ما بعد الفلسفة... مطارحات رورتية

ياسين سليماني

[email protected]

تأليف: د. محمد جديدي

أصبحت البراغماتية شعار الوعي القومي الأمريكي، ذلك أنّ معظم البراغماتيين من مؤسسين ومطورين لها هم من الفلاسفة الأمريكيين، أهمهم بيرس ووليم جيمس وجون ديوي، غير أنّ فيها من خارج أمريكا فلاسفة عدة كالألماني فايهنجر والبريطاني شيللر، وهم أصحاب الصيغة الكلاسيكية -  كما يطرح الكتاب الذي بين أيدينا – والتي عرفها العالم عن هذا المذهب الفلسفي.

في مقابل هذا، نجد أنّ للبراغماتية وجهها الجديد الذي يمثل تيارا أمريكيا محضا من أبرز شخصياته كواين، غودمان، بوتنام وديفيسون، وإضافة إلى هؤلاء الأربعة نجد الفيلسوف ريتشارد رورتي الذي يُفرد له د. محمد جديدي كتابه الجديد الصادر عن منشورات الاختلاف و الدار العربية للعلوم ببيروت بعنوان:"ما بعد الفلسفة... مطارحات رورتية" وذلك بعد أن خصّه من قبل بكتاب كامل أيضا تحت مسمى "الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي"

يتألف "ما بعد الفلسفة... مطارحات رورتية" من عشر مقالات ، قاسمها المشترك هو ريتشارد رورتي ( توفي في صيف 2007) ، وهو إذ يحمل عنوانا لافتا مثل "ما بعد الفلسفة" في شقه الأول فلأن المؤلف ينظر إلى أفكار صاحبها على أنها (فلسفة أخرى، أو أنها فلسفة ليست كفلسفة، وليست الفلسفة) وهي مطارحات في الشق الثاني من العنوان لأن (الفلسفة الرورتية تحرص دائما في مفرداتها على المحادثة التي هي مطارحة conversation  ، من حيث التواصل الذي كان لها مع فلسفات أخرى) سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها.

·     ريتشارد رورتي البراغماتي:

بالنسبة لفيلسوف من طراز رورتي فإنه من غير المحبذ الغوص كثيرا في الأمور النظرية والتنقيب المستمر في أعماق النظرية ، وهو كغيره من فلاسفة البراغماتية يبتعد قدر جهده من الالتفات إلى البعد النظري والذهاب إلى التجريد والتأمل، إذ يرى – حسب مؤلف الكتاب- أنّ (الفلسفة عمل ونشاط ضمن السياق الأنجلوسكسوني وهي إصرار على الممارسة والواقعية لدى البراغماتيين)

ولذلك لا يمثل الجانب النظري والميتافيزيقي بالنسبة للحقيقة إلاّ بُعداً واحدا من أبعادها المتعددة وخاصة التطبيقية منها، وهكذا تحاول براغماتية رورتي ردم هذه الهوة ووصل الجانبين ضمن التصور الذي أصبح شغله الشاغل : الإنسان في الواقع، الإنسان التاريخي، الإنسان صانع الحقيقة وصانع السعادة.

وتختصّ الفلسفة الرورتية بخواص رئيسية أهمها أنها لا تضم فقط المفردات الفلسفية، وإنما تتميز بمفردات الإنسانيات والأدبيات والفنون والعلوم ، زيادة على أنها بعثت البراغماتية من سباتها وجمودها ومكّنتها من نَفَس جديد، إذ بفضل جهوده الدؤوبة وحضوره في المنتديات العالمية المختلفة وكذا كتاباته الكثيرة المدافعة عن البراغماتية تمكّنَ من إلباسها ثوبا جديدا وتحيينها بناء على التطورات الحاصلة أمريكيا ثم عالميا، كما أنها فلسفة تتقن –كما يذهب إلى ذلك مؤلف الكتاب- لعبة القراءة والكتابة الفلسفية، فنصوص رورتي تعج بأسماء الفلاسفة الذين ملأوا تاريخ الفكر الفلسفي وهو الشيء الذي ساعده كثيرا على الكتابة الفلسفية من منطلق الاطلاع الواسع على مذاهب الفلاسفة ونظرياتهم وأيضا على طرائقهم في الاستدلال والحِجاج كما يقول صاحب الكتاب.

·   الحقيقة عند رورتي:

بعد الحديث عن ريادة رورتي للبراغماتية الجديدة، يطرح المؤلف فكرة الحقيقة في منظور الفيلسوف الأمريكي ، إذ أنّ الحقيقة هي (نص مفتوح على القول المختلف) ومن هذا المنطلق فإنّ رورتي يشارك وليم جيمس في رؤيته للحقيقة إذ نجده يقول أنّ (الحقيقي هو فحسب النافع (المناسب) في طرائق تفكيرنا تماما مثلما أنّ الصحيح ما هو إلاّ النافع في الكيفيات التي نسلك بها)

مع ذلك يرى المؤلف بأنه (ليس من اليسير البتة حصر موقف ريتشارد رورتي من الحقيقة والتعرف على مضامينه... لأنّ موقفه بالأساس مرتبك ومعقّد... فهو يقول تارةً بنظرية براغماتية في الحقيقة وأخرى يُكر إمكانية وجودها...).

