الصراع على الإسلام
الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية
د. رضوان السيد
مواضيع البحث:
· تعريف بالمؤلف
· معنى الصراع على الإسلام
· كيف تجري المواجهات حول الإسلام؟
· هناك ثلاثة اتجاهات في الوطن العربي اليوم في تعليل سوء العلاقة بالعالم هي:
- المواجهة والحل: الاتجاه التبريري
- الاتجاه الثاني: لا مواجهة دينية وإنما صراع نفوذ
- الاتجاه الثالث: إفلاس الأنظمة الحاكمة
· قضايا الفكر الإسلامي المعاصر ومشكلاته: مراجعة نقدية
· حركات الإسلام السياسي والصراع على الإسلام
· الدين والدولة وإشكالية الوعي التاريخي
· من الاستشراق الى الانثروبولوجيا
· الرؤية الثقافية للغرب الاستعماري
· رؤية العالم في الفكر الإسلامي المعاصر
- رؤية العالم.. المصطلح ومستوياته
- رؤية العالم والمشهد الإسلامي
- هل تغيرت رؤية العالم لدى الإسلاميين؟
· إشكالية الثقافة والتراث
· بين الأصوليتين الإسلامية والغربية
· الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية
· علاقة الإصلاح الديني بالإصلاح السياسي
البحث تلخيص وقراءة للكتاب، وأيضاً تمت الاستفادة من بعض مؤلفات الكاتب وايضا من إيضاحاته في بعض البرامج حول الكتاب في بعض القنوات الفضائية في دعم هذا البحث.
التعريف بالمؤلف:
الدكتور رضوان السيد أحد الأسماء الهامة في الثقافة العربية والإسلامية. هو يكتب في الثقافة العربية القديمة والإسلام السياسي وله أدوار أساسية في لبنان والعالم العربي.
يعرف نفسه فيقول:
اسمي رضوان السيد من قرية في جبل لبنان درست في صغري في المعهد الديني ببيروت وعندما وصلت إلي الثانوية التحقت بكلية أصول الدين في الأزهر بمصر. عدت في عام1970 إلى لبنان بعد حصولي على العالمية من الأزهر وعملت سكرتيرا عند مفتي لبنان. ثم حصلت على منحة للدكتوراة في المانيا الغربية, وهناك حصلت على الدكتوراة في الفلسفة تخصص رئيسي وأما التخصص الفرعي فقد كان في الدراسات الإسلامية واللغات السامية ثم عدت عام1977 إلى لبنان ومازلت استاذا بكلياتها. كما درّست في جامعات عربية وعالمية كثيرة في الأردن وصنعاء وبالولايات المتحدة وبالنمسا. درّست الفقه والأصول والحديث والتفسير والفكر السياسي .
واهتمامي بالشأن الإسلامي العام كاهتمام أي مثقف عربي أو مسلم ينظر في هذه المشاكل التي نعانيها، وكيف يمكن معالجتها من جهة الحفاظ على التماسك الاجتماعي والسياسي في المجتمع والدولة .
دخلت الموضوع الإسلامي المسيحي لسببين أولهما العيش الإسلامي المسيحي في لبنان ثم حاجة المسلمين إلى التواصل مع العالم .
كنت قد بدأت أشتغل على مشروع لإعادة قراءة المفهومية للفكر الإسلامي الكلاسيكي فكتبت في الدراسات الإسلامية الكلاسيكية وحققت دراسات مفهومية، مفاهيم مثل الجماعة والأمة والفتنة والسُنة والبدعة بتحليل دقيق كمفاتيح للوصول إلى إعادة تشكيل الحقل التاريخي لظهور الأمة وظهور الدولة في الإسلام.
ولكن بسبب حركة الاحياء الإسلامي الكبرى أردت ان أدرس مايحدث.. ولهذا قرأت الظاهرة الإسلامية في ثلاثة كتب في هذا المجال وهي الإسلام المعاصر وسياسات الإسلام المعاصر، وأخير الصراع علي الإسلام، فقد قرأت فيه مابعد احداث الحادي عشر من سبتمبر وتشخيصي للموضوعات ان هناك ثلاث جهات يجري الصراع بينها على الإسلام. الحركات الإسلامية ثم الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة التي تحاول بالاسلام الحصول على مرجعية في مواجهة الحركات الإسلامية. ثم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وأصوليو الغرب. والصراع من هذه الجهة له جانبه العسكري فقد احتلوا أفغانستان والعراق, وله جانبه الثقافي والفكري أيضا، وأن لهم مصالح في بلاد المسلمين ويريدون ان يطمئنوا إلى صون مصالحهم بمحاولة القبض على روح الإسلام.
الكاتب مهتم بمؤلفات الإمام الماوردي وقد حقق له العديد من المؤلفات.
الكاتب متابع لساحة الفكر الإسلامي ويثني على ماصدر من دساتير وإعلانات إسلامية لنظام الدولة ولحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل ويتفق مع الطرح الديمقراطي في الساحة الإسلامية.
لندع الأستاذ الدكتور رضوان السيد يسبر بنا عميقا في أدق تفاصيل وأهم الوقائع التي تدور حول، وفي الإسلام من تحديات صعبة، كثيرة، خطيرة، وحاسمة....
معنى الصراع على الإسلام
العنوان الملفت الصراع على الإسلام ليس الصراع من أجل الإسلام ومن هي الأطراف المتصارعة على الإسلام؟
ضمن معالم الصورة الراهنة لوضع العالم العربي والإسلامي والدولي ومركز الإسلام فيه، نرى أوجها عديدة للصراع. فالقوى الداخلية تتصارع فيما بينها للاستئثار به، والقوى الخارجية تستهدفه على أنه موطن الممانعة والاستعصاء في وجه مشروعات الهيمنة والتحديث.
