سوريا ...لا خبز ...ولا حرية 8
سوريا ...لا خبز ...ولا حرية 8
د.خالد الأحمد *
نشر الصحفي البريطاني ( آلن جورج ) هذا الكتاب بالانجليزية عام (2003) وترجم إلى العربية من قبل الدكتور حصيف عبد الغني عام (2006) وهذه مقتطفات من الكتاب كالخلاصة ، ومابين المعقوفتين للباحث الحالي .
الفصل الثامن
[التـربيـة في النظـام الأسـدي ]
على شبكة الحاسوب في وزارة التربية مقتطفات من كلمات للراحل حافظ الأسد – دون تأريخ – يعلن فيها أن من أهداف التربية "تعزيز عبادة الوطن وغرس القيم القومية في أذهان المواطنين والطلاب... وكذلك دستور عام 1973، فالمادة (21) تؤكد "النظام التربوي والثقافي يهدفان إلى خلق جيل اشتراكي قومي عربي علمي مرتبط بتاريخه ومعتز بتراثه ومملوء بروح النضال لإنجاز أهداف أمّتة في الوحدة والحرية والاشتراكية، ليخدم الإنسانية وتقدمها.
في المدارس الابتدائية على التلاميذ الانخراط إجباريا (في طلائع البعث). والشعارات التي ينشرونها بانسجام تام هي "بالروح بالدم نفديك يا حافظ" وفي عمر تسع سنوات يحضرون المعسكرات الصيفية حيث التدريب [العقائدي ]. وفي المدارس المتوسطة والثانوية ينضمون إلى اتحاد شبيبة الثورة – اختيارياً – لأنهم يحصلون في الاتحاد على امتيازات هامة بما في ذلك علامات إضافية في امتحانات الشهادة الثانوية".هذه تشبه تماماً الشبيبة النازية" هكذا يتذكر صبحي حديدي الكاتب والناقد السوري المنفي الذي مر في هذه الفترة الطلابية وتخرج من جامعة دمشق بليسانس أدب إنكليزي عام 1974. كل هذه التوجيهات والتدريبات – من أجل الولاء للزعيم ...إلى درجة أنّه يصبح من واجباتك أن تبلغ السلطات عن أي سلوك سياسي مخالف يقوم به زملاؤك .
الجامعات
التسجيل في الجامعات يتوقف على نتائج امتحان البكالوريا الموحدة، إلا أن العوامل السياسية قد تلعب دوراً كبيراً. بخاصة وأن ربع المقاعد فيها محفوظ لأعضاء اتحاد شبيبة الثورة. وفي الماضي كان للبعد السياسي تأثير أكبر على ما يبدو. في عام 1975 عين المؤتمر القطري السادس لحزب البعث أخا الرئيس الأسد رفعت الأسد، وكان ثاني أقوى رجل في سوريا، رئيساً لمكتب الدراسات العليا في القيادة القطرية والذي يشرف على كل الدرجات العليا و احتفظ بالمنصب حتى عام 1980. وكان من ضمن مشاريعه: مشروع لتدريب الشباب والفتيات كمظليين ومِظلّيات لتحضيرهم لمعارك المستقبل، دفاعاً عن وطنهم. وكتعويض عن فترة التدريب أعطي هؤلاء علامات إضافية في علامات الشهادة الثانوية. وبما أن التسجيل في كليات الطب وطب الأسنان (وهما الكليتان الأكثر طلباً لحملة الثانوية) يعتمد على علامات امتحان الشهادة الثانوية، كان لهذه العلامات الإضافية تأثير حاسم على القبول في هاتين الكليتين. وفي الجامعات، عضوية اتحاد شبيبة الثورة وهي اختيارية مع عضوية الحزب تساعدان بالتأكيد. وكلاهما يوفر للعضو لائحة من الفوائد بما فيها السكن الرخيص والسفر والبعثات. ومثل طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة يلعب اتحاد الطلاب دوراً هاماً في القهر والإكراه. ولقد امتدح الاتحاد لاكتشافه "القوى المعادية للحزب وللثورة". وكان من مهامه المتوقعة التقييم السياسي للطلاب السوريين الذين يدرسون خارج سورية ومراقبة العناصر المعادية بينهم". النظام التعليمي هو فقط أداة أخرى من أدوات النظام هذا ما ذكره صبحي حديدي "وبخاصة على المستوى الجامعي، لأن التعليم (الابتدائي والمتوسط والثانوي) مجاني بينما لائحة الفوائد المتاحة في الجامعات توفر أساليب أخرى للتلاعب بالطلاب" .
وعلى أساس أن إمكانيات الجامعات الأربع تصبح مصدراً لإثارة الاضطرابات ضد النظام، عمد الحزب لإنشاء فرع كامل للحزب في كل جامعة. ورغم أن عدد أعضاء الحزب في كل جامعة قد لا يتعدى بضعة آلاف فالتنظيمات الحزبية فيها توازي فرعاً من فروع المحافظات أو الأقضية حيث يبلغ تعداد الأعضاء عشرات آلاف. ورغم أن هذا هو أقل مما كان في الماضي، إلا أن لدى فروع الحزب في الجامعات الأربع نفوذ مثل السلطات الرسمية في الجامعة. ومسؤولياتها بلا حدود ومن ضمنها الموافقة على تعيين المدرسين.
