رجال لهم آثار
للكاتب الدكتور عبد الله الطنطاوي
د. عبد الله الطنطاوي
عرض: غرناطة عبد الله الطنطاوي
والدي الدكتور عبد الله الطنطاوي، والد ومعلم وقدوة وملهم وجدّ لأحفاد يعشقهم ويعشقونه.
له من الصفات والميزات الرائعة ما لا نكاد نجدها في هذا العصر المادي البحت.
فعلمنا أن المادة آخر ما نفكر به، وأن الإنسان بأخلاقه وعمله وتقديمه الخير للناس هو الذي يفوز بالدارين.
ديدنه في هذه الحياة، عمل الخير لمن يعرف ولا يعرف، ولمن يستحق هذا الخير أو لا يستحقه، وإنزال الناس منازلهم، وإعطاؤهم حقوقهم.
لذلك جاء هذا الكتاب القيّم الذي أنزل هذه الشخصيات منازلهم، إحقاقاً للحق، وإنصافاً لهم بعد تعرضهم للتنقص أو الإهمال، كما قال والدي في كتابه هذا.
وقد تعمّد التنويع المكاني، ليعطي كل ذي حق حقه، مهما بعدت المسافات.
للكاتب الدكتور عبد الطنطاوي أكثر من أربعة وثمانين كتاباً، وقد صدر له حديثاً كتاب جديد، بعنوان رجال لهم آثار عن دار الفاروق في عمان /الأردن ، وقد جاء الكتاب في 358 صفحة من القطع الكبير.
يتحدث فيه عن ست وعشرين ترجمةً لعالم وسياسي ومفكر ومجاهد وأديب وشهيد من عدد من الأقطار العربية والإسلامية .
وقد بدأ كتابه هذا بالإمام أبو الأعلى المودودي الهندي الأصل، فوصفه بأنه عبقرية دعوية فذة، وقد تعرض لاتهامات شديدة، كاتهامه بالقاديانية، وبالعمالة للهند وأمريكا، وغيرها من الافتراءات، إلا أنه تجاوز هذه الاتهامات الباطلة.
وكان للقضية الفلسطينية نصيب الأسد، فتحدث عن شخصية الشيخ أحمد ياسين، الذي قال عنه الطنطاوي أن موت ياسين قد زلزل الناس والبيت البيضاوي، ولم يفرح لموته حتى قاتلوه.
وقد أبرز صفة رائعة للشيخ تميز بها عن سائر القيادات الإسلامية، أنه لم يكن مركزياً، بل يصنع القيادات ويربيها للمستقبل.
ومن أحلى أقواله:
"نعم الحارس الأجل".
ولحكمة أرادها الله تعالى ابتلى الشيخ بالضعف، ليكون قدوة للضعفاء في الدنيا.
ثم انتقل إلى الشهيد المهندس إسماعيل أبو شنب، وقد وصفه بصفات رائعة أهلته لأن يكون شهيداً بحق.
ثم تحدث عن القائد الملهم الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، من مؤسسي حركة حماس، الذي كان يعدّ نفسه مشروع شهادة يتمنى تحقيقه.
ومنه إلى الشيخ أمجد الزهاوي العالم الرباني العراقي الأصل، كان غنياً ولكنه كان زاهداً كثير العبادة، كان يضع سجادة الصلاة على كتفه أينما ذهب، حتى لا يؤخر صلاة عن وقتها ولو لدقائق، وكانت للشيخ رحلات كثيرة نصرة لقضايا المسلمين، وقد شبهه طنطاوي بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قفز بنا الكاتب إلى مصر، إلى الكاتب الأديب العالم الموسوعي أنور الجندي، وكعادة الطنطاوي وديدنه، الحفاظ على كتب وعلوم العلماء والمفكرين، فقد دعا إلى تحويل بيت ومكتبة الجندي إلى مكتبة عامة، يستفيد منها الدارسون، أي أن تكون وقفاً للمسلمين.
