مُلخَّص: العَقيدة الإسلاميَّة وأثرها في النَّجاة مِن الفِتَن المعاصرة
مُلخَّص:
العَقيدة الإسلاميَّة
وأثرها في النَّجاة مِن الفِتَن المعاصرة
رجاء محمد الجاهوش
الكتاب
عنوانه: العَقيدة الإسلاميَّة وأثرها في النَّجاة مِن الفِتَن المعاصرة
مؤلفه: أ.د سليمان بن قاسم العيد
عدد صفحاته: 134 صفحة
عدد صفحات التَّلخيص: 19 صفحة
توطِئة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
في زَمنٍ تَلاطمت فيه أمواج الفِتن العاتِية، وعمَّ ماء الفَسادِ الشُطآن والأودية، واختلطت فيه المفاهيم أو خُلِّطت، فما عادَ الحلال بيِّنًا عند كثير مِن النَّاس، وكذلك الحرام...
في مثل هذا الزَّمن تظهر الحاجة الماسَّة إلى عالِم ربانيّ، وناصِح أمين، وكلمة صادِقة تأخذ بأيدنا نحو نور المعرفة والهداية والفلاح، فتُجلِّي لنا الحقائق، وتدلّنا على سبلها لنسلكها، وتُعرِّي لنا الباطل، وتدلّنا على مساربه لنتَّقيه.
وهذا ما حاولنا أن نقدِّمه في بحثنا هذا، الذي سيتناول:
1- بيان الفِتن المعاصرة وأخطارها.
2- بيان كيفية النَّجاة من هذه الفِتن بالعقيدة الإسلاميَّة.
سائلين الله عزَّ وجلَّ التَّوفيق والسَّداد.
الفِتنة
للفِتنة معانٍ مُتعدِّدة، فقد تأتي بمعنى:
· الابتلاء والامْتِحانُ والاختبار، وأَصلها مأْخوذ من قولك: فتَنْت الفضَّة والذَّهب إِذا أَذبتهما بالنَّار لتميز الرَّديء من الجيِّدِ.
· الإِحراق بالنار: ومن هذا قوله عزَّ وجلَّ : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (الذاريات:13)
· الضَّلال والإِثم، وقيل: هي في التأْويل الظُّلْم.
· إِعجابُك بالشَّيء، فَتَنَه يَفْتِنُه فَتْناً وفُتُونا. وأُفْتن الرجل وفُتِن، فهو مَفْتُون إِذا أَصابته فِتْنة فذهب ماله أَو عقله.
· والفِتْنة: الكفر، والفِتْنة: المال، والفِتْنة: الأَوْلادُ.
والمعنى المُراد في الفِتنة في هذا البحث: هو ما يُبتلى به الإنسان في هذه الحياة مِن المال والنِّساء والمنصِب والجاه ونحو ذلك، ممَّا يكون سببًا في بُعده عن الله والدَّار الآخرة.
خَطر الفِتنة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ مِن شرِّ الفِتن، ويحذِّر أمتَّه منها لخطرها العظيم على الإنسان في حياته وبعد مماته، فهي في الدُّنيا ضَلال وضَياع، وفي الآخرة حِساب وعِقاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الفِتن ستَعمّكم فتعوَّذوا بالله مِن شرِّها". ( السُّنن الواردة في الفِتن 1/299)
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعًا، يقول : "سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات يريد أزواجه لكي يصلين ربَّ كاسِية في الدُّنيا عارية في الآخرة". ( السُّنن الواردة في الفِتن 1/281)
وقد كان السَّلف الصَّالح رضوان الله عليهم يخشون خطر الفِتنة أيضًا...
قال مطرف بن الشخير : سمعتُ أبا الدَّرداء رضي الله عنه يقول: "حبَّذا موتًا على الإسلام قبل الفِتن." (ابن حماد 1/159)
وقال الضحاك في قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال:25) قال: تُصيب الصَّالح والظالم عامَّة.
وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: إن "الحجاج" عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتَّضرّع، فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون:76)
أمَّا "طلق بن حبيب" فقد كان يقول: اتَّقوا الفِتنة بالتَّقوى. فقيل له: أجمل لنا التَّقوى. فقال: التَّقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله." ( رواه أحمد وابن أبي الدنيا)
ويقول "القنوجي" ناصِحًا: والإمساك في الفِتنة سنَّة ماضيَة، واجب لزومها، فقدِّم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفِتنة بيد ولا لسان، ولكن اُكفف يدكَ ولسانك وهواك، ومَن ولي الخلافة واجتمع عليه النَّاس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، وجَبَت طاعته، وحرمت مخالفته فيما ليس بمعصية لله ولرسوله ولخروج عليه وشق عصا المسلمين، وإن أمرك السُّلطان بأمر هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتَّة، وليس لك أن تخرج عليه. (قطف الثَّمر 1/146)
السَّلامة مِن الفِتن
باتَ القلبُ في وَجَل، كيف السَّلامة مِن الفِتن؟!
لا سلامة مِنها إلا بما أرشدنا به نبيّ الأمَّة صلى الله عليه وسلم حيث أمرنا بِ:
1- لزوم جماعة المسلمين وإمامتهم: والمقصود بها الجماعة المتمسِّكة بكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فعن حذيفةَ بن اليمان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم دُعاةٌ على أبوابِ جهنمَ، مَن أطاعهم قحموه فيها. قال: قلتُ: يا رسول الله، فكيف النجاة منها؟ قال: « تَلزمُ جماعة المسلمين وإِمامَهم »، قلتُ: فإن لم يكن لهم إمامٌ ولا جماعةٌٌ؟ قال: « فاعتزلْ تلكَ الفرَقَ كلَّها، ولو أن تَعضَّ بأصلِ شجرة حتى يُدركَكَ الموتُ وأنتَ على ذلك» (ابن حماد 1/ 143)
2- تَعلُّم العِلم، وتعليمه، والعمل به: فالعالِم بَصير، يتَّقي بعلمه الفِتن، وينصح الآخرين ويحذِّرهم مِن شرِّها؛ عن عبد الله بنِ مَسْعودٍ رضي الله عنه ، عَن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «تَعَلَّمُوا العِلْمَ وعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وتَعَلَّمُوا القُرْآنَ وعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وتَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ وعَلِّمُوها النَّاسَ، فإنِّي امْرؤٌ مَقْبُوضٌ، وإنْ العِلْمَ سَيُقْبَضُ وتَظْهَرُ الفِتَن حتى يختلف الاثنان في الفَريضة، فلا يجدان أحداً يفصل بينهما» (السنن الواردة في الفتن 3/585)
3- التَّمسك بهديِ مَن مات مِن السَّلف الصَّالح: لأن الحيّ لا يؤمن عليهِ الفِتنة.
