سوريا مزرعة الأسد

د. عبد الله الدهامشة

1963- 2000م

د. عبد الله الدهامشة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

إن الحمد لله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:-

فإن كتابة التاريخ حق لأبنائنا في أعناقنا، حق علينا لأجيالنا الصاعدة؛ لأن ما عشناه وشاهدناه وسمعنا به في حينه سيصبح مجهولاً عندهم، يبحثون عنه خلال الوثائق والآثار التاريخية، وقد لا يصلون إلى معرفة الحقيقة فيه، خاصة وأن مزوري الحقيقة يعملون بدأب لتضليل المسلمين، وإبعادهم عن معرفة تاريخهم(1)، والذكرى تنفع المؤمنين، والله أسأل أن يحفظنا من الطواغيت، ومن أعداء الحقيقة، وأن يثيبني يوم لا ينفع مال ولا بنون، وعلى الله توكلت وعليه يتوكل المؤمنون...   

وأسأل الله عزوجل الكريم أن يجعل ثواب هذا الجهد لوالديّ يرحمهما الله تعالى، اللذين أرسلاني إلى المدرسة الابتدائية، بعيداً عن سكنهما ، وأصرت والدتي - يرحمها الله -  على أن أستمر في مواصلة الدراسة ، مما ألزمهما استئجار غرفة لي في المدينة اعتباراً من الصف السادس، حيث كانت المرحلة المتوسطة كلها في المدن فقط يومذاك، حتى حصلت على شهادة الكفاءة.

الفصل الأول: من كتب التاريخ

كانت سوريا مثل غيرها من البلدان العربية، تحت ظل الخلافة العثمانية، وفي عام (1914م) وقعت الحرب العالمية الأولى، وأعلن شريف مكة يومذاك الشريف حسين بن علي الثورة العربية الكبرى، ووقف العرب إلى جانب الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا)، ضد دول المحور (ألمانيا وتركيا واليابان)، وفي عام (1918م) دخلت الجيوش العربية؛ الملحقة على جيوش الحلفاء بقيادة فيصل بن الحسين، دمشق وطردت الأتراك منها، وعرف الشعب ذلك العام بعام (الشريف)، وقامت حكومة وطنية في سوريا، كان وزير الدفاع فيها يوسف العظمة يرحمه الله، وفي نهاية الحرب العالمية الأولى تقاسم الحلفاء مناطق النفوذ في مؤتمر سان ريمو، ثم في اتفاقية سايكس بيكو، وكانت سوريا من نصيب فرنسا، لذلك دخل الجيش الفرنسي دمشق في تموز (1920م)، بعد معركة غير متكافئة،استشهد فيها وزير الدفاع السوري يومذاك، في معركة ميسلون غرب دمشق، وأبرز من قاتلوا واستشهدوا في ميسلون من علماء المسلمين،الذين اعتقدوا أن الاشتراك في ميسلون فريضة جهاد مقدسة، يجب أن يؤديها المسلم ولو استشهد هناك، ومنهم فضيلة الشيخ عبد القادر كيوان، والشيخ كمال الخطيب، والشيخ محمد توفيق الدرة، والشيخ ياسين بن نجيب كيوان والشيخ كامل القصاب، وكثير غيرهم. ودخل (غورو) دمشق وذهب إلى قبر صلاح الدين وقال أمامه: ها نحن عدنا يا صلاح الدين(2). وغادر الأمير فيصل إلى العراق وعين ملكاً عليه تحت الحماية البريطانية.

عاشت سوريا ربع قرن تحت الانتداب الفرنسي، حيث عسكرت القوات الفرنسية في الساحل السوري، وعينت حكومات مدنية تدير شؤون البلد، وواجهت فرنسا عدة ثورات متواصلة كان أكثرها يخرج من المساجد بقيادة العلماء المسلمين(3).

وفي عام (1945 م) أي في نهاية الحرب العالمية الثانية جلت فرنسا عن سوريا، مخلفة وراءها نواة للجيش العربي السوري، فيه ضباط طامعون ومتطلعون إلى الحكم، اتخذوا الجيش أداة للوصول إلى السلطة، ويقول الدكتور نيقولاوس فان دام في كتابه الصراع على السلطة في سوريا ص51: (فضل الفرنسيون تجنيد مختلف الأقليات الدينية والعرقية كالدروز والإسماعيليين والعلويين والمسيحيين والأكراد والشركس، وسياسة التجنيد الفرنسية هذه اتبعت تقليداً رسمته القوى الاستعمارية. وقد دعمت العائلات العربية السنية الثرية صاحبة الأراضي، وذات النشاط التجاري، التي قادت الحركة القومية العربية أثناء الاحتلال الفرنسي؛ دعمت بصورة غير مباشرة الاتجاه نحو التمثيل القوي للأقليات في الجيش السوري، وذلك برفضها إرسال أبنائها للتدريب العسكري، حتى كضباط، كما احتقرت في كثير من الأحيان الجيش كمهنة، واعتبرت الكلية العسكرية بحمص -كما وصفها (باترك سيل) مكاناً للكسالى، (الذين لم يحصلوا على مجموع مرتفع في الثانوية يسمح لهم بدخول الطب والهندسة) - أو المغمورين اجتماعياً. وثمة عامل اجتماعي اقتصادي شجع أبناء الأقليات (وخاصة العلويين)؛ على الالتحاق بالجيش ألا وهو الفقر، حيث تعيش معظم الأقليات في الريف أو الجبال التي لا تصلح للزراعة).(4)

وقد أكد الدكتور توفيق الشاوي، في مذكراته التي نشرتها مجلة المجتمع عام (1996م)، أن الاستعمار الأوربي عامة والفرنسي خاصة، ما كان يترك البلد حتى يبني فيه ركائز من أنصاره يشغلون وظائف الحكم والجيش والإدارة، ويتأكد من إبعاد الإسلاميين عن ذلك كله.

