نزهة في كتاب الحوائج

من عيون الأخبار بتصرف

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

استنجاح الحوائج

: قال رسول اللّه صلى اللّه في كتمان الطلب لأمر ما:"إستعينوا على الحوائج بالكتمان فإنّ كلّ ذي نعمةٍ محسودٌ".
وفي طلب الحاجة ومفتاح نجاحها قال خالد بن صفوان:

1-     لا تطلبوا الحوائج في غير حينها،

2-     ولا تطلبوها إلى غير أهلها،

3-     ولا تطلبوا ما لستم له بأهلٍ فتكونوا للمنع خلقاء.
و في نجح السؤال مع العقل قال شبيب بن شيبة: إنّي لأعرف أمراً لا يتلاقى به اثنان إلاّ وجب النّجح بينهما. فقال له خالد بن صفوان: ما هو? قال:"العقل، فإنّ" العاقل لا يسأل ما لا يجوز ، ولا يردّ عما يمكن.
و كان بنو ربيعة-وهم من بني عسل بن عمرو بن يربوع-يوصون أولادهم فيقولون: استعينوا على الناس في حوائجكم بالتثقيل عليهم، فذاك أنجح لكم قال الشاعر:

هيبة الإخوان مقـطـعةٌ

 

لأخي الحاجات عن طلبه

فإذا ما هـبـت ذا أمـلٍ

 

مات ما أمّلت من سببـه

وقال أبو نواس في طلب الحاجات والإلحاح عليها:

وما طالب الحاجات ممّن يرومـهـا

 

من الناس إلا المصبحون على رجل

تأنّ مواعـيد الـكـرام فـربّـمـا

 

أصبت من الإلحاح سمحاً على بخل

والأبيات المشهورة في هذا:

    إن الأمور إذا انسـدّتْ مسـالكُهـا   فالصبر يفتح منها كلّ ما ارتتجا

    أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته   ومدمن القرع للأبـواب أن يلجا

    لا تيئسـَنّ وإن طـالتْ مطـالَبَـةً   إذا استعنتَ بصبر أن ترى فرجاً

وقال آخر:

إنّـي رأيت، ولـلأيّام تـجـربةٌ

 

للصبر عاقبةً محـمـودة الأثـر

وقلّ من جدّ في أمر يطـالـبـه

 

واستصحبَ الصبرَ إلاّ فاز بالظّفر

من أمثال العرب في الصبر في طلب الحاجة:"ربّ عجلة تهب ريثاً". يريدون أن الرجل قد يخطئ ويعجل في حاجته فتتأخّر أو تبطل بذلك.
ويقولون"الرّشف أنقع". يريدون أن الشراب الذي يترّشف رويداً رويداً أقطع للعطش وإن طال على صاحبه.
وقال عامر بن خالد بن جعفر ليزيد بن الصّق:

إنك إن كلّفتني ما لـم أطـقْ

 

ساءك ما سرّك منّي  خلق

دعاء في استنجاح الحوائج
وكانوا يستنجحون حوائجهم بركعتين يقولون بعدهما: اللّهم إنّي بك أستفتح، وبك أستنجح، وبمحمّد نبيك إليك أتوجّه، اللّهم ذلّل لي صعوبته، وسهّل لي حَزونته، وارزقني من الخير أكثر مما أرجو، واصرف عنّي من الشرّ أكثر مما أخاف.
وقال القطامي في التأني بطلب الحاجة:

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

 

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

قال إبراهيم بن السّنديّ قال: قلت في أيام ولايتي الكوفة لرجلٍ من وجوهها، كان لا يجفّ لبده ولا يستريح قلمه ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال، وإدخال المرافق على الضغفاء وكان رجلاً مفوّهاً: خبّرني عن الشيء الذي هوّن عليك النّصب وقوّاك على التعب ما هو?

قال: قد واللّه سمعت تغريد الطير بالأسحار، في أفنان الأشجار؛ وسمعت خفق أوتار العيدان، وترجيع أصوات القيان الحسان؛ ما طربت من صوتٍ قطّ طربي من ثناءٍ حسنٍ بلسانٍ حسنٍ على رجلٍ قد أحسنَ، ومِنْ شكرِ حرّ لمنعمٍ حرّ، ومن شفاعةِ محتسبٍ لطالبٍ شاكر.