4- طاعة السُّلطان وعدم الخروج عليه: فإنها مِن أهم أسباب السَّلامة مِن الفِتن، فطاعة السُّلطان واجبة، وقد حرِّمت مخالفته فيما ليس بمعصية لله ولرسوله، ولخروج عليه وشق عصا المسلمين، وإن أمَرَ السُّلطان بأمْرٍ هو لله مَعصية فليس لك أن تطيعه البتَّة، وليس لك أن تخرج عليه، فالخروج على السُّلطان يعني فوضى تعم البلاد والعباد، فتنتهك الحرمات، وتُسفك الدِّماء، وتضيع الحقوق والواجبات!
5- عدم المُشاركة في الفتنة إذا وقعت: قال "البَرْبَهَارِيُّ": فإذا وقعت الفِتنة فالزم جوف بيتك، وفر مِن جوار الفِتنة، وإيَّاك والعصبيَّة، وكلّ ما كان مِن قتال بين المسلمين على الدُّنيا فهو فِتنة، فاتق الله وحده لا شريك له، ولا تخرج فيها ولا تهوى ولا تشايع ولا تمايل ولا تحب شيئا من أمورهم، فإنه يقال: مَن أحبَّ فعال قوم خيرًا كان أو شرًّا كان كمن عمله. (شرح السنة، البَرْبَهَارِيّ 1/47)
6- عدم بيع السِّلاح في الفتنة: لأنَّ السِّلاح أداة الحرب ومُذْكيها، ومهيِّج للفِتنة، وقد نهى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع السِّلاح في الحروب.
7- التَّمسك بكتاب الله، وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنَّتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" (المستدرك على الصحيحين 1/172)
العقيدة الإسلاميَّة
تعريف العقيدة
- لغة: مِن العَقْد، وهو الرَّبط والشَّد بقوَّة، ومنه الإحكام والإبرام، والعَقْد نقيض الحَلّ. وما عقد عليه الإنسان قلبَه جازمًا فهو عَقيدَة. (الصِّحاح ولسان العرب، مادة عَقَدَ)
- اصطلاحا: (أ) الإيمان الجازم، والحُكم القاطع، الذي لا يتطرَّق إليه الشَّك لدى المعتقد، بصرف النَّظر عن نوع الاعتقاد حقّ أم باطل، وسُمِّي عقيدة لأن الإنسان يعقد عليه قلبه.
(ب) حُكم الذَّهن الجازم، فإن طابق الواقع فصحيح، وإن خالف الواقع ففاسد، فاعتقادنا أنَّ الله واحد صحيح، بينما اعتقاد النَّصارى أن الله ثالث ثلاثة باطل، لأنه مخالف للواقع. (شرح العقيدة الواسطية 1/50)
- الاصطلاح الإسلامي: الإيمان الجازم بالله، وما يجب له في ألوهيَّته وربوبيَّته، وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشرِّه، وبكلِّ ما جاءت به النُّصوص الصَّحيحة مِن أصول الدِّين وأمور الغيب وأخباره، وما أجمع عليه السَّلف الصَّالح، والتَّسليم لله تعالى في الحُكم والأمر والقَدَر والشَّرع، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالطَّاعة والتَّحكيم والإتِّباع. (مباحث في عقيدة أهل السُّنة والجماعة، د. ناصر العقل)
للعقيدة الإسلاميَّة مزايا خاصَّة، نذكر منها:
· سَلامة المصدر: لاعتمادها على الكِتاب والسُّنة، وإجماع السَّلف وأقوالهم فحسب، وهذه الخاصيَّة تنفرد بها العقيدة الإسلاميَّة عن سائر العقائد الأخرى، التي يعتمد أصحابها على العقل والنَّظر، أو على الحدس والإلهام والرؤى والأحلام،أو عن طريق أشخاص يدَّعون لهم العِصمة، أو غير ذلك مِن المصادر البشريَّة التي يحكِّمونها في أمور الغيب.
· تقوم على التَّسليم لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم: وهو الإيمان الجازم بكلِّ ما جاء في كتاب الله، وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم مِن أمور غيبيَّة لا يمكن للعقل إدراكها، والتَّسليم بوجودها، دون إرهاق العقل لإثبات ذلك.
· موافقتها للفطرة القويمة والعقل السَّليم: فيشعر المرء في ظلالها بالراحة والسَّكينة، بينما نجد المُبتدعة في ضلال وشكٍّ وحيرة، فجلَّ ما جاءوا به يخالف الفطرة ويناقض العقل.
· اتصال سندها بالرسول صلى الله عليه وسلم والصَّحابة والتَّابعين وأئمة الهُدى، قولا وعملا وعِلما واعتقادًا: فكلّ قضيَّة من قضايا العقيدة لها مرجعيتها الصَّحيحة مِن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكِرام والتَّابعين وأئمة الهدى.
· الوضوح والبيان: فمسائلها وألفاظها ومعانيها واضحة، لا لبس فيها ولا غموض، يَسْهل فهمها بخلاف عقائد بعض الفِرق الضَّالة.
· سلامتها مِن الاضطراب والتَّناقض: وذلك لسلامة مَصدرها، فلا قول يناقض آخر، ولا مسألة تنفي أخرى؛ قال محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي صنَّفه "أقسام اللذات": تأمَّلتُ الطرق الكلاميَّة، والمناهج الفلسفيَّة، فما رأيتها تُشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن.
وكان يردِّد قائلا:
نهاية إقدام العقول عقال = وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشةٍ مِن جسومنا = وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا = سوى أن جمعنا قيل وقال
· سبب للظُّهور والنَّصر والفَلاح في الدَّارين: فأصحاب العقيدة الحقَّة هُم الذين يَصبرون ويُصابرون ويُرابطون، ويتَّقون الله، فيُكتب لهم النَّصر والتَّمكين في الدُّنيا، وهُم الفِرقة النَّاجية يوم القيامة. قالَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّىٰ يَأْتِيَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (صحيح مسلم)
· عقيدة الجماعة والاجتماع: فالعقيدة الإسلاميَّة تُجَمّع أهلها ولا تفرِّقهم، وتدعوهم دومًا إلى توحيد الصُّفوف، بخلاف أهل العقائد الباطلة الذين يتفرَّقون شِيَعًا وأحزابًا، كلّ منها يكفِّر الآخر، ويتّهمه بالضَّلال والفسوق.
