سقوط الجولان 2

سقوط الجولان

خليل مصطفى

الفصل الثاني

الجولان

"...إن الجبهة السورية –الإسرائيلية "خط ماجينو" السوري المشهور، الذي كلف البلاد أكثر من ثلاثمائة مليون دولار، لتحصينه وتجهيزه بأحدث المعدات، والذي اشتهر عنه بأنه لا يؤخذ... هذا الخط سقط بأيدي القوات الإسرائيلية خلال 48 ساعة فقط"...

من كتاب "المسلمون والحرب الرابعة ص 171".

-1-

جغرافية الجولان

أ- الجولان... مقاطعة هامة من الأرض العربية، تابعة للجمهورية العربية السورية، وتقع في الجزء الجنوبي الغربي منها، تجاوره من الشمال الغربي أراضي الجمهورية اللبنانية، ومن الغرب الأراضي المحتلة من فلسطين، ومن الجنوب أراضي المملكة الأردنية الهاشمية.

ويشكل الجولان، واحدة من ثلاث عشرة محافظة، هي التقسيمات الإدارية للجمهورية العربية السورية، ومركزه (عاصمة المحافظة): القنيطرة.

ب- ويقع الجولان في الترتيب الأول بين المحافظات السورية من حيث:

- الأهمية العسكرية.

- خصوبة الأرض وغناها الطبيعي.

- توفر المراعي الغنية طوال فصول السنة.

- وعورة الأرض.

- الغنى بالكنوز الأثرية الدفينة والتي لم يكشف عنها حتى يوم ضياعه.

- تنوع أجوائه ضمن مسافات متقاربة، حتى ليبلغ البعد بين النقيضين (من البارد المثلج إلى الحار الممطر) ما لا يزيد عن مسيرة ساعة بالسيارة.

- وفرة الزواحف والحشرات الخطرة وفي مقدمتها الأفاعي والثعابين والعقارب.

- توفر المياه المعدنية وحماماتها.

- تعدد طوائف وأديان وأجناس سكانه، فقد احتوى من أهل المذاهب والأديان:

1- المسلمين السنيين، والمسلمين الشيعة.

2- المسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت.

3- الدروز.

4- العلويين.

ومن الأجناس:

1- العرب.

2- الشركس.

3- الداغستان.

4- الأتراك.

5- التركمان.

6- الأكراد.

ويأتي ترتيبه ثانياً من حيث:

- وفرة الأحراج والتشجير الطبيعي.

- غزارة الأمطار والثلوج.

- توفر الحيوانات وتنوعها –وخاصة البرية منها- ووفرة الطيور- المقيمة والوافدة.

- إنتاج الخضار الموسمية وخاصة في فصل الشتاء.

ويأتي ثالثاً في الترتيب من حيث:

- كثافة السكان.

- توزع السكان على الريف بنسبة تفوق توزعهم على المدن.

- إنتاج المنتجات الحيوانية وخاصة العسل والأسماك. ويأتي ترتيبه الأخير من حيث:

- استغلال الموارد والطاقات المتوفرة.

- مساحة أرضه.

- المستوى الثقافي والاجتماعي والحياتي للأكثرية العظمى من سكانه.

- اهتمام الدولة به من مختلف نواحي الحياة –عدا ما وقع في دائرة اهتمامات الجيش-.

ج- يبلغ طول حدوده مع العدو ثمانين كيلو متراً... يمر خلالها خط الهدنة (انظر الخريطة رقم 1).

- تبلغ مساحته حوالي 1800 كلم2. ولا يقل عدد سكانه عن 100 مائة ألف –عدا القوات- أصبحوا اليوم كلهم نازحين مشردين.

- تبلغ كثافة السكان 79 نسمة/ كم2

د- من أشهر مدنه:

- القنيطرة وهي مركز المحافظة.

- فيق وهي مركز قضاء الزاوية.

من أشهر قراه:

- في القطاع الشمالي: مجدل شمس، بانياس، مسعدة، عين قنية، جباتا الزيت، زعورة، عين فيق.

- في قطاع واسط: واسط- حفر- فنعبة- الدرباسية.

- في القطاع الأوسط: كفر نفاخ، العليقة، الدبورة، نعران، جليبينة، القادرية، عين السمسم، السنابر، الفاخورة، تل الأعور، حسينية الشيخ علي، الدوكا، الخشنية، القصبية، اليهودية.