·        الفلسفة عند رورتي:

هناك من يعتبر الفلسفة أو الحياة الفلسفية كفَنٍّ من فنون الحياة، وحسب رورتي فإنّه من غير المجدي أن ننظر إلى الفلسفة بوصفها تأمّلا أو نشاطا ذهنيا أو ممارسة والتزاما، مجرّدة عن كلّ شاعرية منبعها وجدان عميق وقصد نافذ في الأشياء وبعيدة عن كلّ كتابة مفعمة بروح النقد والذوق لما هو عليه حال الأشياء ومنظور القيم، وإلاّ فما معنى –كما يتساءل المؤلف-أن يكون الفيلسوف فيلسوفا أو غير ذلك؟ من هذا فإنّ الكاتب يخلص في حديثه عن الفلسفة عند رورتي أنها تعطي للثقافة الشاعرية الحيّز الأكبر، وهي كما يعرّفها :( ثقافة تنويرية علمانية منزوعة التأليه والكونية) وهي (ثقافة المجتمع الليبرالي الديمقراطي)أي المجتمع الذي يسمح بأن يكون من بين أفراده وينمو ويتطوّر داخله نموذج المثقف الأمثل لديه، أي أنّ (الثقافة الشاعرية هي التي تصبح فيها الفلسفة مثل باقي الأصوات داخل المحادثة الإنسانية)

·        نهاية الفلسفة:

 كيف يمكن الحديث عن نهاية الفلسفة؟ هل تتعلّق المسألة بطابع زماني كرونولوجي في التاريخ، أم أنها من قبيل التعاقب والتتابع؟ هل ينبغي أن ندق ناقوس الخطر ونصرخ: أنقذوا الفلسفة إنها تشكوا الانقراض والاندثار! تماما كما تفعل بعض الشخصيات والجمعيات المدافعة عن البيئة وعن الحيوانان بصرخاتها للدفاع عن نوع حيواني معيّن من الانقراض أم أنّ الأمر لا يستحق كلّ هذا التهويل؟

ما يستخلصه المؤلف من كتابات رورتي، أنه لا يعني بموت الفلسفة زوالها واندثارها بقدر ما يعني انبثاق فلسفة جديدة تختلف في طرائقها ومفاهيمها وأوصافها عن الفلسفة التي انتقدها، فهو يقول صراحة: (لا أعتقد فعلاً أنّ الفلسفة يمكن أن تموت في يوم ما، يمكنها أن تتغيّر، وقد فعلت ذلك عدّة مرّات في تاريخها) وإذا كان عالَم الفكر يشهد تغيّرات نصطلح عليها بالثورة أو الراديكالية تنبئ بحدوث أزمات، فإنّه في هذه الحالات يغلب الميل إلى الاعتقاد بموت الفلسفة، والأمر لم يكن كذلك مطلقاً، وإنما هي أزمات وتوترات فقط على حد تعبير رورتي نفسه.

·        الديمقراطية بنظّارات رورتية:

كتب ريتشارد رورتي مقالة عنوانها (أولوية الديمقراطية على الفلسفة)، وفيها يناقش مسألة الحقوق التي صارت أمرا أساسيا ولازما للديمقراطية، ذلك أنّ هذه الأخيرة –كما يذهب إلى ذلك ديوي- تعني (الحياة الاجتماعية المشتركة والتي تفقد كل معانيها إذا لم تُحترم فيها الحقوق الفردية والعامة) وكما يضيف ديوي بأنّ مهمة الديمقراطية تظل على الدوام المساهمة في خلق خبرة أكثر حرية وأكثر إنسانية في ظلها يكون التبادل والإسهام من طرف كل واحد هو القاعدة، فإنّ رورتي على خطى أستاذه ديوي أمكنه أن يضمّ اسمه أيضا إلى قائمة سابقيه بدفاعه المستميت عن الديمقراطية التي يعترف لها بكثير مما أنجزته على الرغم من نقائصها.