· البَقاء والثَّبات والاستقرار: فقد تداولت الأجيال جيلا بعد جيل معتقدات أهل السُّنة والجماعة دون تغيير أو تبديل، فقولهم في الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته ثابت لم يتغيَّر، وكذلك قولهم في النُّبوَّةِ والقَدَر ونحوه، في حين نُلاحظ التَّغير في معتقدات أهل البِدع بتغيِّر الزمان أو المكان، وفقًا لأهوائهم.
أثر العقيدة الصَّافية في الحياة
إنَّ الله سبحانه وتعالى شَرع مِن العقائد والعبادات ما يُحقِّق للإنسان الرَّاحة والاطمئنان، فهو العليم بخلقه وشؤونهم، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14)
والإيمان الحقّ هو السَّبيل إلى نيلِ الأمْن في الدُّنيا، والسَّعادة في الآخرة، قالَ تعالى : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام:82)، وفي هذه الآية شرطان: الإيمان، والبُعد عن الظُّلم في الإيمان.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)
لذا كانت العَقيدة الإسلاميَّة خيرُ مُعين للمرء على أن يحيا حياته بصورة طيِّبة، فما يَعْتقده الإنسان يكون سَببًا في توجيه تفكيره وسلوكه.
إنَّ صاحب العقيدة الصَّافية لا يتخبَّط كما يتخبَّط الآخرون بحثًا عن رمز يحذو حذوه، لأن قدوته معروفة، قال تعالى : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوته الثَّابتة، قدوة في الدِّين والخُلُق والتَّعامل، وفي كلِّ شأن مِن شؤون الحياة.
وصاحب العَقيدة الصَّافية لديه دستورًا خاصًّا يحتكم إلى ما جاء فيه فيَهتَدي، هو في مأمن مع كِتاب الله وشرعه المُنزَّل. قال تعالى : {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:52)
وصاحب العَقيدة الصَّافية على يقين أن هناك ملائكة تحصي عليه أقواله وأفعاله، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18)، لذا نجده في يقظة ومُراقبة للنَّفسِ دائمة، تدفعه إلى إصلاح العمل، واستقامة السلوك، علَّه ينجو في دنياه وآخرته.
وصاحب العَقيدة الصَّافية يؤمن بأن الدُّنيا دار فناء لا دار جَزاء، وأن هناك دار أخرى باقية، وأن هناك يوم آخر يُحاسب فيه المرء على كلِّ كبيرة وصغيرة، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة:7،8)، فيكون إيمانه هذا كابِحًا للشَّهوات، رادِعًا للنَّزوات، وحاثًّا على فعل الخيرات، ليفوز بجنَّة عرضها كعرض الأرض والسَّموات.
وصاحب العَقيدة الصَّافية لا تقلقه المصائب، ولا تكدِّر صفو عيشه النَّوازل، فهو يؤمن بأن أقدار الله كلّها خير، وله في كلِّ قَدَر حِكمة يُجلِّيها لمن يشاء مِن عباده، ويخفيها عمَّن يشاء.
ويؤمن أيضا أن المحنة تنقلب مِنحة، إن صَبَرَ ولم يَجزع، وحمد الله على كل حال، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } (الزمر:10)
وهكذا يكون أثر العقيدة الإسلامية طيِّبًا في حياة الإنسان، وتكون العقيدة الصَّافية سببًا في صفاء قلبه وحياته وآخرته.
فِتنة المال
فطر الله النَّاس على حبِّ المال، والمقصود بالمال: هو ما يتملَّكه الإنسان مِن نَقد ومعادن ثمينة، منازل، ومراكب، ونحو ذلك مما يكون فيه الابتلاء والامتحان مِن الله سبحانه وتعالى للعَبد، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (الفجر:20)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدمَ وادِيانِ من مال لابتغى ثالثاً ، ولا يَملأ جَوفَ ابن آدمَ إلا التراب، ويتوبُ اللهُ على مَن تاب» (صحيح مسلم)
وحبّ المال متأصل في النَّفس البشريَّة، يكبر مع المرء كلما كَبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَلْبُ الشَّيْخِ شَاب عَلَىٰ حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبُّ الْمَالِ» (صحيح مسلم)
لهذا كانت فِتنة المال مِن أعظم الفِتن التي تُطيح بالإنسان، ولا يسلم منها إلا مَن سلَّمه الله، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن:15)، وقال رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «فو اللهِ لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلَكم، فتنافَسوها كما تَنافسوها، وتُهلكَكم كما أهلَكَتْهم» (صحيح البخاري)
وقد يسأل سائل: أليس المال رِزق وهو من جُملة الخير، فكيف يكون فتنة؟! أوَ يأْتي الخيرُ بالشرِّ؟!
المال بحدِّ ذاته ليسَ خيرًا حقيقيًّا، وإنما يكون خيرًا إن أُخلِصَت النِّيَّة في طلبه مِن سَبيل حَلال، وتمَّ صَرفه في وجوهه المشروعة، مما يعود على صاحبه وعلى الآخرين بالنَّفع والثَّواب مِن عند الله سبحانه وتعالى، ويكون فِتنة إذا بُخِل به عمَّن يستحقه، أو أُسرِف في إنفاقه فيما لم يشرع، وهكذا يُمسي الخيرُ شرًّا لسوء استخدامه!
أخطار فتنة المال
إنَّ لفِتنة المال أخطارًا مُتنوِّعة، تُصيب دين المرء ونفسه وعقله وماله وعرضه، فكم مِن لاهثٍ وراء المال ضيَّع صلاته وصيامه وأمانته فأضاع دينه، وكم من نَفس قُتِلت بسبب الخلاف على مبلغ مِن المال، سواء كان القتل على مستوى الأفراد في النزاعات، أو على مستوى الدول والشُّعوب في الحروب، وكم مِن أشخاص سُلبَت منهم العُقول جراء صَدمة خسران المال، وكم مِن أموال نُهبَت شهوةً في الغِنى والثَّراء، وكم مِن عِرض دُنِّس مِن أجل المال وكسبه، وكم من أمانات ضُيِّعت كالزوجة والأبناء لانشغال المسؤول بجمع المال وتنميته!