قامت حكومة وطنية سورية بعد جلاء فرنسا، استمرت حتى عام (1949م) حيث وقع انقلاب حسني الزعيم، وهو أول من فتح باب الانقلابات العسكرية التي جرت الويلات على سوريا. ولم يفتأ أن قام بعده انقلاب سامي الحناوي - قائد لواء - في  (14/8/1949م) وقبض على حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي وقتلهما، وسلم الحكم للمدنيين، وأعاد الضابط أديب الشيشكلي إلى القوات المسلحة بعد أن سرحه منها حسني الزعيم، وفي  (17/12/1949) قام أديب الشيشكلي بانقلابه الأول، ثم انقلاب الشيشكلي الثاني (2/12/1951م)، ثم وقع انقلاب عسكري بقيادة النقيب مصطفى حمدون أحد أنصار أكرم الحوراني، وطرد الشيشكلي من سوريا (25/2/1954م)، وقامت فيها حياة نيابية برئاسة شكري القوتلي (5) يرحمه الله، استمرت حتى الوحدة مع مصر عام (1958م) وهذه الفترة هي الفترة الذهبية في سوريا، لأنها كانت ديموقراطية تقريباً .

يقول محمد عبد الرحمن الأنصاري في مؤلفه (تاريخ سوريا الحديث)(6).

(تكون الجيش الوطني بعد جلاء القوات الفرنسية عن أرض الوطن، من فلول الجيش المختلط والحرس السيار، الذي كان تحت إمرة القادة الفرنسيين مباشرة. وقد فضل الفرنسيون أيام الانتداب تجنيد مختلف الأقليات الدينية والعرقية:كالدروز والعلويين والإسماعيليين والأكراد والشركس. فيما يسمى بالقوات الخاصة للشرق الأدنى، وتطورت فيما بعد لتصبح هي القوات المسلحة السورية واللبنانية. ولم تشجع فرنسا المسلمين السنة للانخراط في الجيش جرياً على سياسة المستعمرين "فرِّق تسدْ".

وثمة عامل اقتصادي واجتماعي، دفع لبروز الأقليات في الجيش، حيث إن المناطق الريفية الفقيرة قدمت أبناءها لتوفر فرصة جيدة للتمتع بحياة أكثر رفاهية، من تلك التي يوفرها القطاع الزراعي، خلافاً لأهل السنة من سكان المدن الكبرى، وقد تمتع العلويون بأكثرية في الجيش منذ عام 1955،حتى إن العقيد عبد الحميد السراج رئيس مكتب المخابرات، قد اندهش لدى اكتشافه أن ما لا يقل عن 65% من ضباط الصف، كانوا تابعين للطائفة العلوية، كما أن العائلات المسلمة (السنية ) مالكة الأراضي، كانت تحتقر الجندية كمهنة، بسبب سيطرة العاطفة الوطنية عليها، تعتبر الانتساب إليها في فترة ما بين الحربين العالميتين خدمة للفرنسيين. لقد غفل اليمين المحافظ في سوريا عن الجيش كقوة سياسية في ظروف نكبة مهلكة، دمرت فيما بعد نفوذ العائلات الإقطاعية وتجار المدينة. فمن هذا المزيج تكونت القوات السورية الوطنية، وصدر بعد ذلك قانون الخدمة العسكرية الإلزامية.

وقد كان هذا الجيش الحديث النشأة والتكوين يفتقر إلى الكثير من مقومات الجيش الانضباطي، من تدريب وسلاح وروح معنوية عالية... وهذه المواصفات، جعلت الجيش السوري الناشئ مطية سهلة للمغامرين من ضباطه، وكان سبباً من أسباب الشقاق والتمزق داخل صفوفه، ومن ثم انشغاله عن واجبه المقدس في حماية البلاد، والدفاع عن حدودها، وزجه بعد ذلك في خضم السياسة والنزاعات الحزبية والطائفية والعشائرية.

وخلاصة القول: إن هذا الجيش الذي دُفع للقيام بالانقلاب الأول، كان جيشاً ناشئاً، ويعتبر إلى حد بعيد من بقايا الجيوش المرتزقة أيام الانتداب الفرنسي الغاشم.

عهد الوحدة

كانت الوحدة بين الأقطار العربية أملاً يظنه العرب سهل المنال، فقد كانت هذه البلاد دولة واحدة تحت الخلافة العثمانية، تتكلم لغة واحدة، وتدين بدين واحد، ولا توجد حدود بينها(7) ولها تاريخ واحد، لذلك فالوحدة أمر حتمي، ومن أول الواجبات بعد الاستقلال، وكان الحديث عن مقومات الوحدة العربية الموضوع الأساسي؛ في التاريخ والتربية الوطنية والجغرافيا والأدب والنصوص والتعبير والتربية الفنية، وكانت جميع المناهج مركزة على بث روح الوحدة العربية بين الناشئة، وتنمية الشعور القومي عندهم، حتى أفعم جيلنا بالشعور القومي العربي الوحدوي.

