور صبحي غوشة عندما اعتقلت وإياه في آذار 1969في معتقل المسكوبية الرهيب، ولا أزال أذكر كيف حشروه في زنزانة انفرادية أثناء التحقيق وبعده....ثم كيف تم ابعاده الى الأردن في العام 1971 لأسباب صحية قبل أن ينهي محكوميته البالغة 12 عاما.
وها هو يعود الى القدس من جديد في كتابه المرجعي عن"الحياة الاجتماعية في القدس في القرن العشرين"، فقد تطرق في كتابه الى مختلف نواحي الحياة، فوصف الحوش المقدسي والبيت والأثاث والأواني، والعلاقت الأسرية والعائلية، وطقوس الزواج من طلبة العروس الى الخطبة، الى ليلة الحناء وحفلة الزفاف ونقوط العروسين، وزواج الأقارب، وزواج البدل، والحمل والولادة واختيار اسم المولود، وطريقة العناية به، والرضاعة وختان الذكور، والطب الشعبي وطبيعة المجتمع الذكوري الذي يفضل المولود الذكر على المولودة الأنثى، ووصف الخوف من الحسد، وما يصاحب ذلك من شعوذة وأحجبة.
كما قدم بابا عن بدايات التعليم في القدس، والكتاتيب والمدارس وعددها ومواقعها.
تطرق الى المواسم الدينية عند المسلمين والنصارى....وقدم وصفا للأزياء والمأكولات الشعبية، والمهن والصناعات التراثية التي مارسها المقدسيون.
حتى مقابر المدينة الاسلامية والمسيحية واليهودية كان لها تواجد على صفحات الكتاب.
ومن اللافت أيضا تركيز الكاتب على جمع الأغاني والاناشيد والأقوال الشعبية في المناسبات المختلفة.
ويلاحظ في الكتاب أن المؤلف أورد بعض العادات والتقاليد وبعض الأغاني المنتشرة في قرى القدس، وبعض الأماكن الفلسطينية الأخرى، مع أن تركيزه كان منصبا على المجتمع المقدسي المدينيّ، ومما يلفت الانتباه هو التقدم الحضاري والتعليمي والاجتماعي للبيئة والمجتمع المقدسي، فالعادات والطقوس التي كانت سائدة في القدس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين واندثرت، هي التي سادت في الريف المقدسي والفلسطيني في خمسينات وستينات القرن العشرين، بل إن بعضها لا يزال سائدا حتى أيامنا هذه.
ويجب التأكيد على ضرورة قراءة هذا الكتاب، بل والاحتفاظ به، لأنه لا يشكل إضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية والعربية فحسب، بل يشكل مرجعا هاما عن الحياة والثقافة الشعبية للمجتمع المقدسي، وهذا يشكل سَبقا يسجل لمؤلفه، فالأبحاث التراثية السابقة تركزت على الريف كون كتابها هم من أبناء الريف، في حين أن المهتمين من أبناء المدن لم يعيروا التراث الشعبي والحياة الشعبية اهتماما، ويأتي الدكتور صبحي غوشة بمؤلفه هذا ليكسر هذه المقولة.