- في القطاع الجنوبي: البطمية، خسفين، العال، حيتل، الياقوصة، كفر حارب، الحمة.

- في قطاع القنيطرة: جباتا الخشب، المنصورة، الصرمان، عين زيوان، الدلوة، المومسية، الجويزة، بريقة، بير عجم، الفحام.

هـ- أهم مصادر المياه فيه:

بالإضافة إلى نهر الأردن، وبحيرة طبريا، اللذين يعتبران من أكبر مصادر المياه التي كان سكان المنطقة يستفيدون منها، هناك مصادر أخرى للمياه (مستغلة أو غير مستغلة) أهمها:

1- نهر بانياس الذي يشكل ثاني روافد نهر الأردن وينبع من ارتفاع 300 م ولا يسير في الأرض السورية أكثر من 1000 متر ويبلغ تصريفه السنوي 157 مليون م3 من المياه العذبة.

2- نهر اليرموك الذي يبلغ طوله 57كيلو متراً يسير منها 47 كيلو متراً داخل الأرض السورية، معظمها في الجولان (على حدوده)، ثم يرفد نهر الأردن جنوبي بحيرة طبريا.

3- قناة العفريتية، وهي مأخوذة من نهر الأردن، وتروي معظم منطقة البطيحة.

4- نهر الزاكية والمسعدية، ويصبان مباشرة في بحيرة طبريا.

5- بركة (بحيرة) مسعدة، وهي عبارة عن حفرة كبيرة بركانية تقع على ارتفاع 950 متراً، ويشكل المصدر الأكبر لمياهها، تساقط الأمطار، وفي أرضها بعض الينابيع.

6- بالإضافة إلى ينابيع وعيون كثيرة، موزعة في كل وديانه وقراه، وتشكل مصادر وفيرة للمياه، منها ما كان مستغلاً، ومنها المهمل (وهو الأكثر)، ومن أهم هذه الينابيع:

- نبع البرجيات وتذهب مياهه مباشرة إلى الأرض المحتلة قرب كفر شامير.

- عين الكبش في وادي الدبورة ويسيل في الوادي حتى يلتقي مع ينابيع جليبينة وتصب جميعها في نهر الأردن قرب بستان الخوري.

- نبع الجوخدار وقد كان مستغلاً أكثر ما يمكن في تأمين المياه إلى القرى والمعسكرات.

- نبع السنابر، وكان مستغلاً بشكل ممتاز ويروي قرى كثيرة وتزرع على مياهه مساحات جيدة بالأرز، وذلك في قرى جرابا وسيرة الخرفان والقراعنة.

- ينابيع القصبية وهي مستغلة أيضاً بشكل جيد وعلى مياهها يزرع الأرز في منطقة القصبية.

- نبع الدورة (أمام السنابر)، وكانت الفائدة منه محدودة على أحد سفوح وادي حواء.

- ينابيع الحمة، وقد كان أكبر إفادة منها، في الاستحمام لكونها معدنية، وهي من أجود الحمامات المعدنية في العالم.

و- أهم الطرق في الجولان:

الطرق المشتركة بين أكثر من قطاع:

1- الطرق الطولانية (من الشرق إلى الغرب):

سحيتا –مسعدة، آتياً من قطنا- بيت تيما- حينة- مزرعة بيت جن (نصف معبد).

قنيطرة –المنصورة- مسعدة- بانياس، آتياً من دمشق ومستمراً إلى مرجعيون (معبد).

قنيطرة-كفر نفاخ- العليقة- الجمرك السوري- جسر بنات يعقوب ومستمراً إلى صفد (معبد).

قنيطرة –الرفيد- خسفين –العال- فيق –الحمة (معبد).

2- الطرق العرضانية (من الشمال إلى الجنوب).

مسعدة- واسط- كفر نفاخ (معبد) قنعبة- حفر- العليقة (ممهد).

كفر نفاخ- السنديانة- الخشنية (ممهد).

الدرباشية –جليبينة- المرتفع 217 (ممهد).

الجمرك السوري –علمين –تل المشنوق- البطيحة مخترقاً إياها وماراً بالقرى: تل الأعور- حسينية الشيخ علي- الدوكا- الكرسي- النقيب العربية (نصف معبد فيما بين الجمرك وتل الأعور، وممهد في باقي أجزائه).

