مقدمة من أعلام الدعوة

د. عبد الله الطنطاوي

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الطبعة السابعة

لكتاب "من أعلام الدعوة"

الكاتب والكتاب

المستشار عبد الله العقيل

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

الحمد لله ، والصلاة والسلام على مصطفاه، وعلى كل من اهتدى بهداه. وبعد:

فاستجابة لرغبة من لا ترد له رغبة، أكتب هذه المقدمة المتواضعة –دون ادعاء التواضع- لهذا الكتاب البديع في بابته، لكاتب حباه الله من الشمائل ما يأسر كل من عرفه عن قرب، وعايشه في السراء والضراء.. حباه حب الإسلام والدعاة إليه، ورجاله ورجالاته ورجلاته، وشبانه وشوابه، وفكان الوفي لإسلامه، ولهم، ولهن، وحباه الثبات على المبدأ، والصدق في القول والعمل، والإخلاص في السر والعلن، وحباه مكارم الأخلاق، من كرم، وشجاعة أدبية وميدانية، وحباه ذاكرة حديدية، ووعياً لما يجري حوله في هذا العالم الكبير الصغير، وتقويماً سليماً للحوادث التي عاشها وعايشها، أو سمع بها، وقرأ عنها...

وسوف أحاول الولوج إلى عالم الكاتب والكتاب، ما يسمح به حيز هذه المقدمة، وتجنب إغضاب الشيخ الذي يأبى أن نكتب عنه، ويأبى علينا الواجب تجاهه، إلا أن نلم إلمامة ما، بشيء من سيرته المسكية.

الكاتب:

إنه غني عن التعريف، ومع ذلك، لا بد مما ليس منه بد.. لا بد من ملامسة بعض الجوانب التي لا تخدش المروءة بمدح قد يمس كاتبه، والمكتوب عنه، معاً.

1- إنه ابن جماعة الإخوان المسلمين، انتسب إليها في يفاعته وصباه، وناضل في صفوفها وهو فتى، وهو شاب، وهو كهل، وما يزال في شيخوخته، كما هو في سائر مراحل حياته، ابن هذه الجماعة، يؤمن بها، وبأفضليتها، وبفكرها، وبفهمها الحق السليم للإسلام العظيم.

اقرأ معي هذه الكلمات التي خطتها يراعته الفتية، وهو طالب في المرحلة الإعدادية، في بلدته ومسقط رأسه: (الزبير) العراقية، كتبها وأرسلها إلى مجلة (الإخوان المسلمون) سنة 1946 ونشرتها المجلة. كانت بعنوان: (الإخوان المسلمون) قال فيها:

"اسم تهفو إليه القلوب، وتتطلع إليه الأفئدة، جماعة مؤمنة طاهرة منزهة، ائتلفت على حب الله، وتعاهدت على إعلاء كلمته، والموت في سبيله. عرفتها فعرفت الإسلام على حقيقته، واتصلت بها، ففهمت غايتها ومقصدها، فإذا هي أنبل غاية، وأشرف مقصداً مما عداها.. قوة هائلة عظيمة، تعتمد في جهادها على الله، وتؤمن بنصره، وتسير على هدي كتابه، وسنة رسوله. يدير دفتها ربان ماهر حاذق، أخلص عمله لله، ورهن حياته للجهاد في سبيله، هو المرشد العام للإخوان المسلمين. وفقها الله إلى العمل الصالح، وأخذ بأيدي القائمين بها، وأيدهم بنصره، والله قوي عزيز.".

أرأيتم؟

هذا هو المستشار عبد الله العقيل منذ نعومة أظفاره، وحتى يومه هذا، لم يتغير، ولم يتبدل. وقف –وما يزال- طوداً في وجوه الأعاصير التي كادت تعصف بالجماعة، فلم تستطع، لأن فيها رجالاً كأبي مصطفى، وهيهات أن تعصف بها العواصف، وفيها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أستطيع أن أتذكر منهم عشرات في هذه اللحظة، ويستطيع غيري أكثر مني، ولكن الله يعلم الذين نعرفهم، والذين لا نعرفهم من الأبطال الذين إذا حضروا مجلساً أو معركة لم يُعْرَفوا، وإذا غابوا لم يُفْتَقدوا. وهم أكثر بكثير مما أعرف ويعرف سائر الإخوان والطغاة، ولكن الله يعلمهم، ويوفيهم أجورهم..