·        رورتي وحقوق الآخر

ليست جلّ الأفكار التي تضمّنتها فلسفة رورتي حول الآخر، وإمكانية إدماجه في البناء الاجتماعي والسياسي الليبرالي البرجوازي ما بعد الحداثي الذي تتميّز به نظرة رورتي مقنعة وخالية من أي وجه انتقادي –على ما يرى المؤلف- لكنها بالموازاة مع ذلك ساهمت بقدر وافر في إنضاج النقاش الذي لا تزال مختلف الدوائر الأكاديمية والسياسية والثقافية بشكل عام تواضب على طرحه، وتترقب استتباعاته خاصة منها ما يتصل بحقوق الإنسان، إذ أنّ مسألة التنظير والإجراءات الكفيلة بمعالجة مسألة حقوق الإنسان تبقى منقوصة من الفاعلية ما لم تعززها قوة تضامنية يتماسك فيها شعور الأفراد بتقليص المعاناة وتوفير فرص السعادة للجميع. وهكذا يبقى السؤال الجوهري الذي تثيره فلسفة رورتي: هل باستطاعة التضامن –كما يطرحه الفيلسوف-أن يضمن اندماج الآخر وحقوقه؟ ويرى المؤلف أنه قد لا تجيب عن هذا السؤال  المجتمعاتُ التي لا تزال محكومة بهوس الحقيقة وما لم تستبدلها بالتضامن، وقد يكون الجواب لدى مجتمعٍ ما بعد حداثيٍّ قادمٍ أو سرا من أسراره.

·        الأمل الاجتماعي والتسامح كما يراهما رورتي:

يصرّح د. محمد جديدي مؤلف الكتاب بأنه بالنظر إلى قناعته بالمصلحة العظمى للبشرية وهي الأمل ، فإنه توجّه صوب رورتي واتخذه نموذجا  لتوضيح الفكرة، سيّما في بعض أعماله ذات العناوين المثيرة والمستفزّة كـ:"الأمل بدل المعرفة" و"أولوية الديمقراطية على الفلسفة"

ونجد رورتي يعرّف الأمل على أنه (القدرة على الاعتقاد بأنّ المستقبل سيكون أكثر حرية من الماضي) وأنه (هو شرط التطور)، وهذا التعريف يشير إلى المستقبل أكثر من اهتمامه بالماضي، وهي فكرة تنسجم جيّدا مع البراغماتية في صيغتها القديمة أو الجديدة.

كما يعبّر رورتي عن البراغماتية والأمل الاجتماعي بقوله: (إذا كان هناك شيء ما خاص بالبراغماتية فهو استبدالها معاني "الواقع"، "العقل"، "الطبيعة" ، بمعنى أفضل مستقبل للإنسانية، ويمكننا القول عن البراغماتية ما قاله نوفاليس عن النزعة الرومانسية : إنها تعظيم للمستقبل)

أما التسامح فهو كما قال د. فتحي التريكي الذي يستشهد به صاحب الكتاب:"موقف متعقل وأخلاقي في السلوك والعلاقات البشرية ... هو نضال ضد ما لا يُقبل انطلاقا من إنسانية الإنسان، فالتسامح نضال ضدّ اللامعقول)

أي أنه- يضيف المؤلف – قبل كل شيء حالة أو استعداد ذهني، وقاعدة للسلوك تترك للآخر الفرصة في التعبير أكثر من دون شرط يجبره على تقاسم الأفكار.

كما أنّ التسامح يمثّل رفضا لنزاعات عدة تتّسم كلها بالتطرف ومنها: الدوغماتيقية، الديكتاتورية، الشمولية، ولكنه أيضا قبول متبادل بالاختلاف لأنّ التسامح يجعل ممكناً وجود الاختلافات، كما أنّ الاختلافات تجعل تطبيق أو ممارسة التسامح أمرا ضروريا، ولهذا وجب –كما يرى رورتي- (أن نعرف ما هي المجتمعات التي تشجّع وتحثُّ على التسامح إزاء أشخاص مختلفين عن أغلبية أعضائها، وبأننا مبجّلون بدلاً عن تلك المجتمعات التي تريد الإبقاء على المهمّشين وعزلهم بحجة المحافظة على تماسكها الاجتماعي.

زيادة على ذلك فإن التسامح مدعو أيضا إلى التساؤل عن حدود التسامح ذاته، وكما يستفهم المؤلف: هل من الممكن الإقرار بوجود اللامُتسامَح فيه؟ وهل نحن في حاجة ماسة ومجبرون على التسامح؟ ويجيب قائلا بأنّ هذا (يتطلب أخلاقا كونية كفيلة بنزع الكراهية والحقد المفضيين إلى الانتقام واللاتسامح).

ويختتم الكاتب بتساؤل آخر: هل سيعود للإنسانية وعيُها في الاستهداء بحكمة العقل الخالدة تحقيقا للخير والجمال والحق؟ ويقول متمنيا: ذلك هو أملنا وأمل الإنسان ونحن في الألفية الثالثة).

·        خاتمة:

يُعد هذا الكتاب للمؤلف والأستاذ بجامعة قسنطينة د. محمد جديدي عملاً قيّما فيما يخص عرض ومناقشة آراء أحد أهم الفلاسفة المعاصرين، وتنبع قيمة الكتاب – إضافة إلى ما طرحناه في هذا العرض- في أنه يسلّط الكثير من الضوء على مناطق لم ينتبه إليها الباحثون العرب، باعتبار أنّ الدكتور جديدي من الباحثين القلّة الذين لهم اهتمام مركّز بفكر ريتشارد رورتي ودوره الطلائعي في الفلسفة البراغماتية.