يضاف إلى ذلك الطريق الموازي لخط أنابيب التابلاين، آتياً من الأراضي الأردنية، مخترقاً حوران، فالجولان ماراً بالجوخدار، -البيرة- الرزانية- رواية- بانياس- الفجر، ثم يتابع سيره في لبنان حتى ساحل البحر قرب الزهراني جنوب صيدا.

الطرق ضمن القطاعات:

- الطرق الطولانية:

في قطاع واسط:

المنصورة- واسط متفرعاً عن طريق القنيطرة –منصورة –مسعدة- وهو معبد.

واسط –رواية- حفر- الدرباشية (ممهد).

في القطاع الأوسط:

كفرنفاخ- عين السمسم- السنابر- أبو فولة- جرابا (معبد).

الخشنية- القصية- اليهودية (معبد).

في القطاع الجنوبي:

سكوفيا –تل: (69) الكرسي (ممهد).

في قطاع القنيطرة:

دمشق- القنيطرة مروراً بالحميدية ومنها يتفرع على النحو السابق: بانياس، وجسر بنات يعقوب، والحمة (معبد).

أوتوستراد الحميدية –المنصورة (معبد).

أوتوستراد الحميدية –الصرمان (معبد).

2- الطرق العرضانية:

في القطاع الشمالي:

بانياس- تل العزيزيات –البرجيات (مقابل كفر شامير) (ممهد)

في القطاع الأوسط:

الجمرك السوري- السنابر (ممهد)

جسر بنات يعقوب- أبو فولة مروراً بنقطة استناد أشرف حمدي (ممهد).

في القطاع الجنوبي:

خسفين- جسر الرقاد –تسيل (جزء معبَّد والآخر ممهد)

العال- حيتل- كفرالما (نصف معبد).

في قطاع القنيطرة:

حضر- جباتا الخشب- خان أرينبة –جبا (ممهد).

الصرمان- بير العجم- بريقه- كودنا (ممهد).

ز- أهم المناطق الصالحة للزراعة:

1- سهل المنصورة.

2- بانياس.

3- الشريط الموازي للحدود من بانياس شمالاً وحتى جسر بنات يعقوب ثم من علمين وحتى مصب نهر الأردن في بحيرة طبريا.

ومن أبرز مناطق هذا الشريط: منطقة الدرباشية- منطقة جليبينة- منطقة علمين- منطقة الدكة وحتى مصب النهر.

4- منطقة العليقة- كفرنفاخ- القادرية.

5- منطقة الدلهمية- عين وردة.

6- الخشنية.

7- سهل البطيحة والسفوح الشرقية المطلة عليه (وهذه أغنى نقطة في الجولان كله).

8- سهول الرفيد وخسفين والجوخدار، والعال وفيق.

ح- أشهر المحاصيل الزراعية التي كانت تنتجها الجبهة (الجولان):

1- الفواكه وخاصة التفاح والكرز من منطقة مجدل شمس والقرى التي حولها حتى مسعدة.

2- الزيتون واللوز من الوديان المنتشرة في كل الجولان.

3- الموز والحمضيات وأكثر المناطق إنتاجاً له: البطيحة.

4- القمح والشعير والذرة.

5- الفول السوداني وأكثر المناطق إنتاجاً لها منطقة بانياس.

6- الخضار وأهم المناطق إنتاجاً لها البطيحة وكانت تزود دمشق بها شتاءً.

7- الأرز، وأهم المناطق إنتاجاً له منطقة القصبية، والسنابر، وسيرة الخرفان.

ط- أشهر المحاصيل الحيوانية:

- المواشي (وخاصة الأبقار).

- الأسماك وأهم المناطق إنتاجاً لها هي البطيحة.

- العسل، وأهم المناطق إنتاجاً له القنيطرة، ومجدل شمس، ونعران، والسنابر، والدرباشية، يضاف إلى ذلك كميات محدودة من الألبان والسمن والجبن، أكثرها يستهلك محلياً.

ي- أكثر الأشجار انتشاراً في الجبهة (الجولان) هي:

1- الأحراش: وتضم في غالبيتها أشجار السنديان، والبلوط، والسماق، والزعرور، ومن أشهر الأحراش فيها حرش مسعدة، وحرش عين زيوان، وحرش الموسمية –جويزة- بريقة –بيرعجم. وكذلك أكثر الوديان التي تخترق الجبهة من الشرق إلى الغرب كانت مغطاة بالأحراش.