إخلاص أبي مصطفى لجماعته، لدعوته، لمبادئها ورجالها وتاريخها، ما يزال يشده إليها، حتى إنه ليتماهى بها، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر، تحفزه ليكون الأخ الكبير، الأخ القدوة الذي يذكرك برجال الرعيل الأول، في مجموع الصفات التي تسكنه، لتكون شمائل كشمائل الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، وشمائل من سار على دربه، واهتدى بهديه، إلى يوم الدين.

إنه يدعو إليها.. يذكرني بشبابي في دعوته إليها، وهو في شيخوخته، وينافح عنها، عن مبادئها، وشعاراتها، ومؤسسها، ورجالها. وتاريخها، ولا يألو، ولا يبالي، فتدمع عيناي، وأتمنى لو أتمكن من بعض هذه الحيوية، وأنا في غربتي وشيخوختي، ولكن.. هيهات.. وشتان ما بين شيخوخة وشيخوخة.. الأولى فتية لا تعرف إلا العطاء، ومن العطاء: هذا الإقدام، وهذه الحيوية، وهذا الجلد والجلاد.. أما الثانية، فالله وحده السِّتّير..

يا ويح.. بل يا ويل الذي ينتقد – ظلماً - جماعة الإخوان، أو أحد مواقفها، أو أحد رجالاتها.. يا ويله من الشيخ الفارس أبي مصطفى.. صِدِّيق هذه الجماعة، ومن صِدِّيقيها وصالحيها.

2- ما يزال، وقد ذَرَّفَ على السبعين، بل صار على أبواب الثمانين، في همة الشباب، وحماسة الشباب، وثورة الشباب بل أين الشباب من حيويته، وحركته، وفنائه وتفانيه في العمل، ناهيك عن خدماته لكل طالب خدمة، وخاصة للإخوان.

وأنا أقرأ هذا الكتاب القيم للمرة الثالثة، أحس بدماء الشباب تثور في أعراقي، فحديثه عن أولئك العظماء يستجيش العواطف، فتسيل الدموع تارة، وتثير الحمية أخرى، وتشوقني للشهادة تارة ثالثة، فأرفع كفَّيَّ إلى السماء، وأجأر: يارب يارب.. الشهادة في سبيلك يارب.. ألحقني بشهدائنا الأبرار الأحرار يارب، ولا تمتني على سريري كما يموت الأشرار وكثير من الأخيار..

هذا وغيره، لما تراه وتقرؤه وفيما بين السطور، من غيرة على الجماعة، وعلى الأمة المسلمة وعلى إسلامنا العظيم.

3- بذله في سبيل الدعوة، وفي مساعدة إخوانه، وهو المقل، وتضحياته براحته، وما يملك من جهد ومال.. ألم أقل: إنه نموذج متميز بين الرجال الدعاة، والدعاة الرجال؟ إنه الرجل الروح، والروح الذي تسري فاعليته فيمن حوله من الشيب والشباب، إذا تكلم وإذا صمت، إذا تحرك أو سكن، ولا أزكيه على الله العليم الخبير، فهو –سبحانه- أعلم به وبما استكنَّ في جَوَّانيّه من معاني النبل والشهامة والشجاعة، والإقدام، والسخاء، والبذل من ذات نفسه، وما شهدنا إلا بما علمنا، وسوف نسأل عن هذه الشهادة الصادقة بهذا الرجل الصادق الوعد.

4- صاحب مبادرة.. أجل إنه يتميز بالمبادرة، فلا يكاد يجد مصلحه للأمة إلا ويبادر -دون تردد- لسدّ حاجة ذوي الحاجات، إنه نموذج من النماذج الرفيعة من أبناء دعوة الإخوان، قلّ نظراؤه في هذه الظروف العصيبة التي تجتاح الدعوة جماعة ورجالاًً وتنظيماً، وسمعة، وقمعاً، وسجوناً، ومضايقات ومطاردات وقتلاً..

إنه لا يخشى في الله لومة لائم.. صريح في إبداء رأيه، جريء فيما يخشاه الآخرون فيوارون أو يسكتون..

