سوريا في الزمن الحاضر

تأليف : تأليف جماعي

هذا كتاب جماعي يساهم في تأليفه حوالي سبعين باحثا وكاتبا من مختلف الاختصاصات والمشارب. فمن بينهم الاقتصادي والمحامي والجغرافي والديموغرافي والطبيب والمؤرخ والناقد والصحفي والانتروبولوجي، ومنهم العربي والأجنبي من جنسيات مختلفة تنتمي إلى مختلف القارات.

وهذا كتاب بحوالي 800 صفحة، ولعله ليس من الخطأ تسميته بالكتاب ـ الموسوعة عن سوريا المعاصرة، كما هي وبما هي عليه ومن مختلف الوجوه، وبالطبع من وجهات نظر متنوعة وبالتالي بعيدة عن النظرة «الأحادية» والمؤدلجة في أغلب الأحيان.

ولعلّه من المفيد التنبيه منذ البداية أن تقديم أي كتاب من هذا النوع يواجه مباشرة مشكلة «الانتقائية»، ولكن ما يسهّل المهمة «قليلا» واقع تقسيم محتويات هذا العمل الكبير إلى ثمانية فصول يتعرض كل منها لجانب محدد من الواقع السوري المعاصر.

وهكذا يتم الحديث في الفصل الأول عن حالات عيانية محددة في المجتمع السوري بمدنه وأريافه ومناطقه ومكوناته وتطوره العمراني وأحيائه الغنية والفقيرة وغوطة عاصمته. ومن خلال الدراسات العشر التي يتضمنها هذا الفصل يتم رسم «صورة عيانية» للواقع السوري اليوم عبر تنوعاته.

ويبدأ المشرفون على إعداد الفصل مريم عبابسة وسيريل روسل ومحمد الدبيّات بالقول إن ال«60 سنة الأخيرة»، أي فيما بعد فترة الانتداب الفرنسي أعطت لسوريا «هدية جغرافية قوية» وللمرة الأولى منذ العصر الأموي.

كما يتم التأكيد في الوقت نفسه على أن سوريا هي أحد آخر البلدان في العالم التي تدعم «سياسة حمائية» منذ سنوات الستينات على رغم رفع شعار «الاقتصاد الاجتماعي للسوق» اعتبارا من عام 2005.

ومثل هذا الشعار يستلهم محتواه، كما جاء على لسان نائب وزير الاقتصاد عبد الله الدردري، من «الموديل الاقتصادي للاتحاد الأوروبي» وبما يتماشى مع «القواعد الاشتراكية» المتبناة رسميا.

في الفصل الثاني من الكتاب المكرّس لدراسة «السكان في سوريا» يقول يوسف كرباج، المشرف على إعداده، إن المعطى السكاني في سوريا يمثّل ورقة جيوسياسية كبرى، وذلك أنه، من خلال دينامية هؤلاء السكان وبناهم، يتم تحديد المستقبل الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.

وتدل التحليلات المقدّمة على أن عدد السكان في سوريا يتزايد دائما بوتيرة عالية، وهذا أمر يثير نوعا من الدهشة في «بلاد جمعت الشروط المسبقة الاجتماعية ـ الاقتصادية والثقافية المؤاتية لتحديد سريع للنسل ولاحتلال موقع متقدم على طريق التحوّل الديمغرافي». وهكذا تجد العولمة «صعوبات» في فرض قوانينها على الواقع السوري.

وعبر تقديم العديد من الإحصائيات والمقارنات يتم التأكيد على أن التوجه نحو الحد من النسل قد توقف وبالتالي عدد السكان مرشح للزيادة بواقع أن متوسط عمر السوري في عام 2006 هو 75 سنة، أي ما يزيد ب39 سنة عن متوسط عمر أجداده و15 سنة عن متوسط عمر أبويه.

إن الكاتب يقدّم في هذا السياق «قراءة نقدية» للعملية الإحصائية التي شهدتها سوريا عام 2004. ذلك أنها لم تأخذ في اعتبارها جميع المعطيات التي تسمح بصياغة مؤشرات ثابتة حيال المستقبل.

ويخلص الكاتب ـ الباحث الديموغرافي إلى القول أن سوريا لم تحقق في بداية هذا القرن ما يسميه ب«التحول الديموغرافي»، أي ما يعني «الانتقال من مستوى وفيات وولادات مرتفع جدا بنسبة تتراوح بين 45 بالمائة إلى 50 بالمائة إلى معدلات أضعف تجاور نسبة 10 بالمائة».