2- الأشجار المزروعة غير المثمرة: كان من أهمها الكينا والحور.

ك- أهم الأجواء التي تسود تلك المنطقة هي:

البارد المثلج في منطقة القنيطرة ومسعدة ومجدل شمس.

البارد الممطر في واسط- كفرنفاخ- القادرية-الخشنية.

الحار الرطب غزير الأمطار في منطقة البطيحة والحمة.

الحار الجاف في باقي المناطق وخاصة سهول خسفين –العال –حيتل.

ل- أهم التلال ذات القيمة العسكرية:

1- في القطاع الشمالي: تل الفخار، تل الأحمر (أمام بانياس)، تل العزيزيات مضافاً إليه تل الأحمر قرب بقعاتا الذي تكمن أهميته في أنه أقيم فيه مرصد قائد الجبهة للإشراف على قتال القطاع الشمالي.

2- في قطاع واسط: تل شيبان، مرتفع الدرباشية.

3- في القطاع الأوسط: مرتفع الدبورة، مرتفعات جليبينة، المرتفع 217، مرتفع أم العسل، تل المشنوق، تل 62، تل الأعور.

4- في القطاع الجنوبي: تل الفرس، وفيه مرصد قائد الجبهة للإشراف على قتال القطاع الجنوبي. تل السقي، تل: (69) مرتفعات سكوفيات وبير شكوم، مرتفعات كفر حارب ومزرعة عز الدين، مرتفعات العقبات التي تتحكم ببداية الطريق النازل إلى الحمة.

5- في قطاع القنيطرة: مرتفع خان أرينبة، تل النبي محمد، تل العرام، تل أبي الندى، وفيه أقيم المرصد الأساسي لقائد الجبهة، تل خنزير وفيه مرصد قائد الجبة للإشراف على قتال القطاع الأوسط.

-2-

دور الجولان

... لعلنا لا نجد في تاريخ الشعوب العربية.. وعلاقاتها بالأرض التي تقلها وتنبت لها الخيرات وتضم رفاتها... منطقة كانت ذات أثر حاسم وفعال، وجزءاً من الأرض لعب أخطر الأدوار في صنع تاريخها الحديث، مثل الجولان...

وإنني لا أبالغ فيما أقول.. وسأسوق الأدلة على ذلك.

فالجولان.. لعب دوراً خطيراً جداً في الأحداث المتعاقبة على سوريا، منذ قيام دولة الاغتصاب.. وحتى يوم النكبة.

ففي الجولان، نبتت الفكرة الأولى لأكثر الانقلابات التي شهدتها سوريا... وفيه حبكت الخيوط الأساسية لتلك الانقلابات.

فأكثر الضباط الذين كان لهم دور خطير في الانقلاب الأول وعلى رأسهم الزعيم حسني الزعيم قائد الجيش والعقيد بهيج كلاس، تفتحت أبصارهم على سوء أوضاع الجيش.. نظراً لما شاهدوه خلال تمركز وحداتهم في الجولان.

ومن أجل خط أنابيب بترول التابلاين، التي تمر في الجولان، ومن أجل توقيع اتفاقية الهدنة بين سوريا وإسرائيل... بالشكل الفاضح المجحف بحقوق سوريا وعرب فلسطين.. من أجل هاتين نفذ حسني الزعيم انقلابه الأول منطلقاً من الجولان إلى دمشق.. ووقع اتفاقية الهدنة، واتفاق التابلاين.. بعد أن رفضها المجلس النيابي السوري في شباط عام 1949... ثم أزيح (الزعيم) بعد أن أدى مهمته.

ومن الجولان، عام 1953، انطلقت المدافع تعترض سبيل العدو، وتمنعه من تنفيذ مشروعي تجفيف الحولة وتحويل نهر الأردن، حتى اضطر العدو إلى طرح القضيتين أمام مجلس الأمن الدولي... واستأثر الموضوع باهتمام العالم مدة لا تقل عن سنة... واستطاع الجيش السوري أن يوقف أعمال العدو في جزء خاص من تجفيف الحولة. وفي المرحلة الأولى والأهم من مشروع تحويل نهر الأردن، وأجبرت العدو على إدخال تعديل كبير جداً على مخططاته لهذا المشروع.