5- إنه قارئ ممتاز، وله مكتبه قيمة، بل له مكتبات ينشئها حيث يحل ويقيم، فكما كانت له مكتبته المتواضعة في بلدته (الزبير) كانت له مكتبة كبيرة في الكويت، ثم مكتبة في الرياض، ومكتبة في عمان.. يقرأ ويقرأ، ويعلق على ما يقرأ، وإذا عرف حاجة إلى كتبه لدى جهة ما، بادر إلى إهداء الكثير من كتبه، مثلما فعل في إهدائه بضع عشرة كرتونة كبيرة إلى جامعات العراق، التي نهب الآثمون مكتباتها أو أتلفوها، ومثلها إلى الجامعة الإسلامية في غزة التي فعل بها وبمكتبتها المجرمون الخونة، مثلما فعل خونة العراق بمكتباتها وجامعاتها..

وقد رفدته علاقاته الواسعة في تركيز كثير من المعاني التي أفادها من مطالعاته، وأسقطها على الواقع المعيش، فهو لا يثق بفقه الأوراق، قدر ثقته بالجوانب العملية التي تحتاجها جماعته، وأمته، ولغته، وإسلامه.

ولهذا ترى في كثير مما كتب، إضافات مهمة في الفكر، وفي الحدث، وفي التاريخ، مما لا تكاد تجده إلا عنده، أو بعد مطالعات مستفيضة في ما كتبه الكاتبون عن الرجال الذين كتب الشيخ عنهم، وعن أفكارهم، وتطلعاتهم، وسير حيواتهم.. من البلدان العربية، إلى أوروبا فأمريكا، فسائر الدول الإسلامية الآسيوية والإفريقية..

من خلالها تتعرف على جوانب مهمة من حياة الدعاة، وهو في طليعتهم، ويأبى أن يكتب سيرتهم، أو نكتب نحن, ولكن الدارس المتتبع لكتاباته، ومقابلاته الصحفية، وذكرياته، يستطيع تحصيل الكثير منها، ويستشف بعضها الآخر.

وقارئه الذي لا يعرفه، يحار في جنسيته، ومن أين هو؟ فهل هو زبيري عراقي، أو كويتي، أو سعودي.. ذلك لأنه عالمي العلاقات والأفكار، كتنظيمه العالمي.. يتحدث ويكتب ويتذكر الكثير عن الدعاة وعظماء هذه الجماعة، وأصدقائها، من أقصى المغرب العربي، حتى الهند وأندونيسيا..

وهذا يقودنا إلى الحديث عن أبي مصطفى عندما كان موظفاً كبيراً في وزارة الأوقاف الكويتية ثم أميناً عاماً مساعداً في رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة..

كان شيخنا أبو مصطفى يعي طبيعة المسؤوليات والمهمات المنوطة به، وقد نهض بها خير نهوض وأدى الواجب وأضعافه، ولو أن الموظفين الكبار يقومون بمعشار ما قام به، لتبدل الحال، ولخفت معاناة المسلمين المعذبين في الأرض، ولانتعش العمل الدعوي في أرجاء المعمورة، ولكن.. هيهات.. وشتان..

6- ذو ذاكرة حديدية، غير أنها تنبض بالحياة، ومسكونة بذكريات حبيبة، عن أحياء قضوا في سبيل الله تعالى، مدعومة بتوفيق الله العليم الخبير المطلع على السرائر، وما تكتنزه من حب، وإخلاص، وأثرة عُمِرَ بها قلب صاحبنا الشيخ الجليل أبي مصطفى..

ولولا هذا، لما استطاع أن يكتب هذه الموسوعة من الذاكرة بعد مضي عشرات السنين على كثير مما تذكر، وربما قادته الذاكرة إلى العودة إلى  بعض الصحف في الزمن البعيد، أو بعض الكتب، من أجل بعض النقول، لتقوم شاهداً على ما يقول، وهو الصادق الثبت العدل في ما يروي ويكتب.

ولهذا، تراني ألح عليه، ولا أرحم شيخوخته الشابة، أن يتفرغ للكتابة، ليس عن الأموات وحسب بل عن الأحياء أيضاً، حتى لا يضيع هذا الخزين العجيب من الذكريات الحميمة، والحوادث السعيدة والحزينة، بزمانها، ومكانها، وشخوصها، وشهودها.

