ربيع دمشق
عرض/ محمد حلمي عبد الوهاب
يضم هذا الكتاب بين دفتيه كل النقاشات والحوارات التي دارت خلال فترة "ربيع دمشق" التي تعكس حالة الحراك الثقافي السياسي وحيوية المجتمع السوري آنذاك.
ويؤكد رضوان زيادة، مُعد ومُقدم الكتاب، أنه ما استأثرت حقبة سورية في التاريخ المعاصر باهتمامٍ لافت كما جرى الاهتمام بفترة "ربيع دمشق"، وأن هذا الاهتمام لا يعود إلى مفصلية هذه الحقبة داخليا وحسب، وإنما لاتساع الفضاء الإعلامي العربي والعالمي.
فلقد كان الربيع أشبه بالطفرة في تاريخ السكون المتصل، ومن هذه الزاوية تحديداً بدا ربيع دمشق كما لو كان انقطاعاً عن تاريخٍ كامل، إن على مستوى الخطاب والممارسة أو على مستوى الشعارات والأهداف.
كما بدا فضاء وتعبيراً عن الحرية ببراءتها الأولى، لم يطمح في السلطة، ليس تعففاً فيها، ولكن إدراكاً أنه قبل الوصول إليها "علينا أن نعمل جاهدين من أجل أن يسترد المجتمع وعيه وعافيته أولا".
لحظة المخاض وبراءة الوليد
يمكن العودة بربيع دمشق إلى بذوره الأولى مع بداية التململ الشعبي العلني من سكون الأوضاع والأحوال السورية اقتصادياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً.
وقد تجلى ذلك في منتديات علنية بعضها رسمي، مثل جمعية العلوم الاقتصادية، والتي زاد نقاشاتها لهيباً حضور الدكتور بشار الأسد قبل تسلمه السلطة لبعض ندواتها، وبعضها الآخر غير رسمي، كمنتدى "أبو زلام" للدراسات الحضارية، ومنتدى "دُمر" الثقافي.
ثم أتت انتخابات الدورة التشريعية السابعة لمجلس الشعب (1999-2003) لتبرز أصوات أكثر جرأة في المطالب وأشد حدة في التعبير، سيما رياض سيف، عضو مجلس الشعب، والدكتور عارف دليلة اللذين طالبا بتعديل قانون الانتخابات، وتفعيل دور مجلس الشعب للمراقبة والمحاسبة.
ثم أتى خطاب الرئيس حافظ الأسد، في افتتاح المجلس التشريعي السادس، لينقد الفساد والبيروقراطية ويحث على التطوير والتحديث، ما سمح للسوريين بأخذ جرعة إضافية من "الحرية الممنوعة" عبر توجيه النقد علناً لشخصيات و"رموز الفساد".
بيد أن انتقال السلطة من الأسد الأب إلى الأسد الابن، وما سبق ذلك من تحضيرات لعقد المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث الحاكم، وتشكيل حكومة جديدة، وإقالة ثم انتحار رئيس الوزراء محمود الزعبي بعد اتهامه بالفساد, كل ذلك فتح المجال لنقاشات أكثر عمقاً وأشد جرأة.
حتى وإن ظلت مع ذلك محسوبة ومضبوطة لتمرير انتقال السلطة سلميا عبر إعطاء شرعية داخلية وخارجية لآلية انتقالها، بحجة أنها تحمل مشروعاً لمكافحة الفساد وتحديث القوانين وإفساح المجال للمشاركة.
وبرأي زيادة، أن ثمة مسارين اثنين أنتجا حراكاً سياسياً اجتماعياً في لحظةٍ تاريخية محددة ولم يكن ليتم ربيع دمشق لولاهما، الأول: مسار تغيّر رأس النظام السياسي، وإن ظل محتفظا بالأسس والقواعد نفسها.
أما الثاني فيتمثل في رغبة المجتمعٍ في المشاركة عبر صيغ ووسائل وآليات جديدة يحاول من خلالها اختراق حواجز المنع وإسماع صوته وأخذه بعين الاعتبار.
كلا المسارين كانا يتقاطعان في عدة لحظات، بل ويتصادمان في بعض الأحيان، لكنهما في أغلب الأحوال كانا يسيران متوازيين ومتساوقين، إلى أن جرى تطبيق العسف النهائي بحق المسار المجتمعي بحيث تم إلحاقه واستتباعه عودة بذلك إلى سيرة الصمت والسكون القديمة التي سادت سوريا خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
عقب وفاة الأسد وانتقال السلطة لم يفرز مؤتمر حزب البعث أي تغيير يذكر، اللهم إلا استبدال بعض أعضاء القيادة القطرية بآخرين جدد هم أبناء المدرسة نفسها تفكيراً وممارسة، أما اللجنة المركزية فقد بدا ملاحظاً اتساع جسم التمثيل العسكري بها في مؤشرٍ على ضبط التوجهات المستقبلية في إطار الاستمرارية، وعدم طرح خيارات التغيير الجدية.