وفي الجولان.. بدأت التجمعات الأولى، التي أعدت للإطاحة بحكم أديب الشيشكلي، رغم أن الشرارة الأولى لذلك الانقلاب.. خرجت من حلب.. ولكن ثقل الجبهة (الجولان)، كان إلى جانب الانقلاب.. فنزل الشيشكلي عن الحكم.

وفي الجولان... وعلى أرضه الكريمة، حدثت الإغارة الإسرائيلية الكبيرة ليلة 11/12/1955 وكان من نتائجها بداية تسلط البعثيين على الحكم والجيش... تستراً وراء العقيد عدنان المالكي، ولعل ذلك كان واحداً من أهم أهدافها؟

وفي الجولان، وبسبب أرضه وجواره (المنطقة المجردة)، تتابعت الصدامات العنيفة.. بين سوريا وإسرائيل.. تفاوتاً في القوة بين الاشتباك الصغير المحلي.. والاشتباك الشامل الذي يعم الحدود أو جزءاً كبيراً منها... وكان من أبرز هذه الاشتباكات، معارك التوافيق عام 1957، وعام 1960.

وفي الجولان... وبسبب الصراع على المياه والأسماك.. استمرت أيضاً الصدامات بين الطرفين، كان أكبر مظهر لها معركة تل النيرب عام 1961.

وعلى أرض الجولان.. بدأت التجمعات الأولى للضباط اليساريين، وحيكت خيوط التعاون بينهم، لإسقاط الأوضاع الديمقراطية، وفرض ديكتاتورية اليسار.. وكان ذلك في الأعوام (1955، 1956، 1957).

وشهد الجولان استعدادات للتدخل ضد العدو أكثر من مرة، كان أبرزها، الحشد الكبير الذي تم في عام 1956، خلال العدوان الثلاثي على مصر.

وكان للجولان أيضاً أثر كبير جداً في الضغوط التي مارسها العسكريون لفرض الوحدة بين مصر وسوريا.. حتى توجت جهودهم بإعلانها عام 1958.

وعلى أرض الجولان... ومنذ بداية الوحدة، سقط الشهداء من أبناء الإقليمين.. وكانت البادرة الأولى، مبشرة بتحقيق الارتباط الدموي المتين بين أبناء الوطن الواحد.. امتزاجاً بالتراب الطاهر.. على الحدود ضد العدو الدخيل.

وفي الجولان.. نبتت وترعرعت الأفكار التي اتجهت نحو تقويم أوضاع الوحدة بعد انحرافها وتشويهها بأيد معينة (خفية وبارزة).... وكانت تلك اللقاءات.. هي النواة الأولى في كيان الحركة التي وقعت في أيلول لعام 1961، وكان من نتيجتها انفصال الإقليمين، وفصم عرى تلك الوحدة.

وفي الجولان... وقعت أحداث في غاية الخطورة، كان لها الدور الحاسم الفعال في تحديد خط سير الأحداث، خلال فترة الانفصال وبعده..

وعلى أرض الجولان... تمت اللقاءات الخطيرة بين الضباط العراقيين والسوريين، وفيها تم نسج خيوط التعاون لإسقاط حكم عبد الكريم قاسم في العراق، وحكم الانفصاليين في سوريا(1).

ومن أرض الجولان... انطلقت الوحدات ليلة الثامن من آذار 1963، لتنفذ المؤامرة الكبرى، تحت ستار من الشعارات الكاذبة المضللة على نحو نوهنا عنه في صفحات مضت.

وعلى أرض الجولان... كان مقرراً أن تقوم المشاريع الضخمة لتحويل مصادر مياه نهر الأردن.. ليتم حرمان العدو من مشاريعه التوسعية الخطيرة.. وفي مقدمتها مشروع تحويل نهر الأردن.

وشهدت أرض الجولان.. صدامات عنيفة، واعتداءات متكررة، حقق العدو منها منع العرب من تنفيذ مشاريعهم في تحويل منابع المياه، وكان لذاك أثره وصداه العميقان في ضمير كل مواطن في دنيا العرب.

وعلى أرض الجولان، تمت تصفية عدد كبير من العسكريين، قتلاً وتسريحاً وتعذيباً.. بأيدي جلادي حزب البعث الذي يحكم سوريا اليوم، تمهيداً لإضعاف قوة الجولان، ثم تسلميه للعدو.