داخليا القوى التي تصارعت على الإسلام وتتابعت على تمثيله قوى التقليد الإسلامي التاريخي حيث مدارس التعليم الديني العريقة مع قوى الإصلاح والتحديث الداعية للحاق بالتقدم الأوروبي إبان ما سُمي عهد النهضة ثم مع ما يسميه المؤلف قوى الإحياء الإسلامية بدأً بالإخوان المسلمين وانتهاءً بالقاعدة . وتنافست أيضا الأنظمة الحاكمة على تملك الإسلام وتمثيله لتحصل على مشروعية ظلت منقوصة منذ لحظة التأسيس.
خارجيا احتد الصراع على الإسلام في العقود الأخيرة وبلغت ذروته في الحرب على الإرهاب بعد الحادي عشر من أيلول في مشروع إمبراطوري عالمي للسيطرة والهيمنة. ويقع في موضع القلب من ذلك المشروع همّ السيطرة على الإسلام وإصلاحه وتدجينه وضرورة استنقاذ الإسلام من الأصوليين الإسلاميين. وقد انضمت إلى الولايات المتحدة دول غربية أخرى لنصرة ما تسميهم بالمعتدلين أو الإسلام المعتدل في وجه الإسلام المتطرف.
فهذا الصراع المركب، ما زال يزداد توترا حول الإسلام كونه مركزا لجميع التجاذبات الفكرية والسياسية والثقافية والنزاعات العسكرية الحاصلة اليوم في العالم بحيث صار الوجود البشري كله يحتاج إلى كشف الخلل الحاصل عن طريق فهم مشكلات العالم الإسلامي ، وكأن العالم بحاجة الملحة إلى "الإصلاح"، وأن الإصلاح مطلب لا يقتصر على المسلمين بل يتعداهم إلى كل أمم العالم التي أدركت نخبها امتناع تنظيم المعمورة من دون علاج منزلة المسلمين فيها.
قضايا الفكر الإسلامي المعاصر ومشكلاته: مراجعة نقدية
كيف تجري المواجهات حول الإسلام؟
هناك ثلاثة اتجاهات في الوطن العربي اليوم في تعليل سوء العلاقة بالعالم هي:
- المواجهة والحل: الاتجاه التبريري
التفكير الإسلامي السائد أو الاتجاه المهيمن حاليا هو "اتجاه التبرير"، وهو الاتجاه الذي يسعى المسلمون بمقتضاه إلى البحث في التاريخ عن أسباب الصراع القائم حاليا بين الإسلام والغرب؛ بدأً من الحروب الصليبية، مرورا بالاستعمار ووصولا إلى مرحلة السوق العالمية.
وحسب هذا الاتجاه فإن الحضارة الغربية عدوانية ، وبحكم طبيعتها يهيمن على داخلها الطموح المادي الضيّق. وتعود إحدى أسباب هذا الأمر حسب قولهم إلى خضوعها إلى تأثير ثلاث تيارات يهودية: الماسونية والماركسية والفرويدية. وقد ردّ المسلمون على ذلك بصفة أساسية بحركات الجهاد التي أقاموها ضد الاستعمار منذ سنة 1800. كما خاضوا إلى جانب ذلك وما زالوا معارك فكرية ضد الاغتراب تمسكوا فيها بثقافتهم الإسلامية.
- الاتجاه الثاني: لا مواجهة دينية وانما صراع نفوذ
أما ممثلوا الاتجاه الثاني فيرون في تأزم العلاقات بين الفضاء الإسلامي والعالم غير الإسلامي مسألة لها علاقة بتغير طرأ على نظام العلاقات الدولية. تبعا لهذا المنظور يكون قد نشأ بعد فترة الحرب الباردة نظام أحادي الاستقطاب مركزه الغرب. بعدها تحول هذا النظام القائم إلى عامل توتر دولي أساسي يريد إحكام القبضة على الموارد ومواقع النفوذ. وهذا الأمر قد عمل على تدهور العلاقات بين الجزء الإسلامي من العالم والجزء الآخر غير الإسلامي. ولكن ثمة طرفا مسئولا آخر عند هؤلاء عن سوء العلاقة هو النظام العربي القائم منذ عقود وهو نظام غير ديمقراطي وغير تمثيلي.
- الاتجاه الثالث: إفلاس الأنظمة الحاكمة
أما ممثلوا الاتجاه الثالث، فيرون أن المشاكل القائمة بين الإسلام والغرب سببها التخلف والتقدم فهي قائمة بين دول متخلفة ودول متقدمة. ولكن استجابات المسلمين لها استجابات ثقافية في المقام الأول، نظراً لعجز وإفلاس الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية.
- حركات الإسلام السياسي والصراع على الإسلام
- الدين والدولة وإشكالية الوعي التاريخي
إلى جانب التحليل القائل بأن إشكالية الإصلاحيين هي التقدم، وإشكالية الإحيائيين هي الهوية، أرى أن الإصلاح والسلفية تعاونا في مطالع القرن العشرين على ضرب التقليد الإسلامي بحجة عجزه واستسلامه (كما يقول الإصلاحيون)، وبحجة اختلاطه بالشرك (كما يقول السلفيون).
وعندما تضاءل التقليد، وتصدعت مرجعيته، احتل المساحة الفارغة الإحيائيون وحلفاؤهم من السلفيين، إذ استطاع هؤلاء تصوير حلفائهم السابقين من المجددين بأنهم متغربون.
