دساتير من ورق
بدر محمد بدر
الكتاب: دساتير من ورق
المؤلف: ناثان براون
المترجم: د. محمد نور فرحات
الناشر: دار سطور الجديدة, القاهرة
عدد الصفحات: 332
الطبعة: الأولى 2010
يكشف هذا الكتاب جانبا من الأزمة التي تعيشها الدول العربية عموما, فيما يتعلق بالسلطة السياسية، ومدى احترامها للمعايير الدستورية في الحكم, وقبولها بقواعد واضحة وحاسمة وشفافة لا يمكن تجاوزها, في مجال تداول السلطة واحترام إرادة الجماهير, ليصل في النهاية إلى نتيجة مؤداها أن هذه الدساتير الموجودة في البلاد العربية "من ورق" أي بلا قيمة حقيقية, فلماذا الحرص عليها إذن؟!.
ومؤلف الكتاب ناثان براون هو كاتب أميركي يعمل أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن, ومتخصص في التحليل السياسي للنظم القانونية في الدول العربية, وصدر له قبل فترة كتابه الأول في نفس المجال بعنوان "حكم القانون في العالم العربي أو القانون في خدمة من؟".
وفي المقدمة التي كتبها الدكتور محمد نور فرحات، أحد خبراء القانون البارزين في مصر ومترجم الكتاب، كتب يقول: "إن النظم السياسية العربية برعت في تجريد شعوبها من القدرة على المقايضة الدستورية, إما عن طريق نظم الطوارئ وقوانينها، التي تعصف بالحقوق والحريات العامة, وإما عن طريق القوانين المقيدة لإنشاء الأحزاب السياسية, والمقيدة لحركتها في المجتمع، وكذلك لحركة المجتمع المدني, وأيضاً عن طريق القوانين المقيدة للحريات العامة, كحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الاجتماع السلمي والتظاهر.
جماهير مفعول بها
كل ذلك يحول الجماهير العربية من طرف في عملية المقايضة الدستورية, تشارك مشاركة ايجابية في صياغة الدستور, إلى مجرد مفعول به يتلقى ـ في استكانة وتسليم ـ ماتجود به النظم العربية الحاكمة, من وثائق دستورية تكرس الاستبداد, وترتفع بالحكام عن المساءلة.
ويتحدث المؤلف في المقدمة عن "آليات" للتعامل مع هذا الوضع من "البؤس الدستوري والسياسي", ومنها البرلمان كوسيلة للمقايضة الدستورية (أي كبديل فاعل), لكنه يرى أن هذا الأمل في كثير من الدول العربية، ومن بينها مصر على وجه الخصوص، أشبه بالسراب, في ظل أن مفاتيح البرلمان في يد السلطة التنفيذية، وأجهزتها الأمنية.
والمؤسسة الأخرى التي يعول عليها المؤلف في نقل المجتمعات العربية من مرحلة الدساتير غير الفاعلة, إلى مرحلة الحكم الدستوري الحقيقي هي المحاكم الدستورية العليا, والقضايا المرفوعة أمامها، كوسيلة للالتزام بأحكام الدستور وعدم تجاوزه.
ويتكون الكتاب من جزأين؛ الأول ويناقش أهداف الدساتير العربية, أما الثاني فيتناول الإمكانات الدستورية في العالم العربي, وفي الجزء الأول يطرح المؤلف العديد من التساؤلات؛ منها: لماذا تكتب الدساتير في العالم العربي؟ وما هي الأغراض التي تهدف الدساتير إلى خدمتها؟ ولماذا تواصل الدساتير تكاثرها في تلك المنطقة, مادامت محرومة ـ إلى حد كبير ـ من الممارسات الدستورية؟ وما هي الأهداف التي تخدمها الدساتير إن لم يقصد بها تقييد السلطة؟!.