قال إبراهيم: فقلت: للّه أبوك لقد حشيت كرماً فزادك اللّه كرماً، فبأيّ شيء سهلت عليك المعاودة والطلب?

قال: لأني لا أبلغ المجهود ولا أسأل ما لا يجوز، وليس صدق العذر أكرهَ إليّ من إنجاز الوعد، ولستُ لإكداء السائل أكرهَ منّي للإجحاف بالمسؤول، ولا أرى الراغب أوجب عليّ حقّاً للذي قدّم مِن حسن ظنه من المرغوب إليه الذي احتمل من كلّه.

قال إبراهيم: ما سمعت كلاماً قطّ أشدّ موافقة لموضعه ولا أليق بمكانه من هذا الكلام.

وكان يقال: إذا أحببت أن تطاع، فلا تسأل ما لا يستطاع.
ويقال: الحوائجُ تطلب بالرجاء، وتدرك بالقضاء.

الاستنجاح بالرّشوة والهديّة

في الاستنجاح بالهدية قال سفيانُ التوريّ : إذا أردت أن تتزّوج فأهد للأمّ.
والعرب تقول:"من صانعَ لم يحتشم من طلب الحاجة".
وقال ميمون بن ميمون: إذا كانت حاجتك إلى كاتبٍ فليكن رسولك الطمع.
وفي الهدية لنيل الحاجة قال عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه: نعم الشيء الهديّة أمام الحاجة.- ( يقول عثمان ) ولا أعتقد أن الإمام علياً يقول مثل هذا !!!
قال رؤبة في آثار الرشوة:

لما رأيت الشّفعاء بلّـدوا

 

وسألوا أميرهم فأنكدوا

نامستهم برشوةٍ فأقردوا

 

وسهّل اللّه بها ما شدّدوا

وقال آخر في أثر الرشوة التي تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً :

وكنت إذا خاصمت خصماً كببـتـه

 

على الوجه حتى خاصمتني الدراهم

فلما تنازعنا الخصـومة غـلّـبـت

 

عليّ وقالوا قـم فـإنـك ظـالـم

والعرب تقول في مثل هذا المعنى:"من يخطب الحسناء يعط مهراً" يريدون من طلب حاجةً مهمّةً بذل فيها وقال بعض المحدثين:

ما من صديقٍ وإن تمّت صداقتـه

 

يوماً بأنجح في الحاجات من طبق

إذا تلّثم بالمنـديل مـنـطـلـقـاً

 

لم يخش نبوة بوّابٍ ولا غَـلـق

لا تكذبنّ فإنّ الناس مذ خـلـقـوا

 

لرغبةٍ يكرمون الناس أو فـَرَق

وقال آخر:

ما أرسل الأقوام في حاجةٍ

 

أمضى ولا أنجح من درهم

يأتيك عفواً بالذي تشهـتـي

 

نعم رسولُ الرجل المسلـم !