واستطاع الإحيائيون والسلفيون في العقود الأربعة الأخيرة أن يطوروا تفكيرا جديدا يدور كله حول ترك الناس لدين الله، والمطلوب الاستيلاء على السلطة السياسية لتطبيق الشريعة (فكرة الحاكمية بصيغ شتى)، وأن الجهاد ينبغي أن لا يقتصر على الخارج.
واستقرت لدى الفكر الإسلامي المعاصر المقولة التي ترى أن تطبيق الشريعة هي مناط المشروعية، أما الفقيه التقليدي أي المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة، فيرى أن الجماعة (بإجماعها) هي أساس المشروعية، ومناط المرجعية، فالأمة هي التي تحتضن النص والشريعة، ويهبها النص ذلك وإجماعها سلطة المرجعية، ولذلك تملك الأمة أن تعهد عن طريق الشورى والبيعة بالخلافة أو الإمامة أو رئاسة الدولة لأحد أبنائها بعقد يضع بنوده وشروطه ومهماته أهل الحل والعقد. في حين ترى الإحيائية الإسلامية أن الناس غادروا الدين، أو أكثرهم، ولذا لا مرجعية معصومة إلا في الشريعة. فالشريعة وليس الجماعة مناط الشرعية والمشروعية. فالإمام الواجب السمع والطاعة في نظرهم هو من يتعهد بتطبيق الشريعة.
ولنسأل أين موضع الافتراق في طبيعة النظرة للمشروعية السياسية بين الموروث السني التقليدي، من جهة، وبين الإسلاميين الإحيائيين؟
ـ فقهاء أهل السنة التقليديون يعتبرون الشأن السياسي شأنا تدبيريا، وليس عقائديا، بينما يعتبر الإسلاميون المعاصرون الشأن السياسي شأنا تعبديا. فالحاكم مكلف بمهمة مقدسة هي تطبيق شرع الله .
ـ الشأن السياسي لدى الفقيه، كما سبق القول، شأن تدبيري، يعتمد فيه على رأي الجماعة وسلطتها وأعرافها وإجماعاتها وقد اعتبر الفقيه أن كل شيء في السياسة قابل للتغيير والإصلاح، فقد اسقط عدة فقهاء شرط القرشية في الإمام. وقال آخرون بإمكان تعديد الأئمة إذا اتسعت مساحة الدولة. ورأى الجويني مثلا إمكان تولية تركي سلجوقي، الخلافة إذا عجز القرشي العربي عن «مباشرة الأمور بنفسه». وربط آخر المشروعية بوظائف الخليفة، وهل يؤديها على الوجه المرضي أم لا، ما دام وصوله للسلطة من غير طريق الشورى وفهم الدستوريون القدامى هؤلاء ظهور منصب السلطان، باعتباره تغييرا اقتضته المتغيرات التاريخية والاجتماعية عندما صار العرب أقلية ضئيلة في الدولة... الخ.
فالشأن السياسي كما يقول سائر فقهائنا ليس شأنا تعبديا، فالاحتكام فيه للمصالح ولأفضلِ أشكال التقدير والتدبير، مع الحفاظ على الوحدة السياسية والجغرافية للأمة والدولة، وهذا هو الأصل الثابت عندهم.
ـ أما عند الإسلاميين المعاصرين فالوصول إلى السلطة السياسية لتطبيق الشريعة، هو مسوغ المشروعية، وليس إجماع الناس عليهم أو انتخابهم لهم.
عندنا اليوم أزمة مشروعية في السلطة السياسية، والسبب هو تغير مقولة العلاقة بين الدين والدولة، فالأصولية الإسلامية تعتبر أن الإسلام في خطر، ولذلك تريد حمايته بسلطان الدولة، عن طريق الوصول للسلطة وتطبيق الشريعة، وهذا معنى القول: الإسلام مصحف وسيف، فيعني تسخير الدولة للدين، والدين للدولة هذا قول الإسلاميين. أما الحقيقة فالشريعة في الإسلام هي منهج حياة للفرد والمجتمع. فلو أن الناس هم الذين يصنعون السلطة السياسية في مجالنا، لظل الدينُ مؤثرا جدا في الحياة العامة، لكن ليس على أن مهمة الدولة «حراسة الدين» كما يقول الماوردي، ولا «تطبيقه» كما يقول المودودي وسيد قطب. هذه هي الأطروحة الجديدة، قيام نخبة بالاستيلاء على السلطة لتفعيل الإسلام في المجتمع وإعادته للسلطة. وما كان الأمر كذلك حتى مشارف العصور الحديثة. صحيح انه ما كان هناك فصل بين الدين والدولة بالمعنى العلماني الفرنسي، لكن كان هناك تقسيم عمل، أو فصل بين السياسة والدعوة، كان للسياسيين مجالهم ـ وللفقهاء مجالهم ـ وتجاذُب على أطراف المجالين. أما اليوم فالفقيه الجديد (وليس التقليدي) يريد أن يصل للسلطة، وان يحكم باسم الدين، بحجة الخوف على الإسلام من جهة، ولأن الشأن التدبيري أصبح عنده جزء من الدين أيضا (يذكرون في هذا المجال، تطبيق الحدود، وبعض الأحكام الواردة في القرآن ـ وقد كانت السلطات السياسية تطبقها، دون أن يعني عدم تطبيق بعضها أن الدولة كفرت، أو أن الناس غفلوا عن الإسلام).
