شعر الحرب في العصر الأيوبي

شعر الحرب في العصر الأيوبي

ابن سناء الملك

أنموذجا

د. إبراهيم نمر موسى - جامعة بير زيت

[email protected]

المقدمة

انـدلعت شرارة الحروب الصليبية في المشرق العربي في أواخر القرن الخامس الهجري، لأسباب سياسية، واقتصادية، واجتماعية، ودينية، وقد استطاع الصليبيون نتيجة انقسام المسلمين إلى دويلات صغيرة ضعيفة، وبفضل مـا حشـدوا من عـدد وعدّة، أن يخضعـوا الكثير من الإمـارات الإسلامية تحت سيطرتهم كالرها ،وأنطاكية، وطرابلس، وبيت المقدس، بعد دفاع مستميت من قبل السلاجقة الأتراك. ولم يدم الحال كثيراً حنى تمخّضت الأيام عن ولادة قائديـن عظيمين في عصر الحـروب الصليبية همـا: السلطان نور الدين محمود ،والسلطان صلاح الدين الأيوبي، اللذان كان لهما أثر كبير في توحيد الصفوف الإسلامية، والوقوف بقوة في وجه المد الصليبي حتى بدأ بفضلهما ينحسر شيئاً فشيئاً، إلى أن توّج صلاح الدين انتصاراته العظيمة بفتح بيت المقدس عام 583هـ –1187م ، بعد أن دنّسها الصليبيون قرابة مئة عام.

 لقد اشتمل ذلك العصر إذن على أحداث عظيمة، ألهبت العواطف، وفجّرت الأحاسيس، فانطلق كثير من شعراء العصر يصوّرون انتصارات المسلمين على أعدائهم، ويشيدون بالسلاطين والملوك والقادة أمثال نور الدين وصلاح الدين، لذلك لا غرابة أن نجدهم في هذا العصر يسخّرون فنهم الشعري في مقاومة الغزاة، والتحريض عليهم، لأنهم– الشعراء– قلب الأمة النابض،وعواطفه الوقّادة. وقد كان ابن سناء الملك واحداً من هؤلاء الشعراء الذين خلّدوا بشعرهم الانتصارات الأيوبية الباهرة.

 تنبع أهمية الكتاب من كونه يرصد الظواهر المعنوية والفنية في شعر ابن سناء الملك، ذلك أن أكثر الدراسات السابقة قد ركزت البحث في دراسة شعر ابن سناء الملك على جانب واحد من جوانب العملية الشعرية، مغفلة في ذلك الجانب الآخر، بالرغم من أنهما وجهان لعملة واحدة. فعلى سبيل المثال اهتم كـل من الدكـاترة محمـد زغلـول سلاّم، وأحمد بدوي، وسيد كيلاني في كتبهم على التوالي "الأدب في العصر الأيوبي"، و "الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية"، و "الحروب الصليبية وأثرها في الأدب العربي"، اهتموا بجوانب المضمون، وأغفلوا إغفالاً تاماً الجوانب الفنية، فضلاً عن أن كتبهم لم تكن وقفاّ على شعر ابن سناء الملك وحده.

وإذا كان تراث أمة ما، عبارة عن محصلة لصراع إنساني عبر مراحل تاريخية مختلفة، لها أبعادها المتعددة التي يمكن أن تتجاوب مع أبعاد الواقع المعيش، وإذا كان الماضي يعيش في الحاضر، بل ويطفو على سطح الأحداث من حين لآخر يريد أن يفرض وجوده، لذلك فإن هذا الكتاب بما فيه من قيم معنوية وفنية مستمدة من شعر ابن سناء الملك، يحاول أن يذكّر أو يعيد إلى الأذهان صورة قديمة جديدة، صورة عظيمة منسيّة من تاريخنا المجيد ورموزه الفذّة مثل صلاح الدين وأسرته الأيوبية التي وحّدت البلاد، وحملت عبء الجهاد، ومن حقها علينا أن نفعل ذلك. يضاف إلى هذا مـا للأدب من قيمـة في بث الحماسة في نفوس الأمة، وتحريضها على قتال الأعداء.