إن صاحب المال مَفتون إلا مَن رحمه الله، تراه مُتكبِّرًا، مُترفِّعًا على القرناء، مُتجبِّرًا على الضُّعفاء، يأكل أموالهم بالباطل، كما يأكل الرِّبا وأموال اليتامى دون تورّع أو خوف، يمنع الزِّكاة خشية نقصان ثروته، وقد يستغل الوصايا والأوقاف التي أوقفت على الأعمال الخيرية لزيادة رصيده، مُتناسِيًا التَّهديد والوعيد، غافلاً عمَّا سيلاقيه يوم الحَسرة والنَّدامة...
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء:10)
وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة:279)
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34،35)
صور مُعاصرة لفِتنة المال
لكلِّ زمان خصائصه، وفي زماننا هذا بُسِطَت الدُّنيا للنَّاس، فتنوَّعت وسائل الكَسب، وتطوَّرت طرق الحيل والخِداع، فلم تعد قاصرة على برامج التَّمويل، وصناديق الاستثمار التي تجلب العُملاء إلى المصارف والبنوك، بل تعدَّى ذلك إلى جهات كثيرة كوسائل الإعلام وما تطرحه من مُسابقات تجني مِن ريعها مالا تَدفع منه ما وَعَدَت به مِن جوائز، وشركات الاتصال والتَّصويت عبر الرسائل التي يختلف سعرها عن سعر الرسالة المعتاد، وتجارة الأسهم وتداولها، وما ينتج عنها أحيانًا مِن أرباح طائلة دون تعب أو عناء!
أضف إلى ذلك سَعْي بعض النَّاس إلى البروز في قائمة أغنى أغنياء العالم، التي تُنشر هنا وهناك عبر وسائل الإعلام المختلفة، ورغبة بعضهم الآخر في امتلاك شركات عالميَّة لها صيتها في العالم كلّه، أمَّا المفاخرة بامتلاك العقارات الضَّخمة، والبيوت الفارهة، وبناء الأبراج وناطحات السَّحاب فقد باتت (موضة) هذا العَصر.
أثر العَقيدة في النَّجاة مِن فِتنة المال
ويَسأل سائل: كيف تكون العَقيدة الإسلاميَّة سببًا في النَّجاةِ من فِتنة المال؟
فنُجيب...
أولا: الإيمان بالله سبحانه وتعالى
إن الإيمان بالله سبحانه وتعالى ومعرفة ما له مِن صفات الكمال، ونعوت الجلال، يقي الإنسان مِن فِتنة المال، فالله هو الرازق، المانِح، المعطي، المانِع، المُنعِم، قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} (النحل:53)، أي ما بالعِباد مِن رزق ونِعْمَة وعافية ونَصر فمن فضله عليهم، وإحسانه إليهم، ولا يقدر على إزالة نِعمه إلا هو سبحانه وتعالى.
فعندما يَستقرّ هذا المعنى في قلبِ الإنسان يُصبح اعتماده وتوكّله على الله وحده في طلب الرِّزق، فلا يتعلَّق قلبه بأسباب دنيويَّة، ولا يَسعى للكسب بطرق مُلتوية.
كما أن مِن أهم جوانب النَّجاة مِن هذه الفِتنة هو الثِّقة بوعد الله سبحانه وتعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كانتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وجَمَعَ لهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنيَا وهيَ راغِمَةٌ، ومَنْ كَانَتْ الدُّنيَا هَمُّهُ جَعَلَ الله فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ ما قُدِّرَ لهُ» ( سنن الترمذي)
وأيضا لنا في الدُّعاء وحُسن اللُّجوء إلى الله سبحانه وتعالى وقاية مِن هذه الفِتنة، فعن عائشة رضيَ اللّه عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسلِ والهرَم، والمأثم والمغْرم، ومن فِتنةِ القبر وعذاب القبر، ومن فِتنةِ النار وعذابِ النار، ومن شر فِتنةِ الغِنى، وأعوذ بك من فِتنةِ الفقر، وأعوذ بك من فتنةِ المسيح الدجَّال. اللهم اغسِلْ عني خَطايايَ بماء الثلج والبرَد، ونَقِّ قلبي من الخطايا كما نَقيتَ الثوبَ الأبيضَ من الدَّنس، وباعِد بيني وبين خَطايايَ كما باعَدْتَ بينَ المشرق والمغرب» ( صحيح البخاري)
ومِن الأدعية المناسبة المتعلِّقة بالمال والتي تكون سببًا في السَّلامة مِن الفتنة قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة:201)
ثانيًا: الإيمان بالكُتب
إنَّ الإيمان بكتبِ الله المنزلة على أنبيائه عليهم الصَّلاة والسَّلام وما جاء فيها مِن توجيهات ربانيَّة لعلاج هذه الفِتنة، إنما هو طوق نجاة، يحمي المرء ويعينه على الوصول إلى برِّ الأمان.
قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (القصص: 76،78)
سُنن الله في خَلقه لا تتبدَّل، والعاقل مَن يتَّعظ بغيره.
ثالثًا: الإيمان بالرُّسل
الإيمان بالرُّسل يكون بالتَّصديق والإتباع والاقتداء، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، في زهده وتواضعه، وهجره للدُّنيا وزخرفها، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قد أثّر في جنبه، فقال : يا رسول الله، لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا، فقال: «مالي وللدنيا؟ وما للدنيا ومالي؟ والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثمَّ راح وتركها» ( شعب الإيمان 2/166)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الشهر ما يوقدون فيه ناراً، ليس إلا التمر والماء، إلا أن نؤتىٰ باللحم» (صحيح البخاري)
فالدُّنيا كلها لا تساوي عنده صلى الله عليه وسلم شيئًا، لأنها لا تساوي عند الله سبحانه وتعالى شيئًا، و «لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» (سنن الترمذي)، فهذه هي حقيقة المال وكلّ مُتع الدُّنيا، لذا على الإنسان أن يصبر على شَظِف العيش، كما صبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، يقتصد في الإنفاق، يقتنع بالقليل، ويشكر الربّ الجليل، لينال الأجر الوفير. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)
رابعا: الإيمان بالملائكة
ويَعني: التَّصديق بوجودهم، وإنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عِباد الله وخَلقه، والاعتراف بأنّ منهم رسل الله يرسلهم إلى من يَشاء مِن البَشر، كما قد يُرسل بعضهم إلى بعض، وأنَّهم مأمورون مكلَّفون لكنَّهم لا يقدرون إلا على ما يقدرهم الله تعالى عليه.