وقد مات الجندي بعد أن استقبل القبلة وقال بصوت مسموع:
-إني فرح بلقاء الله، بأبي أنت وأمي يا سيدي يا رسول الله.
ثم انتقل بنا الكاتب إلى محدث الديار الشامية الشيخ بدر الدين الحسني.
وقد أسهب الكاتب في سيرة هذا الشيخ العظيم، فقد كان تقياً يمنع الناس من القيام له، بالرغم من مكانته العالية، يأخذ نفسه بالعزائم، ولا يمكن أحداً من خدمته.
كريماً مولعاً بالمطالعة، ويؤثر الصمت على الكلام إلا مضطراً، ربما تكلم بنصف كلمة، وأكملها بإشارة.
ذو ذاكرة عجيبة حتى لحظة وفاته، له مواقف شجاعة ضد الاتحاديين المشبوهين، وضد الاحتلال الفرنسي، وقد نكّست الأعلام على جميع الدوائر الحكومية عند وفاة هذا الشيخ الكبير.
والآن نحن في تركيا عند الإمام بديع الزمان النورسي، باعث الإسلام في تركيا الحديثة.
هذه الشخصية العظيمة التي لم نكد نسمع عنها شيئاً، فجاء الطنطاوي –جزاه الله كل خير- وأزاح اللثام عنها، حتى يعرفه القاصي والداني.
وقد حُكم عليه بالإعدام لأنه أهان القيصر والجيش الروسي، بعد أن تمكنوا من دخول القوات الروسية تركيا، وعند لحظة إعدامه كان رابط الجأش، وطلب من الضابط الروسي أن يسمح له بالوضوء والصلاة، حينئذ أبطل الضابط قرار المحكمة واعتذر الضابط من النورسي.
وبعد خمسة أشهر من وفاة النورسي تمّ نقل رفاته إلى جهة غير معلومة، وقد قال عنه أخوه الشيخ عبد المجيد:
-ما إن لمست الكفن حتى خُيل إلي أنه قد توفي بالأمس، كان الكفن سليماً...
ثم طار بنا الكاتب إلى الجزائر إلى المجاهد الشيخ البشير الإبراهيمي، وتحدث عن رحلاته ونشاطاته الجليلة، وتحدث عن تصديه للاستعمار الفرنسي، وقد شغلته القضية الفلسطينية.
والآن ألقى الطنطاوي مرساه في الرياض، عند الشيخ العالم المجدد عبد العزيز بن باز، فكان نِِعْمَ العالم في عبادته وتقواه وورعه وتواضعه، وإنكاره للبدع، ودفاعه عن الدعاة حيث كانوا، ولو كان على خلاف معهم في الرأي.
جريئاً في انتقاد الظلم والانحراف، مهتماً بأمور المسلمين، يتألم لألمهم، ويفرح لفرحهم.
ولا زال في الرياض، فقد تحدث عن الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رجل الجهاد والعلم والحزم والدين، مفتي الديار السعودية.
أما تونس الخضراء فقد كان لها نصيب أيضاً في الكتاب الفذ هذا، فقد تحدث عن رجل الجهاد والفكر والنهضة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، الذي قاوم الاستعمار الفرنسي الذي دبّر له مؤامرة خسيسة ضده، زعمت للناس أنه كافر، فتجمهر الرعاع، وهو مقيد في طريقة إلى المحكمة، وهم يهتفون: اقتلوا الثعالبي الكافر، ثم عرف الشعب الحقيقة.
ثم عاد الكاتب إلى أستاذه علاّمة الشام الشيخ الأديب عبد الغني الدقر، بالرغم من أنه لم ينل شهادة قط، ولم يدرس في جامعة قط.
وله معه ذكريات حميمة، قد ينشرها الكاتب، ونحن نشدّ على يديه كي ينشر هذه الذكريات لما لها من طيب الأثر.