 كما تنبع أهمية الكتاب من محاولته تحطيم تلك الأسوار الشاهقة، أو الأسلاك الشائكـة التي دقّها النقاد، وأعلوا منها، بعد أن ألقوا بداخلها –ظلماً– عصوراً مزدهرة من عصور الأدب العربي كالعصر الفاطمي والعصر الأيوبي، مدّعين عقمهما وجمودهما عن الإبداع والابتكار.

 بناءّ على ما سبق، فقد قسّمت الكتاب إلى تمهيد يتعلق بعصر الشاعر، ومدخل عن حياته وصفاته، وبابين. بيّنت في التمهيد أسباب الحروب الصليبية، التي بدت لي أنها سياسية، واقتصادية، واجتماعية، ودينية، وكان السبب الديني ستاراً اتخذته البابوية لأغراضها الخاصة بحجة اضطهاد المسيحيين في الشرق -وقد توافق هذا القول مع حركة المجتمع الغربي وظروفه في ذلك الوقت- وهو قول مناف للحقيقة ولسماحة الإسلام والمسلمين في كل العصور ومع كل الأديان. ثم بيّنت موقف الدول الإسلامية –العباسية والسلجوقية والفاطمية– من هذه الغزوة الشرسة، فوضّحت كيف منعهم الخصام والتناحر من صد الأعداء، مما أدى إلى احتلال الأرض الإسلامية. ثم أردفت هذا بالحديث عن بداية ظهور الأمراء و الملوك العظام مثل: عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، الذين بدأ في عهدهم انحسار صليبي واضح، ومد إسلامي مطرد، بفضل سياسة الوحدة التي توارثوها فيما بينهم، حتى تم لصلاح الدين استرداد بيت المقدس.

 أما المدخل المسمى بـ "حياة الشاعر وصفاته"، فقد اشتمل على ثلاثة مباحث، ناقشت في الأول "نسبه وأسرته" اختلاف الروايات في تاريخ ولادة الشاعر ووفاته. وتحدثت في الثاني عن "دراسته وثقافته" علي أيدي كبار الشيوخ والعلماء، الذين أثّروا فيه تأثيراً كبيراً. على أن الشاعر لم يكتف باستيعاب العلوم الدينية واللغوية فحسب من هؤلاء الشيوخ، بل راح يثقّف نفسه وينهل من علوم عصره وثقافته الوافدة، فدرس الفلسفة والمنطق وغيرهما، وألـمّ باللغتين التركية والفارسية. وناقشت في المبحث الثالث "مذهبه الديني" بعض الآراء التي قالت بتسنن الشاعر وعدم تشيّعه.

 وهدف البـاب الأول المـوسوم بـ "الخصائص الموضوعية في شعره" إلى توضيح صلة الشاعر بعصره، ومدى تفاعله مع أحداثه وتعامله معها، وكيف عالجها في شعره رغم صبغتها التاريخية ؟. لذلك انقسم الباب إلى خمسة فصول، تناولت في الفصل الأول "وصف المعارك الحربية"، وقد قدّمت له بمقدمّة تبيّن العلاقة الجدلية التي تربط الفن بالتاريخ، لأن الشاعر استلهم كثيراً من أحداث التاريخ الإسلامي ومعاركه الحربية وخاصة معارك الرسول الكريم (ص )، وقرن بينها وبين أحداث عصره ومعاركه الطاحنة، التي دارت رحاها بين ملوك الدولة الأيوبية وعلى رأسهم صلاح الدين من جهة، وقوى الغزو الصليبي من جهة أخرى. وقد استقصيت كثيراً من صور المعارك التي تجلّت في شعره مثل: وصف ضخامة الجيش الإسلامي، وعفته، وشجاعته، وصموده، وآلاته وأسلحته التي كان يشرعها في وجه الأعداء.