إن الإيمان بوجود ملائكة تُحصي على المرء حركاته وسكناته وتسجلها عليه، تجعله يحذر في جميع تصرفاته خوفًا مِن التَّسجيل، فيُحاسب نفسه على كلِّ معاملة يقوم بها، وعلى كلِّ طريق يسلكه لكسب المال أو إنفاقه، وهكذا يكون للإيمان بالملائكة أثرًا في النَّجاة مِن فِتنة المال، وكل فِتنة.
خامسا: الإيمان باليوم الآخر
ويَعني: الإقرار بأن هذه الدُّنيا إلى زوال وانتهاء، وأن وراءها يومًا آخر هو يوم الجزاء والحساب.
إن إيمان العَبد أنّ هذه الدنيا بما فيها المال وغيره زائلة لا محالة يؤدي إلى عدم التَّعلق الشَّديد بالمال وجمعه، وإيمانه بيوم الحساب والجزاء يجعله يقف طويلا قبل أن يخطو أيَّة خطوة تكون عاقبتها نار مُستعرة، ففي الجنَّة كل ما تشتهي النَّفس وتتمنَّى، فلمَ لا يعمل بعمل أهلها في الدُّنيا ليفوز في أخراه بالنَّعيم المُقيم مِن مال وقصور وخَدم وحَشَم، فما فائدة لذة عابرة مهما كانت لذَّتها؟!
إنَّ العاقِل لا يَبيع ما هو دائم بما هو فان.
سادِسًا: الإيمان بالقَدَر
ويتضمَّن أربع مراتب:
1- الإيمان بعلم الله عزَّ وجلَّ المحيط بكلِّ شيء مِن الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات، فهو عِلمُ ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، والعِلم بأحوال الخَلقِ جميعهم قبل الخَلق وبعده، قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق:12)
2- الإيمان بكتاب الله تعالى الذي لم يفرِّط فيه مِن شيء، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (يس:12)
3- الإيمان بمشيئة الله النَّافذة وقدرته الشَّاملة، فما شاء الله تعالى كونه فهو كائن بقدرته لا محالة، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82)، وما لم يشأ الله تعالى لم يكن لعدم مشيئة الله إياه، وليس لعدم قدرته عليه، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} (يونس:99)
4- الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خالق كلّ شيء، فلا خالق غيره، ولا ربّ سواه.
عندما تستقر هذه العَقيدة في القلوب يُدرك المرء حينها أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أغناه، وهو قادر سبحانه على إفقاره، فلا يغتر بماله وما لديه مِن ممتلكات، قال تعالى: {اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} (الرعد:26)، والله سبحانه وتعالى الذي أغناه قادر على أن يُغني غيره مِن النَّاس أيضًا، فهو مقسِّم الأرزاق سبحانه وهم المانح المانع، كما أن الغِنى وسعة الرزق ليست دليلا على رضا الله سبحانه وتعالى بل هو ابتلاء لصاحب المال، وما قصَّة "قارون" عنا ببعيدة، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} (القصص:81)
وهكذا نجد أن الحال الاقتصاديَّة للإنسان لا تدوم على حال، ولا يبقى له مِن فضلِ مالٍ إلا ما أراد به وجه الله تعالى، فعن أبي قلابة، أن فلانًا مرَّ به أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: أوصوني. فجعلوا يوصونه، وكان "معاذ بن جبل" في آخر القوم فمرَّ بالرجل، فقال: أوصيني يرحمك الله. قال: إن القوم قد أوصوك ولم يألوا، وأني سأجمع لك أمرك بكلمات فاعلم أنه لا غِنى بك عن نصيبك مِن الدُّنيا وأنت إلى نصيبك مِن الآخرة أفقر، فابدأ بنصيبك مِن الآخرة، فإنه يسمو بك على نصيبك مِن الدُّنيا فتنتظمه انتظامًا ثمَّ يزول معك أينما كنت.
ومِن النَّصائح التي تُعين المرء على الرضا بما قدَّره الله له من رزق نصيحة رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إذا نظرَ أحدُكم إلى من فُضِّلِ عليه في المال والخَلقِ فلْيَنظرْ إلى من هوَ أسفلَ منه ممن فُضِّل عليه» ( صحيح البخاري)
فِتنة النِّساء
إن الميل العاطفي بين الجنسين أمر فِطري، وقد ضَبَطت الشَّريعة هذا الميل بضوابط مُعيَّنة تضمن سَلامة العلاقة بينهما، إلا أنه قد يحلو للبعض تجاوز تلك الضَّوابط فيقع في الفِتنة!
والفِتنة بالنِّساء تتمثَّل في:
· العِشق الحرام وهو: فَرط الحبِّ.
· النَّظر إلى النِّساء الأجنبيات.
· ما يقع فيه المرء من محرَّم مع المرأة الأجنبية مِن زنا أو مباشرة أو كلام أو نحو ذلك.
· تجاوز الحدود الشَّرعيَّة في محبَّة الزوجة.
· التَّقصير في حق الزوجة والبنات والقريبات.
· التَّمتع بمشاهدة صور الأجنبيات في وسائل الإعلام ونحوها، وتهاون في ذلك بحجَّة أنها صورة لا حقيقة!
خطر فِتنة النِّساء
الفِتن حَول الرجل كثيرة، وتتفاوت في درجة خطورتها، إلا أن فِتنة النِّساء هي أشد فِتنة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تركتُ بعدي في النَّاس فِتنة أضرّ على الرجال مِن النِّساء." (السنن الواردة في الفِتن 1/238)
فهي مِن أكثر الأسباب التي تُدخل الإنسان النَّار، سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يلج به النَّاس النَّار، قال: "الأجوفان: الفم والفَرج" (شعب الإيمان 4/361)، والشَّاهد هنا هو "الفَرج"، وهو ما يقع فيه المرء مِن الزِّنا ونحوه بسبب فتنة النِّساء.
صور مُعاصرة مِن فِتنة النِّساء
1- التَّبرج: خلعت المرأة الحِجاب، وأظهرت مَفاتنها، فبان منها الظَّهر والصَّدر والأفخاذ، والأسوأ مِن هذا إنشاء نوادٍ للعُراة.
2- الاختلاط: سادت فكرة الاختلاط في معظم المجتمعات، فتجد الرجال والنِّساء في قاعات الدِّرس، وأماكن العَمل، وغيرها مِن أماكن التَّجمعات، وقد عُدَّ ذلك مِن قبيل المدنيَّة والحضارة، ومَن يُطالب بعدم الاختلاط يُشار إليه بالبنان بتهمة التَّخلف والرجعيَّة!