أوائل الدساتير
ويستعرض الجزء الأول التجارب الدستورية الأولى في المنطقة, بدءاً من دستور الأسرة الحاكمة في تونس 1860م، ومروراً بالدستور العثماني 1876, ثم الدستور المصري 1882، والإيراني 1906, وانتهاءً بالدستور الكويتي 1938, ليقرر أن هذه الدساتير لم تعش طويلاً, لأنها كانت "رومانسية وغير عملية" في تلك الفترة, حيث كانت في الأساس تهدف إلى إظهار السيادة الوطنية أو تعزيز سلطة الدولة، ومحاولة لإيجاد صيغة لحكومة أكثر خضوعاً للمساءلة وللأحكام التنظيمية.
لقد كان لجميع الدول العربية تجارب مع النصوص الدستورية، من أجل تنظيم السلطة وجعلها أكثر كفاءة أولاً، وثانياً لترسيخ السيادة والحس الواضح بالتوجه الإيديولوجي, وجميعها (مع استثناء جزئي لليبيا والبحرين) لديها في الوقت الراهن شكل من أشكال الدساتير يجري العمل بها, كما أن إحدى الكيانات العربية التي تأمل في إقامة دولة واضحة المعالم ـ فلسطين ـ قد شرعت في عملية كتابة دستور لها, ليس مرة واحدة , بل أربع مرات.
وعلى الرغم من أن قليلاً من الدول العربية هي التي تشعر أن بإمكانها الاستغناء عن الدساتير, فإن الاستناد إلى النصوص الدستورية يمثل في الواقع بعض المأزق, إذ أنه يمكن ـ حتى للنصوص الدستورية المكتوبة بعناية ـ أن يكون لها تبعات غير مقصودة, منها أن تؤكد البرلمانات ذاتها بدرجة تفوق ما كان متوقعاً منها بكثير, وشعرت بعض النظم العربية (المغرب ـ الجزائر ـ مصر ـ الأردن ـ البحرين ـ الكويت) أنها مجبرة على تعليق الدساتير التي كتبتها حسب هواها, حينما دبت في بعض نصوصها الحياة فجأة.
تطور الممارسة الدستورية
ويناقش المؤلف في الجزء الثاني من الكتاب تطور الممارسة الدستورية في الوطن العربي, وما إذا كان باستطاعة المؤسسات والنصوص الموجودة التحرك باتجاه دستورية الحكم, وأول هذه المؤسسات هو البرلمان المنتخب, وفي الإطار العام تم الإنكار على البرلمانات العربية أن تمتلك الآليات، لتصبح أكثر من مجرد كيانات للموافقة على قرارات الحكومة, بيد أنه بالإمكان تطور درجة من الإشراف البرلماني والمحاسبة للمجلس المنتخب, حتى من داخل الإطار الدستوري، الموجود في غالبية الدول العربية.
ويقول المؤلف إنه في ظل غياب سيادة برلمانية راسخة واضحة, فقد نجحت البرلمانات العربية إلى الدرجة التي ماثلت فيها الكونجرس الأميركي، من حيث تركيزها على القضايا الداخلية وتشتيت السلطة, وأيضاً إمكان التأثير في السياسة من خلال التعويق.
وباستثناءات محدودة، نجحت السلطات التنفيذية في تجريد البني الدستورية من قدرتها على ترسيخ أي قدر حقيقي من المحاسبة السياسية, وكان الأمر الحاسم في هذا النجاح هو استعداد السلطات التنفيذية, ليس فقط لكتابة الدساتير التي تروق لها, بل أيضاً لتأويلها وفقاً لاحتياجاتها, ورغم ذلك ففي العقود الأخيرة تم تحدي احتكار تأويل النصوص الدستورية, من خلال ظهور الرقابة والمراجعات القضائية, والاحتكام للمحاكم الدستورية العليا, وهي الجناح الثاني (مع البرلمانات) الذي يضغط من أجل دستورية الحكم في البلاد العربية.