 وجاء الفصل الثاني ليرسم ملامح "صورة البطل المسلم"، وقد قدّمت له بمقدمة قصيرة تحدثت فيها عن ارتباط شعر المدح بالتكسب، ويرجع هذا إلى تصريح ابن سناء الملك في ثنايا ديوانه برغبته بمكافأة مالية أو خلعة سنية. لكن هذا لا يقلل من شأن شعره، أو من حماسته الصادقة في مدح الأبطال مثل صلاح الدين، والعادل، والأفضل، والعزيز، والمظفر، والقاضي الفاضـل، الذين كان يحركهم في صد العدوان دين صحيح، ودفاع عن المقدسات، وفروسية نادرة، وقد أسبغ الشاعر عليهم صفات مثالية سامية.

أما الفصل الثالث فهو يحدد "موقف الشاعر من العدو"، لذلك نراه يصوّر هزائم الأعداء بالرغم من قوتهم وكثافة جيشهم، ساخراّ مستهزئاً بهم، مصوّراً في الوقت نفسه سعادته بأسر صليبهم المقدس، وأسر ملوكهم وقادتهم، وتخريب بلادهم. وهو في هذا كله يصوغ عناصر التجربة الشعرية من مختلف العلوم الإسلامية كالقرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر، والتاريخ العربي بشخصياته العظيمة قديماً وحديثاً.

 وفي الفصل الرابع نرى الشاعر يدعو إلى "يقظة الشعور بالوحدة الإسلامية "، لأن شوكة الصليبيين ما قويت إلاّ لضعف المسلمين وانقسامهم وتناحرهم. وقد كان لهذه الدعوة تأثير واسع في أرجاء العالم الإسلامي، واستجابة سريعة للانضمام تحت لواء الوحدة الإسلامية بالرغم من تعدد الأجناس والمذاهب داخل المجتمع الإسلامي، لأن الإسلام صهرهم في بوتقة واحدة، وجعلهم تحت لوائه، فاختفت تبعاً لذلك شعارات العصبية والقبلية والقومية؛ ولهذا لم يجد الشاعر حرجاّ في مدح الدولة التركية وملوكها، ووصفهم بأنهم حماة الإسلام.

 وفرّقت في الفصل الخامس "الإسراف في المبالغة" بين عدة مصطلحات ملتبسة هي: المبالغة، والغلو، والإغراق أو الإفراط. وأردفت ذلك بتبيان العوامل التي أدت إلى ظهور المبالغة، وأسباب انتشارها عبر العصور حتى العصـر الأيوبي، وبيّنت موقف النقاد العرب منها، ثم تتبعت مظاهرها في شعر ابن سناء الملك، الذي أسبغ على ممدوحيه جلالاً ورهبة وقوة، استمدوها من الله سبحانه وتعالى الذي اصطفاهم لنصرة دينه، وقد وصل به الغلو إلى أن جعل بعضهم متحكماً في طرائق الكون وقوانينه.

 أما الباب الثاني فهو دراسة تحليلية لشعر ابن سناء الملك، ومحاولة للكشف عن خصائصه الفنية. لذلك تحدثت في الفصل الأول الموسوم بـ "بناء القصيدة"، عن أهمية مطلع القصيدة لدى النقاد العرب القدماء، ومقدمات القصائد، ووحدة القصيدة، وحسن التخلص، وحسن الخاتمة، وبيّنت مدى انعكاس هذه المصطلحات في شعره، ومدى نجاحه أو إخفاقه في ذلك.

 وناقشت في الفصل الثاني "اللغة الشعرية" موضوعات تتعلق بأصل اللغة ونشأتها، وقضية "اللفظ والمعنى" في النقد العربي القديم، وأسباب ظهورها، وآثارها السيئة على الأدب العربي وتطوره. ثم أردفت هذا بالحديث عن لغة الشاعر، فتتبعت أهـم مفردات معجمه الشعري المستمدة من الألفاظ الحربية ذات الجرس القوي، والألفاظ المستمدة من الدين بقسميه الرئيسيين: القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف.