والجامعات مشبعة بالمخبرين والمخابرات والبوليس السري حتى أكثر من المؤسسات الرسمية الأخرى. ولدى فرع الطلاب للأمن السياسي، مسؤولية خاصة هي مراقبة مؤسسات التعليم العالي. والضغط شديد على كل الكليات للتكيف والتطابق كما تقول لجنة مراقبة الشرق الأوسط في تقريرها،
كان طلاب جامعة دمشق هم أول من تظاهر ضد الحركة التصحيحية لحافظ الأسد في تشرين الثاني 1970 وهم يهتفون لتسقط الديكتاتورية "لتسقط الأنظمة العسكرية". وتقول التقارير أن خمسين طالباً منهم قد اعتقلوا ، وكانت الجامعات المراكز الأهم للمعارضة وتبعاً لذلك القمع في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات عندما واجه النظام مداً معارضا كان من ضمنه التمرد المسلح للإخوان المسلمين.
وفي خريف 1979 عندما مشى طلاب جامعة حلب إلى رئاسة أركان المخابرات في ناحية السبيل فتح رجال الأمن النار فقتلوا ثلاثة وجرحوا الكثير منهم. وأوقف مئات المتظاهرين واستمرت الاحتجاجات مما جعل السلطات ترفع درجة القمع فاحتل الجيش جامعة حلب. وفي دمشق واللاذقية اعتقل مئات الطلاب وتعرضوا للتعذيب وبعضهم مات في الاعتقال.
وتعرضت كذلك الهيئات التدريسية للضغوط. ومن أواخر عام 1979 إلى أواسط عام 1980 سرح أكثر من مئة محاضر انتقدوا النظام علناً، أو اتهموا بعدم الولاء فنقلوا لوظائف بيروقراطية. وآخرون اعتقلتهم المخابرات [ ومنهم الدكتور محمد الحسين أستاذ الفيزياء النووية يرحمه الله ]. وتفتت برنامج التدريس في كلية الطب (بجامعة دمشق) لمدة سنتين كما لاحظت لجنة مراقبة الشرق الأوسط M.E Watch "لم يبق أي أستاذ يدرس مادة التشريح... مع أنه لم يكن هناك بالتأكيد نقص في الجثث" .
وكان يمكن قياس المزاج الرسمي في تلك الفترة الحالكة من قرار المؤتمر القطري السابع لحزب البعث الذي عقد ما بين 22 كانون الأول 1979 و7 كانون الثاني 1980. اتفق على أن "يعهد للرفيق وزير التربية باستئصال كل أثر للأفكار المعادية في قطاعه وتعديل البرامج التربوية للتطابق مع مصلحة الحزب والثورة" (16).
والجامعات مثل بقية سورية روّعت وأرهبت. ولكن حتى عام 1989 كان النظام يبدو شديد التوتر. ففي حرم كلية الفنون لجامعة دمشق، ذكرت لجنة مراقبة الشرق الأوسط أن رجال الأمن يحرسون المدخل مع أربع مصفحات واقفة تحت غطاء مشمع خارج قاعة المحاضرات (17).
نشطاء حركة المجتمع المدني – ومن ضمنهم أساتذة جامعة مثل عارف دليلة الذي حكم عليه بعشرة أعوام سجن – استغلوا الليبرالية الحديثة. والذين كانوا يحضرون ندوات حركة المجتمع المدني هم "إما من المهتمين بالسياسة وإما يريدون خلق المشاكل" هذا كان رأي البروفسور مرتضى [ رئيس جامعة دمشق ].
وفي منتصف عام 2000 سرح دليله من منصبه كرئيس لكلية الاقتصاد . طلبت من البروفسور مرتضى إذا كان باستطاعتي حضور محاضرة – كلاسيكية- فقال يجب أن تقدم طلباً خطياً بذلك. يمكنك كتابة الطلب الآن، وأنا أحيله إلى رئيس فرع حزب البعث في الجامعة".
البروفسور محمد عزيز شكري رئيس قسم القانون الدولي في الجامعة وأحد أبرز السوريين المعتبرين كخبير قانوني، يتذكر أنه لما كان طالباً في الجامعة كان اختيار كل المناصب الأكاديمية و الادارية يجري في انتخابات داخلية. فأساتذة كلية الحقوق مثلاً ينتخبون عميد الكلية وتعمد الحكومة إلى تثبيت المنتخب في منصبه. وبدورهم ينتخب العمداء ثلاثة مرشحين لرئاسة الجامعة تختار الحكومة أحدهم.
"ومنذ ذلك الحين تسيّستْ الجامعات إلى درجة كبيرة جداً جداً. فالآن كل المناصب الأكاديمية و الإدارية تقررها الحكومة بطلب من الحزب" هذا ما قاله البروفسور شكري مؤكداً أن علاقة الأكاديمي بالحزب أصبحت محددة لمهنته ومنصبه. وتوسع دور اتحاد الطلاب بصورة درامية أكثر مما كان عليه لما كان هو طالباً".إنهم يتدخلون في كل شيء إنهم يتدخلون في البرامج وفي أوقات الامتحانات وأحياناً يقفون إلى جانب كسالى الطلاب ضد المدرسين المتشددين".
"جامعة دمشق كانت واحدة من أفضل الجامعات في الشرق الأوسط" هكذا أكد البروفسور شكري. كانت جامعة قوية ورزينة مما وفر لزبدة المثقفين العرب التخرج منها – طلابها ليسوا من سورية فقط بل أيضاً من لبنان والأردن والعراق وفلسطين".لقد هبط المستوى في بقية الجامعات السورية كنتيجة مباشرة للسياسة التي بعثها حافظ الأسد بضمان مقعد جامعي لكل من حمل الشهادة الثانوية. وسلم شكري "إن هذه فكرة نبيلة من حيث المبدأ" ولكن الأماكن والهيئة التدريسية لم تستطع أن تحتوي هذه الزيادة الكبيرة في أعداد الطلاب. وكلية الحقوق التي أسست عام 1919 لا تزال تحتفظ ببنائها شبه المتهدم وصفوفها المنهارة تقريباً. هناك خمسون أستاذاً (بروفسور) لسبعة عشر ألف طالب ".