الاستنجاح بلطيف الكلام

وقيل: دخل أبو بكر الهجريّ على المنصور فقال: يا أمير المؤمنين نغض فمي وأنتم أهل بيت بركة، فلو أذنتَ لي فقبلت رأسك لعل اللّه يشدّد لي منهم? فقال أبو جعفر: اختر منها ومن الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين، أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألاّ تبقى في فمي حاكّة.
وحدّثنا الأصمعيّ عن خلف قال: كنت أرى أنّه ليس في لدنيا رقية إلا رقية الحيّات، فإذا رقية الخبز أسهل. يعني ما تكلّفه الناس من الكلام لطلب الحيلة.
وقال رجلٌ للفضل بن سهل يسأله: الأجل آفة الأمل، والمعروف ذخيرة الأبد، والبرّ غنيمة الحازم، والتفريط مصيبة أخي القدرة؛ ..  فأمر الفضلُ كاتبه وهباً أن يكتب الكلمات.
 ورفعت إلى الفضل بن سهل رقعةً فيها: يا حافظَ من يضيّع نفسه عنده، ويا ذاكرَ من ينسى نصيبه منه، ليس كتابي إذا كتبت استبطاء، ولا إمساكي إذا أمسكت استغناءً؛ لكنّ كتابي إذا كتبت تذكرةٌ لك، وإمساكي إذا أمسكت ثقة ٌ بك.
وقال رجل لآخر: ما قصّرت بي همّةٌ صيّرتني إليك، ولا أخّرني ارتيادٌ دلّني عليك، ولا قعد بي رجاءٌ حداني إلى بابك. وبحسب معتصمٍ بك ظفَرٌ بفائدةٍ وغنيمةٍ، ولجوءٌ إلى موئل ٍوسندٍ.
واستعان الهذيل بن زفر بيزيد بن المهلّب في حملاتٍ لزمته، فقال له: قد عظم شأنك عن أن يستعان بك أو يستعان عليك، ولست تصنع شيئاً من المعروف إلاّ وأنت أكثر منه وليس العجب أن تفعل، وإنما العجب من ألاّ تفعل.
وقال الحمدونيّ في الحسين بن أيوب والي البصرة:

قل لابن أيّوب قد أصبحـت مأمولا

 

لا زال بابك مـغـشـيّاً ومـأهـولا

إن كنت في عطلةٍ فالعذر متصل

 

وصِلْ إذا كنت بالسلطان مـوصـولا

شرّ الأخـلاّء مـن ولـيّ قـفـاه إذا

 

كان الوليَّ وأعطى البشر معـزولا

من لم يسمّن جـواداً كـان يركـبـه

 

في الخصب قام به في الجدب مهزولا

افرغ لحاجتنا ما دمـت مـشـغـولاً

 

لو قد فرغت لقد ألـفـيت مـبـذولا

وقال آخر:

ولا تعتذر بالشّغل عنّا فـإنـمـا

 

تناط بك الآمال ما اتّصل الشّغل

وقال رجل لوالٍ: قد كان يجب ألاّ أشكو حالي مع علمك بها، ولا أقتضيك عمارتها بأكثر من قدرتك عليها؛ فلربّما نيل الغنى على يدي من هو دونك بأدنى من حرمتي. وما استصغر ما كان منك إلا عنك، ولا أستقلّه إلا لك.
وقال آخر: إن رأيت أن تصفّد يداً بصنيعةٍ باقٍ ذكرها جميلٍ في الدهر أثرُها، تغتنم غرّة الزمان فيها وتبادر فوت الإمكان بها، فافعل.
وقدم على زيادٍ نفرٌ من الأعراب فقام خطيبهم فقال: أصلح الله الأمير؛ نحن، وإن كانت نزعت بنا أنفسنا إليك وأنضينا ركائبنا نحوك التماساً لفضل عطائك، عالمون بأنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطٍ لما منع؛ وإنما أنت أيها الأمير خازنٌ ونحن رائدون، فإن أذن لك فأعطيت حمدنا الله وشكرناك، وإن لم يؤذن لك فمنعت حمِدنا الله وعذرناك. ثم جلس؛ فقال زياد لجلسائه: تالله ما رأيت كلاماً أبلغ ولا أوجز ولا أنفع عاجلة منه. ثم أمر لهم بما يصلحهم.
ودخل العتابي على المأمون، فقال له المأمون: خبّرت بوفاتك فغمّتني، ثم جاءتني وفادتك فسرتني. فقال العتابي: لو قسمت هذه الكلمات على أهل الأرض لوسعتهم؛ وذلك أنه لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك. قال: سلني. قال: يداك بالعطية أطلق من لساني.
وقال نصيب لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، كبرت سني ورقّ عظمي، وبليت ببنّياتٍ نفضْتُ عليهن من لوني فكسدن عليّ. فرقّ له عمر ووصله.
ولزم بعض الحكماء بابَ بعض ملوك العجم دهراً فلم يصل إليه، فتلطف للحاجب في إيصال رقعةٍ ففعل. وكان فيها أربعة أسطرٍ:

السطر الأول "الأمل والضرورة أقدماني عليك".
والسطر الثاني "والعدم لا يكون معه صبرٌ على المطالبة".
والسطر الثالث "الانصراف بلا فائدةٍ شماتةٌ للأعداء".
والسطر الرابع "فإما نعمْ مثمرةٌ، وإما لا مريحةٌ". فلما قرأها وقع في كل سطرٍ: فأعطاه ستة عشر ألف مثقال فضة.
ودخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم، فقال له: أتيتك في حاجةٍ رفعتها إلى الله قبلك، فإن تقضها حمدنا الله وشكرناك، وإن لم تقضها حمدنا الله وعذرناك. فأمر له بحاجته.
وأتى رجل خالد بن عبد الله في حاجةٍ، فقال له، أتكلّم بجرأة اليأس أم بهيبة الأمل? قال: بل بهيبة الأمل. فسأله حاجته فقضاها.
وقال أبو سمّاكٍ لرجل: لم أصن وجهي عن الطلب إليك، فصن وجهك عن ردّي، وضعني من كرمك بحيث وضعت نفسي من رجائك.
وقال أبو العباس لأبي دلامة: سل حاجتك. قال: كلبٌ؛ قال: لك كلب. قال: ودابة أتصيّد عليها؛ قال: ودابة. قال: وغلام يركب الدابة ويصيد؛ قال: وغلام. قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه؛ قال: وجارية. قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء عيال ولابدّ من دارٍ؛ قال: ودار. قال: لابدّ من ضيعةٍ لهؤلاء؛ قال: قد أقطعتك مائة جريبٍ عامرةٍ ومائة جريب غامرة. قال: وأي شيءٍ الغامرة? قال: ليس فيها نباتٌ. قال: فأنا أقطعك ألفاً وخمسمائة جريبٍ من فيافي أسدٍ؛ قال: قد جعلتها "كلها لك" عامرةً.
قال عبد الملك لرجل: ما لي أراك واجماً لا تنطق? قال: أشكو إليك ثقل الشرف؛ قال: أعينوه على حمله.
وقفت عجوز على قيس بن سعد فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان. قال: ما أحسن هذه الكناية? إملأوا بيتها خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً.
دخل بعض الشعراء على بشر بن مروان فأنشده:

أغفيت عند الصبح نوم مسهـدٍ

 

في ساعة ما كنت قبل أنامها

فرأيت أنك رعتنـي بـولـيدةٍ

 

مغنوجةٍ حَسَنٍ عليّ قيامـهـا

وببَذرةٍ حملت إلـيّ وبـغـلةٍ

 

دهماء مشرفةٍ يصلُّ لجامهـا

فدعوت ربي أن يثيبـك جـنةً

 

عوضاً يصيبك بردها وسلامها

فقال له بشر: في كل شيء أصبت إلا في البغلة فإني لا أملك إلا شهباء. فقال: إني والله ما رأيت إلا شهباء.
وقال ابن أبي عتيق: دخلت على أشعب وعنده متاع حسن وأثاثٌ، فقلت له: ويحك أما تستحي أن تسأل وعندك ما أرى فقال: يا فديتك معي والله من لطيف السؤال ما لا تطيب نفسي بتركه.
قال الصّلتان العبديّ:

نروح ونغدو لحاجـاتـنـا

 

وحاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجـاتـه

 

وتبقى له حاجةٌ ما بـقـي

إذا ليلةٌ هرّمـت يومـهـا

 

أتى بعد ذلـك يومٌ فـتـي

وقال آخر:

وحاجةٍ دون أخرى قد سنحت بها

 

جعلتها للتي أخفيت عـنـوانـا

وكتب دعبلٌ إلى بعض الأمراء:

جئتك مستشفعاً بلا سبـب

 

إليك إلا بـحـرمة الأدب

فاقض ذمامي فإنّني رجلٌ

 