ما نطمح إليه هو، فك الاشتباك بين الدين والدولة، فالدولة الإسلامية لم تكن حارسة للدين كما يقول الماوردي، وكما يقول الإسلاميون الذين يطمحون إلى الاستيلاء على الدولة لتطبيق الدين، وأن مقولة الماوردي عن الإمامة كحارسة للدين وسائسة للدنيا، مستعارة من إعتبار الدولة الساسانية، فقد كانت الزراداشتية كديانة تدين بوجودها للدولة الساسانية، ولما انهارت الساسانية انهارت الزراداشتية. أما واقع الإسلام فمختلف عن ذلك، فعلى مسار تاريخي طويل ظلت الدولة الإسلامية تدين للدين بوجودها. وأن السلطة السياسية في الإسلام لم تحرس الدين، وضاعت الدولة ولم يضع الدين.
أول الأفكار التي فسدت عندنا ليست فكرة الأمة فهي متجذرة لدينا، بل الذي فسد فكرة الدولة، القوميون قالوا: إنها دولة أصحاب المصلحة في البناء القومي وبحث عن عدو كالاتراك والفرس والأكراد والأوروبيين، أما الإسلاميون فقالوا: إنها دولة الدين وحماته، هذا الخلل في فهم الدولة جعل العسكريين عندنا مع الأنظمة التقليدية الأخرى تبقى أربعين أو خمسين سنة ومازالت.
أعتقد أن مشروعنا أن تستقيم مسألة الدولة في المجال الثقافي والسياسي. وأرى أن جزءا كبيرا من مشكلة الهيمنة التي نعانيها مع الولايات المتحدة ومن مشكلة الثوران الإسلامي سببه الفشل في التجربة السياسية العربية الحديثة. فاذا أمكن بالتعاون بين المثقفين والعاملين في الشأن العام من السياسيين باعتبارنا مواطنين أن نتجاوز حالة الغضب والثوران التي لاتنتج شيئا.. فبالرغم من فداحة مشكلة الاستبداد فإن هناك مشكلة أهم وهي كيف نستطيع عن طريق التنمية أن نشارك في العالم بفاعلية حيث عجزنا بالطرق التقليدية عن حل مشكلاتنا في تحقيق التماسك الاجتماعي أو تحرير الارض في فلسطين. فهناك دول حلت مشكلاتها عن طريق النمو الكبير. بل إن الاستبداد الصيني لديه معجزة تنموية ولكن الاستبداد العربي استبداد متخلف نخرج منه الآن لأنه ينهار ولكننا قد ندخل في مخاض مع هؤلاء الذين لم يكونوا استبداديين. فهل نملك في العالم العربي رؤية لإقامة علاقة عربية إسلامية مع العالم والغرب بالذات وفق قواعد متوازنة؟
من الاستشراق الى الانثروبولوجيا:
- الرؤية الثقافية للغرب الاستعماري
مجال تخصص الدراسات الإسلامية، ينشط فيه نشاطا كبيرا الغربيون الأجانب. وحقل اختصاصهم يسمى عادةً الاستشراق، ولكن هذا الحقل تطور في العقدين الأخيرين إلى حقل الأنثروبولوجيا، فكيف تم هذا التطور؟
الاستشراق يمثل الرؤية الثقافية للغرب الاستعماري، الرؤية التي اصطنعها الغرب الاستعماري لثقافتنا وتاريخنا وديننا وحاضرنا، وهي رؤية مشوهة تحمل على الإسلام وتظلم العروبة وتظلم ثقافتنا. وفي الحقيقة هذه المؤسسة انتهت في السبعينات وما نشهده الآن بعض عظامها الباقية مثل برنارد لويس ومَن يشبهه، ضُربت هذه المؤسسة تحت وطأة الثورة في العلوم الاجتماعية، وتحت وطأة تغير علاقات الشرق بالغرب.
القصور المنهجي في الاستشراق الذي هو قراءة النصوص وليس قراءة الواقع قد أدى إلى ضعفه وانحساره، فظهرت طرائق جديدة شديدة الأهمية والشراسة فيما يسمى الأنثروبولوجيا. وقد استُخدم هذا المنهج الجديد لتصفية الحساب مع كل تاريخنا ومع كل نصوصنا وأضيف إلى ذلك عامل نفسي أن هذا الشرق مستضعف والآن محتل، وهذا أمر نفسي أنه مادام المسلمون والعرب وضعهم كذا الآن إذاً وضعهم أيام محمد وأيام الخلفاء أيضا لم يكن أحسن.
رؤية العالم في الفكر الإسلامي المعاصر:
- رؤية العالم.. المصطلح ومستوياته:
ذكر الأنثروبولوجي المعروف مايكل كيرني Michael Kearny أنه لم يعد من الممكن دراسة التصورات حول الثقافات في تكويناتها، والعلاقات فيما بينها، إلا بالاستناد إلى بحوث وفرضيات "رؤية العالم".
وهذا المصطلح: "رؤية
العالم"
Weltanschauung
صكه الفيلسوف الألماني المعروف فلهلم دلتاي والذي شاع في أوساط المؤرخين
والأنثربولوجيين أو المستشرقين الجدد منذ مطلع القرن العشرين، بحيث صار اليوم إحدى
المقولات الكلية التي تدخل في مضمون الثقافة.
إن "رؤية العالم" تستند إلى مستويين المستوى النظري والمستوى السياسي والإستراتيجي،
المستوى الأول: ما يطلق عليه دلتاي "الصورة الكونية" التي تؤلف الكتلة الأساسية
للمعتقدات والمسلمات الافتراضية عن العالم الحقيقي الواقعي، والتي يمكن في ضوئها
الوصول إلى إجابات شافية عن التساؤلات حول مغزى الكون والوجود والإنسان، أوما يعرف
بروح الحضارة أو الرسالة. ويتعلق المستوى الثاني بالسياق التصوري الواعي والإرادي
الذي نضع نفسنا فيه ضمن تقسيمات العالم الواقعية نحن كذات جمعية من النواحي
الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
وأحسب هنا أننا معنيون بالمستوى الثاني، المتعلق بالتركيبات الحاضرة للعالم، إذ استنادًا إلى وعي الأفغاني وعبده والعظم ورضا وأرسلان لأحداث العالم وتركيباته وترتيباته، ومواقع المسلمين فيه، حددوا إشكالية المسلمين بأنها التخلف في سائر المجالات، كما حددوا الحل وهو التقدم.
لكن لم يكن ذلك كافيا ولا شافيا، بدليل عدم القدرة على الوصول إلى حل لإشكالية المسلمين مع الغرب من ضمن التركيبات العالمية التي كانت سائدة آنذاك إذ عجزوا عن الوصول إلى حالة من الرضا عن مواقعهم فيه. والتي تركت أثرا عميقا في وعي المسلمين، وبالتالي في تكييفاتهم للأوضاع القائمة في العالم الإسلامي. وقد بلغت تلك التأثيرات إحدى ذراها في ضياع فلسطين من جهة، وعدم نجاح التجربة الباكستانية من جهة ثانية.
ولذلك اتخذ ذلك الوعي مسارب أخرى أوصلت "رؤية العالم" لدى المفكرين الإسلاميين إلى حدود المستوى الأول، حدود الصورة الكونية: مغزى الوجود والكون. فظهرت تصورات الاستخلاف والتكليف والحاكمية التي وضعت الوعي الإسلامي في سياق الهوية والخصوصية. وتحول العالم كله إلى مؤامرة على الإسلام. فلم يعد التقدم حلا كافيا لمعالجة إشكالية التخلف بل صار مطلوبا "تحقيق الذات" بإعادة بناء التصور وتحديد خصائصه، والانفصال عن العالم. وظلت الحالة كذلك حتى مطالع التسعينيات من القرن الماضي.
- رؤية العالم والمشهد الإسلامي:
وبدأ المشهد يتغير ويختلط في مطالع التسعينيات: انهار الاتحاد السوفيتي، ونشبت حرب الخليج الثانية، وازدادت علائق المسلمين بالعالم سوءًا بحيث ظهرت مقولة هنتنغتون حول صراعات الحضارات، وحول التخوم الدموية للإسلام. ثم توالى ظهور المشروعات الإستراتيجية ذات الأبعاد الثقافية: النظام العالمي الجديد، وثقافة السلام، وحوار الحضارات، والتعددية الثقافية والسياسية... والعولمة. وقد اعتبر الإسلاميون والقوميون والبقية الباقية من اليسار ذلك كله لغير صالحهم؛ وخاصة تلك الهيمنة الأمريكية الطاغية في الإستراتيجية والأمن والقيم السياسية والثقافية. لكنهم بعكس ما فعلوه حتى الثمانينيات أقبلوا على مناقشة الأمور كلها. وبدءوا يغادرون ساحَ المعارك الأيديولوجية؛ ولذلك انعزلت القلة المتشددة من دعاة الحتميات القديمة أو الجديدة. إذ يصر الليبراليون الجدد على فرض ظواهر العولمة، كما يصر خصومهم من راديكاليي الإسلاميين على الطهورية والانفصال. وبين هذا الطرف وذاك تنفتح البيئات الفكرية والثقافية والأدبية على آفاق شاسعة من التغيير تشكل مخاضا ضخما حافلاً بشتى الاحتمالات والإمكانيات. فقد أصدرت الحركات الإسلامية في مصر وسوريا وتونس مؤخرا أطروحات جادة في رفض العنف والترحيب بالتعددية السياسية وهو ما قد يتأخر عنه عديد من الفقهاء المستقلين والرسميين مثل موقف الفقيه الدكتور وهبة الزحيلي الذي لا زال يرفض في كتاب له صادر عام 2000 الديمقراطية بينما يصدر الإخوان المسلمون في سوريا وفي مصر ما يؤكد ويعلن تبنيهم لها. بل فقد أصدر الإسلاميون الدساتير والإعلانات الإسلامية لنظام الدولة، ولحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل. وصارت تلك الإعلانات شأنا عربيا وإسلاميا عاما.
صحيح أن تلك البيانات والإعلانات تحفل بالشروط والتحفظات والملاحظات على الإعلانات العالمية، لكنها من ضمن وعي الهوية السائد تعتبر مراجعة نقدية لوعي القطيعة السابق، كما أنها تطلع للمشاركة في قيم العالم والعصر.
وعاد الإسلاميون للحديث في (مقاصد الشريعة) في حين كانوا قد غادروا هذا المبحث أو هذا المنحى منذ عشرينيات القرن العشرين. ويعني ذلك طموحًا لإعادة النظر في مكونات المستوى الأول من مستويي "رؤية العالم"، مستوى معنى الوجود والرسالة.
صحيح أن الإسلاميين تحدثوا في الستينيات من القرن العشرين عن الإسلام باعتباره البديل الديني والحضاري؛ لكنهم كانوا يريدون وقتها إعادة فرضه في عالم الإسلام، وليس في العالم. أما اليوم فإن الإسلاميين البارزين الذين يتحدثون عن "مقاصد الشريعة" إنما يريدون من وراء ذلك الدخول في منافسة مشروعة من ضمن القيم العالمية الكبرى.
- هل تغيرت رؤية العالم لدى الإسلاميين؟
هل يعني ذلك كله تغييرًا في رؤية العالم لدى الإسلاميين؟
ثمة عددا من المشكلات الأساسية في الفكر الإسلامي والعربي عموما أهمها عدم الاعتناء بالثقافات، فالكتب المترجمة أو المؤلفة عن فلسفة الحضارة وقيامها قليلة جدا. في عام 1993 وصدور مقالة هانتينجتون التي انهمك العرب في الرد عليها منكرين عداوة الإسلام ومؤكدين على قيم التواصل والحوار فيه في تطور جديد بعد أن بات الكثير منهم طوال القرن العشرين، يكتب لصالح الإدانة الدائمة للحضارة الغربية. فالتواصل يعرض بإيجاز بينما اللغة العقائدية العدائية غالبة. وبالنسبة للحضارة الإسلامية فمن الطريف أن أفضل خمسة عروض للثقافة الإسلامية هي عروض استشراقية هي كتاب آدم متز عن الحضارة العربية 1901 وكتاب جوزيف هل في العشرينيات عن الحضارة العربية وكتاب يورغ كريمر في الثلاثينيات عن روح الحضارة العربية، ترجمة عبد الرحمن بدوي وكتاب مارشال هودجسون في السبعينيات بعنوان مغامرة الإسلام: الوعي والتاريخ في حضارة عالمية. والمقصود من كل ذلك أننا في العالم العربي لا نملك رؤية للعالم لا بالمعنى النظري فالأساس الإعتناء بالثقافات والدراسات الحضارية، ولا نملك رؤية بالمعنى السياسي والاستراتيجي ما لم تتكون لدينا رؤية للعالم تجمع بين تصور العالم بمتغيراته كما هو وبين الرؤية للمكانة التي نضع فيها أنفسنا ضمن تقسيمات العالم باسهامنا على مستويات الحجم الاقتصادي والسياسي والعلمي ومشاركتنا في المؤسسات الدولية. وبهذا لا يمكن إقامة علاقة متوازنة مع العالم والغرب بالذات وفق رؤى وقواعد غير متوازنة.
عددنا اليوم في العالم أكثر من مليار ونتعامل مع أنفسنا والعالم كأنما نحن أقلية تريد الانعزال والانفصال خوفا من أن تتهدد هويتها. وأرى ان الانتماء والمشاركة هو الحقيقة الذي تقول به الأمم المرتاحة التي انجزت مشروعها الوطني وحققت انسانيتها الكبرى.
وبدءا من جيل التأسيس للإصلاح لم يمانع أحد أبرز رواده رشيد رضا في رد الاعتبار للحضارة الغربية وفضلها في اكتشاف أسس الحكم الرشيد الشورى حين وجه إليه سؤال عن الاكتفاء بالشورى عن الديمقراطية الغربية فقال له «أنه لولا هؤلاء ماتحدث مثلك عن الشورى». وهذا ما يؤكد ضرورة النقد الذاتي والبحث المعرفي والاستراتيجي.
ما مدى إسهام الثقافة بشكل عام في صناعة القرار في الوطن العربي والعالم الإسلامي ؟ وما موقع المثقفين على الساحة الاجتماعية وعلى الساحة السياسية ؟ ويمكن أن نجيب بقولنا: إن هؤلاء المثقفين لم يمُكِّنوا من أن يُسهموا، وما أُتيح لهم مجال ؛ لأن الثقافة - أصلاً - في الأنظمة العسكرية جردت المجتمع من تقاليده ومن ثقافته في البلدان العربية الرئيسية. هذه الأنظمة تحاول - عندما تتحرج الظروف - أن تستغل الدين، وتجامل الجمهور بعض الشيء، أو تجامل القوميين بعض الشيء، لكنها - في الحقيقة – هي ليست قومية ولا إسلامية.
الأمر الآخر: أن المثقف
العربي - بمختلف أصنافه وأشكاله - مثقف هشّ التكوين لأنه في الأصل ليس مثقف مشروع
بل هو مثقف تقني، بدأ ذلك من أيام النهضويين في بداية العصر الحديث مع بداية القرن
الماضي، حيث كان المثقف يبني ثقافته للحصول على وظيفة، فصارت طبيعة ثقافته هو فعل
ما فُكِّر له به في أن يصبح موظفاً.
فهو " مثقف تقني " ليس مطلوباً منه أن يملك ثقافة واسعة شاملة تمكّنه من تكوين رؤية
يدعو إليها، أو ليمثل رؤية أخرى للدولة والمجتمع. ولذلك نجد في جامعاتنا ومؤسساتنا
التعليمية أن المتعلمين تزداد معرفتهم بالعصر من الناحية التقنية، لكنها من الناحية
الفكرية والثقافية العامة لا تزداد، فملايين من الشباب الإسلاميين تخصصاتهم عصرية
تكنولوجية، لكنهم على المستوى الثقافي متخلفون.
الأمر الثالث وهو أمر أيضاً شديد الأهمية، أن المثقف العربي اصطدم بمشكلة التراث، واختلط عليه أين يمكن الاستلهام وأين يمكن التقليد، وأين ينبغي التجديد، فهذه المسألة أثرت كثيراً في عدم تكوين مشاريع حقيقية لدى المثقفين ولدى الإسلاميين بالذات.
علينا إشاعة الاجتهاد
ليس بوصفه ممارسة نخبوية وإنما كونه حاجة فردية سوف يغير حتماً علاقة الفرد بذاته
وبمحيطه. عندما يصبح هذا الفرد مدفوعاً باستمرار باتجاه البحث نحو الأفيد والأكثر
خدمة للمصلحة العامة.
إن الاجتهاد الذي نحضّ عليه لا يقتصر على المجال الفقهي أو الديني، وإنما الاجتهاد
كممارسة داخل الحقول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة.
علينا أن نجتهد ونتقدم،
فإذا تقدمنا تغير كل شيء، ولا أقصد أن نتقدم على المستوى المادي، أن نتقدم على
المستوى القيمي أن يكون عندنا مشروع. ثم إن هذا التقدم تقدم إنساني وهو قيمة
أخلاقية. عندما يقول العلماء المسلمون: إن مقاصد الشريعة الخمس وهي حق النفس وحق
الحياة وحق العقل وحق الدين وحق النسل، هذه قيم أخلاقية كبرى وهذه هي قيم التقدم
الغربي الكبرى، والكلام أننا متفوقون في القيم وهم متفوقون في التقدم المادي غلط.
لأنك إذا سألت ما دليل تقدمنا القيمي؟ يقال: قال الله تعالى...، نعم؛ هذا قاله الله
عزّ وجلّ، إنما هل يتجلى عندنا اجتماعياً ؟ وهذا إن حصل جزئياً على مستوى الأفراد،
وعلى مستوى بعض المجموعات، وبعض الفئات الاجتماعية، لكنه ليس حاصلاً على مستوى
المجتمع العام أوالمجتمع المدني، وليس حاصلاً على مستوى الدولة.
يعني أننا في المجال الإجتماعي والعلمي والثقافي لم نصل إلى سلاسة القناة بين الفرد
والمجتمع ما يسمى بالأواني المستطرقة، إنه في النهاية يجب أن يتساوى الوعي الفردي
مع الوعي العام فيكون له طرفان: فردي واجتماعي.
ويزيد الأمر خطورة وجود الأمية العالية في الدول العربية والإسلامية الذي يدل على أننا لا نستثمر كثيراً في التعليم. لأن الذي يجب أن يقرر الاستثمار في التعليم هي مؤسسات متعلقة بمفهوم الدولة وبفهمها لنفسها ولدورها تجاه شعبها وبأهدافها المستقبلية. فالأمر له علاقة بالمجتمع المدني وبوعي هذا المجتمع بأن الترقي على المستوى الإنساني مرتبط بالتعليم.
بين الأصوليتين الإسلامية والغربية:
لقد كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 سببا في انعطاف حاد في رؤية الإسلام والمسلمين على المستويين الأكاديمي والشعبي العام في الغرب، ومازالت التداعيات تتفاقم مع استمرار الصدام بين الأصوليتين: الإسلامية والغربية، "ولله الأمر من قبل ومن بعد".
ومن أبرز التحديات التي تواجه الإسلام اليوم تلك التي تتصل بالأجواء الأكاديمية، فقد تشكل تيار "علمي" مناهض للدين الإسلامي والثقافة الإسلامية زيادة على التشكيك في إنسانية المسلمين، لذلك فقد اتجه تيار المستشرقين الجدد إلى القول بأن الإسلام إنما هو انشقاق عن اليهودية والنصرانية ولم يجعل منه دينا سوى الفتوحات التي أصّلت العنف فيه.
ولا شك أن هذه النظرة الأكاديمية انعكاس من جهة وتقعيد من جهة أخرى لنظرة الرأي العام الغربي. فكتب تلامذة المستشرق برنارد لويس كتابات حول التطرف الإسلامي بعد 11/09 على ثلاث مناحٍ:1- التأكيد على ضرورة التحالف مع إسرائيل لصد الخطر الأصولي العربي والإسلامي 2- التشكيك في ولاء العرب والمسلمين المواطنين في الولايات المتحدة للدولة والقانون 3- مهاجمة الدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية. أما التحدي الآخر هو تبني متتخصصو "أنتروبولوجيا الإسلام" أحد التفاسير للأصولية الإسلامية الراهنة، الذي يرى أن الإسلام دين نصي خففت وطأة نصوصيته الحضارة الكبرى التي تأسست عليه، إلا أنه يعود إلى العنف طابعه الأصلي عند الأزمات.
أما من جانب الرأي العام الشعبي فقد صار الإنجيليون الجدد (وعددهم عشرات الملايين في العالم) يعلنون عداءهم للمسلمين بعد أن صاروا يواجهون خصما أنشأ جبهة لمقاتلة اليهود والصليبيين ويرى بأن العالم فسطاطان واحد للإيمان وآخر للكفر، لذلك فقد "بادله الإنجيليون التحية" فكان رد فعلهم أن أقبلوا على التبشير القوي في إفريقيا وآسيا وامتد حتى إلى انتزاع عشرات الملايين من الكاثوليكيين في أمريكا اللاتينية والوسطى وشرق ووسط أوروبا وإفريقيا؛ والأمر المحيط بكل ذلك هو الموقف العالمي والنظام الأمريكي من الإسلام والمسلمين حيث استطاع الإنجيليون وضع كل من التطرف الإسلامي والإسلام في خانة واحدة.
ويأتي الكلام عن «حرب الافكار» باعتباره الاقفال الرمزي للدائرة المقفلة اصلاً: الرسالة الامريكية لنشر الحريات والديمقراطية في العالم بالقوة العسكرية والقيام بالحروب الوقائية والاستباقية لحماية امن الولايات المتحدة وإقناع العرب والمسلمين بعد الهيمنة عليهم بحسن نوايا الولايات المتحدة تجاههم من خلال حرب الافكار. وهذه ذات معنى خاص لانها ترفع التنافس الفكري والديني بين امريكا والاصوليين الى حدود الحرب او الأفق المسدود.