طلاب وهيئة تدريسية... دون المستوى اللازم
العديد من الطلاب يتدبر أمر دخوله الجامعة لأنه حصل فقط على علامات إضافية في الشهادة الثانوية أعطيت له مكافأة على ولائه السياسي".هناك أنواع من العلامات الإضافية التي لا يستطيع الطالب تحصيلها – باجتهاده-". هكذا فسّر لي العظم الموضوع "إذا أجرى الشاب أو الشابة تدريباً مع المظليين ينال 15 [ خمس عشرة ]نقطة إضافية على ما حصل عليه من علامات في الفحص النهائي الثانوي (البكالوريا)، إذا كنت عضواً في الحزب تحصل على علامات إضافية، إذا كنت في (شبيبة الحزب) تنال علامات إضافية وجمع تلك العلامات الاضافية قد يصل إلى (30) نقطة زيادة على علامات (البكالوريا) وهو الفارق المطلوب لتدخل الجامعة وهو المطلوب أساساً لدخول الكليات المهنية التي تدرب لسنتين فقط".
اونوعية الكثير وربما الغالبية من المحاضرين هي موضوع تساؤل، كثير منهم نتاج برامج متضاربة بدأت عام 1985 حين أرسلت دفعة من حوالي (3500) مساعد محاضر للتدريب في الكتلة الشرقية بخاصة ألمانيا الشرقية. وكانت النتيجة كارثية. كثير من المحاضرين اختيروا لبعثات تدريب في الخارج ليس بسبب قدراتهم الذهنية بل بسبب ولائهم السياسي فعادوا بمستوى أكاديمي ناقص بشكل مريع".كانت الخطة حينئذ هي لإعلاء مستوى التعليم العالي كما قال مرتضى".وتدريب بعض الشباب في الكتلة الشرقية لم يكن على المستوى الذي توقعناه. لم نكن ندري حينئذ أن النتيجة ستكون كهذه. وعندما عرفنا ذلك بدأنا نبعث الطلاب إلى الغرب، إلى المملكة المتحدة، ألمانيا وفرنسا. وعاد بعضهم الآن وهم يقومون بعمل جيد جداً" .
الفساد
رغم أفضل الجهود لسلطات الجامعات، الفساد منتشر. أحد كبار الموظفين الذي طلب عدم ذكر اسمه قدّر أن ما بين 20% إلى 30% من كل الشهادات الممنوحة من جامعة دمشق حصل عليها أصحابها بالرشوة. الدكتور العظم يعتقد أنه ربما 10% من الناجحين في امتحانات دائرته نتيجة الرشوة. هناك كليات أكثر استعداداً للفساد من غيرها قال كبار العارفين من داخل الجامعة".في بعضها مثل كلية الطب وكلية الهندسة، يمكن حدوث الفساد (الرشوة) ولكن الفساد عام في كلية الاقتصاد وكلية الحقوق وكلية الآداب.
أنا أكره أن أقول ذلك "ولكن الفساد منتشر" والشيء المتناقض هو أن للفساد بعداً أخلاقياً "أطن أن هناك وجهة نظر تقول إنه لا يمكننا الاستهتار واللعب بحياة الناس". هذا ما قاله لي العالم ببواطن الأمور: أعني إذا خسرت قضية من قضايا الناس في المحاكم فهذه مشكلة ولكن إذا خسرت إنساناً فهذه كارثة. لذا حتى هذه الساعة لم نجد أي حادثة فساد في كلية الطب وكلية الصيدلة ولا حتى في كليات الهندسة الثلاث ولا في كلية الشريعة بالطبع.
وللفساد أشكال متعددة. يضمن الطلاب نجاحهم في الامتحانات برشوة المحاضر إما مباشرة أو عن طريق وسيط أو (مفتاح)! وثمن شهادة هو (100000) مئة ألف ليرة سورية أي (2000 دولار) لكل سنة من السنوات الأربع. أكثر المواضيع تحتاج لأربع سنوات دراسية. وهي خمس في الهندسة والصيدلة وطب الأسنان وست سنوات للطب". ويختلف الأمر من موضوع لآخر كما قال الدكتور العظم ويتوقف الأمر: في أي كلية أنت وفي أي دائرة وسواء أردت علامات عالية أم منخفضة" (25).
وقد تكون الرشوة بتوفير البضائع أكثر من النقد وفي حادثة جديدة ظهر أن أحد المحاضرين في كلية الحقوق قبل طاقما جديداً لغرفة نوم. أحيانا ربما يكون الأمر في محاباة أو منّة أو فضل... قد تكون تحصيل حاصل.
قال الدكتور العظم: "قد يكون أبوك شخصية هامة في مكان ما يقدم لك معروفاً أو فضلاً وتتأثر سمعتك سواء رغْبت أو لم ترغب في ذلك" وإذا طلب قيادي كبير في الحزب أو ضابط أمن معروفاً قد يكون من الصعب ألا تستجيب، وكانت هناك حوادث شهيرة حيث طلب محاضرون معروفاً جنسياً من طلابهم وعندما رفضوا رسبوا في مادتهم. الغش في الامتحانات هو صداع كبير آخر لسلطات الجامعة. وقد وصف لي البروفسور شكري طريقة مفصلة محكمة يستعملها وبخاصة الطلاب الذين لهم علاقات قوية مع المسؤولين – في الغالب من أبناء وبنات كبار وجوه النظام. ما أن توزع أوراق الامتحان يرسل أحد جماعة الداخل في قاعة الامتحان نسخة إلى مجموعة من المحامين أو حتى القضاة في الخارج. وهؤلاء يسارعون في كتابة الأجوبة الصحيحة، كل واحد منهم يجيب على جزء من الأسئلة.