في هذه النقطة يذكر المؤلف أن النصوص الدستورية العربية تمنح السلطة للجهات التنفيذية بأكثر مما تقيدها, وهي تفعل ذلك ليس فقط من خلال النص صراحة على ذلك, بل أيضاً من خلال ما تصمت عنه، ومن خلال الفجوات وغموض النصوص, وهي مثلاً تعلن عن الفصل بين السلطات، ولكن بأسلوب يمكن الالتفاف حوله, كما تصمم الإجراءات مع وجود فجوات للهروب, في الحالات التي يصبح الالتزام بها مزعجاً من الناحية السياسية.
الهيمنة على المحاكم الدستورية
لقد أصبحت الرقابة القضائية على نصوص الدستور مترسخة في غالبية الدول العربية، لكنها لم تظهر حتى الآن كقوة دستورية فاعلة, باستثناء بعض الحالات المنعزلة, وقد لا تكمن المشكلة في تجاهل بعض هذه الأحكام, لكن المشكلة الأكبر تكمن في عدم قدرة هذه المحاكم الدستورية على تحرير نفسها من الهيمنة السياسية عليها, وهذا يقوض سلطتها كجهة رقابية.
ويرى المؤلف أن أفضل أسلوب لترسيخ استقلال المحاكم, وأيضاً استقلال البرلمانات في السياق العربي، هو عزلها عن النظام اللاتعددي الذي يسود نظم الحكم, وتحصينها ضده.
وعلى الرغم من أن الأوضاع الدستورية للبرلمانات العربية ضعيفة بعامة, لكن الكثير منها يحتفظ بإمكانات لا بأس بها، لممارسة الإشراف على السلطة التنفيذية بالرغم من هذا الضعف, كما أنها على وجه العموم محرومة من تحقيق إمكاناتها, وذلك لأن الأنظمة الانتخابية والحزبية تحرمها من إمكانية إقامة أي استقلال ذاتي, وهذا ينطبق أيضاً على الهيئات القضائية العربية, وبخاصة تلك التي يناط بها تفسير النصوص الدستورية.
ومع انتشار الرقابة القضائية الدستورية في أنحاء غالبية العالم العربي, فقد فشلت غالبية الكيانات التي أنيطت بها المهمة في إقامة استقلال ذاتي، عن الهيئات التي يفترض أنها تشرف عليها وتراقبها, وبخاصة التنفيذية منها.
ويقول المؤلف إن الشريعة الإسلامية ربما توفر أساساً بديلاً لانبثاق دستورية الحكم, حيث تعترف معظم النصوص الدستورية العربية بمرجعيتها, وتتضمن نصوصاً تبدو وكأنها توفر إمكانية إخضاع السلطات السياسية للمحاسبة, وفقاً لإطار قانوني وفكري وديني, ولكن لم يتحقق بعد الوعد بدستورية الحكم الإسلامي, وذلك لضعف النصوص الإجرائية, بحيث من الممكن أن تعلن الأنظمة العربية ولاءها للشريعة، دون تقييد حريتها لتفعل ما تشاء.
آفاق المستقبل
إن فرص وجود حكم دستوري كامل في البلدان العربية ليست مشرقة, بيد أن فرص التطور باتجاه مبدأ الدستورية أقوى كثيراً مما يتوقعه البعض, ومن المحتمل جداً أن تصبح نظم الحكم العربية أكثر دستورية, من خلال تنامي الاستقلال الذاتي للبني الدستورية، وبخاصة البرلمانات والمحاكم، بأسلوب لا يكاد يشعر به أحد, وقد تبدو تلك البني غير ذات أهمية أو تأثير، باعتبار أن الحكام هم من أوجدوها, لكنها بدأت بالفعل تحرك بعض البلدان باتجاه الوضع الدستوري، رغم تواضع الظاهرة.
وينتهي المؤلف في ختام كتابه إلى أنه من المحتمل للنظام السياسي الناتج في البلدان العربية أن يكون بعيداً جداً عن دستورية الحكم الناضجة, إلا أنه من المحتمل أيضاً لشعوب العالم العربي, التي لا ترى في الوقت الراهن سوى أقل القليل من المحاسبة السياسية, أن تعتبر ذلك النظام الناتج خطوة هائلة إلى الأمام.