 وقد اشتمل الفصل الثالث الخاص بـ "الصورة الشعرية" على تعريف الخيال، وأهميته، ورأي النقاد العرب القدماء السلبي فيه، وفشل محاولات "ابن عربي" أن يعيد له احترامه المفقود. ثم أردفت هذا بالحديث عن الصور الشعرية في شعر الشاعر، وبيّنت كيفية تكوينها وتشكيلها، وأهم مصادرها، وخاصة ما يرتبط بأحداث العصر، والدين، والتراث، ومظاهر الطبيعة.

وتضمّن الفصل الرابع المسمى بـ "عصر البديع" توضيحاً لأسباب انتشار البديع في الشعر العربي. وأردفت هذا بالحديث عن التورية في شعر ابن سناء الملك، وناقشت أحد الآراء التي نفت أن تكون التورية أصلاً من أصول الفن عند الشاعر. ثم تلا ذلك توضيح طريقة الشاعر في معالجة التورية في شعره، والمنابع التي استقى تورياته منها ، ثم أردفت هذا بالحديث عن الأصول البديعية الأخرى في شعره ومنابعها لديه .

 واشتمل الفصل الخامس "الموسيقا الشعرية" على تبيان أن علمي العروض والقافية ليسا ضروريين للشاعر المطبوع ذي الحس المرهف والأذن الموسيقية، كما اشتمل على رأي حازم القرطاجنّي الذي تنبّه إلى صلة العروض بموضوع القصيدة. ثم أردفت هذا بتبيان الأوزان الشائعة في شعر ابن سناء الملك، وأسباب كثرة الأوزان القصيرة لديه. وبيّنت أنواع الزحافات والعلل في شعره، ثم انتقلت إلى الحديث عن القافية وأشهر حروف الروي، وأشهر عيوب القافية في شعره.

 وارتكز الفصل السادس والأخير على دراسة مظاهر "الاتباع والابتكار" في شعر ابن سناء الملك، وقد صدّرته بحديث عن السرقات الشعرية وأنواعها، وأشهر سرقات الشاعر بوجه عام، وأشهر سرقاته من شعر أبي تمام والمتنبي بوجه خاص. ثم بيّنت ابتكارات الشاعر التي زاد فيها على القدماء، محاولاً في ذلك أن تكون له شخصيته الفنية المتفردة.

 وبعد..... فإنني آمل أن يضيء هذا الكتاب جوانب مشرقة من تاريخنا الجهادي، ويذكّر بأمجاد بناها أبطال الحروب الصليبية، وفي مقدمتهم البطل المجاهد صلاح الدين الأيوبي لدحر الاحتلال الذي استمرأ الولوغ بدماء المسلمين، وسرق منهم الأمن والحياة، وجرّدهم من الأرض والمقدسات لمدة تقارب مئتي عام من عمر الزمان، حتى إذا أزفت لحظة الحقيقة اشترى هؤلاء الأبطال بحياتهم حياة الجموع، ودافعـوا عن الحرية والسلام ، وخضبوا تراب الأرض الإسلامية بدمهم وعرقهم حتى تحقق لهم النصر. كما آمل أن يغيّر هذا الكتاب من وجهة النظر المسبقة التي استقرت في أذهان الباحثين والنقاد منذ زمن طويل عن الشعر والأدب في العصر الأيوبي، فإن وفقت فمن الله، وإن عجزت فحسبي أني بذلت طاقتي، وتركت بذرة قد يتولاها أحدهم بالرعاية، ويجعل منها شجرة وارفة الظلال. ويطيب لي في النهاية أن أتقدم بالشكر والعرفان لأستاذي الكبير الأستاذ الدكتور /صلاح فضل، الذي أشرف على هذا البحث بجامعة عين شمس، وأمدني من علمه الوافر.

والله من وراء القصد.