وأرى أن الصور المتبادلة ما عادت تتأثر بدرجة المعرفة فقط، بل بدوائر صناعة القرار، وبالمصالح الآنية أو العاجلة التي تعكسها وسائل الإعلام، قبل أيام نشرت إحدى الصحف تحقيقا عن كلية اللاهوت بجامعة هارفارد، والتي تبرعت لها دولة الإمارات العربية بـ5.2 مليون دولار لإنشاء كرسي لدراسات الدين الإسلامي، لكن فجأة اكتشفت طالبة يهودية أن «مؤسسة الشيخ زايد للتنسيق والمتابعة» معادية للسامية، فطالبت الجامعة والكلية برفض منحة دولة الإمارات. وذعر بيل غراهام عميد كلية اللاهوت (وهو بالمناسبة أستاذ للدراسات الإسلامية). ولجأ لصديقه رئيس الجامعة سامرز (وهو يهودي ليبرالي في الأصل صار صهيونيا بعد الانتفاضة) الذي أيد رفض المنحة بحجة أن الجامعة غنية جدا ولا تحتاج لمليونين أو ثلاثة إذا تسببت بإزعاج.
الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية:
تبدو المهمة صعبة بل تكاد تكون مستحيلة للقيام بتجديد فهم الإسلام من الداخل في ظل اعتبار السياسات الدولية التي ستعرقل ـ على الرغم من ادعائها الدعم ـ جهود التجديد التي يقوم بها المصلحون من داخل مجتمعاتهم، كما أن أولئك المصلحين يجدون أنفسهم في صراع فكري مع التفسيرات الأصولية للإسلام التي تجد شرعيتها الشعبية في الاحتلال الأميركي للعراق والاحتلال الإسرائيلي الدموي لفلسطين، والمقارنة اليومية بينهما تجعل مهمة التفكر بالإسلام كرؤية متصالحة مع العالم تؤمن بالقيم الإنسانية المشتركة، تجعل مصيرها الإخفاق المستمر، ذلك أن من يجد هويته مهدّدة لا يفكر في تجديدها أو تغييرها، إنه يقبل بها على علاتها خوفاً من أن تؤدّي محاولات تطويرها إلى زوالها.
بَيد أن الوعي العربي ممزق بين ضروريات التغيير، ومجابهة تحديات الغزاة. والواقع أن كلا الأمرين لا يمكن تجاوزه أو إعطاؤه أرجحية وأسبقية. وعلة ذلك أن الغزاة لا يمكن مواجهتهم بجدية إلا بالتغيير المتجه لصون الوجود والمصالح.
الحديث عن الإصلاح
الإسلامي أصبح جزءاً من استراتيجية السياسات الدولية لمنطقة الشرق الأوسط. وفورة
الاهتمام بالإسلام تنبع أيضاً من حجم تأثيره الطاغي في ثقافة شعوب المنطقة التي بدت
عصيّة على التغيير. وعلى ذلك نخلص إلى نتيجتين هما خلاصة التأمل في الأحداث الدولية
وانعكاساتها على المنطقة العربية والإسلامية وهما: وَهْمُ إمكان استخدام الإسلام
لصالح النظام الرسمي، ووَهْمُ إمكان استبعاد الإسلام من دائرة التأثير الاجتماعي
والسياسي في العالمين العربي والإسلامي.
ولئن كان الدين غير قابل للاستعمال من طرف النظام السياسي، فإن الأوساط الحاكمة تظل
مع ذلك غير قادرة على الانفصال عن الدين على غرار ما حصل في الغرب من فصل بين الدين
عن الدولة.
لقد حاولت الدولة التركية القيام بذلك طوال اكثر من خمسين عاماً وها هي تذعن الآن على مضض لاستتباب شكل من اشكال الإسلام السياسي يقول اهله انه معتدل وعصري.
علاقة الإصلاح الديني بالإصلاح السياسي:
كانت الولايات المتحدة
وما تزال، تطالب العرب والمسلمين بإصلاح الخطاب الديني والثقافي من طريق تغيير
المناهج التعليمية، ومناهج تدريس العلوم الدينية. وبسبب هذه المطالبة أعرض البعض عن
الخوض في المسألة بعد 11 سبتمبر، على أن اللافت في دعوات تجديد الخطاب الديني،
اعتبار الفكر الديني السائد عقبة أو عائقاً في طريق التجديد والتغيير السياسي.
هذه الفكرة بالذات من جانب مثقفينا المعنيين بالشأن العام هي للتهرب من الاستحقاقات
السياسية الملحاحة، والتي تفترض عملاً على تغيير الواقع السياسي.
أزمتنا الهائلة الفظيعة في المجال السياسي تحتاج إلى وقت وعمل، وفي المجال الديني
تحتاج إلى عمل دقيق ودؤوب على النصوص وإن الإصلاح الديني والإصلاح السياسي مربوطين
ببعضهما بشكل قوي. فلابد من الإصلاح السياسي ليتم الإصلاح الديني خصوصا أن الحركات
الإسلامية ليست موجودة في السلطة السياسية.
وهذا الإصلاح ضرورة داخلية وملحة منذ عقود بل قرون، لكن المشكلة أن الوعي به لا يأتي إلا إثر صدمات خارجية فتجعل الإصلاح حسب الطلب فلا يغادر القشور، هذا فضلاً عن الربط الساذج بينه وبين متطلبات الخارج عند الرافضين له.
نحتاج الى الإصلاح الديني، وتجديد الخطاب الديني. لكن الأولوية التي لا يمكن تجاوزها تبقى لتغيير الواقع السياسي. والانتخابات ليست حلاً سحرياً، لكنها تعني تحمل الناس المسؤولية في حفظ الوجود والمصالح، بعد أن انقضت عليهم عقود وهم يرون كل شيء ضائعاً أو على شفير الضياع، دون أن يتمكنوا من التدخل للدفاع عن أنفسهم!
لقد تحدثنا كثيراً عن تجديد الخطاب مع العالم، ومع أنفسنا. لكن يبقى أن تغيير الواقع السياسي هو الوسيلة الوحيدة لتجديد حقيقي للخطاب السياسي والثقافي، ولو تأخر تجديد الخطاب الديني فإن البيت الحرام له رب يحميه.