أجل.. له ذاكرة حديدية، غير أنها تنبض بالحياة، واستطاعت يراعته أن ترسم لنا –بكلمات معدودات- صوراً صادقةً حية واضحة للشخصيات التي تناولتها.. وقدمت لنا، وللأجيال اللاحقة وللتاريخ الحقيقي، نماذج رائعة من الدعاة الرجال، الدعاة إلى الله بسلوكهم، وجهادهم، وتضحياتهم، قبل أقوالهم.

ذكر كثيراً من الجوانب الإيجابية للرجالات الذين ترجم لهم، وكل منهم قدوة في الوسط الذي يعيش فيه، لعل الأجيال الجديدة تتأسَّى بسير أولئك الأفذاذ، فلا يكونوا منفرين في سلوك غليظ، وطرح فظ لأفكارهم، بل يكونون دعاة مربين، يألفون ويؤلفون، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لا تفارق الابتسامات وجوههم، ولا تنفرج شفاههم إلا بالكلمة الصادقة، بالكلمة الحانية، بالكلمة المحبة الواعية، المحيا طلق، وفي العلاقات رفق، وفي الأيدي سخاء، وفي الأخوة إيثار، يعطون ولا يأخذون، يخدمون ويأبون أن يخدمهم إخوانهم وتلاميذهم.. يدعون الناس بسلوكهم وأفعالهم الطيبة، قبل أقوالهم الطيبة.. بزهدهم الحقيقي لا المدعى..

إنه يقدم الدعوة في أشخاص الدعاة، في سلوكياتهم، وفي أفكارهم، وفي كفاحهم، وفي مناضلتهم الباطل، ومجاهدتهم الطواغيت.. ليكونوا الأسوة الحسنة للأجيال والدعاة الناشئين، ليعملوا في مراحلهم العمرية والدعوية جميعاً، في كل مكان وزمان، لا يذوبون ولا يتأثرون بل يذيبون في بوتقاتهم ويصهرون غيرهم، فيتأثرون بهم..

فكما كان الرسول القائد خلقه القرآن.. كان قرآناً يمشي بين الناس فكذلك هم.. وكذلك يكون الدعاة وما ينبغي لهم إلا أن يكونوا كذلك... على قدم رسول الله، يحيون بسلوكهم سيرته وسير أصحابه العظام، سير الصِّدّيق والفاروق وذي النورين وعلي وخالد وأبي عبيدة وآلاف أخرى من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الناس هذا، حيث الرجال الرجال، والدعاة الدعاة، حسن البنا، والهضيبي، وقطب، وعودة، وفرغلي، والسباعي، والزهاوي، والصواف، والمودودي، والنَّدوي، والنورسي، والإبراهيمي، وابن باديس، والورتلاني، والقليبي، والفاسي، والخطابي، والمختار، وابن باز.. ومئات وآلاف آخرون لا نعرفهم، ولا نعلم الكثير من أسمائهم وأعمالهم، ولن يضيرهم جهلنا بهم، فالله يعلمهم، ويعلم أخبارهم وتضحياتهم في سبيله.

7- ولعل الوفاء من أبرز شمائل شيخنا العقيل... وفاء نادر، في هذا الزمن المادي الرعيب.

إنه يتفقد أحبابه الأموات وأسرهم، وآثارهم، كما يتفقد الأحياء، وسوف أضرب مثالاً واحداً على وفائه، حتى لا أحرج أحداً..

كان الشاعر الكاتب البحاثة الأديب الكبير، الأستاذ وليد الأعظمي – تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه - من أحب الناس إلى شيخنا، يذكر سابقته الدعوية، وكفاحه وتضحياته في سبيلها، وما لقيه من الطغاة الصغار و(الكبار) من ألوان الأذى والاضطهاد والتعتيم عليه وعلى شعره ونثره، ومحاربته في شهرته وحياته، وقبل وفاة الشاعر الكبير، اقترحت على الشاعر أن نجمع شعره في ديوان كبير، فقال الشاعر:

- يا ليت .. وقد سلمت بعض دواويني لإحدى دور النشر من سنتين، وأبرمت معها عقداً، ولم يف صاحبها بالعقد.

فانبرى الشيخ العقيل صاحب المبادرات، وقال له:

- اسحب شعرك من تلك الدار.