انتشر حزب البعث العربي الاشتراكي(8) الذي أسسه ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني- انتشر بين العمال والفلاحين وصغار المثقفين والكسبة، ووضع الهدف الأول من أهدافه (الوحدة) وكان أنصاره يهتفون (وحدة، حرية، اشتراكية)، فالوحدة هي الهدف الأول، وهي الخطوة الأولى التي تمكن العرب من التحرر فيتحقق الهدف الثاني للحزب وهو الحرية، ولابد من الوحدة العربية والتحرر من التبعية الاقتصادية الاستعمارية لتقوم الاشتراكية بعد ذلك.

وشدت الاشتراكية العمال والفلاحين نظراً للبؤس الذي كانوا يعانونه، والظلم الذي يتجرعونه، إذ كانوا أجراء يعملون بما يقيتهم ويدفع عنهم غائلة الموت جوعاً، أهملتهم الطبقة الواعية والمثقفة،سوى التفاتات نادرة جداً من بعض الدعاة الإسلاميين مثل الدكتور مصطفى السباعي يرحمه الله،لم تدم طويلاً، وشاهدت أكرم الحوراني عندما زار إحدى القرى، وأقام له الفلاحون حفلة كبرى، وكم سمعت الفلاحين يتباهون بأن الأستاذ أكرم سلَّم عليه وصافحه بيده وهو يبتسم له، وقال له كلمات مداعبة وصداقة، بينما كان المثقفون الآخرون يأنفون من مصافحة الفلاحينً.

ونشأنا في جيل أتخم بالشعور القومي الوحدوي، ومن المظاهرات التي أذكرها مظاهرة كبرى عندما صرح الحبيب بورقيبة بأنه لا مانع من التفاوض مع الصهاينة، وكان الشعور والفهم يومذاك أنه عندما تتوحد سوريا ومصر فقط سوف نرمي الصهاينة في البحر ونحرر فلسطين (كل فلسطين) منهم، بل يجب أن نحرر عدة أجزاء مغتصبة من العالم العربي منها كما أذكر لواء اسكندرون الذي قطعه الفرنسيون من سوريا وأعطوه للأتراك، وعربستان التي أخذتها (إيران)، وأرتيريا التي استعمرتها الحبشة، وساقية الذهب المستعمرة الإسبانية، وطرد بريطانيا من الخليج العربي، أما الثورة الجزائرية فكنا نعيش أحداثها اليومية، وكان جمع التبرعات شهرياً على الأقل لها، ولما تحررت الجزائر صرنا نهتف (العيد الجاي بفلسطين) أي سنحرر فلسطين بعد أن حررت الجزائر، وكنا  معشر الشباب  نعتقد ذلك واقعاً لا محالة، وكنا نصدق الشعارات الكثيرة المطروحة على الشعب، والتي تمنيه بالوحدة العربية الكبرى، وكنا متأكدين أننا سنكون أقوى دولة في العالم بعد أن تقوم الوحدة العربية الكبرى(9).

عهد الانفصال (28/9/1961- 8/3/1963):

 منذ السابعة صباح يوم (28/9/1961م) بدأت إذاعة دمشق تبث الموسيقى العسكرية، ثم قطعت برنامجها اليومي ليقول المذيع: هنا دمشق إذاعة الجمهورية العربية السورية، وقبل ساعات كانت (المتحدة وليس السورية)، ثم قدم المذيع نبأ الانقلاب العسكري الذي شكل بموجبه مجلس عسكري قرر فصل سوريا عن دولة الوحدة مع مصر، نتيجة التجاوزات والظلم الذي وقع على الشعب السوري، كما قال المذيع، واستمرت الموسيقى العسكرية طوال النهار، بينما تذاع برقيات التأييد من الوحدات العسكرية.

كان هذا النبأ مصيبة كبرى لمعظم الناس - وخاصة الشباب - وقوبل الانفصال برفض شعبي كبير يمثله الشارع العربي الإسلامي الذي يرى الوحدة من أساس دينه وعقيدته(10). حاول عبدالناصر إرسال وحدات من القوات الخاصة لإعادة الأمر إلى نصابه، ولكن الانقلابيين السوريين كانوا قد رتبوا أمرهم عسكرياً، ويبدو أن النقمة على المصريين في الجيش كانت منتشرة إلى حد كبير. وقد استسلم حوالي (200) مظلي مصري أنزلهم عبد الناصر في الساحل السوري، ثم تبين له عدم جدوى المحاولة.