3- المبالغة في الزِّينة: إن زينة المرأة مِن أشدّ ما يجذب الرجل إليها، وقد بلغ الاهتمام بها في عصرنا الحالي مبلغًا عظيمًا، فظهرت أنواع شتى من مساحيق التَّجميل والعطور والملابس، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أصبحت المرأة قادرة على تغيير لون شعرها وجلدها، وبعض أجزاء جسدها تكبيرًا وتصغيرًا وتعديلا، وإظهار هذه الزِّينة للأجانب في الأسواق، والطرقات، ومواقع العَمل.
4- انتشار الصُّور: نرى صورة المرأة في أوضاع مُثيرة محكمة تتصدَّر المجلات والجرائد، وشاشات التلفاز، ويتم تبادلها عبر الوسائل التقنية المعاصرة بكل يسر وسهولة، بين الكبار والصِّغار دون وَجَل أو حياء.
5- المحادثات الهاتفيَّة: إن وجود الهواتف النَّقالة أعطى قدرًا أكبر من الحريَّة والخصوصيَّة في المكالمات، ثمَّ تقدَّمت تقنية المحادثات فأصبحت عن طريق الحاسبات الآليَّة عبر ما يُسمى ببرامج (الدردشة)، وخدمات (الدردشة) المقدّمة من شركات الاتصال عبر الهواتف النَّقالة.
6- الرسائل (SMS): هي أيضًا وسيلة مُعاصرة للتَّواصل بين الجنسين، يتم مِن خلالها تبادل كلمات الغرام والمواعيد، والصُّور والشِّعارات بسرعة ويسر.
7- (الفيديو كليب): تظهر فيه النِّساء الجميلات المختارات بعناية بأبهى حلّة، يؤدين حركات استعراضية راقصة على أنغام الموسيقى وبصحبة الغِناء، فتجتمع فِتنة المرأة مع فِتنة الحركة وفِتنة الصَّوت بشكل خطر جدًّا على الرجال والنِّساء.
أثر العَقيدة في النَّجاة مِن فِتنة النِّساء
أولا: الإيمان بالله سبحانه وتعالى
إن الإيمان بالله سبحانه وتعالى ومحبَّته تورث في قلب الإنسان الإقبال على ما يحبه الله، والامتثال لأوامره، فما يكون مِن المرأة إلا الالتزام بالحِجاب والسِّتر وعدم التَّبرج، كما يلتزم كلا مِن الرجل والمرأة بغضِّ البَصر، انصياعًا لأمره تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } (النور:30،31)
ومن جانب آخر نجد أن الخوف من الله يدفع المرء إلى الابتعاد عن كلِّ ما يغضب الله ويكون سببًا في عقابه.
ثانيًا: الإيمان بالرَّسول صلى الله عليه وسلم
كما قلنا سابقًا، إنَّ الإيمان بالرُّسل يعني التَّصديق والإتِّباع والاقتداء، وقد حذَّرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الفِتنة، وأمرنا بالابتعاد عمّّا قد يؤدي إليها، عن عائشة رضي الله عنها قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد إذ دخلت امرأة من مزينة ترفل في زينة لها في المسجد، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : " يا أيُّها النَّاس انهوا نساءكم عن لبس الزِّينة والتبختر في المسجد فإنَّ بني إسرائيل لم يُلعنوا حتى لبس نساؤهم الزِّينة وتبخترن في المساجد." (سنن ابن ماجة 2/1326)
ولابد أيضًا مِن إعمال العَقل عندما تسطو الشَّهوة، فبنور العَقل تخبو نار الشَّهوة؛ عن أبى أمامة رضي الله عنه أن فتى شابًا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اِئذن لي بالزِّنا؟ فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادنه، فدنا منه قريبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتحبه لأمك؟" قال:لا يا رسول الله، جعلنى الله فداك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ولا النَّاس يحبّونه لأمهاتهم. قال: أتحبه لابنتك؟". قال: لا والله يا رسول الله، جعلنى الله فداك. قال: "ولا النَّاس يحبّونه لبناتهم. قال: فتحبّه لأختك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلنى الله فداك. قال: "ولا النَّاس يحبّونه لأخواتهم" قال : "أتحبه لعمتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال : "ولا الناس يحبونه لعماتهم." قال : "أتحبه لخالتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال : "ولا الناس يحبونه لخالاتهم." قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه." قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. (الصحيح المسند)
فِتنة المَنصِب
المنصِب يعني: المكانة العالية بين النَّاس، والسِّيادة والسُّلطة على الآخرين.
وفِتنته تأتي في صورتين:
1- فِتنة يُصاب بها صاحب المنصِب: بحيث يُغَلِّبه على محبَّة الله ومرضاته، أو لا يعدل بين المرؤوسين، أو لا يقوم بحقِّه على الوجه المطلوب.
2- فِتنة تُصيب غيره بسببه: وتكون بتقديس صاحب المنصِب وتعظيمه ورفعه فوق منزلته، أو إطاعته فيما حرَّم الله، أو ترك ما أوجب الله بسببه، وكذلك مدحه فيما ليس فيه، وتصديقه بالكذب مِن أجل مصالح شخصيَّة.
وفِتنة المنصِب كسائر الفِتن هي بمثابة ابتلاء للإنسان، أيطيع الله فيما آتاه؟ أم يجحد ويضلّ! قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء} (الأعراف:155)
أي فِتنتك التي تختبر بها من شئت، وتمتحن بها من أردت، فبعض العِباد تعترضهم الفِتن لكنها لا تَقوى على إغوائهم، يحفظهم الله بحفظه، لحفظهم إياه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوصِيًا ابن عباس رضي الله عنهما: «احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك» والوصيَّة إلى جميع عباد الله.