ويشير إلى أنه وفيما هو أبعد من «المؤشرات الكمية ـ الرقمية» ينبغي النظر إلى عامل حاسم آخر يتعلق بالانفتاح الاقتصادي والثقافي وبالسياسة العامة وب«علاقة السلطة مع المواطنين». إن مساهمات هذا الفصل تتعرض لمسائل عيانية منها: «هل التشكيلة السكانية في سوريا متناسقة؟»

و«البنى القبلية والدولة ومشاريع التنمية الدولية: إعادة التفكير بمسألة إدارة البادية السورية والرقابة عليها» و«البدو والحداثة والدولة» و«الأكراد في سوريا».. الخ. وبعد فصل عن «الأديان والتديّن في سوريا» أشرف على إعداده باولو ج. بينتو ويتم فيه التأكيد على دور الانتماء الديني في تحديد الهويات وفي التعبير عن السياقات الثقافية

ونقلها وتمفصلها في البنية الاجتماعية في إطار مشابه يعم منطقة الشرق الأوسط كلها تقريبا، تحظى «الثقافة في سوريا» بفصل تشرف عليه حنان قصّاب حسن. وهي تؤكد أن تاريخ الثقافة في سوريا لا يمكن فصله عن التاريخ الاجتماعي ـ السياسي للبلاد باعتبارها «ملتقى التأثيرات» في قلب الشرق الأوسط.

وتشير حنان قصاب حسن إلى أن المثقفين السوريين عرفوا باستمرار منذ عصر النهضة، في نهاية القرن التاسع عشر، نوعا من الإعجاب بقيم عصر التنوير الأوروبي وبشعارات الثورة الفرنسية. وإذا كانت فرنسا قد مثّلت «العدو» المستعمر لفترة من الزمن فإن هذا لم يمنع واقع الاحترام الكبير لأفكار التنويرية التي كانت بلاد البوربون مهدا لها.

كذلك يتم التأكيد على مصدر تأثير آخر كبير على المثقفين السوريين يتمثّل في الانتماء العروبي. هذا التأثير المزدوج استمر دائما بحيث جرى تقديم سورية على أنه «عرين العروبة». وتؤكد الكاتبة في هذا السياق على أن «الثقافة السورية عرفت لحظات ازدهار ولحظات انكفاء».

وإذا كان قد قيل الكثير عن وجود أزمة ثقافية حقيقية اليوم بسبب شيخوخة البنى والمؤسسات، فإن الواقع يؤكد وجود نشاط ثقافي ما دائما في دمشق وحلب، كما أن الزائرين الأجانب لا تزال تعتريهم الدهشة والإعجاب حيال النوعية الجيّدة للإنتاج الفني وللحيوية التي يتمتع بها المبدعون السوريون.

من جهة أخرى إن المساهمات الإحدى عشرة التي يحتويها هذا الفصل ابتداء من مساهمة عن «الموسيقى في حلب: صباح فخري يشدو» وانتهاء بمساهمة عن «بيع الكتب الأجنبية في حلب» ومرورا بمساهمات تعالج مسائل «المسرح السوري اليوم» و«التلفزيون» و«الإنتاج السينمائي» و«المخازن التجارية الصغيرة في دمشق»

و«سوق الكتاب» و«موسيقى نوّار» و«التطور اللغوي الراهن»، الخ، تؤكد كلها على وجود «دينامية ثقافية استثنائية» في سوريا من جهة، وعلى مسارها المتعرج صعودا وهبوطا من جهة أخرى وصولا إلى التأثر بنزعة الاستهلاك والكسب السائدة في عالم اليوم.

ومن الثقافة إلى الاقتصاد في فصل يشرف عليه سمير العيطة، الخبير الاقتصادي ورئيس تحرير لوموند دبلوماتيك -النسخة العربية ـ الشهرية الشهيرة الصادرة عن مؤسسة صحيفة لوموند الفرنسية. يحمل هذا الفصل عنوان: «هل يمكن للاقتصاد السوري أن يصبح اقتصادا اجتماعيا؟».