سنة ونصف من الحرية السياسية في سوريا:

بدأ الانفصال يوم (28/9/1961م) واستمر حتى يوم (8/ آذار/ 1963م) عاشت سوريا خلالها فترة نادرة من الحكم النيابي، حيث عادت الأحزاب إلى العمل السياسي العلني ومنها جماعة الإخوان المسلمون(11). التي فتحت مراكزها في المحافظات، وعادت صحيفتها اليومية (اللواء) إلى قرائها، وأجريت انتخابات تشريعية نجحت فيها شرائح من الإخوان ومنهم الأستاذ عصام العطار، والأستاذ عمر عودة الخطيب، والأستاذ زهير الشاويش والشيخ محمد علي مشعل، والأستاذ طيب الخجا، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والدكتور نبيل صبحي الطويل، وغيرهم، وكانت كتلة الإخوان وأنصارهم عشرين نائباً(12)، وكان عدد نواب الإخوان أكثر من عدد نواب البعثيين ، ونجحت كذلك مجموعة من الاشتراكيين (انقسم حزب البعث العربي الاشتراكي إلى حزبين الأول سموه الحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني وقد شارك في فترة الانفصال، والثاني بقي في العمل السري وهو حزب البعث الذي حكم سوريا بعد ذلك، وكذلك صلاح البيطار وعفلق، كما نشط الحزب الشيوعي وعاد إلى العمل السياسي بزعامة خالد بكداش. وانتخب الدكتور ناظم القدسي (من حزب الشعب) رئيساً للجمهورية، وكلف خالد العظم برئاسة الوزارة، وكان معروف الدواليبي من رجال الحكومة المرموقين.

واختفى اسم المباحث أو المخابرات، وصار الطلاب يكتبون على السبورة نكتاً ثقيلة جداً على أعضاء الحكومة؛ إذ أن التيار العام لدى الشباب تيار وحدوي، وكان كل مواطن يعبر عن رأيه بحرية تامة دون أن يحاسب.وقد رأيت بعيني مرات عديدة سباً وشتماً يكتب على السبورة؛ ضد رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء، ناهيك عن الوزراء، ولم يصب أحد من الطلاب بأذى.

ومما يلفت النظر أنه وقعت معركة شرسة على الحدود مع إسرائيل في عهد ما سُمِّيَ بالانفصال كانت في صالح سوريا واستشهد فيها ضابط من آل الدباس، وقد غنم السوريون(13) عدة آليات من العدو عرضت في ساحة المرجة بدمشق عدة أيام، وربما كانت آخر معركة ينتصر فيها الجيش العربي السوري.

هوامش الفصل الأول

(1) في عام 1982م هدمت السلطة بضعة وثمانين مسجداً، بعضها أصيب بالقصف المدفعي والصاروخي، وبعضها فجر بالديناميت عن قصد وعمد، وبعد بضع سنوات أراد أهالي الحي إصلاح مسجدهم وترميمه، ولابد من موافقة العقيد يحيى زيدان مدير المخابرات العسكرية في حماة، ولما تقدموا بطلبهم له، سألهم : من هدم هذا المسجد ؟ فسكتوا، فلم يعجبه سكوتهم، بل قال لهم إذن أنتم لا تعرفون شيئاً مما جرى في حيكم عام (1982م)، لقد فجرت مسجدكم عصابة الإخوان المسلمين، ويلزم أن تقدموا طلباً لي موقعاً من وجهاء الحي تقولون فيه : نرجو  الموافقة على ترميم المسجد الذي دمرته عصابة الإخوان المسلمين عام (1982م)، وقدم لهم ورقاً أبيض لكتابة الطلب، وطبعاً لا يجرؤ أحد أن يقول غير صحيح، وبالفعل كتب وجهاء الحي هذا الطلب للمخابرات العسكرية، وصار هذا تقليداً متبعاً لكل حي يريد أن يرمم مسجده .

(2) يقول شوقي أبو خليل: كان يوسف العظمة رحمه الله متديناً محافظاً على صلاته وصومه، ولما خرج إلى المعركة كان متأكداً من استشهاده لذلك قال لساطع الحصري!! وهو يودعه (إني أترك ابنتي الوحيدة ليلى أمانة في أعناقكم)، انظر كتاب الإسلام وحركات التحرر العربية لشوقي أبو خليل، ص 130. ويقول إحسان هندي في صحيفة الثورة [السورية] (24/7/2006):

"وهكذا التقت في مرتفعات ميسلون, وحول الموقع الذي يحمل اسم (عقبة الطين) صباح يوم السبت الرابع والعشرين من تموز 1920 قوتان ضخمتان:‏

1- قوة عربية قليلة في عددها وعتادها، ولكن زاخرة بإيمانها ومعنوياتها, بقيادة وزير الحربية في الحكومة العربية السورية, يوسف العظمة, ويعاونه الأميرالاي (العميد) حسن تحسين الفقير كقائد ميداني. وتضم هذه القوة بقايا اللواء العربي الأول, الذي سرح من الخدمة مع بقية الجيش يوم 19/7/1920 ثم استدعي من جديد على عجل يوم 21/7, ومعه نضيدتا مدفعية (بطاريتان), وسرية رشاشات, وسرية استحكامات (هندسية), وسرية هجانة, وبعض المتطوعين المدنيين, وهذه القوة جمعاء لا يتجاوز عدد أفرادها 3000 رجل.‏

2- قوة فرنسية تتكون من الفرقة الثالثة مشاة بقيادة الجنرال (غوابيه) GOYBET، معززة بجميع الصنوف اللازمة للعمل في الميدان، من مدفعية ودبابات وخيالة وهندسة وسرية نقل وسرية إمداد وتموين, بالإضافة لأربع طائرات, وتعدادها جميعاً حوالي عشرة آلاف رجل.‏