غير ملحٍّ عليك في الطلب

ممن تُطلبُ الحاجة؟
روى هشيم عن عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي مصعب قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"اطلبوا الحوائج إلى حسان الوجوه".
شعر لامرأة من ولد حسّان بن ثابت قالت امرأةٌ من ولد حسّان بن ثابت:

سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل

 

فتىً ذاق طعم العيش منذ قـريب

ومن المشهور قول بعض المحدثين:

حُسنُ ظنّ إليك أكرمك الـلّ

 

ه دعاني فلا عدمت الصّلاحا

ودعاني إليك قـول رسـول

 

اللّه إذ قال مفصحاً إفصاحا

إن أردتم حوائجاً عنـد قـومٍ

 

فتنقّوا لها الوجوه الصّباحـا

وقال خالد بن صفوان: فوت الحاجة خيرٌ من طلبها إلى غير أهلها، وأشدّ رمن المصيبة سوء الخلف منها.
وقال مسلم بن قتيبة: لا تطلبنّ حاجتك إلى كذّابٍ فإنه يقرّبها وهي بعيدٌ ويبعّدها وهي قريب، ولا إلى أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، ولا إلى رجل عند من تسأله الحاجة مأكلةٌ، فإنه لا يؤثرك على نفسه.
وأنشدنا الرّياشيّ لأبي عونٍ في مساءلة الأعراب:

ولست بسائل الأعراب شيئاً

 

حمدت اللّه إذ لم يأكلونـي

وقال ميمون بن ميمون: لا تطلبنّ إلى لئيم حاجةً، فإن طلبت فأجّله حتى يروض نفسه.
وقال عثمان بن عطاء، قال: عطاء الحوائج عند الشباب أسهل منها عند الشيوخ ثم قرأ قول يوسف:"لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم" وقول يعقوب"سوف أستغفر لكم ربّي إنّه هو الغفور الّرحيم".
وقال بشارٌ:

إذا أيقظتك حروب العدا

 

فنبّه لها عمراً ثـم نـم

فتىً لا يبيت على دمنةٍ

 

ولا يشرب الماء إلا بدم

يلذ  العطاء وسفك الدماء

 

فيغدو على نعم أو نقم

وقال أبو عبّاد الكاتب: لا تنزل مهمّ حوائجك بالجيّد اللسان، ولا المتسرّع إلى الضّمان، فإنّ العجز مقصورٌ على المتسرّع؛ ومن وعد ما يعجز عنه فقد ظلم نفسه وأساء إلى غيره؛ ومن وثق بجودة لسانه ظنّ أنّ في فصل بيانه ما ينوب عن عذره وأن وعده يقوم مقام إنجازه.
وقال أيضاً: عليك بذي الحصر البكيّ، وبذي الخيم الرضيّ، فإن مثقالاً من شدّة الحياء والعيّ، أنفع في الحاجة من قنطارٍ من لسانٍ سليطٍ وعقلٍ ذكيّ؛ وعليك بالشّهم النّدب الذي إن عجز أيأسك، وإن قدر أطعمك.
قال بعض الشعراء في البخلاء:

لا تطلبـنّ إلـى لـئيم حـاجة

 

واقعد فإنك قائماً كالـقـاعـد

يا خادع البخلاء عن أمولـهـم

 

هيهات !تضرب في حديدٍ بارد

وقال آخر:

وإذا امرؤٌ أسدى إليك صنيعةً

 

من جاهه فكأنّها من مالـه

ومدح أعرابيّ رجلاً، فقال: كان واللّه إذا نزلت به الحوائج قام إليها ثم قام بها، ولم تقعد به علاّت النفوس.
وكان شبيب بن شيبة رجلاً شريفاً يفزع إليه أهل البصرة في حوائجهم فكان إذا أراد الركوب تناول من الطعام شيئاً ثم ركب؛ فقيل له: إنك تكابر الغذاء فقال: أجل أطفىء به فورة جوعي، وأقطع به خلوف فمي، وأبلغ في قضاء حوائجي، فخذ من الطعام ما يذهب عنك النّهم؛ ويداوي من الخوى.
وقال رجلٌ لآخر يسأله حاجة: أيدينا ممدودةٌ إليك بالرغبة، وأعناقنا خاضعةٌ لك بالذّلّة، وأبصارنا شاخصةٌ إليك بالشكر؛ فافعل في أمورنا حسب أملنا فيك، والسلام.