ويناقش سمير العيطة شعار «الاقتصاد الاجتماعي للسوق» الذي جرى طرحه رسميا عام 2005 كدليل مرشد لتوجهات الاقتصاد السوري الجديدة وذلك بعد 42 سنة من النهج «الاشتراكي» والذي نصّ عليه صراحة الدستور النافذ منذ عام 1973 حيث يتم التأكيد على أن «الاقتصاد في الدولة هو اقتصاد اشتراكي مخطط ويرمي إلى إنهاء كل شكل للاستغلال».

لكن سوريا عرفت مؤخرا عدة إجراءات للبرالية الاقتصادية التي استهدفت أولا القطاع الزراعي بحيث أن عمليات تسويق المنتوجات الزراعية أصبحت حرة كما بدأت الدولة بدفع القيمة الحقيقية للقطن والقمح. وزادت كذلك مساهمة القطاع الخاص، وذلك كـ «موجة ثانية من اللبرالية» مع رفع شعار «التعددية الاقتصادية».

هكذا جرى تدريجيا، بعد الكثير من التردد والعقبات، الانتقال من «الاحتكار» إلى «لبررة» الاقتصاد والخدمات. واستجدّت في هذا السياق عمليات الخصخصة الكبرى الأولى في ميدان الخدمات ابتداءً من «الهاتف النقال».

وبعد أن يتعرض الكاتب بالتحليل ل«القطاع المصرفي» ويحاول الإجابة على سؤال: «هل سوريا بلد منتج للنفط»؟ ثم على سؤال آخر: «ما هو مصير العائدات البترولية»؟ يلي هذا تقديم قراءته عن «ميزانية الدولة في عصر البترول»، بعد هذا كله يحدد في خاتمة دراسته «منظورات المستقبل»، كي ينتهي إلى القول: «أصبح التوازن الاقتصادي لسوريا غير مستقر. وسوف يتحدد مصيره في مستقبل قريب وعلى أرضية الاقتصاد السياسي».

مساهمات هذا الفصل تتعرض لهذا المظهر أو ذاك من مظاهر الاقتصاد السوري. وتحمل مساهماته الخمسة العناوين التالية: «إنتاج الحليب ومشتقاته: مؤسسات محلية ورأسمال اجتماعي» ثم «المصادر الأربعة لرأس المال الخاص في سوريا» و«خبراء محاسبون ومفتشو حسابات: نماذج تبدّل معلن» و«السياسات الخاصة بالمياه في سورية» ثم أخيرا: «مظاهر مباشرة من سوق حلب».

يلي الفصل الخاص بالاقتصاد فصل قصير يحمل عنوان: «القانون والمجتمع»، أشرف عليه زهير غزال، الأستاذ في جامعة لويولا في شيكاغو بالولايات المتحدة الأميركية. ويبدأ تحليلاته بالقول رجال القانون والعارفين به يميلون إلى تحديد عام 1949 ك«مفرق تأسيسي للقانون السوري الحديث،

وذلك على أساس أن المنعطفات الكبرى الحاسمة اللاحقة مثل الوحدة مع مصر عام 1958 ووصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963 وتأميمات تلك السنة وسنة 1965، وزعم أنها كلها أحداث «تأسيسية» من عدة أوجه على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فإنه يتم النظر إليها عامة أنها كانت ذات أثر قليل على القانون بمكوناته المدنية والجنائية والتجارية.

وبعد أن يتعرض زهير غزال للبحث في «وزن الارث العثماني» يؤكد على أن زيادة سلطة الدولة على الإنتاج بشتى أشكاله فإن القضاء ظلّ يتمتع بنوع من الاستقلال الذاتي، الإجراءات القانونية هي التي أصابها التعقيد. أما الخطر الأكبر الذي يتم التأكيد على ضرورة تجنبه هو ما يطرحه الكاتب بصيغة الاستفهام: هل هناك إقحام للسياسة فيما هو قانوني؟

وبعد فصل يحاول المساهمون فيه الإجابة على السؤال: «هل هناك تحولات سياسية حقيقية في سورية»؟ يُختتم الكتاب بفصل عن «الاندماج الإقليمي لسوريا» حيث تتم دراسة «العلاقات الاقتصادية بين سوريا ولبنان» و«العلاقات السورية ـ الإيرانية» ثم «سوريا ـ الولايات المتحدة: نصف قرن من العلاقات» وأخيرا: «العلاقات السورية ـ الأردنية».

*الكتاب: سوريا في الزمن الحاضر

*الناشر: سندباد ـ أكت سود - باريس 2007

*الصفحات :879 صفحة من القطع المتوسط