- واصطدمت هاتان القوتان في مرتفعات (عقبة الطين) على جانبي الطريق العام دمشق - بيروت.‏

وبعد حوالي خمس ساعات من القتال المستميت غلبت الكثرة الشجاعة, وسقط يوسف العظمة شهيداً يعانق أرض الوطن ويروي ترابها بدمه, وأصبحت ميسلون نجمة مضيئة في ملاحم التاريخ, يتم تدريسها كرمز للممانعة، وواجب الدفاع عن الوطن.‏ لم يكن بد من انتصار الجيش الفرنسي على مجموعة من المتطوعين، والجنود، استشهد معظمهم، مع يوسف العظمة (وزير الدفاع يومذاك)، بعد أن قرروا أن لا يمر العدو إلا على أجسادهم، فصمدوا وقابلوا الجيش الفرنسي بقليل من العتاد ... حتى تمكن الفرنسيون من الانتصار عليهم، والدخول إلى دمشق، بعد أن مروا على أجسادهم. ودخل الجنرال غورو دمشق .. وطلب من الملك فيصل مغادرة سوريا ففعل، وغادرها إلى أوربا.

(3) انظر كتاب الإسلام وحركات التحرر العربية، لشوقي أبو خليل، حيث ذكر أسماء أربعة علماء استشهدوا في ميسلون. كما يبين جهاد المحدث الأكبر بدر الدين الحسني يرحمه الله، ويذكر عدداً من علماء دمشق الذين شاركوا في الجهاد ضد الفرنسيين منهم  الشيخ علي الدقر يرحمه الله، والشيخ نجيب كيوان، والشيخ محمد حجار، والشيخ موسى الطويل، والشيخ محمد ديراني، الذي كان يملأ النعش بالسلاح والذخائر، ويمشي خلفه في الجنازة إلى المقبرة حيث تفرغ في أحد القبور ليأخذها المجاهدون منه بعد ذلك .والشيخ عبده البيتموني، ومحمد البيتموني، والشيخ سعدي التغلبي، والشيخ محمد جويجاتي، والشيخ صلاح الزعيم، والشيخ عبد الحكيم المنير، والشيخ أمين سويد، والشيخ محمد الأشمر، والشيخ عبدالله الأفغاني وغيرهم كثير.

(4) وفي رأي الباحث هذه العوامل المذكورة كلها عوامل ثانوية ساعدت على إذلال المسلمين السنة وهم غالبية  الشعب السوري، ولكن العامل الأهم من ذلك كله هو جهل المسلمين بدينهم، فالعسكرية مفروضة على المسلمين (ومن لم يغز أو يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق)، والخدمة العسكرية أو التطوع في الجيش من باب الإعداد للغزو، كما جرهم الجهل بالإسلام إلى تفرقهم شيعاً وأحزاباً؛ مما سهل على أعدائهم التغلب عليهم.

(5) الرئيس السوري الوحيد الذي ترك كرسي الرئاسة بإرادته، وقد تركه لجمال عبد الناصر عندما قامت الوحدة. ومات في أحد مشافي لبنان، وعجز أولاده عن دفع تكاليف المستشفى؛ فسددها الملك فيصل بن عبد العزيز يرحمه الله.

(6)  نشر هذا الكتاب في مجلة العصر الالكترونية، وحصلت عليه من الانترنت (2004).

(7) حدثني والدي يرحمه الله أنهم كانوا يذهبون إلى الرطبة (الآن في العراق ) يشترون التمر، ويذهبون إلى حيفا ويافا للعمل في مزارع البرتقال، ويذهبون إلى معان (الأردن حالياً)، وطرابلس (لبنان) ولا يحملون جوازاً للسفر، ولا حتى بطاقة أحوال مدنية، وكانت بلاد الشام (سوريا وفلسطين ولبنان والأردن) بلداً واحداً بكل ما تعنيه الكلمة حتى الربع الأول من القرن العشرين الميلادي، ثم مزقها الاستعمار الغربي الحديث إلى هذه الدويلات الحالية.