وتدخل أجوبتهم للطالب الذي ينسخها تماماً، قد تظهر بعض التهديدات الفظة والتخويف والإرهاب.
باتريك سيل أحد أفضل العارفين المراقبين لسورية يروي كيف أن بنت أحد رؤساء أجهزة الأمن حضر امتحاناتها مع مجموعة من حراسه وألح أن يكتب الأستاذ الأجوبة على أوراقها .
وفي إحدى الحوادث الغريبة البشعة – في أوائل التسعينات أوقف أحد طلاب الحقوق وهو يغش في الامتحان فرد الطالب بإبراز قنبلة يدوية وسحب (إبرتها) ثم هرب من قاعة الامتحان إلى الخارج. ولحق به حراس الجامعة الذين لم يتجاسروا على اطلاق النار عليه خوفاًَ من حدوث قتلى نتيجة تفجير قنبلة. وظهران رقم لوحة سيارته هي من القصر الرئاسي. الذي آدّعى بصورة غير معقولة، مع وجود الأمن الرئاسي الهائل، أن السيارة (سرقت) من القصر!
لا شك أن العديد من أبناء ذوي الامتيازات في سورية، حصلوا على شهاداتهم الجامعية بالتزوير والاحتيال. وفي بعض الحالات (دون أن يفتحوا كتاباً) حسب مصدر سري حسن الاطلاع وعلى معرفة تامة بهذه الظاهرة.
البطالة بين الخرِّيجين
رغم التقدير الكبير للشهادة الجامعية فهي ليست على الإطلاق جواز سفر نحو العمل. فالأجور في القطاع العام المنتفخ بالعاملين، ليست جذابة مجزية – فالدخْل الشهري لجراح القلب هو فقط 8000 ليرة سورية أي (160 دولار أميركي). [ لقد زادت الرواتب بمعدل الربع أي وصل عشرة آلاف ، وهذا للطبيب الجديد طبعاً ] .
والقطاع الخاص يتطلب مهارات بخاصة إتقان اللغة الانكليزية – ولا يمتلكها غالبية المتخرجين. نتيجة لذلك كثير من الخريجين لا يعملون في الميدان الذي تخصصوا فيه، وفي مسح رسمي لسوق العمل عام 1998. يسجل نسبة 35% الذين لا يعملون في اختصاصهم، وبمراجعة المشكلات التي تواجه الخريجين السوريين علقت جريدة (الحياة) على ذلك بالقول: "قصص الخريجين متشابهة ليسوا أكفاء في العمل و برامجهم التربوية عفا عليها الزمن" .
ونفس النقطة علق عليها بأسلوب قاس أحد المثقفين الذي آثر عدم ذكر اسمه (هناك نسبة عالية من البطالة بين المهندسين ولكن إذا قدمت شركة غربية إلى العمل في مجال البناء في سورية لن تستطيع تشغيل هؤلاء المهندسين لأن معلوماتهم الهندسية قديمة جداً ونظرية جداً و بعيدة عن كل خبرة عملية.
لن تستطيع تشغيلهم حتى ولو مكان العمال المهرة، ودعك من المهندسين والمشكلة الكبرى في سورية ليست فقط في النظام التربوي، ولكن في إعادة تأهيل القوى العاملة والتي هي خارج العصر تماماًَ ، لذلك كثير من خيرة الخريجين مجبرون على الهجرة وهروب الأدمغة هذا يحرم البلد من أفضل شبابه الموهوبين. آلاف الأطباء و المهندسين والمدرسين السوريين يعملون في الخارج[ مليون سوري في السعودية مثلاً]، بخاصة في دول الخليج وفي الولايات المتحدة.
[ ومن المناسب جداً هنا التذكير بما فعله الطالب رفعت الأسد في جامعة دمشق ، حصل رفعت على ليسانس في التاريخ ثم ليسانس في الحقوق من جامعة دمشق ، مما دفع بعض الأساتذة الشرفاء إلى الهجرة من سوريا كلها ، كي لايروا بأعينهم هذه المهازل ومن لطائف ما يرويه العماد مصطفى طلاس في كتابه ( ثلاثة شهور هزت سوريا ) عن العميد رفعت حين كان طالباً في قسم التاريخ بجامعة دمشق أن رئيس القسم الدكتور محمد خير فارس شكا له ( لوزير الدفاع ) : أن رفعت يأتي مع مفرزة من الحرس إلى الجامعة أيام الامتحان، ولا أحد يجرؤ من المراقبين أن يقول له شــيئاً، فماذا أفعل؟، وكان رد العماد: ( لا تفعل شيئاً لأنه لن يعمل لديكم أستاذ تاريخ!). على أن أجمل ما يرويه العماد عن علاقة العلم بالسلطة في تلك الأيام الأمثولة التالية: ( ما كاد رفعت ينهي الإجازة في التاريخ حتى تسجل في كلية الحقوق هو وزوجته لين وابنه دريد، وكانوا يقدمون الامتحان معاً في غرفة رئيس الجامعة الدكتور زياد شويكي حرصا على أمن الطلاب وأمن المعلومات، وعندما جاءتهم الأسئلة مع فناجين القهوة وكتب السنة الأولى قال لهم رفعت : العمى في قلبكم... ابعثوا لنا أستاذاً يدلنا أين توجد الأجوبة لهذه الأسئلة!!! ). ومن المعروف أنـه بعد حصوله على الليسانس من جامعة دمشق ، حصل على الدكتوراة من موسـكو في التاريخ أيضاً ، على أطروحة عن الصراع الطبقي في سوريا ، ويعتقد أنها من تأليف أحمد داود العلوي الذي يجيد اللغة الروسية !!! ].