خطر فِتنة المَنصِب
حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه مِن طلب الإمارة أو الوِلاية، لعظيم خطرها، فقد قال ناصِحًا "عبد الرحمن بن سمرة": «يا عبدَ الرحمنِ، لا تَسألِ الإِمارةَ، فإنك إن أُوتيتَها عن مسألة وُكِلتَ إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعِنتَ عليها» (متفق عليه)
وقد يشتبه الأمر على المرء حين يقرأ سورة "يوسف"، فيسأل عن سرِّ طلب نبيّ الله "يوسف" للإمارة على خزائن "مِصر"، فنُجيب: إن نبيّ الله "يوسف" رأى في نفسه الكفاءة لإدارة الخزائن بما لديه مِن عِلم وأمانة، ولم يكن هناك مَن يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الحقوق إلى أهلها، فأصبح في حقِّه مثل هذا الطلب واجبًا، أمَّا لو عَلِم بوجود من يَصلح لهذه المهمة فالأولى ألا يَطلب لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام إلى عبد الرحمن: «لا تَسألِ الإِمارةَ».
ومِن خطر هذه الفِتنة أنها سببًا في زوال النِّعم، ونقصان الدِّين، قال الفضيل بن عياض: احذروا أبواب الملوك فإنها تُزيل النِّعم. (شعب الإيمان 7/50)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن على أبواب السُّلطان فِتنًا كمبارك الإبل، لا تصيبوا مِن دنياهم شيئًا إلا أصابوا مِن دينكم مثله!
فالمرء بين يدي السُّلطان بين خوف ورجاء، خوف مِن غضبه يؤدي إلى مُداراته ومدحه بما ليس فيه، ورجاء فيما عنده مِن عطايا وهِبات، يؤدي إلى تصديقه بالكذب، وغضِّ الطرف عن نصحه إذا ما زلَّ أو ظَلم.
أما الأدهى مِن كل هذا فقد تصبح هذه الفِتنة سببًا في الشِّرك بالله والعِياذ بالله حيث تتخذ الصُّور وتُعظَّم مِن دون الله سبحانه وتعالى فتُنحت تماثيل الملوك والأمراء وتُرفع في الميادين، ومن أجل هذا كان السَّلف الصَّالح يجتنبون المناصب، ويبتعدون عن أبواب السَّلاطين حِفاظًا على دينهم وصفاء سرائرهم.
صور مُعاصرة لفِتنة المَنصِب
1- الانتخابات: وما يحصل في بعضها مِن تزوير وتلاعب، وما يقوم به بعض النَّاخبين مِن شراء الأصوات، أو تقديم وعود برَّاقة زائفة، فينجح مَن ليس أهلا للمكان ومسؤولياته.
2- مسميات المناصب: مع تقدّم الدول واتساعها، دعت الحاجة إلى تنظيم العمل، فظهرت المسميات للوظائف القياديَّة، كرئيس الدولة، ورئيس الوزراء، والمدير العام وغيرها، التي أصبحت محط أنظار كثير مِن النَّاس، وغاية أمانيهم.
3- تحقيق المصلحة الشخصيَّة: الاستفادة القصوى من المنصب الذي يشغله المرء قبل مغادرته له، والسَّعي لتحقيق أكبر قدر مِن المكاسب لنفسه في فترة توليه للمنصِب.
أثر العَقيدة في النَّجاة مِن فِتنة المَنصِب
أولا: الإيمان بالله سبحانه وتعالى
إن الإيمان بالله سبحانه وتعالى يحمل المرء على الالتزام بأوامر الله المتعلقة بهذا المنصِب، والابتعاد عن نواهيه، والقيام بحقوق عمله على أكمل وجه، كما أن إدراك المرء لعظمة الله سبحانه وتعالى ويقينه بأن الله سبحانه وتعالى قادر على كلّ شيء يجعله يتَّقي الله فيما تولَّى مِن مناصب، فمَن ولاه قادر على عَزله ومنع عطائه، فلا يطغى، ولا يظلم، ولا يتكبَّر، لأن الله أكبر وأقدر.
ثانيًا: الإيمان بالرَّسول صلى الله عليه وسلم
إنَّ علمنا بحاله صلى الله عليه وسلم والأخذ بتوجيهاته في الإقبال على المناصب وإدارتها يُبعِد عنا خطر فِتنتها، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ويل للزربية » قيل: يا رسول الله ، وما الزربية؟ قال: «الذي إذا صدق الأمير قالوا: صدق، وإذا كذب الأمير قالوا: صَدق» ( شعب الإيمان 7/47)
ثالثًا: الإيمان بالقضاء والقَدر
إن العِلم بأن هذا المنصِب قَدَر قدَّره الله سبحانه وتعالى لصاحب المنصِب مِن قبل أن يَخلق السَّماوات والأرض، وأنه سبحانه يسَّر الإنسان لما قُدِّر له، يجعله يتواضع لله سبحانه ويؤدي أمانه المنصِب راجيًا رضا الله، فمَن قدَّره له قادر على أن يَنْزعه منه.
رابعًا: الإيمان باليوم الآخر
إن الاعتقاد الجازم بأن هناك يوم آخر سيحاسب فيه المرء على كل كبيرة وصغيرة، فيُثاب على الإحسان، ويعاقب على الإخلال، يحفِّز المرء دومًا على القيام بواجبات منصِبه خير قيام.
مُلحَق: أنواع الفِتن
إنَّ الفِتن لا تَقتصر على ما تمَّ ذكره سالِفًا، فهي كثيرة ومُتنوِّعة، وفي هذه العُجالة سنَذكر بعضًا مما لم يُذكر منها للتّنبيه إليها، والتَّحذير مِن الوقوع في شركها.