(8) يقول محمود شاكر في التاريخ الإسلامي 10/210: بدأت جذور حزب البعث تظهر بلقاءات بين ميشيل عفلق النصراني وصلاح الدين البيطار اللذين جمعهما التدريس في التجهيز الأولى بدمشق  ومعهم زكي الأرسوزي العلوي (من اسكندرون)، (وأحسن كتاب يوضح نشوء البعث كتاب سامي الجندي)، وكانت تطرح فكرة القومية في لقاءاتهم، ولم يقبل على الفكرة سوى بعض النصارى من أصحاب عفلق، وأصحاب البيطار مثل عبد الحليم قدور من قارا، ثم برز الحزب بعد جلاء فرنسا التي كانت تباركه، واتخذ له مقرًا في دمشق، في القنوات، وأصدر صحيفة البعث في عام 1946م، ثم عقد أول مؤتمر له في (7/4/1947م)، ثم اعتقلهم حسني الزعيم، وأفرج عنهم سامي الحناوي فعادوا إلى مزاولة نشاطهم، ودخلوا الانتخابات وفازوا بثلاثة مقاعد، وأقبل أبناء الأقليات على حزب البعث، وصار منافساً للحزب القومي السوري والحزب الشيوعي في جذب الأقليات، وفي هذه الأثناء كان أكرم الحوراني يلازم زعيم الكتلة الوطنية في حماة توفيق الشيشكلي، ثم اتصل مع القوميين السوريين، ثم انفرد لوحده وتقرب من حسني الزعيم، ومن سامي الحناوي، فأسندت إليه وزارة الزراعة، فاتصل مع فلاحي ريف حماة، وأحكم صلته معهم، وأسس حزبه العربي الاشتراكي، ونجح في الانتخابات النيابية، وأسندت له وزارة الدفاع، وهي ماكان يطمع فيها فأحكم صلته مع الضباط، وتم اتحاد حزبه (العربي الاشتراكي) مع حزب البعث، في حزب واحد هو حزب البعث العربي الاشتراكي، وأصبح أكرم الحوراني الزعيم السياسي للحزب، بعد أن نجحت قائمته كاملة في انتخابات (1955م) وبقي ميشيل عفلق الأب الروحي للحزب وفيلسوفه، وهكذا تكامل الحزبان، فقد جذب حزب البعث الأقليات، كما جذب الحزب العربي الاشتراكي الفلاحين خاصة في ريف حماة والمعرة، حيث يوجد كبار الملاك، فاستغل الحوراني ذلك ودعا إلى الاشتراكية، وكان انقلاب مصطفى حمدون وهو من تلاميذ أكرم، فزادت قوة الحزب بالجيش، وصار لهم تنظيم عسكري يقوده حمدون وعبد الغني قنوت، وبرز أكرم الحوراني في الانفصال، وانشق الحزب بين أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار الذي ركب موجة الناصرية) ثم كان انقلاب الثامن من آذار، حيث استطاع العلويون خلال سبع سنوات (63 1970) أن يسيطروا على الحزب بعد أن سيطروا على الجيش، ثم آلت السلطة إلى أسرة حافظ الأسد) . ومن المفاهيم الأساسية للحزب أن الإسلام أدى دوراً حضارياً وحدوياً للعرب قبل أكثر من ألف عام، ثم انتهى هذا الدور، ولابد للعرب  إذا أرادوا التقدم واللحاق بركب الحضارة  من التحرر من كل ما هو قديم  بما فيه الدين  وأن يأخذوا الفكر القومي الاشتراكي العلماني كي يلحقوا من سبقهم من الأمم. وسبب تخلف العرب  في رأي الحزب  هو تمسكهم بالإسلام. وقد تبين من خلال مسيرة الحزب أنه يدعو إلى عكس ما يفعل تماماً فقد دعا إلى الوحدة، وهاهو يحكم سوريا والعراق منذ أكثر من ربع قرن، وقد حفر النظام الأسدي، خندقاً على طول حدودهم مع العراق، ولم يفعلوا ذلك مع إسرائيل. ودقوا أسافين الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وأحيوا الطائفية وأصَّلوها حتى صارت بدهية متعارفاً عليها. ودعوا إلى الحرية وهاهم يحكمون بالأحكام العرفية منذ عام (1963) عندما استلموا الحكم في سوريا، وبنوا من السجون أكثر من الجامعات، وقتلوا من شعبهم أكثر مما قتلوا من أعدائهم بآلاف المرات، ودعوا إلى الاشتراكية وسرقوا أموال الشعب، حتى صار آلاف من كبار أعضاء الحزب والجيش والمخابرات من كبار الرأسماليين في العالم، يملكون العمارات الضخمة في لندن وباريس وماربيا وواشنطن، كما يملكون أساطيل النقل البحري، وأفقروا الشعب حتى صار ذليلاً يبحث عن لقمة عيشه بين فتات موائدهم. وأفقروا الموظفين حتى جعلوهم يطلبون الرشوة علناً من المواطنين المراجعين ومن غير المواطنين، حتى صارت سوريا مضرب المثل في الرشوة.

(9)  يقول الدكتور سامي الجندي: "وبعد مرور خمسة عشر عاماً في حكم سوريا والعراق، هل استطاع الحزب أن يقيم وحدة واحدة بين قطرين عربيين، وقد بلغت الدول العربية اثنتين وعشرين دولة؟! ما مبرر وجوده إذن؟! وأين الوحدة العربية التي أفنى حياته في الدعوة إليها"[البعث ص 161]، ماذا قدم البعث بفريقيه للأمة ولصالح وحدتها؟!

ماذا قدم الفريق الأول حتى 23/شباط/1966؟! وماذا قدم الفريق الثاني بعد هذا التاريخ؟!، يقول الدكتور سامي الجندي عن الفريقين:

"أصبح البعثيون بلا بعث، والبعث بلا بعثيين، فأيديهم مصبوغة بالدم والعار، يتسابقون إلى القتل والظلم والركوع أمام الجزمة - أي حذاء العسكر!! - لم يستطع البعث أن يقيم وحدة واحدة في تاريخه، حتى بين شطريه، فهل تنتظر الوحدة من العشائر والقبائل الهمجية، التي اصطبغت أيديها بالدم والعار والمتسابقة للقتل والظلم والركوع أمام مهماز الجزمة، ومتى تحققت الوحدة في التاريخ على يد الطائفية والعشائرية الحاقدة؟! [البعث ص 163] يقصد بالعشائر الهمجية، أي عشائر العلوية المتخلفة، رفع البعث شعار الحرية [ التجربة المرة لمنيف الرزاز، ص 260]" ولم يعرف الحكم إلا تسلطاً وتزييفاً لإرادة الجماهير، ورفعت هذه الفئة شعار الاشتراكية واليسار، فكانت اشتراكيتهم فوقية قطرية مستبدة. ورفعت شعار مقاومة الاستعمار والرجعية، وقدمت لها هدية، هو رأس حزب البعث "[المرجع السابق] ولا مجال هنا للحديث عن حرية الشعب الذي كان مصفداً في الأغلال بيدي البعث العربي، فإذا كان البعث يعاني من دكتاتورية أجنحته على بعضها، فمن أين تمنح الحرية للأمة العربية؟! يكفي أن نستمع إلى قادة الحزب عن رأيهم في الحرية التي دعوا إليها، وما مبررات ثورة 23/شباط/1966م على البعث نفسه؟! هذا منشور داخلي يشرح الأسباب الدافعة إلى هذه الثورة، ويبين لنا مدى الحرية التي يفهمها الرفاق مع بعضهم، يقول المنشور:

"ظهر منطق الوصاية على الحكم والسلطة إلى جانب منطق الوصاية على الحزب.. كان منطقاً يستهدف اقتسام النفوذ في الثورة وإحلال الفرد محل القيادة الجماعية، سواء أكانت حزبية أو حكومية.. أيها الرفاق! لقد كان الهدف الرئيسي لحركة 23/شباط/هو تحقيق مبدأ احترام الديمقراطية في الحزب، وذلك برفع سيف الوصاية عن رقاب قواعد الحزب، وإتاحة الفرصة أمامها كي تقود حزبها بنفسها نحو الغاية المرجوة" [ منشور داخلي للحزب ص 13-]. هذه هي حقيقة الحكم المتسلط الفردي قبل 23/شباط/1966م، فما هي الحرية التي قدمها ثوار 23/شباط ؟! يجيب على ذلك الدكتور منيف الرزاز الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، فيقول :

"إن حكم 23/شباط، هو حكم العنف.. وإن تصورنا عن هذه المجموعة، لم يبلغ أبداً حدود التردي الذي وصلوا إليه.. أكتب هذه الصفحات، وأوضاع العنف ليس لها مثيل في تاريخنا، إن الذي يجري في سورية الآن لا مثيل له إلا في عهد عبد الكريم قاسم، حين تولت كتائب الشيوعيين المسلحة عمليات السجن والقتل في شوارع بغداد ومدن العراق..."، "كانت الشمس تحمل كل يوم عند مطلعها الجديد قائمة من أسماء المعتقلين الجدد، لتضم إلى القائمة من المعتقلين السابقين، حتى جاوز عددها المئات، ولما ضاقت بهم السجون، نقل معظمهم إلى تدمر، ذلك السجن الصحراوي البعيد ..."، "لقد كانت سوابق النازية والفاشية، وأساليب الستالينية نموذجاً لهم في أساليب الحكم.." [التجربة المرة ص 199].

ويقدم لنا الدكتور سامي الجندي صورة من صور الحرية لدى البعث فيقول مصوراً تلذذهم بمشاهد الإعدام:

"وفي استوديو التجربة، رأيت ما لا يصدقه العقل، فقد رأى أعضاء المحكمة أن يشترك الشعب بمباذلهم، فلا تفوته مسرات النصر، فعمدوا إلى تسجيل مشاهد الإعدام من المهجع إلى الخشبة، عملية عصب العينين، والأمر بإطلاق النار، ثم يندلق الدم من الفم، وتنطوي الركبتان، وينحني الجسد إلى الأمام، بعد أن تتراخى الحبال نفسها". "خرجتُ ولم أقل شيئاً، فسألني أحد الضباط مسروراً: كيف رأيت يا دكتور؟! قلت: أهذا هو البعث؟! قال: لم أفهم، أجبت: ولن تفهم"، "وإذا بالأستاذ صلاح البيطار يدخل لاهثاً، قال لي: هل صُوَّرت فعلاً مشاهد الإعدام؟! قلت: نعم، قال للضباط الموجودين: إياكم أن تنشر، فقد تسبب لنا قضية عالمية، وظل هناك حتى قصّ المختصون كل المشاهد المثيرة، ولكن بعض تلك الصور تسربت إلى خارج سورية". ثم يتابع الجندي حديثه قائلاً: "كنا نسمع أنها أزمة تمر، وأن السجناء يرفلون في نعيم مقيم، فلا ضرب، ولا تعذيب وصدّقَّنا، ثم علمنا بعد شهور عديدة، أن الرفاق تعودوا عادات جديدة، فصاروا عندما يملون الحياة الرتيبة، يذهبون إلى سجن المزة، فتفرش الموائد وتدور الراح - الخمر - ويؤتى بالمتهمين للتحقيق ومن ثم تبدأ الطقوس الثورية، إذ يتفننون ويبدعون في كل يوم رائعة جديدة"، "وأظن أن الدولاب من اكتشافات آذار"، "بقي أن نسأل من هو  المتهم؟!! الجواب: كل الناس!! فتقرير بسيط على ورقة من أحد الرفاق، تبدأ: بأمة عربية واحدة، وتنتهي بالخلود لرسالتنا، يعني شهوراً في الزنزانة، ثم إنساناً يحطم مدى الحياة "[ البعث ص 130].

