سوريا ...لا خبز ...ولا حرية 6
سوريا ...لا خبز ...ولا حرية 6
آلن جورج
ترجمه: د. حصيف عبد الغني
الفصل السادس
لا حكم لأي سلطة... إلا سلطة القانون
.... النظام العدلي
عند دخول القاعة المركزية لقصر العدل، ويلّقب شعبياً بـ (قصر الظلم)، يُواجه المرء بجداريه واسعة مرسومة بطريقة فجّة تصور الرئيس الراحل حافظ الأسد في ثوب المحاكم الأسود وهو واقف على رأس مجموعة مكونة من اثني عشر قاضياً بينهم سيدة واحدة مغطاة الرأس، يتطلع رافع الرأس نحو سماء زرقاء مكهربة، فيها كتاب مفتوح مرفوع من أمامه من وفوق رأسه. ويحمل الكتاب آية من القرآن "ويعلمكم الله أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها: وإن حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" وفي سماء الجدارية حمامات عدة طائرة بأسلوب يفتقد اللباقة... ولا شك أنها حمام السلام!
كان الوقت ظهراً في أحد أيام كانون أول الماطرة وقصر العدل، في شارع ناصر، المواجه تقريباً لسوق الحميدية الشهير، يعج بالناس. والقاعة المركزية هي تجويف تطل عليه شرفات ثلاث تشير كل واحدة منها إلى طابق في البناء الذي شُيّدَ خلال عهد الاحتلال الفرنسي. ويتعالى الصخب من الحشد الذي يبلغ عدده المئتين من الحاضرين وهم يمثلون (كوناً مصغراً) من المجتمع السوري: محامون ببذة إيطالية دقيقة الصنع وموظفوهم وزبائنهم يرتدون كذلك بذات أخف ثمناً، والريفيون السمر يرتدون سترة فوق أثوابهم التي تشبه العباءات. وربما كانت النساء تمثل 10% من هذا الجمع.
والممر الكائن على يمين المدخل الرئيسي يقود إلى سلسلة من غرف المحكمة، الصغيرة ذات السقف العالي، وربما بمساحة 6 x 10 أمتار مربعة، محفوظة لأبسط القضايا. وعلى الشمال واليمين في كل غرفة منها (مصابيح) ألنيون معلقة على الجدران الرمادية العارية. ثم بعد ذلك بقليل شباك وعلى الناحية المقابلة له صورة (بورتريه) للرئيس الراحل. وأمام الشبابيك يمتد من الحائط للحائط مكتب خشبي مرتفع مكدس، بإرتفاع ملحوظ بالسجلات (الإضبارات). وقبل المكتب الخشبي طاولة خشبية مغطاة بطبقة زجاجية مكسورة على امتداد خط القطر. وصفوف من المقاعد الخشبية المتفرقة للمدعين ولفريق الدفاع في مقابل منصة الحاكم. والقاضية فيحاء الأسد، سيدة أنيقة في الثلاثينات من عمرها، من مرفأ ومدينة اللاذقية تترأس جلسة المحاكمة في قضية تخص رجلاً متهماً بالعمل بدون رخصة رسمية صحيحة. ويساعدها موظفون (كتبة وسكرتارية) واحد من كل جانب. والمتهمان غائبان عن الجلسة ولكن المحاميين عنهما يمثلانهما ويقفان على مستوى أخفض من منصة القاضية ومساعديها، ويرتديان بذة رسمية. وذكرت القاضية الأسد أنها تستطيع سماع حوالي ثلاثين دعوى من هذه الدعاوى في يوم واحد.
وفي قاعة المحاكمة الأكبر ذات الجدران الرمادية المتفاوتة الكثافة في الطابق الثاني من قصر العدل تترأس الجلسة امرأة أخرى وتنظر في دعوى رجل افتتح حانوتاً دون الرخصة الرسمية اللازمة.
وخلف القاضية وأعلى منها صورة كبيرة لحافظ الأسد، وصورة أصغر منها لوريثه بشار. وحوالي عشرين شخصاً يجلسون على مقاعد خشبية، بينما يقف المحامون أمام القاضية مباشرة. ورغم أن زيارتي وافقت عليها وزارة الإعلام إلا أن القاضية قالت أنني أستطيع البقاء فقط إذا وافقت وزارة العدل على ذلك.
وأحد أجنحة الطابق الثالث مخصص لمحكمة الأمن الاقتصادي ويتعاطى مع قضايا الذين يخالفون قانون الأحكام العرفية المتعلقة بالجرائم الاقتصادية (تابع لاحقاً). والدخول إلى هذا الجناح يكون عبر بوابة مغلقة بحاجز من الحديد والفولاذ يحرسها شرطي بثيابه الرسمية. وبعد هذا الحاجز في أواخر الممر غرفة واسعة للمحاكمة. أقفاص الفولاذ بها المتهمون تمتد على جانبي جدران الغرفة. ويوم زيارتي لها كانت الأقفاص خالية. وفي جدار الغرفة الثالث نوافذ أما الجدار الرابع فأمامه منصة خشبية عالية نسبيا – وفوقها قاضٍ بثوبه الأسود ذي الأطراف الموشاة بشريط مذهب يتحدث بالميكروفون. أمام القاضي شاهد محاط بمحامين يقول أنه لا يعرف شيئاً. والقضية هي لرجل استدان مالاً بفائدة 3% ولم يستطع سداد السلفة (الدين). وهناك (دسته) من الناس يجلسون بانتباه على المقاعد الخشبية بمواجهة منصة القاضي. الشاهد ومحاميه هما الواقفان فقط.
الأجواء رسمية والاحترام عميق للقاضي. ولم يتأخر بروز العوائق البيروقراطية المعتادة لزيارتي. ففي الممر قال أحد المحامين أن عليّ الذهاب إلى المكتب الصحفي لقصر العدل ثم قال لي آخرون أن عليّ الذهاب أوّلا إلى المحامي العام. فيقول الأخير أنه يحتاج إلى رسالة تعريف من وزير العدل. والأمر مثل كلاسيكي على تحميل المسؤولية لمن هم فوق، وهذا بلاء أصاب كل المؤسسات الرسمية في سورية.
والزائر العارض لقصر العدل قد يخرج بالانطباع أن سلطة القانون هي التي تسود في سورية. ومن الناحية الرسمية الأمر هو كذلك. فالدستور يؤكد "إن سيادة القانون هو مبدأ أساسي في المجتمع والدولة". وهو يبين أن للسوريين "الحق في الاشتراك في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية" وأن "القانون ينظم هذه المشاركة".
بالإضافة لذلك يؤكد أن "كل متهم هو بريء إلى أن تثبت إدانته". وأن لا أحد يمكن وضعه تحت المراقبة أو اعتقاله إلا حسب القانون، وأن حق الدفاع والمرافعة أمام القضاء والقضاة محفوظ بالقانون.ورئيس الجمهورية يضمن استقلال القضاء والقضاة وهم لا يخضعون لأي سلطة إلا سلطة القانون" وأن "شرف وضمير وحياد القضاة هي ضمانات الحق العام والحريات".
سحق المحامين:
هيثم المالح المحامي ورئيس جمعية حقوق الإنسان السورية يشك بعمق – فيما جاء في حرفية الدستور ويقول "المشكلة هنا، المشكلة الرئيسية أن البلاد مضبوطة "بالأوامر وليس بالقانون، القانون هو في الكتب وليس في حياة الناس اليومية".