وفي أرض الجولان، دفنت ملايين الليرات (للتحصين)، وعلى أرضه وذراه وروابيه، وفي وديانه ومنحدراته أقيمت -كما اتفقوا عليه- المنشآت المختلفة، لإيواء الناس والقوات.. استعداداً لساعة محنة يطلب فيها الصمود.. ولكن جيش حزب البعث لم يصمد.. فسلم الجولان للعدو، غنيمة سهلة ثمينة.

وعلى أرض الجولان.. تم تنفيذ المسرحية الكبرى في تاريخ المسرح الدولي.. مسرحية الحرب التي سموها (عدوان 5 حزيران).. وكان الختام المقرر لهذه المسرحية... تسليم الجولان.. بالتمام والكمال، كما اتفق عليه وكلاء حزب البعث، مع وكلاء إسرائيل... في باريس.

ذاك كله... وأكثر منه بكثير وأخطر.. كانت أرض الجولان مسرحاً له، مما ليس هذا مجال ذكره، وفي الصفحات القادمة، سنشرح جزءاً خطيراً منه.. وهو الجزء المتعلق بحرب حزيران عام 1967، على أمل لقاء آخر، نشرح للقارئ فيه أسرار وخفايا الجولان، قبل الخامس من حزيران.

-3-

لمحة تاريخية عسكرية

ويرجع تاريخ اهتمام الجيش بالجولان، ودخول هذه المنطقة في حيز الاهتمامات الكبرى للدولة السورية ثم لمجموع الدول العربية.. إلى أوائل عام 1947، حيث بدأت عصابات مسلحة بقيادة أكرم الحوراني وأديب الشيشكلي مهاجمة بعض المستوطنات اليهودية قرب الحدود السورية الفلسطينية، ثم تركز الاهتمام على الجولان منذ 16 أيار 1948 حيث دخل الجيش السوري أرض فلسطين المحتلة للاشتراك في الحرب ضد إسرائيل، وكانت أهم انطلاقات القوات السورية من أرض الجولان.

ولكن حين تدخلت القوى الاستعمارية وفرضت وقف القتال، ثم الهدنة، تحولت القوات السورية إلى اتخاذ الموقف الدفاعي، حماية لحدود الأرض السورية من أي هجوم يقوم به العدو، وخاصة لابتلاع الأراضي المجردة، ذات الأهمية الكبيرة.

ولقد خضعت أعمال القوات وواجباتها الدفاعية وأماكن تمركزها، وأعمال التحصين في الأرض لعوامل ومؤثرات عديدة تعاقبت عليها، حتى استقرت منذ عام 1954، على تقسيمات عسكرية قسمت الجبهة (الجولان) إلى قطاعات أربع هي:

الشمالي: وقيادته في مسعدة.

الأوسط: وقيادته في العليقة.

الجنوبي: وقيادته في العال.

قطاع القنيطرة الذي يضم قيادة الجبهة.

ولكن هذا التقسيم عدل في خلال سنة واحدة، وأصبحت القطاعات خمسة هي:

الشمالي: وقيادته في مسعدة.

قطاع واسط: وقيادته في واسط.

الأوسط: وقيادته في العليقة.

الجنوبي: وقيادته في العال.

قطاع القنيطرة: ويضم قيادة الجبهة ومركزه الرئيسي القنيطرة.

وكانت الأحداث الكبرى في تاريخ الجولان التي كان لها صدى ووقع في العالم، واهتمام على مستوى الجامعة العربية، هي على التتالي:

1- توقيع الهدنة الدائمة بتاريخ 20 تموز 1949.

2- مشروع العدو لتجفيف الحولة، وقد أتمه رغم كل اعتراضات سوريا والدول العربية والدول المؤيدة لها. وكان ذلك منذ عام 1952.

3- أعمال العدو للبدء بتحويل نهر الأردن، وقد تصدى لها الجيش السوري وانتقل النزاع إلى أروقة مجلس الأمن... واستطاعت سوريا إجبار العدو على وقف الأعمال في الجزء الأول من هذا المشروع، وهو الجزء الواقع في مواجهة الجولان، ويشكل اعتداءاً على قسم من الأراضي المجردة العربية، وعلى المياه العربية فيما لو نفذ.