ثم اتفقنا أن نجمع شعر الشاعر، وسعى الشيخ في طباعته طباعة أنيقة في مجلد كبير، واستطعنا إيصال بعض النسخ إلى الشاعر الكبير قبيل وفاته بأيام، وفرح بديوانه، وعبر –برسالة خطية- عن سعادته بظهور ديوانه بهذه الحلة القشيبة.

وبعد وفاة الشارع، اقترحت على الشيخ طباعة الآثار النثرية الكاملة للأعظمي، فتهلل وجه العقيل، ووجهه دائماً بسام متهلل، إلا إذا أسيء إلى الإخوان، أو الإسلام، فإنه الغضوب آنئذ.

كنت أظن الأستاذ الأعظمي مقلاً في نثره، وإذا المادة تبدو كبيرة كبيرة.. أرهقنا في جمعها، وترددت، ولكن الشيخ مضى ولم يأبه لضخامة المشروع وكلفته، وعندما رأى الطبعة الأولى للمشروع في ثمانية مجلدات (4572) صفحة من القطع الكبير، فرح الشيخ فرحاً عظيماً، وقال:

- الحمد لله.. الآن أشعر بأني وفيت لأخي أبي خالد (وليد الأعظمي) رحمه الله تعالى.

إنه يذكر إخوانه بحب، ويحن إليهم، وإلى الأيام الخوالي التي أمضاها معهم، وكانت حافلة بجلائل الأعمال، وترى التماع السعادة والفرح في عينيه، وهو يتحدث عنهم، وعن ذكرياته الحميمة معهم، كأنه يحياها الآن..

بل لو أنك استمعت إليه وهو يتحدث عنهم، عن رجال الإخوان، ممن عرف وممن لم يعرفه عن معايشة وقرب – لعرفت أيَّ رجل داعية هذا الذي يحدثك.. لقرأت الحب والوفاء، في كل كلمة ينطق بها، ولفهمت مدى الالتزام بالجماعة في عبارة من عباراته.. ولأيقنت: أنه ابن هذه الجماعة الراشدة.. ابنها البار بها إلى ما شاء الله له من الحياة.

الكتاب:

عندما كنا نسمع أحاديث الشيخ أبي مصطفى، عن أولئك الرجال، وعن ذكرياته التي وعتها حافظته النادرة، كنا نعجب لعدم تسجيلها، ونشرها في كتاب، وتواضع الشيخ، وزهده، وخوفه من الشهرة، وضياع الأجر، يحول دون ذلك، ولكنه سلم، ونزل عند رأي إخوانه، فبادر إلى كتابة بعض الحلقات في مجلة المجتمع، ومنشئها أخوه أبو بدر –رحمه الله رحمة واسعة- يهلل لتلك الحلقات، ولقد سمعته يهاتف مدير التحرير بشأنها مرة في جدة، ومرات في عمان... كان الرجل العظيم أبو بدر مهتماً جداً بها، وما كان يدري أنه سوف يكون حلقة مهمة من حلقاتها، بل لعله كان يتطلع –كما أتطلع- ليكون من ضمنها، وقد كان من أعلاها، وحق له هذا، فهو الرجل المؤمن الذي ندر مثيله في هذا الزمان..

كنا نقرأ كتب الأولين عن سلفنا الصالح، فنعجب بهم، بسلوكهم، بزهدهم، بشغفهم بالعلم، بجمعهم بين الجهاد والعلم، بسخاء بعضهم، بمروءاتهم، ثم ننظر.. نتلفت يمنة ويسرة، فلا نجد إلا النزر اليسير من سماتهم لدى من نعايش، حتى ظننا بإخواننا الظنون، حتى ظهرت هذه الكتابات، فتنفسنا الصعداء، وتمنينا على شيخنا العقيل أن يستمر في الكتابة، ثم أن يجمع ما كتب في كتاب، يليه جزء وأجزاء، وجاءت المبادرة من القاهرة، عندما صدرت الطبعة الأولى من الكتاب، جمع فيها الأخ الأستاذ بدر محمد بدر، ما نشره العقيل في المجتمع، ثم تتالت الطبعات، حتى بلغت ستاً ضمت عشرات الآلاف من النسخ، وقد نفدت كلها..