حفظت نقابة المحامين ونقابات مهنية أخرى مثل نقابة المهندسين ونقابة الأطباء استقلالها عن النظام الحاكم، حتى عام 1980، ولعبت أدواراً هامة في المعارضة غير العنيفة في أواخر السبعينات. وكان المحامون في الطليعة. ففي حزيران عام 1978 أصدرت نقابة المحامين في دمشق قرارات تطالب فيها بالرفع الفوري لقانون الأحكام العرفية الذي كان سائداً منذ كانون الأول 1962 (راجع لاحقا)، وأدانت ممارسة التعذيب وحذرت المحامين أنهم سيتعرضون لتدابير مسلكية من قبل النقابة إذا شاركوا في نشاطات غير قانونية بانسجام مع السلطات. وفي 29 حزيران وفي اجتماع عام لنقابة المحامين تبنت الجلسة قرارات مماثلة، وفي 17 آب 1978 تقدم رئيس النقابة صباح الركابي إلى السلطات طالباً احترام أحكام القوانين وإطلاق سراح المعتقلين بدون محاكمة. وفي 11 تشرين ثاني صوّت مؤتمر المحامين العام في حلب داعماً قرارات مجلس نقابة محامي دمشق.
وفي أول كانون أول دعا المؤتمر العام للمحامين في سورية إلى عقد جلسة طارئة وطالب باستقلالية القضاء، وإنهاء الأحكام العرفية وإلغاء المحاكم الخاصة (راجع لاحقاً). وبعد فترة وجيزة من ذلك الاجتماع تعدى أعضاء من فرق سرايا الدفاع – الحرس الرسمي – الذي يرئسه رفعت الأسد أخو حافظ – على أحد المحامين وزوجته. وأعلن محامو دمشق الإضراب ليوم واحد احتجاجاً ودعمتهم في ذلك نقابات المحامين في حمص وحلب وحماه ودير الزور.
ورغم القمع القاسي الذي مارسته السلطات الحاكمة تنامت موجة المعارضة، بما في ذلك حملة هجمات مسلحة دموية قام بها نشطاء الإخوان المسلمين. وفي 31 آب 1979 أصدرت نقابة محامي دمشق قرارات تطالب بالحقوق الديمقراطية – للمواطنين- وإنهاء الأحكام العرفية. وفي 28 شباط 1980 أصدر المؤتمر العام لنقابة المهندسين قراراً يطالب برفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، وحرية التعبير والتجمع. وفي الثاني من آذار أعلنت نقابة محامي حلب الإضراب لساعتين لتأكيد مطالبها بالإصلاح. وفي الثامن من آذار – ذكرى الانقلاب البعثي لعام 1963 عصفت بسورية موجة من الاضرابات – والمظاهرات ضد النظام، وفي اليوم التالي أصدرت النقابات المهنية في حمص مطالب مشتركة للإصلاح وتبعت ذلك بعد يومين أصداء في حماه بإعلان نقاباتها المهنية لنفس المطالب.
ومع تعمق الأزمة عمد النظام إلى مزيد من استعمال القوة الوحشية. ففي آذار عام 1980 قتل جنود القوات الخاصة ما بين 150 إلى 200 من المتظاهرين في جسر الشغور، بلدة صغيرة على نهر العاصي بين مدينتي حلب واللاذقية. وفي نفس الشهر قتلت قوات الأمن حوالي خمسين متظاهراً في إدلب والمعرّة إلى الشمال الشرقي من جسر الشغور. ودعت نقابة المحامين إلى إضراب وطني يوم 31 آذار وأيدتها في ذلك نقابة الأطباء ونقابة المهندسين والنقابات المهنية الأخرى. وكان رد الحكومة على ذلك في 9 نيسان إصدار مرسوم بحل كل النقابات المهنية بحجة أن العناصر الرجعية تسربت إليها وأصبحت هذه النقابات المهنية خطراً على المجتمع.
وفي اليوم التالي (عيّنت) السلطات وجوهاً جديدة موالية لها في المكاتب التنفيذية لكل النقابات. وأوقفت المخابرات وسجنت تقريباً كل الزعماء الأصلاء للنقابات المهنية السورية ومن ضمنهم أكثر من مئة طبيب ومئة مهندس وخمسون محامي، وكثير من المعتقلين عذّبوا... وبعضهم قتل.
وبعد حل النقابات المستقلة واستبدالها بمن عيّنوا رسمياً عمد النظام إلى ضمان قطعي بعدم حصول النقابات مستقبلاً على أية استقلالية. والقانون رقم 39 الذي صدر في 21 آب 1981 يفرض على نقابة المحامين قانوناً "أن تعمل بانسجام متطابق مع مبادئ وقرارات حزب البعث العربي الاشتراكي وأن تنسق نشاطاتها مع المكتب المسؤول عنها في القيادة القطرية للحزب". ويفرض القانون الجديد ألا يعقد اجتماع نقابة المحامين إلا إذا دعا إليه وحضره ممثل حزب البعث. وخوّل القانون الحكومة حلّ اللجان التنفيذية للنقابات المهنية المحلية المناطقية –أو الوطنية– على مستوى القطر في أي وقت شاءت. بالإضافة لذلك وُضعت نقابة المحامين تحت رقابة وزارة العدل.
ويمنع القانون الجديد المحامين من الانتساب إلى أي منظمة عربية أو دولية بدون إذن خطي من النقابة (وهي الآن وكالة من وكالات النظام). وأعطيت المخابرات السلطة لتوقيف المحامين وتفتيش مكاتبهم إذا عملوا من أجل زبون يعتقد أنه (خطر على الأمن) ويهدد القانون المحامين بطردهم من النقابة لأي اتهام مبهم أيضاً. ومنذ صدور القانون لا يستطيع المحامي الوكالة عن أي زبون أجنبي إلا بإذن من وزارة العدل. وصدرت قوانين مشابهة لتنظيم كل النقابات المهنية الأخرى التي كانت تتمتع بالاستقلالية.
هيثم المالح الذي كان جزءاً من فريق المحامين الذين دافعوا عن نشطاء المجتمع المدني العشرة الذين أوقفوا في آب وأيلول عام 2001 بمن فيهم البرلمانيان رياض سيف ومأمون الحمصي، واضح في قوله: " نقابة المحامين السورية هي تحت إمرة الحكومة كذلك نقابة المهندسين ونقابة الأطباء فلقد ربطوهم جميعاً بدولاب النظام" (2).
والمحامون الذين بقوا على عنادهم واجهوا إرهاقاً شديداً. فكان رجال المخابرات يقفون خارج مكاتب هؤلاء ليمنعوا الزبائن من دخولها وتوكيلهم بقضاياهم، أو ليضغطوا على القضاة باستمرار ليحكموا ضد مصلحة زبون أي محام معين (3).
محنة هيثم المالح
كان المالح عضواً في لجنة الحريات وحقوق الإنسان في نقابة المحامين بدمشق وكان أحد ضحايا هجوم النظام على المحامين، ودامت محنته سبع سنين. كان مكتبه في بناية جميلة مبنية من الحجر قبل سبعين سنة تقريباً في منطقة البرامكة بوسط دمشق. كانت البناية خلال الانتداب الفرنسي بيت رئيس المخابرات الفرنسية؛ والمالح رغم تاريخ حياته المؤلم وتقدمه في السن وهو أكبر عمراً بقليل من عمر مكتبه، لم يفقد شيئاً من شجاعته الكبيرة وكرامته الشخصية، ولقد استقبلني في غرفة ضيوفه وهي عبارة عن ساحة صغيرة مستطيلة الشكل أرضها بلاط وعليه كراسي مصفوفة، وعلى الجدران أشكال من خرز مشغول في ثلاثة أطر معلقة رائعة المنظر وهي نتاج أعماله خلال سنين السجن. وأكبر هذه الأطر الملون بالأخضر والأحمر عبارة (بسم الله الرحمن الرحيم) مؤلفة من (96000) خرزة، واحتاج المالح لانهائها ثلاثة أشهر. أما الإطار الثاني فآية من القرآن الكريم – على لسان سيدنا موسى إذ قال: في سورة القصص آية-16-(قال رَبّ بما أنْعَمت عليّ فلن أكونَ ظهيراً للمجرمين)
وهي بنصف حجم الإطار الأول واحتاج المالح لإنهائها ستة أسابيع. والإطار الثالث والأصغر يصور سيف العدالة وميزانها ويحمل عنوان: الحق والعروبة كذلك يظهر اسم المالح ومعه كلمات: (ذكرى الدفاع عن الحرية وسيادة القانون).
وبعدما حضّر لي الفنجان المعتاد من الشاي المحلى روي لي قصته. في البداية أوقف هو وزملاؤه في سجن المخابرات العامة في ساحة مستورة مشجرة يحيط بها صف من الشقق اللطيفة في منطقة التجارة، بشمال شرق دمشق ثم نقلوهم بعد ذلك لأحد مراكز المخابرات العسكرية في شقة فخمة في بناية أنيقة مبنية بالأحجار تسورها أشجار النخيل في منطقة الحلبوني قرب محطة سكة حديد الحجاز، نهاية الخط الحديدي
الضيق الذي بناه العثمانيون لنقل القوات والحجاج إلى المدينة (المنورة) فيما يعرف اليوم بالعربية السعودية. وكانت هذه البناية الأنيقة في يوم ما مسكناً للشيخ تاج الدين الحسني، رئيس الوزراء ثم بعد ذلك رئيساً لسورية خلال الانتداب الفرنسي. وهنا بقي المحامون المعتقلون أياماً قليلة فقط يتقاسمون زنزانة صغيرة في طابق تحت الأرض. وبعد إغلاق هذا (السجن) أصلحوا البناء وجدّدوه ليصبح سكناً ومكتباً لرئيس المخابرات محمد بشير النجار. وهذا الأخير نفسه اختلف مع النظام وهو يقبع الآن في السجن.
ونقلوا المالح وزملاءه بعد ذلك إلى رئاسة أركان المخابرات العامة: مجمّع قبيح الشكل به برج عال للاتصالات اللاسلكية في مستديرة (كفرسوسة) جنوب غرب دمشق محاط بسور عال ويضم المجمّع بناية المكتب المركزي وسلسلة من أبنية كأنها الخنادق، وعملاء المخابرات بثياب عادية يحرسون المبنى من الخارج ويحملون الرشاشات والبنادق الأوتوماتيكية من نوع كلاشنكوف ومتمنطقين بحزام يحمل الذخيرة – كما هو الأمر في كل مراكز المخابرات ومساكن رؤساء البوليس السري. بقينا في (كفرسوسة) لمدة طويلة – حوالي السنتين – هكذا كان المالح يستعيد ذكرياته، وأضاف أن بعض المهندسين احتجزوا هناك أيضاً في نفس الوقت. كان عشرون معتقلاً يعيشون في غرفة واحدة 4x4 أمتار وكنا محظوظين، إذ قال لنا الحراس أن أربعين معتقلا كانوا يحشرون في تلك الغرفة (4). وكان بعض الحراس أشراراً فاسدين بخاصة عندما كانوا يتعاطون المخدرات، كما قال المالح وأضاف مع أن بعضهم الآخر كان لطيفاً". أحدهم رفض أن يجلد السجينات على أخمص أقدامهن فكانت النتيجة أنه سجن هو نفسه".
وبعد (كفرسوسة) نقل المحامون إلى مبنى قديم أقيم في فترة الحكم العثماني مجاوراً لمقبرة منطقة الشيخ حسن في المدينة القديمة. وبعد ستة أشهر نقلوهم أيضاً إلى سجن القلعة العسكري في قلعة دمشق القديمة، على مرمى حجر من قصر العدل. ولقد أغلق هذا السجن عام 1984 وجددّت القلعة مُذّاك لتصبح مركزا جذابا للسياح. بقي المحامون في سجن القلعة لمدة عامين قبل أن يعادوا مرة أخرى إلى الشيخ حسن (والذي أغلق بدوره الان)، حيث مكثوا شهرين إلى ثلاثة أشهر. وبعد ذلك نقلوا إلى سجن عدرا المدني، على بعد 25 كيلو مترا شمال شرقي دمشق على طريق مدينة حمص حيث مكثوا هناك عامين كاملين. وفي أواخر عام 1986 نقلوا إلى سجن المخابرات العسكرية في الجمارك في الوسط الغربي لدمشق خلف فندق كارلتون تماماً. الجمارك، كفرسوسة، حلبوني، وعدرا: سجون مذكورة كلها في لائحة سجون دمشق التي تضم معتقلين سياسيين بتقرير لجنة (M.E Watch) وهي فرع من لجنة مراقبة حقوق الانسان ويلحظ التقرير أن اللائحة غير كاملة. كذلك يذكر التقرير ثمانية سجون ومراكز اعتقال في حلب (5).
في مجمع الجمارك النفعي القبيح بأبنيته المختلفة الملونة باللونين البني والأصفر، قضى المالح 36 يوماً كأحد أفراد مجموعة محامين تعدادها عشرة".كانوا يحضروننا للإفراج" كما يتذكر "وضعونا في زنزانة مساحتها 3x3 أمتار وفيها بيت خلاء وبالوعة وقال لنا الحراس "أنتم الان في فندق شيراتون" لأنهم في العادة يضعون ثلاثين معتقلا في نفس الزنزانة".ولا يستطيع الإنسان أن يتصور كيف يستطيع المساجين النوم في مثل هذه الحالة". وبدون إطالة، قال المالح، أفرجوا عنا، "بعد سبع سنين في السجن دون القيام بأي عمل غير شرعي، وكل ما فعله كان وفقاً للقانون" (6).
حالة الطوارئ المستمرة (الأحكام العرفية)
النظام القضائي في المواضيع غير السياسية يعتمد، بصورة ضعيفة على الشريعة الإسلامية (والدستور ينص: "على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع)، ويستند على قوانين، ما قبل الاستقلال من التشريعات العثمانية وبخاصة من القانون الفرنسي. وبنيته وطرائقه هي، بصورة عامة، غير استثنائية. والمحاكم المدنية والجنائية – مثل التي تعمل في قصر العدل – هي تحت رقابة وزارة العدل – والمتهم بريء.... حتى تثبت تهمته – ويستطيع المتهمون توكيل ممثل قانوني عنهم ويمكنهم مواجهة متهميهم في محاكم عامة، ويمكن للحكم أن يستأنف في محاكم المناطق أو المحكمة العليا – محكمة التمييز. وهناك محكمة إدارية في منطقة المزة غرب مدينة دمشق تبحث في دعاوى الخلافات بمواضيع القرارات للإدارة البيروقراطية في البلد. أما القضايا الشخصية والعائلية بما فيها الزواج والطلاق فتتولاها المحاكم الشرعية لكل الطوائف الدينية في سورية.
بعض القضايا الزواج والإرث مثلا تخضع لقوانين وطنية ولكنها تُبحث دائما في المحاكم الشرعية. بصورة عامة تحترم تقاليد كل الطوائف الدينية.
ولكن هذه البنية الرسمية القانونية محجوبة بنظام مواز وذي سلطات أقوى بكثير يتعامل مع التهم السياسية والأمنية. وفي قلب هذا النظام الأحكام العرفية المفروضة والمستمرة دون انقطاع منذ أواخر العام (1962) والذي يعطي النظام القائم وأجهزته الأمنية صكا أبيض مفتوحا لسلوك لا يحتاج حتى ادعاء اتباع الأساليب المرعية. أعلنت الأحكام العرفية بمرسوم تشريعي رقم (5) 51 في 22 كانون الأول 1962 وفي الأمر العسكري رقم (2) للثامن من آذار 1963 أعاد النظام البعثي إعلان الأحكام العرفية يوم استولى على السلطة "وأصبح رسميا بإصدار المرسوم التشريعي رقم 1 في اليوم التالي. وتعطي الأحكام العرفية سلطات استثنائية للحاكم (وهو هنا رئيس الوزراء) ونائبه (وزير الداخلية). إنهما يستطيعان تحديد حرية الحركة والتجمع، والتوقيف الاحتياطي لكل من يشك فيه أنه خطر على النظام والسلامة العامة، ومراقبة المراسلات والمواصلات الأخرى بأنواعها والإصدارات والإذاعات، وحجز العقارات وإغلاق أجهزة الإعلام.
ويضع القانون جدولاً بخمس حالات من المخالفات: مخالفة أوامر الحاكم العرفي، إساءات لأمن الدولة والنظام العام، إساءة للسلطة العامة إساءات تؤثر على ثقة الشعب بنفسه، ومخالفات تشكل خطراًً عاماً.
قانونية حالة الطوارئ مشكوك فيها. لقد اعتمد على المرسوم 51 للثاني والعشرين من كانون الأول 1962 ولكن هذا المرسوم يشترط أن تعلن حالة الطوارئ بمرسوم من الوزارة (جلسة وزارية) يترأسها رئيس الجمهورية ويجب أن يحصل اقتراح المرسوم على ثلثي أصوات – الوزراء – وأن يبلغ لمجلس النواب في أول جلسة له تعقد بعد ذلك". قانون الطوارئ في آذار 1963 أعلن كأمر عسكري. لم توافق عليه الوزارة ولا أبلغ به البرلمان. كذلك من المهم ذِكْر أن قانون الطوارئ يخرق الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية ICCPR - راجع سابقاً- والمبدأ المتعارف عليه جيداً أن القانون المحلي لا يستطيع أن يحبط تطبيق دولة ما لالتزامها بالقانون الدولي.
والحجة الرسمية لحالة الطوارئ هي التهديد العسكري الإسرائيلي. وفي آب من عام 2000 قدمت سورية للجنة حقوق الإنسان في هيئة الأمم المتحدة تقريراً عن التزامها بالميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية وأكدت في التقرير أن قانون الطوارئ: هو نظام دستوري استثنائي يعتمد على فكرة التهديد الأهم لوحدة البلد، تخول السلطات خلاله اتخاذ كل التدابير التي يوفرها القانون لحماية الأرض والجو والمياه الإقليمية للدولة كلياً أو جزئياً من الأخطار الناجمة عن عدوان خارجي مسلح، بتحويل بعض سلطات الإدارات المدنية إلى السلطات العسكرية (7).
وفسر التقرير أن سورية معرضة "لتهديد حقيقي من قبل إسرائيل منذ قيام هذه الدولة عام 1948. وان هذا الأمر أدى إلى حالة استثنائية استدعت التجنيد الاستثنائي السريع للقوى في الجمهورية العربية السورية وتبعاً لذلك إصدار تشريعات تؤمن قدرة الادارة على العمل السريع في مواجهة هذه التهديدات الوشيكة". وقعت سورية على الميثاق الدولي عام 1969 وصارت ملزمة قانونا بكل ما جاء فيه منذ بدأ تطبيقه فعليا عام 1976. والتقرير الذي قدمته سورية عام 2000 كان يجب تقديمه عام 1984.
والحقيقة أن حالة الطوارئ المعلنة في سورية لا علاقة لها كثيرا بتهديد إسرائيل بل هي – بلغة لجنة مراقبة الشرق الأوسط M.E Watch الآلية القانونية المركزية والتبرير لنظام القمع السوري" (8). وأضافت لجنة مراقبة الشرق الأوسط: "بعد ثمان وعشرين سنة (والآن 40 سنة) من حالة الطوارئ هناك اعتقاد غامر بأن (الطوارئ) هي حجة النظام لقمع المعارضة الداخلية الشرعية" (9).
المحاكم الخاصة
يعطي القانون حالة الطوارئ الحق لمحاكمة المخالفين في المحاكم العسكرية، والتشريعات التي صدرت في ظل هذا القانون تعتمد على هذا الحق. فالمرسوم رقم 6 لأول تموز 1965 أقام محاكم عسكرية استثنائية حيث الحرص على حقوق المتهم فيها أقل ولقد استعملت هذه المحاكم (عريناً) للقضايا السياسية. وخلق المرسوم أنواعاً من الجرائم بتحديدات مبهمة ومن ضمنها: "نشاطات تعتبر متعارضة مع تطبيق النظام الاشتراكي سواء كانت بالأعمال أو الأقوال أو الكتابة"."جرائم ضد أمن الدولة". و"معارضة وحدة الدول العربية أو أي هدف من أهداف الثورة أو إعاقة إنجازها" وفي آذار 1968 جاء المرسوم 47 باستبدال محكمة أمن الدولة العليا بالمحاكم العسكرية الاستثنائية لمحاكمة القضايا السياسية والأمنية ومحكمة الأمن الاقتصادي للتعامل مع قضايا الجرائم الاقتصادية. ويبين المرسوم بوضوح إن أساليب وقواعد عمل المحاكم الجديدة ليست محدودة بالتدابير التي تتخذ في المحاكم العادية. ولاحظت لجنة مراقبة الشرق الأوسط أن شواهد الإثبات فيها ليس لها أساس قانوني مثل "الإشاعات أو آراء المدعى العام" وأضافت اللجنة أن لا وجود لقواعد الإجراءات "لا يمكن الاستئناف أبداً - أي الاعتراض – على الأسس الإجرائية" ومحكمة الأمن الاقتصادي هي في قصر العدل. أما محكمة أمن الدولة العليا فتقع على بعد كيلو متر شمالاً قرب مدرسة باسل الأسد في شارع أبي ذر الغفاري وهو فرع من شارع 29 أيار أحد أهم الشوارع العامة بمدينة دمشق.
ونوع آخر من المحاكم الاستثنائية، المحاكم العسكرية الميدانية، وجاءت بمرسوم رقم (109) لعام 1986 الذي بين أن مثل تلك المحاكم يمكن إقامتها في أي مكان خلال المواجهات المسلحة مع العدو. والواقع استعملت هذه المحاكم فقط للتخلص من أعداء النظام بخاصة عند قمع التمرد المسلح 1976-1982.
وكان تعليق لجنة مراقبة الشرق الأوسط على هذه المحاكم الاستثنائية الجديدة كما يلي:
"المحاكمات مغلقة – سرية- وقراراتها قطعية لا تقبل الاستئناف وفي أحسن الأحوال تعين المحكمة نفسها ممثلا قانونيا للدفاع عن المتهم. وبعد الوصول للقرار على رئيس الجمهورية الموافقة عليه وهذا أمر محسوم سلفاً. والرئيس أو وزير الدفاع في حالة المحاكم الميدانية – هو الذي يعين القضاة وليس مشترطاً على هؤلاء القضاة أن يكونوا من الحقوقيين وأغلب الأحيان هم من خارج هذا السلك. وأكثر هؤلاء القضاة من الضباط العسكريين، أو من قيادات حزب البعث وأمثالهما. فالمحاكم إذن هي خارج إطار النظام القضائي تماماً. أما قراراتها فتبدو عادة أنها متخذة مقدما من أجهزة الأمن التي قامت بتوقيف – وسجن – المتهمين. وفي مثل هذه المحاكم يكون الحكم المعجل هو الأمر – اليومي" (11).
والشيء غير المعقول هو أن تقرير سورية - الذي ذكر قبلاً – إلى لجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة في آب عام 2000 يؤكد: " مبدئيا تشكيل محكمة أمن الدولة العليا (والتي تضم أيضاً محكمة الأمن الاقتصادي) والاجراءات المتبعة فيهما لا تختلف عن تكوين وإجراءات المحاكم العادية التي لها حق اصدار الأحكام النهائية"(12). ويتابع التقرير جزمه، بوقاحة مماثلة "إن للمتهمين الذين يمثلون أمام هذه المحكمة نفس الضمانات لحقوقهم في الدفاع كما لو قدموا إلى المحاكم العادية" (13).
وهذه ليست المناسبة الوحيدة التي يصعب التصديق على أن هذا التقرير هو في الواقع عن سورية. وفي جزء يتحدث عن حكم الإعدام مثلا، أبلغ التقرير الأمم المتحدة (لجنة حقوق الإنسان) أن آخر حكم بالإعدام صدر في سورية كان في 2 آب 1987 على سميح فهد عواد الذي ثبتت جريمة اشتراكه في قتل والده. وآخر محاكمة أصدرت حكما بالإعدام كانت في 6 حزيران 1993 ضد الشخص نفسه (14).
ويسجل التقرير أنه لم ينفذ حكم الإعدام أبداً بشخص لم يصدر بحقه حكم نهائي أو قبل إنهاء الإجراءات القانونية اللازمة لتنفيذ الحكم بعدما صار نهائياً" (15) هذا التقرير يصدر عن نظام تقول عنه لجنة مراقبة حقوق الإنسان عام 1991، إنه "قتل على الأقل عشرة آلاف من مواطنيه في السنوات العشرين الماضية" ويستمر في القتل بالمحاكمات الميدانية الجماعية والعنف المطبق في السجون". والذي يعذب بصورة روتينية المعتقلين ويوقف الآلاف بدون تهمة أو محاكمة" (16).
لا شك أن سلوك النظام قد تحسن بصورة واضحة منذ أوائل عام 2000 بخاصة لما استلم بشار الأسد الرئاسة في تموز 2000، ولكن الإساءات لا زالت مستمرة وبنية القمع وأجهزته لا زالت كما كانت بدون خدش.
يمكن التصور أن السلطات المتلهفة دائماً لتأكيد التزامها بحكم القانون تنتبه لاحترام الذرائع القانونية المحكمة الكاسحة التي اخترعتها لتخويف وإسكات المعارضين.
ولكن الأمر لم يكن كذلك، فكثيرا ما أوقف ضباط المخابرات الناس بدون تفويض قانوني موقّع من حاكم قانون الطوارئ كما هو مطلوب في قانون الطوارئ ذاته. أحياناً يستعمل التفويض القانوني الموقع سلفاً أو حتى بدون توقيع وهكذا لا يحتاج ضباط المخابرات إلا وضع اسم من يقبضون عليه في التفويض القانوني الممهور... سلفاً. ولقد نقلت لجنة مراقبة الشرق الأوسط قبل أكثر من عقد من الزمان... في عام 1991 -! يجب التأكيد – كما قالت اللجنة آنذاك – أن المخابرات تتجاهل المحاكم كليا ولا تهتم ولا تبالي لا بالاتهام الروتيني ولا بالمحاكمة.(17)
ولجنة مراقبة الشرق الأوسط (عام 1991 أيضاً) أوجزت خطياً تقدم النظام القضائي السوري خلال فترة حكم البعث هكذا: " من خلال سلسلة من الخطوات التي بدأت بظل قانون الطوارئ واستمرت من خلال المراسيم والعمل الإداري، انتقل النظام من بعض الشرعية إلى إهمال كامل للشرعية: من محاكم إلى محاكمات ميدانية مختصرة... الى... لا محاكم" (18). اقترب الحال بصورة مزعجة إلى حال دولة (أوسيانيا) الوهمية في كتاب (جورج أورل) الشهير – 1984- ألف وتسعمائة وأربع وثمانون حيث الاحتفاظ بمذكرات شخصية يومية لم يعد غير قانوني.لم يعد هناك شيء غير قانوني لأنه لم يبق هناك أي قانون، ولكن إن اكتشفت المذكرات فمن المؤكد – جدلاً – أن يعاقب صاحبها بالإعدام أو على الأقل بـ (خمس وعشرين سنة) سجن في معسكر الأشغال الشاقة (19)، حيث يحصل التوقيف بصورة دائمة في الليل... وفي أغلب الحالات لم يكن هناك محاكمة، ولا تقرير حتى عن التوقيف. فالناس بكل بساطة يختفون، دائما خلال الليل" (20)
وبينما اعتمد النظام – الحاكم – بقوة على قانون حالة الطوارئ لسحق المنشقين- المعارضين- في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، حاول النظام أن يصور نفسه متمسكاً بحكم القانون إلى حد أنه انتقد البنية التي خلقها هو نفسه. في 27 أيلول 1979 الجبهة الوطنية التقدمية التي هي أسيرة بالكامل لحزب البعث (راجع الفصل الخامس)، أصدرت إعلانا طناناً تطالب النظام "بالتطبيق الصلب لمبادئ سيادة القانون وتقوية السلطات القضائية المستقلة واحترام وتنفيذ الأحكام العدلية الصادرة وحصر سلطات القضاء في محكمة أمن الدولة العليا بالجرائم ضد أمن الدولة فقط" (21).
وفي الخطاب الذي وجهه حافظ الأسد نفسه للمؤتمر القطري السابع لحزب البعث في كانون الثاني 1980، (ومن المؤكد أنه ليس هناك إنسان آخر أكثر مسؤولية منه عن سوء معاملة الناس وظلمهم) طالب "بسيطرة المحاكم العادية على المحاكم الخاصة بأسرع ما يمكن".
وكشف "أن (الأوامر) صدرت لمحكمة أمن الدولة العليا بتحاشي النظر في أي حالة لا تتعلق بالأمن" (22)، وبعد عقد من ذلك التاريخ قال نفس الكلام. وبما أن سلطته الشخصية كانت مطلقة يمكن للإنسان أن يستخلص أن نداءاته –أو أوامره- كانت بتعبير مُلطّف- خداعاً.
وعام 1990 نقلت بعض أنواع الجرائم الاقتصادية من محاكم الأمن الاقتصادي إلى المحاكم العادية ولكن ذلك لم يعن نهاية محاكم الأمن الاقتصادي أو أن محكمة أمن الدولة العليا تنظر فقط بما يمكن تسميته – عقلاً – بحالات تتعلق بالأمن الوطني بمقابل أمن النظام. ربما كان من الصعب حدوث مثل هذا التدمير لحكم القانون في سورية لو كان العنصر الرئيسي في النظام القضائي – المحكمة الدستورية العليا – فاعلاً مؤثراً. وينص الدستور أن هذه المحكمة، التي تنظر فقط في الخلافات الانتخابية ودستورية القوانين والمراسيم مؤلفة من خمسة أعضاء "أحدهم يتسلم رئاستها،كلهم يعينون بمرسوم يصدر عن رئيس الجمهورية". لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد. ومثل أي "كيان" آخر في النظام السياسي والإداري للبلد، فالمحكمة الدستورية العليا هي صنيعة النظام وعلى الأخص صنيعة الرئيس.
وقبضة الرئيس على (القضاء) مضمونة أيضاً من خلال رئاسة مجلس القضاء الأعلى الذي يعين ويسرّح وينقل القضاة. والمجلس مكون من كبار رجال القضاء المدني، والمجلس هذا مسؤول، كما جاء في الدستور عن "مساعدة رئيس الجمهورية لضمان استقلالية القضاء. ومثل أي شيء آخر في سورية، إنه تلاقح بين (كافكا) و(كاتش 22)، مع بعض المقادير من (مركيز Marquez) و(دالي (Dali.
"إن الحكم الشخصي لحافظ الأسد استنزف حكم القانون وجعل استبداده ممكناً" هكذا علقت لجنة مراقبة الشرق الأوسط في تقريرها عام 1991، والذي بقي صحيحا إلى حد كبير، اليوم".فالولاء أصبح أكثر أهمية من الشرعية". وفي سيرة حياة حافظ الأسد التي كتبها المؤرخ البريطاني (باتريك سيل)، وهي ليست غير ودية بالنسبة لسياسة الراحل حافظ الأسد الخارجية على الأقل، ذكر (سيل) نفس الشيء تقريباً.
لم يكن هناك استقلال حقيقي للقضاء ولا حرية للإعلام ولا لحرية الاجتماع والتعبير ولا استقلال ذاتي في الجامعات... الناس يتشوقون لقوانين يحترمها الجميع، وبغياب هذه القوانين يبدو آخر الأمر أن الحماية الوحيدة –الباقية– تكمن في التقليد العربي (الوساطة) أي أن يكون لك صلة بالمراكز العليا لتتدخل هذه لصالحك (24).
نظام يتحدى ذاته
على مقربة من قصر العدل المختبر الأهلي والذي هو مغلق حالياً. إنه مختبر تحاليل طبية يملكه طبيبان. أحدهما طبيبة تعيش في دمشق. أما الثاني فلقد هرب إلى ألمانيا بعدما لاحقته المخابرات بسبب معتقداته في الإسلام السياسي.
ويبدو أن الرغبة في معاقبته جعلت وزارة الداخلية تأمر بإغلاق هذا المختبر وإرسال البوليس لتنفيذ هذا الأمر واشتكى أصحاب المختبر لمحكمة القضاء الإداري التي حكمت بصورة قاطعة لصالح المشتكين."وفي قراراها هذا ألغت المحكمة أمر وزارة الداخلية بإغلاق المختبر" كما قال لي هيثم المالح الذي كان هو نفسه وكيلاً عن أصحاب المختبر".كان حكم المحكمة قبل أربع سنوات واستمرت وزارة الداخلية في رفضها لتنفيذ حكم القضاة مع إنه يحمل نفس وزن القانون" (25).
حالة أخرى تتعلق بقطعة أرض من الأملاك الخاصة التي تستعملها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل كموقف للسيارات منذ عقود. وقبل ثلاثين سنة أبلغ صاحب الأرض وزارة العمل أنه يريد بناءها ولكن الوزارة رفضت تسليمها ورغم أن صاحبها حصل على حكم من المحكمة لصالحه في القضية استمرت الوزارة في التمسك بالأرض. والمسؤلون في الوزارة راهنوا على الوقت بقبولهم بحث الموضوع... ولم يفعلوا شيئاً بعد ذلك أو أنهم طلبوا مالاً لينفذوا قرار المحكمة. ومثل هذا التحدي الفاضح للقانون كان (طبيعيا) كما قال المالح "كثير من المحامين كانت لهم نفس التجربة في قضايا مرفوعة ضد مؤسسات حكومية".
وأثير نفس الموضوع في رسالة مفتوحة لبشار الأسد أواخر عام 2000 وقعها سبعون محامياً. لقد اشتكوا من أن معظم إدارات الدولة والمنظمات والوزارات بخاصة وزارة الدفاع ووزارة الداخلية لا تنفذ قرارات المحكمة والرسالة المفتوحة هذه هي عرض متميز للاستقلال بالنظر لكيفية تعامل النظام مع المحامين في السابق (راجع أعلاه).
والرسالة تذكر أن المراسيم التي صدرت عام 2000 وتسمح للمتهمين بجرائم اقتصادية بالخروج من السجن بكفالة، وعفت عن مخالفات تهريب العملات، وكلها قد استهزيء بها حتى من قبل المحاكم نفسها. وفيما سمحت محكمة الأمن الاقتصادي للمتهمين بالخروج من السجن بكفالة طالبت بمبالغ كبيرة أكثر مما تستطيعه إمكانات المتهم. وأمر وزير العدل قضاة المحكمة بألا يطلقوا سراح أي مسجون قبل أن يقضي عدة أشهر في سجنه دون اعتبار للجرم المتهم فيه حتى ولو لم يثبت عليه التهمة وكان بريئاً بالفعل" هذا ما قاله المحامون.
ومع أن عقاب من يغير (يصرف) مبالغ تصل إلى مئة ألف ليرة سورية في السوق السوداء قد خفض إلى مصادرة المبلغ ودفع الجزاء، "استمرت محكمة الأمن الاقتصادي بسجن المتهمين بهذا الجرم" حسب قول المحامين. كذلك استمرت المخابرات في اعتقال المتهمين بالتهريب وصرف العملات بالقطع النادر، التي شملها مرسوم العفو.
"لم تطبق القانون على من تعتقلهم ولا تحولهم على القضاء لمحاكمتهم."وذكرت الرسالة: "بل على العكس استمرت في اعتقالهم... ومددت فترته وشكى المحامون أيضاً من رفض البوليس ووكالات الأمن السماح للمعتقلين بلقاء المحامين. ومع تأكيدهم على دعم برنامج بشار "لتحديث كل أوجه المجتمع بما في ذلك أهم شيء: القوانين التي تنظم وتوجه المجتمع". وألح المحامون على أن القضاة وغيرهم من رجال القضاء لهم دور مركزي يلعبونه في مناقشة موضوع تحديث جهاز القضاء. ولاحظوا أن وزارة الإعلام استبعدت القضاة عن المناقشة بإصدارها الأمر "بمنعهم من مناقشة أي قانون في أجهزة الإعلام دون موافقة الوزارة".
مقاضاة مختارة
يقوض النظام القائم الاحترام للقوانين عندما يستغل التشريعات اختيارياً لكي يدمر من يرى أنهم أعداؤه.
والفساد في سورية هو وجه مقبول ضمنا بصورة عادية روتينية وغالباً ما يعني الفرق بين العيش فوق خط الفقر أو مواجهة مصاعب حقيقية. ورغم أن الحملات ضد الفساد تجري بصورة دورية ولكن الغرض منها في الأساس هو تهدئة الرأي العام، الذي قد يقبل مخالفات مالية صغيرة إلا أنه لا يستسيغ أخذ العمولات التي أغنت بصورة - مفتوحة - كبار وجوه النظام.
وأهل قمة الهرم الحاكم لا يستطيع أحد المس بهم لذا حملات مكافحة الفساد محدودة النتائج تبعاً لذلك.
وعندما يقرر النظام أن يقوض سياسياً وجوهاً مهمة فيه يصبح توجيه تهم للمخالفات المالية، السلاح المناسب لذلك. والقوانين التي تجاهلوها عادة يرجع فجأة إليها بقوة ضد من يستهدفه النظام. والقضية الكلاسيكية كانت قضية رئيس الوزراء السابق محمود الزعبي الذي اعتقل لاتهامه بقبض الرشوة، وانتحاره بعد ذلك (راجع الفصل الاول). ولم يكن مفاجئاً أبداً أن يتهم النائبان رياض سيف ومأمون الحمصي اللذان سجنا لنشاطهما في حركة المجتمع المدني، بالتهرب من دفع الضرائب من قبل السلطات الحاكمة، رغم أن هذه التهمة لم تكن ضمن الاتهامات الرسمية الموجهة إليهم.
والمثل الصارخ الآخر عن كيفية استفاقة السلطات فجأة وحماسها لتطبيق القانون أواخر العام 1999 عندما انفجر الخلاف المزمن بعنف بين حافظ الأسد وأخيه الأصغر رفعت (راجع الفصل الأول) حيث أُغلق ميناء غير شرعي كان يستعمله رفعت قرب مرفأ اللاذقية في الشمال...
وذكر البيان الرسمي أن رفعت تجاهل سلسلة من مراسيم وزارة المواصلات عام 1995 تأمره بتدمير المرفأ الخاص به- وهدم مجمع الأبنية التي أقيمت على أرض مساحتها (11410) متراً مربعاً من أملاك الدولة. وأخيراً أرسلت الشرطة في تشرين الأول عام 1999 لإغلاق المرفأ بالقوة – مع المباني التابعة له- فواجهوا نيران أسلحة خفيفة وانسحبوا. فهاجمت عندئذ قوات الأمن المكان واحتلت الميناء في عملية راح ضحيتها قتيلان. بعد ذلك حذر وزير الإعلام آنذاك: محمد سلمان أن رفعت قد يواجه إتهاماً جرمياً إذا عاد إلى سورية.
"كان الأمر تنفيذا لحكم القانون" هكذا قال لي مسؤول في وزارة الإعلام آنذاك، مستحضراً مقالة بدأت السلطات حديثاً بنشرها بالبلاغة الإنشائية المعهودة عن تحرير الاقتصاد.
ولم يجر أي تفسير أبداً للسؤال التالي: لماذا سكتت السلطات عن المرفأ غير الشرعي لأربع سنوات إذا كانت تحترم قوانينها؟
والحقيقة أن رفعت الذي عاد من منفاه في أوروبا عام 1992 سعى لتحسين صورته في الرأي العام بطريقة شعر أخوه حافظ أنها مهينة، كذلك لم يستوعب رفعت الإشارة في شباط 1991 عندما جرد من لقبه - رغم أنه أجوف - كنائب للرئيس لشؤون الأمن. وعام 1999 حضر رفعت جنازة الملك الحسن ملك المغرب. كذلك أدى فريضة الحج بمكة وظهر على التلفزيون مع ابنه (سومر) حين استقبلهما أعيان الحكومة السعودية، و(سومر) نفسه زار ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية. وقبل شهر من حادثة المرفأ غير الشرعي في اللاذقية، اجتاحوا مكتبه في وسط دمشق وأخذت وثائق عن لوائح من استلموا – منه أموالاًَ.
وفي ذلك الوقت ترك رفعت سورية منفياً مرة ثانية".وفي سياق خلافة الرئيس الأسد، والتي كانت تطبخ على نار حامية، عمل حافظ الأسد على إزالة كل العقبات لنقل السلطة إلى ابنه بشار؛ والسعي لتحسين "صورة رفعت لدى الرأي العام اعتبرت إنها زادت عن الحد المقبول" هذا ما قاله أحد المراقبين المحليين أواخر عام 1999.
الفساد
العيوب على مستوى المفاهيم والإجراءات ليست هي وحدها المشكلات التي تواجه النظام القضائي في سورية إنه مُربَك مشوش بسبب عقود من إساءة استعمال النظام الحاكم له، والذي لا يعبأ بالقانون ولا يريده إلا أداة للقمع والإكراه. وينخر فيه موظفون رسميون يدينون بوظائفهم للصلات العائلية أو المحاباة الحزبية، ويثقل كاهله (كادر) من الموظفين ضعيفي الراتب، وهو معرض للفساد مثل غيره من أجهزة النظام.
ورغم أن جهاز القضاء العادي يظهر الكثير من الاستقلالية في القضايا المدنية فإن الارتباطات السياسية والرشوة تؤثر أحياناً على صدور الأحكام. هذا ما ذكره تقرير عن حقوق الإنسان في سورية الصادر في أيار عام 2002 عن وزارة الخارجية الأميركية، بأسلوب ملطف (26)
"القضاء السوري قبل فترة الجمهورية المتحدة (1958-1961) كان من الأنظف والأدق والأكثر موضوعية في الشرق الأوسط"؛ هذا ما صرح به البروفسور محمد عزيز شكري رئيس دائرة القانون الدولي في جامعة دمشق وأحد الخبراء القانونيين الأكثر تقديراً واعتباراً في سورية؛ "والآن هو من أوسخها وأقلها كفاءة ومهارة وهو تحديداً فاسد. اليوم يمكنك الوصول إلى القضاة إما عن طريق العلاقات العامة أو عن طريق المال مفسراً أنه عنى بالعلاقات العامة: الصداقات وشرب الخمر والنساء" وتابع: أنا أعرف عن بعض المحامين أنهم لا يفهمون شيئاً في القانون ولكنهم يربحون كل القضايا، وأعرف أن هؤلاء المحامين – وأمتنع عن ذكر الأسماء – يتسلمون مليون ليرة سورية – (19230 جنيه إسترليني) - كدفعة أولى.
هؤلاء المحامون يتعاملون مع تهريب المخدرات والقتلة والمؤامرات على الدولة. حقا القضايا الكبيرة والثقيلة. الفساد موجود "في كل المحاكم حتى التي تسمى (عسكرية) (محكمة أمن الدولة العليا ومحكمة الأمن الاقتصادي). وقال: "والغالبية العظمى من القضاة الجيدين هم إما في التقاعد أو إنهم سرحوا من وظائفهم".
لقد ذكر لي مصدر سري داخل النظام القضائي أن في المحاكم الجنائية ومحاكم الأمن الاقتصادي تنتشر الرشوة وتؤثر على (80% إلى 100%) من القضايا المرفوعة". ورغم أن الرشوة لا تستطيع تغيير الحكم في القضايا الجنائية "إلا إذا كان الأمر متعلقاً بإنسان (فوق القانون)؛ ولكنه أضاف: مهما كانت القضية، كلما كان المتهم أغنى أو أكثر نفوذاً كلما ازداد احتمال الرشوة". والأسعار محددة إلى حد ما، وهناك سلّم للاتهام والمدفوعات كما قال". ممارسة البغاء 500$ دولار، التهريب 20% من قيمة المهربات، القتل بين 1000 و2000 دولار، التزوير: 20% من قيمة المسروقات. وبدل أن يستلم القضاة المدفوعات مباشرة فإنهم يستعملون الوسطاء، وكل قاض له وسيطه".
"إذا دهس أحدهم بسيارته شخصاً بريئاً فقتله "يرشي القاضي ليخرجه بكفالة حتى يتدبر الأمر ويصل إلى اتفاق مع عائلة الضحية. وفي مثل تلك الحالة يوفر القاتل على نفسه شهوراً في السجن. هذا ما ذكره لي المصدر السري.
كان الفساد محدوداً نسبياً في القضايا المدنية لأنه من الصعب تزوير الإثبات كما قال لي: "وأفضل ما تأمله (بالرشوة) هو تأخير إصدار الحكم القضائي ضدك أو إطالة مدة بحث القضية في المحكمة.
لا تغيير في عهد بشار
في خطابه لدى افتتاح البرلمان في 17 تموز عام 2000 أكد الرئيس بشار الأسد مجدداً التزامه بالتنمية والتحديث وركز على أهمية القضاء والحاجة لتوفير ما يلزمه من كوادر نظيفة فاعلة حتى تستطيع لعب دوره في ضمان العدالة وحماية حرية المواطن ومراقبة تنفيذ القوانين". وتوجه لحكومة محمد ميرو التي تشكلت 22 كانون الأول 2001 معلناً "يجب ألا يكون هناك أحد فوق القانون" (28).
كلمات جميلة ولكن في خريف عام 2002 لم يكن هناك أية إشارة لتحرك جاد لإصلاح جهاز القضاء والنظام العدلي وبخاصة إلغاء قانون الطوارئ السيء السمعة... وبدلاً عن ذلك أعاد الرسميون فقط الحجج القديمة المتعبة لتبرير غياب كلي تقريبا للعملية القانونية.
في مؤتمر عقده وزير الإعلام عدنان عمران في 29 كانون الثاني 2001 أعلن أن قانون الطوارئ- مجمّد فعلياً – وأن تهديد إسرائيل هو سبب استمرار هذا القانون (29) والخط نفسه هو الذي اتبعه قبل ذلك تقرير سورية إلى لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة والتزامها بالميثاق العالمي للحقوق المدنية والسياسية".رغم أن قانون الطوارئ لا يزال قائماً، فالواقع أنه معلق ولا يطبق إلا في حالات معدودة تتعلق فقط بالإساءة لأمن الدولة"(30).
والكذبة الأساسية في هذا الادعاء توضحت في اعتقال نشطاء حركة المجتمع المدني في آب وأيلول عام 2001. وبينما اتهم وحوكم النائبان رياض سيف ومأمون الحمصي في المحكمة الجنائية، فالموقوفون الثمانية الآخرون قد اعتقلوا حسب قانون الطوارئ وحوكموا في محكمة أمن الدولة العليا. ولاحظ المعلقون أن معاملة الحمصي وسيف اختلفت عن الماضي حيث كانت أحكام قانون الطوارئ التي تطبق في مثل حالتيهما. الحقيقة أن التغيير كان أكثر في الأسلوب وليس في المادة أو المحتوى. والفرق الآن كما قال هيثم المالح أنهما أحيلا لمحاكم عادية بدل محاكم أمن الدولة ولكنه أضاف محاكم عادية تضبطها الدولة ولا خطر فيها على النظام (31). هل يتوقع المالح إلغاء قوانين الأحكام العرفية قريباً؟ لا لا لا يمكن – هذا ما قاله لي– وأضاف " السلطات تحتاج هذه القوانين إنهم يشعرون إنها تحميهم" (32).
قال ذلك في كانون الاول عام 2001 وفي أواخر آب الذي تلى عرف المالح أن المخابرات تخطط لدعوته لزيارتها فهرب في الحال قبل أن تصدر محكمة عسكرية أمراً باعتقاله واعتقال ثلاثة آخرين من ناشطي الجمعية السورية لحقوق الإنسان: محمد فاروق الحمصي، محمد خير بك وغصوب على الملا، والسبب هو نشرة الجمعية والتي تصدرها بدون إذن رسمي واسمها تيارات وهي مجلة تعنى بالناحية القانونية لحقوق الإنسان. وأتهم الأربعة بتوزيع منشورات ممنوعة ونشر إشاعات خاطئة وتشكيل جمعية سياسية غير مرخصة وبإصدار مواد قد تسبب عدم الاستقرار في البلاد. وفي أيار 2002 علقت عضوية المالح وأنور البنى – وهو محام يساعد في الدفاع عن المعتقلين من حركة المجتمع المدني – لثلاثة أشهر – في نقابة المحامين، انتقاماً منهما لأنهما علقا على محاكمة النائبين رياض سيف ومأمون الحمصي.
وبعيداً عن موضوع حقوق الإنسان، فإن فشل النظام القانوني في سورية له تأثيرات اقتصادية عميقة؛ وفي رد على حركة المجتمع المدني أكد الرئيس بشار الأسد أن الاقتصاد هو أعلى أولوية وأن على الديمقراطية وحقوق الإنسان انتظار دورهما بعد ذلك...
ولكن الناشطين الداعين للديمقراطية يؤكدون بدورهم أن الأمرين –الديمقراطية والاقتصاد– مرتبطان بصورة لا فكاك منها. ويحذرون بصورة خاصة أن المستثمرين الأجانب الذين تحتاجهم سورية بصورة كبيرة يتحاشون الدخول لأسواق سورية ما لم يطمئنوا على/ ويثقوا في الجهاز القضائي العدلي فيها (راجع الفصل الثاني).
وجاء الدعم القوي لهذه المقولة من تقرير التنمية البشرية في بلاد العرب لعام 2002 الذي يرعاه برنامج الأمم المتحدة للتنمية والذي قدم تحليلاً مدمّراً لأسباب تخلف المنطقة بالمقارنة مع مناطق العالم الأخرى؛ وهذا التقرير يثبت أن التقدم الاقتصادي والبشري يحتاج شفافية حكم القانون ولنظام قضائي عادل بصورة واضحة، والى جهاز عدلي سريع الحركة وقضاة فاعلين ومهنيين.
والدعم الإضافي لنشطاء المجتمع المدني جاءهم من افتتاحية في نسيان 2002 في مجلة (الانترنت) تقرير سورية. وكان فيه موضوع خلاف بين الشركة المصرية أوراسكوم التي تشغل (سيريا تل) وهي واحدة من شركتين مرخص لهما العمل في سورية، وبين شريكها السوري إذ ادعت (اوراسكوم) أن السلطات القضائية – السورية منحازة إلى الشريك السوري (رامي مخلوف) ابن محمد مخلوف خال الرئيس بشار الأسد. والوعي الواسع بغياب استقلالية القضاء في سورية يجلب بشدة انتباه المستثمرين المحتملين الاجانب، كما يذكر تقرير سورية.
هل ستحفظ مصالح هذه الشركة الضخمة (أوراسكوم)؟ أم ان تعاملها الطويل واستثماراتها ستنتهي وتستبعد بكل بساطة؟ والملاحظ أنه بعد أحد عشر عاما على اصدار القانون رقم 10 الذي يقدم الحوافز للمستثمرين الأجانب تبقى نسبة الاستثمار المباشر الخارجي والخاص حوالي 13% فقط؛ "والسبب في ذلك بسيط، ولا علاقة كبيرة له بقوانين الاستثمار وحوافزها المختلفة. ما يتطلع إليه المستثمرون الأجانب هو جهاز قضائي عدلي صالح ومستقل".