هذه شهادات قادة الحزب بتخلي البعث عن مبادئه، وتبنيه لسياسة العنف الوحشي، الذي ليس له نظير إلا في أساليب القرامطة ووحشيتهم ضد المسلمين.

(10) وعلى الرغم من الحرية السياسية التي ظللت سوريا خلال عهد الانفصال، وعودة الإخوان المسلمين إلى نشاطهم العلني الدعوي والسياسي، وعلى الرغم من بطش عبد الناصر بالإخوان؛ مع ذلك كله رفض الإخوان المسلمون التوقيع على وثيقة الانفصال، لأن الوحدة مبدأ استراتيجي من مبادئ الإخوان، وقبلوا بالخسارة السياسية والدعوية التي توقعوها بسبب رفضهم ذلك التوقيع، لأن مبدأ الوحدة عندهم لا يقبل المساومة. وهذا من الأدلة على أن السياسة في الإسلام سياسة مبادئ لا سياسة مصالح، بينما كان حزب البعث العربي الاشتراكي من أوائل الموقعين على وثيقة الانفصال، لأن سياسته تقوم على المصالح ولا تقوم على المبادئ.

(11) تأسست جماعة الإخوان المسلمون في سوريا عام (1945م) عندما اندمجت خمس جمعيات إسلامية من خمس محافظات كبيرة تحت إمرة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي يرحمه الله، وقد كان المؤسسون لها على رأس الثورات الشعبية ضد الفرنسيين، ثم تعايش الإخوان مع الحكم الوطني، وجاهدوا في فلسطين (1948م )، وانتخب السباعي، ومحمد المبارك للمجلس النيابي عام (1947م) وتقلد محمد المبارك وزارة الأشغال العامة، وبنى ميناء اللاذقية، واستمرت الجماعة في نشاطها العلني ونصح الحكام، وبث مفهوم الإسلام الشامل كما أنزله الله عزوجل في الكتاب والسنة، ومحاربة الإلحاد والماركسية والعلمانية، وقد عاشت عهداً ذهبياً  (1945 1958م) حيث عاشت سوريا في ظل حكم ديموقراطي إلى حد كبير،  ومارست نشاطاً تربوياً وإعلامياً وسياسياً، وهذا هو منهجها الذي رأته من أجل إعادة المسلمين إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في حياتهم. ثم حلت الجماعة نفسها استجابة لقرار عبد الناصر القاضي بحل الأحزاب كلها عند قيام الوحدة، ثم عادت إلى العمل السياسي والدعوي المكثف والجاد خلال فترة الانفصال، ثم دخلت مرحلة أخرى العمل السري والصراع الأمني مع انقلاب الثامن من آذار عام (1963م) ومازالت حتى تاريخه. وقد تطورت الجماعة سياسياً وتنظيمياً إلى درجة جيدة خلال العقدين الماضيين، عندما فرضت عليها حكومة الأسد صراعاً مسلحاً وسياسياً وإعلامياً، وتقترب حالياً من الحزب السياسي المنظم الذي يعمل وفق خطة زمنية وبرنامج محدد، من أجل إقامة المجتمع الديموقراطي الذي يعطي للمسلم حقه في العبادة والتعبير والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما يعطي ذلك كله لغيره من المواطنين.

(12) يقول فضيلة الأستاذ عدنان سعد الدين  في كتابه الإخوان المسلمون في سوريا (1/170): الحركة الإسلامية في سوريا سبقت جميع الحركات الإسلامية في الوطن العربي والعالم الإسلامي بوجوب وضرورة خوض الانتخابات، قبل غيرها بأربعين أو خمسين سنة، ولم تبق جماعة إسلامية من جاكرتا إلى الدار البيضاء إلا وخاضت تجربة الحياة النيابية... والإخوان في سوريا قرروا خوض الانتخابات عام (1947) بمباركة الإمام حسن البنا، ونجح الشيخ الدكتور معروف الدواليبي عن حلب، والأستاذ محمد المبارك عن دمشق، والشيخ محمود الشقفة عن حماة... ويقول فضيلة الأستاذ عدنان في (1/ 192): وكانت الحركة الإسلامية في سوريا التي تضم الإخوان والعلماء من أسبق الحركات الإسلامية في الوطن العربي والعالم الإسلامي في الإحاطة بشئون العصر ومتطلباته، وإدراكهم لفقه الواقع، في مجالات السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية، فقرروا المشاركة بالحكم لدرء ما يمكن درؤه من المفاسد، وجلب ما يمكن من المصالح، ثم انتشر هذا الفقه لدى الجماعات الإسلامية. [وفي عام 1994 قرر التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أن ينصح جميع تنظيمات الإخوان في العالم باستخدام هذا النهج، نهج المشاركة في الحكم].

(13) وهذه آخر معركة انتصر فيها السوريون عسكريًا  في نصف القرن الماضي  قبل أن يخرب الأسد الجيش السوري، وكان بطلها الملازم أول محمود الدباس يرحمه الله، إسلامي من دمشق.