الفصل التاسع [الأخير]
[الأســد] زعيمنا إلى الأبـد ؟ سـوريـة ...إلى أيـن؟
كان لقائي بالدكتور سمير التقي عضو المكتب السياسي لفرع يوسف فيصل من الحزب الشيوعي السوري.. في مقهى-الهافانا-. قال لي الدكتور :"أن سورية تدخل الآن في فترة حرجةٍ عصيبة.. فترة طويلة انتقالية"، "إن قوة بشار تأتي من ضعف النظام البيروقراطي المتصلب القديم. أما ضعفه فهو في أن النظام الجديد لم يولد بعد [ والنظام الجديد ، يقصد به ترسيخ شعار الأسـد إلى الأبـد ] .
..قائدنا إلى الأبد.. هو الشعار المرفوع على اللافتة العريضة فوق المدخل الواسع لنادي الضباط في شارع شكري القوتلي في وسط دمشق قرب فندق الخمس نجوم (الميريديان). (قائدنا إلى الأبد) كان الشعار الرمز لنظام الأسد بخاصة خلال سنوات عمره الأخيرة [ انتبه لقد أكد الأسد الكبير هذا الشعار من أجل استمرار الحكم في أسرته ]. وبعد موته كان من الطبيعي، على الأقل، أن يصبح بشار، ابنه الخلف الطبيعي.. المحتوم على هذه الأرض... على هذا المستوى من البلاغة الإنشائية توضح سلفاً مستقبل سورية. وحين مات حافظ أسد في حزيران عام 2000 م كانت سورية في اضطراب شديد.
أزمـة الأسـد الشـرعيـة :
الورطة التي يواجهها بشار هي أساساً نفس الأزمة العنيدة المضايقة- أزمة الشرعية- التي عاندت النظام منذ أواخر السبعينات للقرن الماضي- عندما ثارت المعارضة الإسلامية والعلمانية وتمردت ضد النظام إحداها بالقنابل و(الكلاشينكوف) والثانية بالأفكار والكلمات: حينها هوجم النظام على أنه عصبة علوية يسيّر الوطن كأنه إقطاعية خاصة بها والسلب والنهب لخيرات البلد أفقرت جماهيره، وإن سلطته تعتمد على شبكة من أجهزة البوليس السري مسؤولة عن خرق بربري لحقوق الإنسان. وشعارات البعث في (الوحدة والحرية والاشتراكية) ظهر أنها ليست إلا فقاعات هواء ساخن.
لقد تمكن النظام من تجاوز التمرد.. ولكن بواسطة المذابح والفظائع كمذبحة حماه في أوائل ربيع عام 1982. ولكن النظام لم يستعد أبدا شعبية أصيلة تمتع بها في سنواته الأولى عندما كان ينظر إليه كتحسن بالنسبة للعصبة البعثية التي حكمت قبله، ولن يكون هناك إعادة للمظاهرات العفوية وعواطف الشعب نحو أسد، والتي حدثث عامي 1970 و1971 .
أراد الأسد توسيع قاعدة الدعم له لكي يزيد من شرعيته وكان هذا يعني اكتساب تأييد المسلمين السنّة بخاصة وانهم يشكلون-عدداً- ثلاثة أرباع سكان سورية، والذين سيطروا تقليديّا على البرجوازية الصغيرة لرجال الأعمال، ولكن التنازلات-الأسدية- للمسلين السنة مع ذلك لا يمكن أن تكون كريمة لدرجة تهديد المصالح.. مع ذلك من الخطأ التبسيط الشديد والقول أن نظام أسد مقصور على العلويين حصرا .
يذكر (نيكولاس فان دام): مهما كان بعض زعماء البعث مثاليين.. بداية فإنهم لم يستطيعوا الهروب من الحقائق الاجتماعية والسياسية: وهي
_____________
٭GORDEAN KNOT)) هي العقدة التي أحكم شدها الملك غورديوس الإغرقي.. ثم جاء الإسكندر الكبير فقطعها بسيفه.
أنهم بدون استعمال الروابط الأساسية _ العائلية والعشائرية والطائفية _ لن يستطيعوا احتكار السلطة في سورية، ودعك من موضوع بقائهم نفسه في الحكم؛ بدون شبكة طائفية حسنة التنظيم مؤسسة على العشيرة داخل القوات السورية المسلحة وأجهزة الأمن ومراكز القوى الأخرى.. لا يستطع البعثيون الذين حكموا سورية منذ عامت 1963م البقاء هذه المدة الطويلة .
والأمر مماثل في ميدان الفساد. فالهدف من حملات التطهير... هو مكافحة الفساد. إلا أن هذا الأخير استمر إذ لم يلمس أبداً أي من كبار رجال النظام في هذه الحملات. وفي المحصلة النهائية: أسد يقدر الولاء السياسي فوق كل شئ آخر. يقول (فان دامْ):
"لم تنجح مختلف الحملات لاستئصال الفساد إلا إلى حد محدود جداً لأن العناصر الفاسدة هي من كبار المسؤولين العلويين- وفي هذا الأمر أيضاً- وغير العلويين من الصفوة العسكرية ممن ينتمون إلى المحيط المباشر للرئيس.. وكذلك زبائنهم لقد تركوا كلهم تقريباً ولم يمسوا. إذ لو اتخذت تدابير تأديبيّة صارمة بحق أهم الداعمين للرئيس لتخلخلت قواعد النظام كله. لذا لم يلمس أحد من هؤلاء. وبعدما اغتنوا وحصلوا على الامتيازات المختلفة التي تحميهم أصبحت هذه (النخبة) العائق الأكبر في طريق إصلاح التجاوزات التي احتوت الدولة كلها".
ولقد حذر إبراهيم حميدي مراسل (الحياة) في دمشق: "يجب أن نكون شديدي الانتباه عندما نتحدث عن الحرس القديم) والإصلاحيين، أنا اعرف بعض (الحرس الجديد) وهم لا يختلفون كثيراً عن (الحرس القديم).