الإجابة إلى الحاجة والردّ عنها

وقال رجل للعّباس بن محمد: إنّي أتيتك في حاجةٍ صغيرةٍ؛ قال: اطلب لها رجلاً صغيراً.

وهذا خلاف قول عليّ بن عبد اللّه بن العبّاس لرجل قال له: إني أتيتك في حاجةٍ صغيرةٍ فقال له عليّ بن عبد اللّه: هاتها، إنّ الرجل لا يصغر عن كبير أخيه ولا يكبر عن صغيره.
وقال رجل للأحنف: أتيتك في حاجةٍ لا تنكيك ولا ترزؤك. قال: إذاً لا تُقضى! أمثلي يؤتى في حاجةٍ لا تنكي ولا تزرأ

حُسنُ الردّ في حاجة لا تستطيعها

وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سئل ما يجد أعطى، وإذا سئل ما لا يجد قال: "يصنع اللّه".لا
 قال عمر بن أبي ربيعة:

إنّ لي حاجةً إليك فقالت

 

بين أذني وعاتقي ما تريد

أي قد تضمّنته لك فهو في عنقي
قال يزيد بن عمير الأسيدي لبنيه: يا بنيّ، تعلمّوا الردّ فإنه أشدّ من الإعطاء، ولأن يعلم بنو تميم أن عند أحدكم مائة ألف درهم أعظم له في أعينهم من أن يقسمها فيهم، ولأن يقال لأحدكم: بخيلٌ وهو غنيٌ، خيرٌ له من أن يقال: سخيٌ وهو فقير.
 وقال إسحاق بن إبراهيم:

النصر يقرئك الـسـلام وإنـمـا

 

أهدي السلام تعرضّاً للمطـمـع

فاقطع لبانتـه بـيأسٍ عـاجـلٍ

 

وأرح فؤادك من تقاضي الأضلع

 ذكر ثمامة محمد بن الجهم معرّضاً فيه فقال: لم يطمع أحداً قطّ في ماله إلا ليشغله بالطمع فيه عن غيره، ولا شفع لصديقٍ ولا تكلّم في حاجة متحرّمٍ به، إلا ليلقن المسؤول حجّة منع، وليفتح على السائل باب حرمانٍ.
 وكتب سهل بن هارون إلى موسى بن عمران:

إنّ الضمير إذا سألتك حـاجةً

 

لأبي الهذيل خلاف ما أبدي

 

فأمنعه روح اليأس ثم امدد له

 

حبل الرجاء لمخلف الوعـد

 

وألن له كنفاً ليحسن ظـنّـه

 

في غير منفـعةٍ ولا رفـد

 

حتى إذا طالت شقاوة جدّه

 

وعناؤه فأجبهه بـالـردّ

 

 

 

 

 

 

الصبر على الردّ والمنع

قال معن بن زائدة: ما سألني قطّ أحدٌ فرددته إلا رأيت الغنى في قفاه.
 وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: أعلمتم أن الطمع فقرٌ، وأن اليأس غنىً، وأن المرء إذا يئس استغنى عنه.
وقال آخر في كلامٍ له: كلّ ممنوعٍ مستغنىً عنه بغيره، وكلّ مانع ما عنده ففي الأرض غنىً عنه.
وقد قيل: أرخص ما يكون الشيء عند غلائه.
وقال بشار: "والدر يترك من غلائه"

 وفي سؤال الحاجة ومنعها قال شريح القاضي: من سأل حاجةً فقد عرض نفسه على الرّق، فإن قضاها المسؤول استبعده بها، وإن ردّه عنها رجع حرّاً وهما ذليلان: هذا بذّل البخل، وهذا بذّل الردّ.
وقال بعضهم: من سألك لم يكرم وجهه عن مسألتك، فأكرم وجهك عن ردّه.
 وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يردّ ذا حاجةٍ إلا بها أو بميسور من القول.
 وقالت أسماء بنت خارجة: ما أحبّ أن أردّ أحداً عن حاجةٍ؛ فإنه لا يخلو من أن يكون كريماً فأصونه، أو لئيماً فأصون منه نفسي.
: وقال أعرابيّ سأل حاجة فردّ عنها:

ما يمنع الناس شيئاً كنت أطلبـه

 

إلا أرى اللّه يكفي فَقد ما منعوا

 وأتى رجلٌ الحسن بن عليّ رضي اللّه عنهما يسأله؛ فقال الحسن: إن المسألة لا تصلح إلا في غرمٍ فادحٍ أو فقر مدقع أو حَمالة مفظعةٍ؛ فقال الرجل: ما جئت إلا في إحداهنّ. فأمر له بمائة دينار.
ثم أتى الرجل الحسين بن علي رضي اللّه عنهما فسأله، فقال له مثل مقالة أخيه، فردّ عليه كما ردّ على الحسن، فقال: كم أعطاك? قال: مائة دينار، فنقصه ديناراً. كره أن يساوي أخاه.
ثم أتى الرجل عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما فسأله فأعطاه سبعة دنانير ولم يسأله عن شيء فقال الرجل له: إني أتيت الحسن والحسين، وقصّ كلامهما عليه وفعلهما به؛ فقال عبد اللّه ويحك! وأنّى تجعلني مثلهما! إنهما غرّاً العلم غرّا المال.
 وأتى عبد اللّه بن الزبير أعرابيٌ يسأله، فشكا إليه نقب ناقته واستحمله؛ فقال له ابن الزبير: ارقعها بسبتٍ واخصفها بلهب وافعل....؛فقال الأعرابيّ: إني أتيتك مستوصلاً ولم آتك مستوصفاً، فلا حملت ناقةٌ حملتني إليك! فقال: إن وصاحبها. ( أي نعم وصاحبها )
من أمثال العرب فيمن رجع خائباً

والعرب تقول لمن جاء خائباً ولم يظفر بحاجته: "جاء على غبيراء الظهر" وتقول هي والعوامّ: "جاء بخفّي حنين"؛ و"جاء على حاجبه صوفةٌ".
شعر أبو عطاء السندي في عمر بن هبيرة وقال أبو عطاء السّندي في عمر بن هبيرة:

ثلاثٌ حكتهنّ لـقـرم قـيسٍ

 

طلبت بها الأخوة والثـنـاء

رجعن على حواجبهن صوفٌ

 

فعند اللّه أحتسب الـجـزاء

الأصل في قول العرب "جاء بخفي حنين"
والأصل في قولهم: "جاء بخفي حنين" أن إسكافاً من أهل الحيرة ساومه أعرابيٌ بخفّين، فاختلفا حتى أغضبه، فازداد غيظ الأعرابيّ؛ فلما ارتحل أخذ حنينٌ أحد خفّيه فألقاه على طريقه ثم ألقى الآخر في موضع آخر؛ فلما مرّ الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا بخفّ حنين! ولو كان معه الآخر لأخذته، ومضى؛ فلما انتهى إلى الأخر ندم على تركه الأوّل، وأناخ راحلت فأخذه ورجع إلى الأوّل، وقد كمن له فعمد إلى راحلته وما عليها فذهب به؛ وأقبل الأعرابيّ ليس معه غير الخفّين؛ فقال له قومه: ما الذي أتيت به? قال: بخّفي حنين.
قالوا: فإن جاء وقد قُضِيت حاجته قيل: "جاء ثانياً من عنانه" فإن جاء ولمّا تقض حاجته وقد أصيب ببعض ما معه، قالوا: "ذهب يبتغي قرناً فلم يرجع بأذنين". يقول بشار:

فكنت كالعير غدا يبتغي

 