وتوقف الشيخ العقيل فترة عن الكتابة، ولم يتوقف إلحاح إخوانه عليه، فشرع يراعته، وأضاف تسعاً وأربعين ترجمة جديدة، وصار عدد الحلقات مئة وتسع عشرة حلقة، عن مئة وتسعة عشر رجلاً من أفذاذ الرجال، قرأتها في حالة من الذهول، حتى كانت الساعات تمضي وأنا أقرأ، ولا أحس بالوقت.. إنها كانت وما تزال وسوف تبقى تشد قارئها، وتثيره، وقد تبكيه وتشجيه، وتشعره بالتفريط والتقصير تجاه أولئك الأخيار حيناً، وبالفخر على ما كان منهم، وبالغضب على ما كان منه ومن أمثاله الذين قعدوا عن نصرتهم، وهم يتعرضون إلى الاضطهاد على أيدي الأشرار الفجار.

واقترحنا على الشيخ أن يطبع الكتاب الموسوعة طبعة جديدة، تضم كل الحلقات، ووافق الشيخ الهين اللين الموطأ الأكناف مع إخوانه، فكانت هذه الطبعة في ثلاثة مجلدات، ونرجو أن يكون المولود الرابع على الطريق، فادعوا لشيخنا أن يمده الله بالصحة، والفراغ، والعمر المديد الحافل بجلائل الأعمال.

وفي هذه الطبعة، جرى ترتيب الأسماء بحسب الحروف الهجائية، وذيلت بفهرس للأعلام، أنجزه الأستاذ أحمد العلاونة.

تشابه:

وما أحب أن أقوله كثير، عن الكتاب وصاحبه، ولكن المقدمة لا تستوعب ما أريد قوله، الأمر الذي يجعلني أرجئ مالا أستطيعه هنا، إلى مكان آخر، وزمن آخر، أما هنا، فشذرات..

منها: أن كتاب الشيخ، يشبه في سيرورته شعر أخيه وصديقه الحميم، الشاعر وليد الأعظمي، فديوان الأعظمي طبع أربع طبعات في أقل من سنة، ولا تكاد تذهب شرقاً أو غرباً من بلاد العروبة، إلا تراه حيث ذهبت.. والآن هو معد لطبعة خامسة بعون الله تعالى.. وهذا متى ؟ في زمن كساد الشعر.. حتى دواوين الشعراء الكبار موضوعة على الأرفف وفي الخزائن، والمطبوع منها يملأ المستودعات، إلا شعر الأعظمي.

وكذلك (أعلام الدعوة..) هذا، وقد وصل إلى الصين وماليزيا وأندونيسيا وسواها شرقاً، كما وصل إلى أمريكا وأوربا غرباً، وإلى روسيا، وأوكرانيا، والدول المستقلة، وتركيا، وسواها..

ومتى هذا؟ في زمن كساد الكتاب، حتى رأينا بعض دور النشر لا تطبع من الكتاب الجيد أكثر من ثلاث مئة نسخة.. فاعجب..

سمات ودقائق:

- تقويم المؤلف لشخصياته دقيق سليم، ويظهر فيه عمقه في سبر نفسياتهم، وحسه الصادق في معرفتهم حق المعرفة، ومعرفة تاريخهم، وسلوكهم الدعوي والجهادي.

- روح الجهاد، والدعوة، والتربية، مبثوثة في تضاعيف الكتاب، وما بين السطور أيضاً.
- حفل الكتاب بالكثير من العبر التي تسح العبرات، فتنساح في طول الكتاب وعرضه.

- هذا الكتاب موسوعة، فيه الكثير من سير الرجال الدعاة، والكتّاب، والشعراء، والأدباء، والمفكرين، والسياسيين، والمجاهدين، والاقتصاديين المتميزين، من سائر البلدان العربية والإسلامية وغيرها، وكلهم من الرجال الأفذاذ الذين كافحوا وعملوا من أجل تجديد شباب الأمة، وتجديد هذا الدين العظيم.

أطلعنا على معلومات قيمة عنهم، لا يعرفها أكثر الناس المعنيين بتراجم الرجال، ولولا هذا الكتاب لضاعت كما ضاع الكثير الكثير من تاريخ الجماعة ورجالها، بموت أصحابها..