4- هجوم العدو على الحمة ومحاولة احتلالها، ورد ذلك الهجوم، وكان ذلك في عام 1953,

5- الإغارة الكبرى التي قام بها العدو على منطقة البطيحة وسكوفيا (شمال شرق بحيرة طبريا) بتاريخ 1/12/1955، وقد أدان مجلس الأمن العدو إدانة واضحة عقب ذلك الهجوم.

6- مشاكل التوافيق التي أسفرت عن اشتباكات عنيفة مع العدو خلال عامي 1957 و1960.

7- معركة تل النيرب عام 1961، وفيها هاجم العدو موقع تل النيرب شرق بحيرة طبريا، وفشل فيها هجومه وكانت خسائره كبيرة، وكان نصراً للمدفعية السورية فريداً من نوعه في تاريخ الجيش.

8- هجوم الطائرات العدوة على الجبهة (منطقة بانياس)، في 13/11/1964، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها الطائرات المعادية ضد القوات السورية. وقد كان موقف طيران حزب البعث في هذا الهجوم في غاية الذلة والخزي.

9- هجوم العدو بالطائرات على مواضع ومشاريع تحويل روافد نهر الأردن (منطقة بانياس) وتدميره المنشآت العربية والآليات التابعة لها، وقد أسفر عن توقف سوريا عن متابعة المشروع رغم دعم الجامعة العربية لها وكان ذلك في أيام 6، 15، 17، 18، 22/5/1965.

10- وأخيراً.. المؤامرة التي سميت "حرب الخامس من حزيران" عام 1967، وكانت نتيجتها تسليم الجولان للعدو، بعد مسرحية قتال، بلغت غاية السخف والهزال.

-4-

أسباب تكالب العدو على الجولان

ترجع أهمية الجولان، وأسباب تكالب العدو حتى حصل عليه، لأسباب هامة نوجزها فيما يلي:

أ- الأسباب الدينية: فالعدو يعتبر الجولان، من الأرض التي يزعمون أنهم وعدوا بها على لسان أبيهم إسرائيل وآبائه إسحاق وإبراهيم:

"في ذلك اليوم قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات".(1).

"الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلاً: كفاكم قعوداً في هذا الجبل. تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الآموريين وكل ما يليه من العربة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات. انظر قد جعلت أمامكم الأرض ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم"(2).

ب- الموقع السوقي(3):

يتمتع الجولان بموقع جغرافي فريد من نوعه، فهو يسيطر على أهم مصادر المياه التي تزود فلسطين، ويسيطر سيطرة مطلقة، على القسم الأعظم من شمال فلسطين وخاصة سهل الحولة والسفوح الشرقية للجليل الأعلى.

هذا من ناحية الأرض المحتلة، أما من الناحية المقابلة، فإن العدو الذي ملك الجولان، أصبح مصدر خطر كبير على كل من دمشق ودرعا، لأن الطريق إليهما قد أصبحت أمامه مكشوفة ليس فيها أية عقبات تعترض تقدمه إليهما –اللهم سوى ما تقيمه القوات في وضع دفاعي-.

جـ- الغنى الطبيعي:

1- فالجولان يتمتع بوضع طبيعي عجيب، ففي تلك المساحة الضيقة الصغيرة من الأرض، يجد المرء تنوعاً كبيراً في الأجواء.

ففي الشتاء، تجد الأجواء المثلجة الباردة في القنيطرة ومسعدة ومجدل شمس، إلى جانب الجو الدافئ الممطر في باقي المناطق. وفي الصيف تجد الجو اللطيف المعتدل حيث كانت الثلوج في الشتاء، وبجانبه الحار الرطب في وادي الأردن والبطيحة، والحار الجاف في باقي المنطقة.

والمسافر من القنيطرة إلى الحمة مثلاً –ولا تزيد المسافة عن ستين كيلو متراً- يجد نفسه يمر بتنوع غريب في الجو والأرض.

فمن الأحراش المتباعدة إلى الأحراش الكثيفة إلى الأراضي الجرد، إلى السهول المنبسطة فالوديان السحيقة، ومنها ما تزين مجاري المياه قاعه، ومنها ما تغطي الأشجار جانبيه. هذا التنوع في طبيعة الأرض، الذي جمع كل صور الجمال والطبيعة، كاف لجعله منطقة سياحية هامة، وهو أحد الأسباب التي جعلت العدو يتلمظ عشرين عاماً حتى حصل عليه بالمؤامرة لا بالحرب.