ثم ذكر الكاتب أستاذه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، الذي شغل منصب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، ووصفه بصفات رائعة قلّ أن نجدها في هذا الزمان.
وقد ذكر الكاتب القائد الأمير عبد الكريم الخطابي، رجل الجهاد والتحرير في المغرب، الذي استبسل ضد الغزاة الإسبان والفرنسيين.
ثم عاد الكاتب إلى الشهيد الشيخ عز الدين القسام السوري الأصل، فتحدث عن جهاده في سورية ضد الاحتلال الفرنسي، ومن ثم جهاده المرير في فلسطين.
وقد كتب الكاتبون عن العالم العامل، والشاعر المجيد، وكاتب الأطفال، والمجاهد القائد علاّل الفاسي، من مدينة فاس في المغرب، ولم يوفّوه ما يستأهل من مكانة عالية –كما قال عنه الكاتب- فأراد الكاتب أن يوفّيه بعضاً من حقّه كعادة الكاتب دائماً في إيفاء كل ذي حق حقه.
ثم انتقل إلى سيد قطب أوروبا، الرئيس علي عزت بيجوفيتش، المفكر والمجاهد والسياسي المحنك، الذي واجه الشيوعيين والنازيين، وأسس "جمعية الشبان المسلمين" وهو في السادسة عشرة من عمره.
وأسهب الكاتب في الحديث عن المستشار محمد المأمون الهضيبي، المرشد السادس للإخوان المسلمين، وقد ترك تراثاً قضائياً ضخماً ومتميزاً، ويرجو الكاتب الطنطاوي كعادته، من أبناء الهضيبي أن يجمعوه ويطبعوه.
ثم حلّق الكاتب مرة أخرى إلى بلاد الشام إلى داعية العروبة والإسلام، محب الدين الخطيب، الذي ثار على سياسة التتريك في تركيا.
والدكتور الشيخ معروف الدواليبي، آخر عمالقة السياسة في سورية، ومن أبرز مواقفه تهريب مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني.
والآن في الجزائر مع الشيخ محفوظ النحناح، وقد وصفه الكاتب بأنه لا يؤمن بحديّة الأشياء، وإنما يؤمن بنسبيتها.
ثم عاد الكاتب إلى تركيا، إلى شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، الشيخ مصطفى صبري، أول من تنبّه إلى المخاطر التي يحملها أتاتورك لهذه الأمة.
ومن ثم عاد إلى مصر، إلى الشيخ مصطفى مشهور، الذي انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين وهو في الخامسة عشرة من عمره، وقضى من عمره ست عشرة سنة في معتقلات الطواغيت.
وأخيراً حطّ الطنطاوي الرحال عند مجدد القرن الثاني عشر الهجري الإمام محمد بن عبد الوهاب، النجدي الأصل، الذي دعا إلى توحيد بلاد نجد، وقد بذل جهداً كبيراً في سبيل هذه الدعوة الربانية، بالرغم من معارضة أصحاب المصالح، وعلماء السوء الملتصقين بأمراء السوء.
وقد استخدم والدي بعض الكلمات الجميلة والتي تكاد تندثر مع مرور الأيام مثل:
في هذه الجِواء المحمومة المعادية، أنوفاً عيوفاً شامخاً مع المستكبرين، لقد كان الشيخ عبد الغني ألبَّ لباً، وأسرع لقناً.
وغيرها الكثير من أمثال هذه الألفاظ الحلوة الجميلة المعبرة عن جمال لغتنا العربية.
ومن حبّه للغة العربية لا يتحمل أن يسمع كلمة في أي مجلس كان، إذا كان فيها خطأ نحوي أو لغوي، إلا وصححها، حتى في أمسياتنا ورحلاتنا ولقاءاتنا العائلية الجميلة.
وقد وعدنا الكاتب أن يكون هناك جزء ثانٍ أيضاً.
أعانه الله على حمل هذه المسؤولية الجسيمة، وجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.