ولعل هذا الكتاب الرائع يكون حافزاً يحفز الإخوان على كتابة ما يكتنزون من ذكريات، ومذكرات، وأسرار، وحوادث، تكون من المصادر المهمة لكتابة تاريخ حقيقي بعيد من التزييف والكذب.

والناس يتطلعون إلى قراءة تاريخهم الحقيقي.

- طبع من هذا الكتاب عشرات الآلاف من النسخ، ونفدت كلها، ولكننا لم نقرأ إلا أقل من القليل من الكتابة عنه..

فهل قرأه الذين اقتنوه، وكان القادرون على الكتابة عنه من الزاهدين، لضحالته مثلاً، أم أنه الإهمال المروع من أولئك الذين عزفوا عن التعريف به، ونقده، وبيان آرائهم في الكاتب وما كتب؟

إني ليحزنني أن أرى غيرنا يحتفون بكتابات أمثالهم، مهما كانت عادية، أو دون العادية، بل حتى لو كانت تافهة، ونحن لا نلقي بالاً، ولا تلقى كتب كتابنا اهتماماً، حتى لو كان الكتاب بمستوى هذا الكتاب أو أكثر..

يا حسرة على كتّاب الإخوان، وعلى ما يكتبون..

وأنا أخطّ هذه الكلمات على الورق، ويشارك حبري دموعي التي تهمي غزاراً وأنا أقرأ بعض السير لعظماء هذه الجماعة، وهذه الأمة.

عظماء كانوا الأمل في نهضة الأمة، بما آتاهم الله من فضله، من علم، وأخلاق، وفهم، وحنّو على الناس، ووعي لما يحيط بالأمة من أخطار، ومن جهاد لدرء الأخطار والمؤامرات عن هذه الأمة، وعن قيمها ومثلها وعقائدها، وتاريخها، وأرضها، ومقدساتها..

أجل.. كانوا الأمل الذي قتله الأشرار من الحكام وعملائهم، ومن المستعمرين وببغاواتهم وعملائهم من خونة الأمة.. كانوا الأمل في استئناف الحياة الحرة الكريمة في ظلال الإسلام وشريعته التي ما كانت إلا لتحيا البشرية قاطبة، حياة السعادة، بما فيها من جواء إنسانية حقيقية، أين منها كل الدعوات الأخرى ولا أستثني..

قتل الأشرار هذا الأمل، استجابة لشرور أنفسهم، وشرور سادتهم، فراوحت الأمة في مكانها، واضطربت صفوفها باضطراب قيمها التي تتعرض لحملات ظالمة لا تحمل الصلبان الظاهرة للعيان، وتحمل الأضغان والصلبان في دواخلها السود، وأوقفوا التنمية الفكرية والبشرية والاقتصادية والعسكرية، ورجعوا بالأمة القهقرى، لتكون في ذيل الأمم، وهي التي كانت بالإسلام خير الأمم..

أجل .. مر على الأمة قرن كامل، وكثير من حكامها، وعلمائها، ومثقفيها عصوات بين العجلات، يعوقون أي تقدم وأي تنمية، بالزج بالأحرار في أقباء السجون والمعتقلات وبتعليق قاداتهم على أعواد المشانق، وبالتفريط بالأرض والوطن، وكأنهم ليسوا من هذه الأمة، وصدق الله العظيم (يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح) كذلك هؤلاء.. ليسوا من أهلنا، إنهم عمل فاسد..

ترى كم خسرت الأمة في المحن التي تعرضت لها الجماعة، من الرجال المتميزين في شتى الميادين، الذين أعدموا ظلماً وعدواناً، وعشرات الآلاف من زهرة الشباب الذين زج بهم الطواغيت في أقباء السجون والمعتقلات في مصر أولاً، ثم في سورية، وفي كثير من البلدان العربية والإسلامية.. لقد قتلوا الآلاف، وشردوا مئات الآلاف، وسجنوا عشرات الآلاف، من صفوة الأمة..

ترى.. هل كان في حسبان الطواغيت تلك الخسائر التي لا تقدر بثمن إلا ثمن الإبقاء على الطواغيت في مناصبهم الزائفة، مقابل الإجهاز على رجالات الإخوان، وعلى شبانهم المجاهدين، ونسائهم المجاهدات العاملات للنهوض بالمجتمع، والقضاء على الجهل والتخلف والفقر، كما يعمل رجالهم على تخليص الأمة من الاستعمار بأشكاله البغيضة، وتحرير فلسطين من حثالات البشر، والنهوض بالأمة لتستأنف مسيرة الخير التي بدأت برسول الله محمد وأصحابه الكرام، رضي الله عنهم وأرضاهم.