2- والجولان يتمتع بغنى كبير –نسبة لصغر مساحته- بالطيور (الوافدة والمقيمة)، وبأنواع الحيوان الأخرى، كالأرنب والغزال وحتى البقر الوحشي.

3- ومن أبرز مظاهر غنى الجولان، هي المياه المعدنية في الحمة التي تحتوي على نسبة جيدة من اليورانيوم والراديوم وهي بحد ذاتها من أفضل ينابيع المياه المعدنية في العالم، وأكبر حمامات معدنية في الشرق الأوسط كله. وتصلح لتكون من أفضل مراكز السياحة الشتوية في كل الأرض التي استولت عليها إسرائيل.

هذا بالإضافة إلى مصادر المياه الأخرى التي أشرنا إليها في صفحات سابقة.

4- ولا يقل غنى الجولان في تربته عن البقاع الخصبة النادرة في العالم. ولأضرب مثلاً على خصوبة تلك الأرض، أقول: إن الذرة الصفراء، حين كان يزرعها الفلاحون، كان يزيد طول ساق الواحدة منها عن أربعة أمتار، وتحمل من (العرانيس) مقادير عالية جداً، رغم بدائية طرق الاستنبات.

وإن أنس لا أنس اليوم الذي زرعت فيه حبات من عبّاد الشمس (دوار الشمس)، فلقد نما عودها حتى بلغ في الطول ما يفوق ثلاثة أمتار، وفي غلظ الساق ما لا يقل عن 6-7 سنتيمترات. وكانت غلة القرص الواحد كيلو غراماً من البذر الجاف.

فالخصوبة فائقة الحد، وقدرة الأرض على الإنبات عجيبة. وكان سكان البطيحة يستغلون الأرض ثلاثة مواسم في العام على الأقل، دونما تقويتها بسماد يذكر.

ولقد قال عنها الجنرال كارل فون هورن، كبير المراقبين الدوليين، في كتابه (الخدمة العسكرية من أجل السلام):

(إن كل شبر من تلك الأرض، يساوي منجماً من الذهب لكثرة ما يغل من الحبوب).

د- الغنى الأثري: ولعل من أكبر أسباب اهتمام العدو بالجولان، وتكالبه عليه، هو غناه الأثري، الأمر الذي يجهله كل الناس، فليس في كل أجزاء سوريا منطقة غنية بالآثار المطمورة مثل الجولان.

وكثيراً ما كنا نكتشف منشآت أثرية أو دلائل عليها خلال أعمال الحفر التي كنا نقوم بها للتحصين، وكثيراً ما أخبرنا قادتنا عن تلك الآثار، وطالبناهم إبلاغ مصلحة الآثار عنها.. ولكن لا حياة لمن تنادي.

ومن أهم الآثار التي شاهدناها، هي الآثار الرومانية والمسيحية، وخاصة المقابر الملأى بالثروات والقطع الذهبية.

ويتحدث سكان بعض تلك المناطق عن أناس كثيرين ممن اكتشفوا في السابق كنوزاً من هذه، فحملوها وسافروا إلى تركيا، كما يتحدثون عن آثار كثيرة مطمورة، وكانوا يحددون لنا أماكنها بدقة لا تحتاج لأكثر من إجراء الحفريات لكشفها، ولكننا لم نكن نملك الوقت والإمكانات والصلاحيات للقيام بذلك، ومصلحة الآثار لا تعلم، أو تعلم ولم تفعل شيئاً؟.

ولعل من أهم الآثار البارزة في الجولان، قلعة النمرود، تلك القلعة العجيبة، التي تحتوي على آثار فينيقية، وإسلامية،وصليبية معاً، وتقع قرب بانياس على مرتفع من الأرض لا تصله إلا العقبان، وتشرف من موقعها على شمالي فلسطين كله، حتى ساحل البحر الذي يمكن رؤيته خلال أيام الصحو في الصباح، في منظر يكاد يخلب لب الناظرين إليه..

              

الهوامش

(1) كان ذلك في ربيع عام 1962، وبمناسبة زيارة وفد من الضباط العراقيين للجبهة السورية، عقب معركة تل النيرب التي وقعت بين سوريا وإسرائيل ليلة 16-17/1962.

(1) سفر التكوين: الإصحاح 15.

(2) سفر التثنية: الإصحاح الأول.

(3) الاستراتيجي.