· عن عوف بن مالك الأشجعي قال : أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم فسلَّمت عليه، فقال: «ادخل» قلت: كلي أو بعضي؟ قال: «بل كلك، فقال: اعدد يا عوف ستا بين يدي السَّاعة: أولهن موتي » فاستبكيت حتى جعل يُسْكتني، ثم قال: «قُلْ إحدى، والثانية: فتح بيت المقدس، قُلْ اثنتين، والثالثة: موتان يكون في أمتي كقعاص الغنم، قُلْ ثلاثًا، والرابعة : فتنة تكون في أمتي فعظمها، قُلْ أربعًا، والخامسة: يفيض المال فيكم حتى يُعطى الرجل المائة دينار فيتسخطها، قُلْ خمسًا، والسَّادسة: هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر ثمَّ يسيرون إليكم فيقاتلونكم، والمسلمون يومئذ في أرض يقال لها الغوطة، في مدينة يقال لها دمشق » (ابن حماد 1/50)
· يُحكى عن سهل بن عبد الله أنه قال: الفِتن ثلاثة: فتنة العامة مِن إضاعة العِلم، وفِتنة الخاصَّة مِن الرُّخص والتَّأويلات، وفِتنة أهل المعرفة مِن أن يَلزمهم حق في وقت فيؤخره إلى وقت ثان. (شعب الإيمان 2/297)
· التَّكفير: عَظُمت الفِتنة في هذا الباب، فطائفة تنفي التَّكفير نفيًا عامًّا، فلا تُكفِّر مِن أهل القِبلة أحدًا، مع العِلم بأنَّ هناك مُنافقين مِن أهل القِبلة فيهم من هو أكفر مِن اليَهود والنَّصارى بالكتاب والسنَّة والإجماع، لهذا امتنع كثير مِن الأئمة عن إطلاق القول بأنَّا لا نكفِّر أحدًا بذنب، بل يُقال: لا نكفِّرهم بكلِّ ذنب. (شرح العقيدة الطحاوية 1/355)
· تبرُّج النِّساء: وتساهلهن في أمر الحجاب، وإبراز مفاتنهن للأجانب، وخروجهن للأسواق مُتجمِّلات مُتعطِّرات، بلا أدبٍ أو حياء هو أمر مُخالف للأدلة الشَّرعيَّة التي أمَرت بالحجاب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب:59)، وهو مُنكر يجب على ولاة الأمر مِن أمراء وعلماء ورجال الحِسبة تغييره، وعدم إقراره كلّ حسب طاقته ومقدرته، وما يملكه مِن وسائل وأسباب تؤدي إلى منع هذا المُنكر.
· منصَّة العروس: وهي مِن الأمور المُنكَرة التي استحدثها النَّاس في هذا الزمان، بحيث يتم وضع منصَّة للعروس يجلس إليها زوجها بحضرة النِّساء السَّافرات المتبرِّجات، وربما حضر معه بعض أقاربه من الرِّجال، فيحدث الاختلاط المُحرَّم، وما يترتَّب عليه من عواقب وَخيمة، وقد قيل: النَّار مِن مُستصغر الشَّرر.
· لائحة أغنى الأغنياء، وامتلاك العقارات والمنازل الخاصَّة: سبق أن ذكرنا أن مِن الصُّور المعاصرة لفتنة المال المفاخرة بامتلاك العقارات الضَّخمة، والبيوت الفارِهة، وبناء الأبراج وناطحات السَّحاب، والسَّعي إلى البروز في قائمة أغنى أغنياء العالم، التي تُنشر هنا وهناك عبر وسائل الإعلام المختلفة، فها هي مجلة "فوربس" تصدر لائحة بأسماء أغنى أغنياء العالم، يتربَّع على قمَّتها مؤسس شركة "Microsoft" الأمريكي "بيل جيتس" صاحب المليارات للعام الحادي عشر على التَّوالي، رغم انخفاض ثروته بشكل طفيف!
وبرج "دبيّ" الذي يعدّ في هذه اللحظة أطول بناء قائم في العالم، بلغت تكلفته (3.2) مليارات درهم، وهو يُشكِّل البناء الرَّئيسي في مشروع عمراني ضخم بقيمة (20) مليار دولار يتوقع أن يُغيِّر مَلامح المدينة، ويجذب إليها ملايين السيَّاح.
أمَّا أغلى منزل خاص في العالم فهو لملك الصلب الهندي "لاكشمي ميتال"، الذي يُدير "ميتال ستيل" وثالث أغنى رجل في العالم، اشترى بيته مقابل (128) مليون دولار، كان ذلك أعلى سعر يُدفع في منزل خاص في العالَم، إلا أن عقارًا انجليزيًّا آخر في مقاطعة "سري" استطاع أن يحطِّم هذا الرقم القياسي، حيث عُرض للبيع ب (70) مليون جنيه استرليني، تقريبا (135) مليون دولار بمعدلات الأسعار الحالية!
· غُرف الدَّردشة (Chatting Room): تلتقي به هناك ساعة غَفلة، فيُسمعها من مَعسول الكلام ما يجعلها تذوب حبًّا فيه، وآخر قد يأتي بثوب الشَّاب الصَّالح، الذي يُسدي نصائحه الثَّمينة بلا مقابل، فيتعلَّق به قلبها، ولسان حالها يقول: أحببتهُ وأحبَّني حبًّا صادِقًا، ولوجه الله لا تشوبه شائبة!
هكذا هي الفتاة قلبها غضّ برئ، تظن أنَّ كلَّ مَن اتصل بها معاكِسًا، أو حدَّثها عبر تلك الغُرف أنَّه فارس الأحلام المُنتظر، وإذا به فارس الكبوات، وصانع الحسرات، وأحد الذئاب البشريَّة الذين يتَّبعون شهواتهم فيَضِلّون ويُضِلّون!
وإن عادَت الفتاة إلى رُشْدها، وقرَّرت التَّوبة والابتعاد، هدَّدها بما لديه من صور لها، أو بما يحتفظ به مِن حديث دار بينه وبينها، فتكون الصَّدمة والانهيار.
يحدث هذا كلّه في غياب الوالِدَين والرِّقابة الذاتيَّة، عندما يمنحانها ثقة عمياء لا تُناسب سنّها الصَّغير وحداثة خبرتها في الحياة، فتَقع!
لقد فرَّطا كثيرًا، وأهملا كثيرًا، وضيَّعا الأمانة، فلا أحد مِن نساء الأرض أفضل مِن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ومع ذلك قال الله عزَّ وجلَّ في أدب أمهات المؤمنين: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} (الأحزاب:32)
وقال تعالى في أدب المؤمنين معهن: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب:53)
فكيف يترك الوالدان ابنتهما مع هذا العالَم الجديد هكذا دون حَسيب أو رَقيب؟!
الخاتِمَة
هذا ما يَسَّره الله سبحانه وتعالى لي مِن فصولٍ في بيان بعض الفِتن وطريق النِّجاة مِنها، لخَّصتها مِن كتاب "العَقيدة الإسلاميَّة وأثرها في النَّجاة مِن الفِتَن المعاصرة" لفضيلة الأستاذ "د. سليمان بن قاسم العيد" حفظه الله، راجية الله أن يتقبَّلها مني بِقَبولٍ حَسَنٍ، وأن ينتفع بها مَن يَقرؤها.
اللهم! أرِنا الحقَّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله مُلتبسًا علينا فنضلّ، وأجِرْنا مِنْ مُضِلاَّتِ الفِتَنِ، وصلِّ اللهم على سيِّدنا محمَّدٍ النَّبيّ الأميّ، وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
*
مُلخَّص فائز في مُسابقة "المُلخَّص الماهر" – شبكة الألوكة