"بعض الجدد هم أسوأ من القُدامى". وتابع: القدامى جاؤوا للسلطة ومعهم إيديولوجيتهم، كانوا ماهرين وساحرين للجماهير. كانوا مجربين، بعض الحرس الجديد يبدون منفتحين أو يريدون الانفتاح ولكنهم يفتقدون الرؤية الواضحة. وجلّ ما يريدونه هو فقط تغيير بعض الأسماء للتخلص من بعض الناس. وهدفهم الاستمرارية دون تغييرات كبيرة يستفيد منها الشعب كله" .
البطالة هي فقط جزء من التهديد الاقتصادي لاستقرار النظام. وانخفاض مستوى المعيشة هو جزء آخر. ومجموع الإنتاج القومي بالأسعار الثابتة. استنقع في الجزء الثاني من عقد التسعينات بينما ظل النمو السكاني. والنتيجة كانت انخفاض معدل الإنتاج القومي الحقيقي للفرد ...
وعكس [الوزير غسان] الرفاعي ورطة النظام المتأزمة في اتساع الفجوة الاجتماعية المتنامية بين الأغنياء والفقراء المصاحب لنشاطات القطاع الخاص .
بحلول منتصف عام /2002/ بدا إن برنامج بشار الإصلاحي قد فقد زخمه. من جهة كان السبب المعارضة السلبية من البيروقراطية ومن حزب البعث الكاره للمساعدة في التغيير الذي سيجعلهم في الغالب من الخاسرين. وفي نيسان قال غسّان الرفاعي إن الإصلاحات تواجه مقاومة لا تخمد على كل المستويات. في نفس الوقت وفيما كانت محاكمات ناشطي المجتمع المدني قائمة كجزء من التدابير الصارمة ضد الحركة المطالبة بالديموقراطية والتي بدأت في شباط /2001/ ، أعاد المتشددون تثبيت وجودهم، وحُجتهم أن التهديد للمنطقة من الغرب ومن إسرائيل يجعل الوقت غير مناسب لاتخاذ تدابير إصلاحية قد تؤثر على الوحدة، الداخلية والاستقرار.
وفي 22 آيار صُنفت سورية للسنة الثامنة على التوالي كدولة ترعى الإرهاب، في التقرير السنوي لنظارة الخارجية الأميركية، عن الموضوع نفسه. ومثل هذه الدولة محرومة من استلام المعونة الأمريكية، وفي الشهر السابق قدّم اقتراح قانون محاسبة سورية إلى االكونغرس من الصقور الموالين لإسرائيل وحث الاقتراح على فرض عقوبات شاملة تجارية وغيرها ضد دمشق. وكان الهدف إيقاف سورية عن دعم الإرهاب وإنهاء احتلالها للبنان ومنعها من تطوير أسلحة الدمار الشامل والتوقف عن الاستيراد الغير شرعي لبترول العراق، وبهذه التدابير المقترحة يحملّون سورية المسؤولية ومحاسبتها عن دورها في الشرق الأوسط.
وفي أواسط أيلول عام /2002/ وقع على الاقتراح (36) شيخاً -سنتور- و(155) من البرلمانيين في الكونغرس. ورغم نرفزة واشنطن الشديدة من سورية أشارت الإدارة الأميركية بوضوح إنها ستعارض التدابير لأنها غير فعالة ولا تؤدي لنتيجة في الانشغالات الأميركية الأخرى وآنذاك كانت تعني في الدرجة الأولى "تغيير النظام" في العراق والحرب على الإرهاب.
ومن السخرية إن العالم الغربي الذي يدّعي الالتزام بالديموقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون خلق شروطاً استطاع فيها الجناح الأكثر محافظة والمعادي للديموقراطية في النظام السوري أن يوقف ما بدا قبل ثمانية عشر شهراً مداً إصلاحياً لا يمكن إيقافه، "لقد قدم بوش وشارون هدية للمتشددين" هذا ما علق به أحد الليبراليين السوريين الذي لم يشأ نشر اسمه.
الخبــز (و / أو ) الحـريــة؟
مهما كانت الآمال الأولية لدى بشار الأسد في الليبرالية المتدرجة للنظام السياسي سرعان ما تخلى عنها في وجه معارضه عنيدة من المحافظين في النظام.بدلاً عن ذلك أصبح الإصلاح الاقتصادي دون إصلاح سياسي هو الهدف".منذ البداية، عندما استلم بشار السلطة ألقى بحزمةٍ من المشاريع والمواضيع على الطاولة ولكنه سرعان ما أدرك إنه غير قادر على البدء رأساً بتحريك هذه المواضيع" هذا ما قاله الدكتور سمير التقي من الحزب الشيوعي- جناح يوسف فيصل. أو كما قال لي عضو البرلمان ومن أبرز الناشطين في المجتمع المدني: رياض سيف، قبل أن يُسجن: اختار النظام أوائل عام 2000 (الخبز قبل الحرية) كحجة لإسكات حركة المجتمع المدني التي بدأت تُقلق المتشديين.
والموضوع المركزي- الهام- هو في: هل أو إلى أي مدى يمكن إنتاج الخبز مع الحرّية فقط هل يستطيع نظام مركزي واقتصاد تسيطر عليه الدولة مثل نظام سورية أن يتحوّل دون تحولات موازيه في المحيط السياسي؟ كثير من افراد المجتمع المدني والحركات المعارضة الاوسع يجيبون بـ(لا) مدوّيه، ويُلحَّ رياض سيف قائلاً: "نحن نعتقد إن الإصلاح الاقتصادي بدون إصلاح سياسي لن ينجح أبداً ويؤتي ثماره ما لم يكن في إطار واضح شفاف من برنامج إصلاح سياسي موازٍ" وهذا موقف تتخذه حركة الإخوان المسلمين السورية ذات النفوذ.