ثم أتى خطاب القسم للرئيس بشار في 17 يوليو/ تموز ليحمل نبرة مختلفة فقط على صعيد احترام الرأي الآخر، وبدا متفائلاً لجهة طرح أفكار تعتبر (ثورية) بمقياس الخطاب البعثي، كما تكرس خلال عقد التسعينيات، ثم اُتبع بخطوات أخرى مثل الإفراج عن 600 سجين سياسي، وإغلاق سجن المزة، وعدم اتخاذ إجراءات بحق الناشطين ورافق ذلك نشأة الكثير من المنتديات السورية.
لكن سرعان ما كبح جماح تلك المنتديات من قبل السلطات في فبراير/ شباط 2001 كمؤشر على عدم جدية التغيير، ولتوصيل رسالة مفادها أن المطلوب كان أشبه بتجديد الصورة الداخلية والخارجية بعد اهتلاك كلتيهما خلال السنوات السابقة.
وقد خلق هذا جدلاً ونقاشاً حادين في أوساط السلطة والمثقفين، الأولى بدت نقاشاتها خفية وغير معلنة وتتعلق بالوسائل الأنجع لكبح جماح المثقفين والناشطين ووضع أولوية للإصلاح الاقتصادي على السياسي.
أما المثقفون والهيئات والمنتديات فقد بدت أكثر حيوية في نقاشاتها وكتاباتها، التي كانت تتعلق بالتساؤل حول موقف السلطة من هذا الحراك بمجمله؟ وأين هي نهاياته؟ وما وسائل التعامل للحفاظ على مكتسبات (الربيع)؟
ومع ذلك -كما يقول الكاتب- ظلت خطوات الانفتاح الاقتصادي جزئية ومحدودة، ولم تنضو في إطار مشروع إصلاح اقتصادي شامل ومتكامل، ولذلك لجأت السلطة، وكخطوة لتبرير الإبطاء والممانعة في الإصلاح الاقتصادي، إلى خطوات خجول في الانفتاح السياسي الضيق والمحدود جدا, من مثل السماح لأحزاب الجبهة بفتح مقار لها وإصدار صحفها الخاصة، وهي تعلم تماما مدى التمثيل الضعيف، بل المعدوم أحياناً، لهذه الأحزاب في الشارع السوري.
ثم أتى الاغتيال النهائي لربيع دمشق في سبتمبر/ أيلول2001 عبر اعتقال أبرز الناشطين والفاعلين في رسالةٍ واضحة إلى المشاركين خاصة وللمجتمع عامة، ولذلك بدا السؤال مشروعاً حول إمكانية التغيير الحقيقي من داخل النظام نفسه، وكيف أن ربيع دمشق لم يكن في حقيقته سوى إعادة تأهيل النظام إعلامياً وتحسين صورته في الداخل والخارج معا، ولم يكن نابعاً من رغبة جادة وعميقة في القطع مع سياسة الماضي القائم على القمع واحتكار الحقيقة والسلطة معا.
انتقال للسلطة أم توريث للاستبداد؟
ما إن أذيع النعي الرسمي لوفاة حافظ الأسد مساء العاشر من يونيو/ حزيران 2000، حتى عقد مجلس الشعب جلسة استثنائية تقدم فيها أكثر من ثلث الأعضاء باقتراح يتضمن تعديل المادة 83 من الدستور، التي كانت تشترط بلوغ الأربعين لمرشحي الرئاسة، لتصبح الرابعة والثلاثين.
وهكذا، وفي أول ردة فعل له على موت الرئيس، أسقط مجلس الشعب معظم الآمال الخجولة التي راهنت على بدء مرحلة جديدة في الوضع الديمقراطي، وبدلا من أن يمضي في مناقشة فصل العديد من أعضائه المتورطين بخيانة الثقة وبيع الضمير، صوت على تغيير فقرة جوهرية في الدستور، مذعنا بذلك للمشيئة السياسية العسكرية وحسب.
كان التغيير واضحا ومحددا بما يؤهل بشار لوراثة الرئاسة، وقد جرى في أقل من ربع ساعة من الوقت اللازم لصياغته، دون إشراك خبراء حقوقيين ودون نقاش أو مداولة شعبية، وتم التصويت عليه بالإجماع في ثلاث ثوان فقط!!.
ومع أن الأمر كان متوقعا، لكنه مع ذلك جاء مفاجئاً وغريباً أعاد للأذهان الحقيقة المرة، حقيقة دور مجلس الشعب الشكلي في إطار نظام قائم برمته على إرادة الحاكم المطلقة.
كما أنه أبرز مفارقات عدة، من بينها نوع الوظيفة المفترض أن تضطلع بها هذه المؤسسة، التي تتجسد في حماية الدستور من التلاعب السياسي المحتمل.
ومع أن المجلس لم يكن في يوم من الأيام يتمتع باستقلاليته، فإن ثمة هامشا بسيطا كان بإمكانه أن يناور في إطاره لتعزيز دوره وقراراته.
في خطابه الأول بعد القسم أشار بشار إلى أن تطوير البلاد يعد بمنزلة الهاجس الأساسي معلنا إستراتيجية ذات محاور ثلاثة، الأول: يتضمن طرح أفكار جديدة. الثاني: يتضمن تجديد أفكار قديمة. الثالث: يتضمن تطوير أفكار قديمة، تم تجديدها لكي تتناسب مع الأهداف الحاضرة والمستقبلية.
وذلك وفق مجموعة من المعايير تتلخص في: الزمن- طبيعة الواقع-الإمكانيات المتوفرة-المصلحة العامة. وفي نهاية خطابه أعلن بشار أن بلاده بحاجة ماسة لكل من: الفكر المتجدد-والنقد البناء-والرأي الآخر.
وهذا دفع المثقفين لأن يتساءلوا، هل قبول الرأي الآخر الذي شدد عليه يعني قبول رأي المعارضة السورية؟!! ودعا بعض الحالمين إلى عقد مؤتمر وطني يضم الأطراف والشرائح الوطنية جميعاً بلا استثناء من أجل وضع ميثاق شرف وطني!!.
اغتيال الربيع
يقول الكاتب إن التساؤل الذي يفرض نفسه وبقوة هنا هو: هل نجحت اعتقالات سبتمبر/ أيلول 2001 وما تبعها من ملاحقات أمنية متصاعدة للناشطين في إيقاف حركة المطالب الاجتماعية وفي القضاء على الأمل، الذي ولدته أزمة انتقال السلطة، في اقتراب أجل النظام الشمولي وعودة الحياة السياسية والاجتماعية والقانونية الطبيعية إلى سوريا أم لا؟
إن انتهاء ربيع دمشق، أي إمكان الانتقال بوسائل سلمية نحو وضع طبيعي يلغي حالة الوصاية والتجريد العملي والقانوني للشعب من حقوقه المدنية والسياسية يعني بالضرورة الإقرار بفشل الحلول السياسية، وبالتالي إعادة البلاد إلى المناخات نفسها التي ولدت أحداث حماة المأساوية.
بيد أن محض النظرة المتيقظة لطبيعة التراكمات التي حصلت منذ 1994، تؤكد أن التحول أصبح حركة حتمية، وسوف تبقى مستمرة، رغم الاعتقالات، وفي مقدمة هذه التراكمات: الإجماع العام على الالتزام الثابت بأساليب العمل السياسية، من حوار وندوات ومحاضرات واعتصامات واحتجاجات ...إلخ ونبذ أي وسيلة تجنح إلى العنف أو تراهن عليه.
وأيضاً الانتصار الساحق الذي حققته الفكرة الديمقراطية في أوساط النخبة السورية وما يزيد من قوة تأثير هذا الانتصار الفراغ السياسي المذهل الذي تعيشه البلاد.
ومنها أيضا دخول مئات آلاف الشباب ممن كوتهم الأزمة الاقتصادية بنارها وقتلهم الفراغ السياسي والثقافي المستمر منذ عقود وأعادت لهم تجربة المنتديات، وما دار فيها من نقاشات وحوارات الثقة بأنفسهم وعرفتهم على الشعور العميق بمعنى المسؤولية الأخلاقية والوطنية.
ومن الواضح أن هذه التراكمات تنزع جميعاً إلى ترك النظام عارياً أمام جميع الانتقادات، وبحسب غليون، فإن مضمون ما تعيشه سوريا اليوم ليس انتهاءً لربيع دمشق، ولكن قبل كل شيء انهيار الثقة بالنظام وزوال الاعتقاد بقدرته على تقديم أي مكاسب أو إنجازات للمجتمع والدولة، أي فقدان الإيمان بالنظام من حيث هو صيغة صالحة للحكم، بما في ذلك، عند قادة النظام وأكثرهم وعياً وصلاحاً.
إن ربيع دمشق، الذي شكل للمجتمع المقيد والمدحور أملاً وليداً في الخروج من المحنة، ومعانقة الشعور بالمواطنة، وإمكانية العودة بسوريا إلى حياة مدنية وسياسية إنسانية، يميل إلى أن يمثل، هو نفسه، الدودة التي تنخر، وسوف تستمر تنخر في النظام، وتفاقم من الشروخ التي وسمته دائماً: بين المجتمع والدولة، بين القول والعمل، بين الوعد والواقع، وذلك حتى لو لم يبق أحد على قيد الحياة ممن شاركوا فيه.
فمنذ ربيع دمشق والأطروحات التي نشرها والتواصل الفكري والاجتماعي الذي بعثه في صفوف نخب مهمشة ومنبوذة منذ عقود، أصبح نظام الحزب الواحد والفكر الواحد والرأي الواحد يبدو من دون هدف ولا رؤية ولا حتى مبرر واحد للوجود.