خسرت الأمة ولا تزال بمحاربة هؤلاء الرجال المتميزين في اختصاصهم، وفي أخلاقهم، وفي عقيدتهم السليمة التي تدعو إلى التخلص من كل أشكال العبودية، سوى العبودية لله الواحد الأحد.

وهل فكر الطغاة بأنهم سوف يلقون غياً، جهنم يصلونها ويحشرون فيها، ليكونوا وقوداً مع سائر الكفرة والمجرمين.. وحصب جهنم.. لو كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، لما أقدموا على محاربة الأبرار.

ولو كانوا وطنيين مخلصين لأوطانهم، ولشعوبهم لما اجترحوا الجرائم بحق الأطهار من أبناء الأمة..

ولكنهم الكفرة والعملاء والخونة، وأصحاب الأهواء والشهوات.

يا حسرة على الرجال.

لو وجد مثل صلاح شادي في أمة غير أمتنا، لصدرت الكتب والدراسات عنه.. وكذلك قل في الإمام الشهيد ورجال الرعيل الأول الذي صحبه وتتلمذ على فكره وأخلاقه وزهده و..

أين الكتب التي صدرت عن شهداء الجماعة وعن مجاهديها، وعن علمائها، وعن شيوخها، وعن شبابها، وعن نسائها؟ عن أولئك العظماء الذين لا تجد كل الأحزاب والهيئات والحكام من يكون مثل واحد منهم.

أطلعنا على حياة رجال لم نسمع بأسمائهم، وهم الرجال الرجال بفعل التعتيم الإعلامي عليهم، حتى لا يكونوا قدوة للشباب والأجيال الصاعدة يريد العبيد الطواغيت أن يطمسوا حياتهم.. ويأبى الله إلا أن يهيئ لأولئك الرجال قلم حر لرجل الدعوة وابن الجماعة، العقيل، ليسطر لنا هذه التراجم أو الذكريات مع أولئك الأبطال..

كان العقيل من أوفى الأوفياء لأولئك الرجال الذين عايشهم، ورأى ما جذبه إليهم، ورأى بطولاتهم، في سائر الميادين، رأى إخلاصهم، و... فانبرى للكتابة عنهم بصدق وأمانة..

والناس عطاش، كانوا يتطلعون إلى مثل هذا الكتاب القيم، فبادروا إلى اقتنائه وما زالوا يتطلعون إلى المزيد وأنا أدعوه وأرجوه أن يتابع..

وأدعو وأرجو من عنده من مثل هذه الذكريات الحميمة، وهذه المعلومات المهمة، أن يبادر إلى تسجيلها، ونشرها، أو إعطائها إلى من يحسن الكتابة أو يقوى على نشرها في صحيفة ثم في كتاب، قبل أن يموت صاحبها، وتدفن معه.

عندنا رجال تفاخر بهم ملائكة السماء، فكما كان عندنا في العصر النبوي والراشدي جيل قرآني فريد، كان لنا وعندنا جيل هائل من الذين أحيوا الإسلام في نفوس الناس، وأعادوه حياً في القلوب والعقول والأقلام وفي المجتمع..

فيها من سير الرجال الأبطال ما يفرح ويحزن..

يفرح لهذا الرصيد الفذ من الرجال الأفذاذ، ويحزن، لأنهم عاشوا في القرية الظالم أهلها، فقتلوا على أيدي فراعنة العصر بل إن الفراعنة القدماء يعدون في العدول إذا قيسوا بطغاة اليوم، في بلاد العروبة والإسلام..

فلو لم يتآمر عليهم الطواغيت الخونة الأنذال، لكانت الحال غير الحال، ولاساد مجتمعنا الأمن والأمان ولانتعشت التنمية التي طرح الطغاة أهلها في غياهب السجون والمعتقلات، منذ أكثر من خمسين سنة من السنوات العجاف، التي صيروها جحيماً بقمعهم وجرائمهم لولا هذه الموسوعة لما عرفنا الكثير من رجالها.

أجل.. يا حسرة على العباد.