قرناً فلم يرجع بأذنين

وقد سأل قوماً سأل أعرابيّ قوماً، فقيل له: بورك فيك! فقال: وكلكم اللّه إلى دعوةٍ لا تحضرها نيّة.
من أقوال العرب وتقول العرب فيمن يشغله شأنه عن الحاجة يسألها: "شغل الحليَ أهله أن يعار" بنصب الحلي، ويعار: من العارية. فأمّا قولهم: "أحقّ الخيل بالركض المعار" فأنّ المعار: المنتوق الذّنب وهو المهلوب؛ يريدون أنه أخفّ من الذيّال الذنب، يقال: أعرت الفرس إذا نتفته.
وتقول العرب لمن سئل وهو لا يقدر فردّ: " بيتي يبخل لا أنا"؛ يريدون أنه ليس عنده ما يعطي.
ووعد رجلٌ رجلاً فلم يقدر على الوفاء بما وعده؛ فقال له: كذبتني. قال: لا، ولكن كذبك مالي.
وتقول العرب فيمن اعتذر بالمنع بالعدم وعنده ما سئل: "أبى الحقين العذرة". قال أبو زيد: وأصله أن رجلاً ضاف قوماً فاستسقاهم لبناً، وعندهم لبنٌ قد حقنوه في وطبٍ، فاعتذروا أنه لا لبن عندهم؛ فقال: "أبى الحقين العذرة". ويقال: " العذرة طرف البخل".

بعض ما قيل في المُطلل
 وقال الطائي يذكر المطل:

وكان المطل في بدءٍ وعـودٍ

 

دخاناً للصنيعة وهـي نـار

نسيب البخل مذ كانا وإن لـم

 

يكن نسبٌ فبينهمـا جـوار

لذلك قيل بعض المنع أدنـى

 

إلى جودٍ وبعض الجود عار

لإسماعيل القراطيسي في الفضل بن الربيع قال إسماعيل القراطيسيّ في الفضل بن الربيع:

لئن أخطأت فـي مـدحيـ

 

ك ما أخطأت في منعي

لقد أحللت حـاجـاتـي

 

بوادٍ غــير ذي زرع

بين المنذر بن الزبير وحكيم بن حزام غزا المنذر بن الزبير "في" البحر ومعه ثلاثون رجلاً من بني أسد بن عبد العزّى؛ فقال له حكيم بن حزام: يا بن أخي، إني قد جعلت طائفةً من مالي للّه عزّ وجلّ، وإني قد صنعت أمراً ودعوتكم له، فأقسمت عليك لا يردّه عليّ أحدٌ منكم. فقال المنذر: لاها اللّه إذاً، بل نأخذ ما تعطي، فإن نحتج إليه نستعن به ولا نكره أن يأجرك اللّه، وإن نستعن عنه نعطه من يأجرنا اللّه فيه كما أجرك.
وسأل أعرابيٌّ رجلاً يقال له: الغمر فأعطاه درهمين، فردّهما وقال:

جعلت لغمرٍ درهمـيه ولـم يكـن

 

ليغنيَ عني فاقتي درهما غـمـر

وقلت لغمر خذهما فاصطرفهـمـا

 

سريعين في نقض المروءة والأجر

أتمنع سؤّال العشـيرة بـعـد مـا

 

تسمّيت غمراً واكتنيت أبا بـحـر

 اختلف أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع في حاجةٍ له زماناً فلم يقضها له، فكتب:

أكلّ طول الزمان أنـت إذا

 

جئتك في حاجةٍ تقول غدا!

لا جعل اللّه لي إلـيك ولا

 

عندك ما عشت حاجةً أبدا!

وقال آخر:

إن كنت لم تنو فيما قلت لي صلةً

 

فما انتفاعك من حبسي وترديدي

فالمنع أجمله ما كان أعـجـلـه

 

والمطل من غير عسرٍ آفة الجود

وقال آخر:

يا جواد اللسان من غير فعلٍ

 

ليت جود اللسان في راحتيكا

وقال راجي عفوه تعالى – عثمان قدري مكانسي :

إني وقفت ببابك --- أرنـو لسـاح رحابـك

متسربلاً بذنوبي --- والذنـْب دامٍ شـائـك  

إن تكتنفني بعفو --- فهـذا من أفـضـالـك 

يا رب أنت كريمٌ --- هبني ندِيَّ وصالك