"نحن نعتقد إن بشار سيكون غير قادر على إنجاز إصلاح اقتصادي بدون انفتاح سياسي" هذا ما قاله علي صدر الدين البيانوني المراقب العام للإخوان.
وبينما أعطي للقطاع الخاص درجة أعلى من الاستقلال الذاتي، وهكذا تنازل النظام عن بعض الروافع الاقتصادية إلا إنه لم يتنازل عن أي من سلطاته السياسية. التعددية المحدودة والانتقائية، التي يقدمها النظام يمكن اعتبارها موضوع (صيانة) له أكثر مما هي دمقرطه أو ليبرالية سياسية هامة. هدفها استعادة شرعية مفقودة والمساعدة على ضمان دمج مجموعات لا غنى عنها، في بيئة النظام.
الاستيراد غير المشروع لبترول العراق والتجارات الأخرى التي نمت كالفطور مع العراق ربما اشترت فيها سورية بعض الوقت- وسهلت الأمر كثيراً على المتشددين لتثبيت أنفسهم- ولكنها لم تفعل شيئاً لحل الأزمة الاقتصادية الأساسية في البلد.
"سنستمر في السير على نفس الخط نحو المستقبل. وستكون سرعتنا بالقدر الذي يستطيع الشعب والحكومة استيعابه" يُلح أيمن عبد النور أحد أقرب المستشارين الاقتصاديين للرئيس".لن نقع في نفس أخطاء أوروبا الشرقية عندما تبنّت حركة انتقالية سريعة من الشيوعيه إلى الرأسمالية لن يكون عندنا نفس (اللخبطة) الفوضى سيكون لنا (نمطنا) الخاص بنا".
في الواقع، تبدو سورية جاهزة للسير في نفس الطريق التي سارت فيها مصر وتونس والجزائر وكانت جميعها تحت حكم مركزي لحزب واحد على نمط أوروبا الشرقية وتحت ضغط الدائنين وصندوق النقد الدولي (حرّرت) هذه الدول الثلاث اقتصاداتها دون إصلاح يذكر، ما عدا السطحي منه، في النظام السياسي وبنتائج مختلفة. ا
ومع انهيار الكتلة السوفيتية وجدت سورية نفسها شبه معزولة عن منطقتها نفسها. والعلاقات الحميمة مع الولايات المتحدة مُشكلة بسبب دعم واشنطن اللا محدود لاسرائيل المحتلة عسكرياً للجولان ولان دمشق كانت ولازالت على لائحة نظاره الخارجية الأميركية للدول الداعمة للإرهاب العالمي، وهذه صفة لا تستحقها سورية منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي. وتبعاً لذلك تطلعت سورية بصورة متزايدة نحو أوروبا كشريك تجاري وكمصدر محتمل لمساعدات للتنمية والدعم السياسي وهذه كلها من الحاجات الملحة. وفي عام 2000 كان الاتحاد الأوروبي مصدر 34% من استيرادات سورية ومحط 66% من صادراتها بما فيها 62% من صادراتها البترولية. وجهود الإصلاح في سورية سيُشجعها الاتحاد الأوروبي ، ولقد بدأت مفاوضات دمشق في الاتحاد للوصول إلى اتفاق شراكة منذ عام 2001. مثل هذا الاتفاق يضم مروحة واسعة من الاتفاقات الاقتصادية و الثقافية والتي تعطي الموقعين عليها أفضلية الوصول المتبادل إلى أسواق الطرفين، والذي يطالب الموقعين بالاعتراف بأولوية قوى السوق وتحرير الاقتصاد. والاتفاقات هي عناصر أولية في الشراكة الأورومتوسطيه (وغالباً ما تسمى عملية برشلونة) والتي بدأت في أول قمة وزارية أورومتوسطيه عُقدت في برشلونة في تشرين ثاني 1995. والهدف النهائي هو خلق منطقة تجارية حرة أورو متوسطية عام 2010. وبدءاً من أواسط عام 2002 وقُعت اتفاقيات الشراكة وصُدق عليها مع تونس وإسرائيل والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية والمغرب وكذلك اتفاقيات مع مصر والجزائر ولبنان لم يصادق عليها بعد وبالنسبة لسورية، التورّط باتفاقية شراكة له أبعاد عميقة. فإصرار الاتحاد الأوروبي على اقتصاد حُرّ لا يريح النظام إذ يُصر بدوره، على إبقاء السيطرة المركزية. والحل الوسط مع ذلك موجود، إذ أعطيت سورية فترة انتقالية طويلة ستستفيد فيها كثيراً من برنامج (ميدا) الأوروبي وهذا البرنامج هو المصدر الممول للتنمية في عملية برشلونة، ومن تمويل بنك الاستثمار الأوروبي.
كل اتفاقات الشراكة تحوي بنداً يطالب باحترام حقوق الإنسان مع إن كل الموقعين على الاتفاق بما فيهم إسرائيل لهم سجلات فقيرة جداً في هذا المجال. ومع كل ادعاءاته الليبرالية، مع ذلك، لم يقم الاتحاد الأوروبي بأي عمل صلب لإجبارها على الامتثال. قبل دخول المفاوضات في بروكسل اتصلت سورية عن قرب بكل الفرقاء العرب الذين وقعوا-مستشيرة- وربما أخذت علماً بتراخي أوروبا فيما يختص حقوق الإنسان. ولكن على دمشق ألا تكون راضية عن نفسها مع ذلك.
فبالنسبة للكثيرين في أوروبا (حقوق الإنسان) هي أمر هام وقد يرتقي الموضوع على أجندتها السياسية؛ خلال فترة التسعينات أوقف البرلمان الأوروبي عدة مرات المعونة لسورية بسبب خرقها لحقوق الإنسان. ومع إن البرلمان يبقى حتى الآن وحشاً بدون ظفر وناب، فمن المحتمل أن تنمو سلطاته. في 8 آب /2002/ أعلن الاتحاد الأوروبي إنه "يتأسف بعمق" للأحكام بالسجن التي صدرت بحق ناشطي المجتمع المدني الذين كانوا يمارسون-"سلمياً- حقهم المشروع بحرية التعبير". ودعا سورية "لإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين. وأكد البيان-الأوروبي- نية الاتحاد "بالاستمرار في مراقبة أوضاع حقوق الإنسان في سورية، بخاصة في إطار اتفاقية الشراكة المستقبلية".
وفي جَزْمِهِ بأن الناس يهتمون برفاههم الاقتصادي أكثر من حرياتهم الشخصية، يكرر نظام بشار نظرة حافظ الأسد. ففي حديث خاص عام /1971/ أسد عبر عن رأيه إن الناس لهم أولاً مطالب اقتصادية مثل امتلاك قطعة أرض وبيت وسيارة. ومثل هذه المطالب يمكنه إرضاءها بطريقة أو بأخرى. ورأى الأسد الكبير ببرود شديد إن هناك فقط "مئة أو مئتين على الأكثر "من الأفراد الذين يتعاطون السياسة بجدية وسيعارضونه مهما فعل". ومن أجل هؤلاء أصلاً فُتح سجن المزّه.
والأمر الأساسي- المركزي- عنده وعند ابنه: - إن الحرية السياسية هي أمر أقل أهمية من الاقتصاد ولذلك يمكنها الانتظار- قد يكون هذا صحيحاً إلى حد ما. فالإنسان الجائع يحتاج بوضوح للغذاء أكثر من احتياجه للتصويت. ومع ذلك فمن البين الواضح أيضاً إن الناس يهتمون كثيراً جداً بحرياتهم وهم أكثر من (وحدات) اقتصادية فقط وإن التعبير السياسي يمكنه أن يبرز مستقلاً عن الظروف الاقتصادية. وعلى المديَين القصير والمتوسط هناك احتمال ضئيل في أية دمقرطة جدية في سورية وحركة المجتمع المدني فيها ستبقى مهمشة في الغالب وغير ذات فعالية. إلا إن بشار هو غير والده. يبدو أنّه يُشجع ضمناً "ربيع دمشق" إلى المدى الذي استطاعه. وليس من غير المعقول،إذا استطاع تقوية مركزه بالنسبة للمتشددين، وفي ظروف خارجية واقتصادية مناسبة أن يطلق برنامج إصلاح سياسي، قد يكون حذراً ومحدود المدى.
"الأنظمة القهرية تسبب دماراً بلا حدود في النسيج الاجتماعي والأخلاقي" هذا ما قاله (جورج جوفيه)."يفقد المجتمع شعوراً بالتماسك إنه يشعر هو نفسه بأنه يسير إلى مكان ما، وعندما يصل شخص مثل بشار، له نسبياً مجموعة تجارب عالمية-غير محلية-ربما يمكنه الشعور بأن هناك غلطة. يمكن العمل بأسلوب أفصل. لذا....حكم بلد أصبح شعبه مُخدراً، أصبح أفراده من المستنسخين دون أي حيوية أو شعور بالهدف من حياتهم-. وقد -يقرر إنه، في شروط مناسبة، يمكنه احتمال قدر من الحرية للشعب-"(37).
وناشطو المجتمع المدني لا ينتظرون المفاجآت. إنهم يعرفون الواقع السياسي، ليسوا فقط ممن يحلمون. كثير منهم قضوا، ومنهم من يقضي الآن سنوات شديدة في السجن لأنهم عبروا عن وجهات نظرهم وهذا ليس أمراً استثنائياً في الديموقراطية الليبرالية، إنهم يعرفون إن سورية ليست على أعتاب ثورة ديموقراطية وإن تأثيرهم سيكون كمجموعات (اللوبي)".يجب أن يكون لنا بعض الأمل في إننا قادرون على تعديل النظام حتى ولو بنسبة 30% في اتجاه مزيد من الديموقراطية، مزيد من الاحترام لحقوق الإنسان والحريات المدنية" هذا ما قاله أحد المفكرين في حركة المجتمع المدني صادق جلال العظم(38).
حتى اليوم نظام البعث [ الأصح أن نقول النظام الأسدي ، فحزب البعث مهمش ومبعد منذ عقود ] في سورية سواء في عهد حافظ الأسد أو ابنه لم يوفـر لا الخبـز و لا الحـريـة. في المستقبل قد يوفر بعض الخبز وبعض الحرية. ومن المحزن إنه حتى لو لم يُوفر شيئاً"، فالنظام، مهما كان متصلباً أو محتضراً، ربما سيستمر. وإذا كان باستطاعة كوريا الشمالية- بل وحقاً (أوسيانيا) في كتاب جورج أرول -1984-Nieteen Eighty Four يستطيعان الترنح لعقود فلم لا تكون سورية كذلك؟
[تعليق أخير : يبدو لي أن السنوات التي مرت بعد انتهاء الكاتب من كتابه وهي أربع سنوات ، منذ (2003) وحتى الآن غيرت نظرتنا إلى سوريا ، فالنظام لن يتمكن من توفير أي جزء من الخبز أو الحرية ، وقد وضح هذا الأمر جيداً اليوم ...كما أن استمرار النظام الأسدي أصبح صعباً جداً ...وقد بدأ يترنح ...ولن يطول ترنحـه كثيراً بإذن الله ]
*كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية