هكذا يعلم الربانيون

عبد الله الطنطاوي

هكذا يعلم الربانيون

أ.د/محمد أديب الصالح

رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام

عرض: عبد الله الطنطاوي

[email protected]

صدر هذا الكتاب القيّم، عن المكتب الإسلامي في بيروت، للأستاذ الدكتور محمد أديب الصالح، رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام، وأستاذ ورئيس قسم القرآن والسنة بجامعة دمشق، سابقاً.

تحدّث المؤلف في كتابه هذا عن عشرات الرجال من العلماء الربانيين عبر العصور، كان المؤلف قد كتبها ونشرها في مجلة حضارة الإسلام التي يرأس تحريرها، على مدى يزيد عن الثلاثين عاماً، وكانت تسترعي انتباه القراء بما فيها من روحانية ومعان سامية، وأفكار فذّة، في هذا العصر الذي يطحن أبناؤه بعضهم بعضاً بمادية طاغية، لم يسلم منها إلا من رحم ربك من الأتقياء الأنقياء العاملين بصدق وزهادة بما في أيدي الناس، وبما في ألسنتهم من ألوان الملق والرياء والمدح الكاذب.

قال المؤلف –حفظه الله- في مقدمة الكتاب:

الحمد لله الذي لا رب غيره ولا خير إلا خيره، له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، سبحانه يعلم القول في السماء والأرض، ويوفق من شاء إلى صالح القول والعمل وهو السميع العليم.

أحمده حمداً يليق بجلاله وكماله، كما يريد وفوق ما تريد، له العتبى حتى يرضى، ومنه الخير وإليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ندّ له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفوته من خلقه أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المغضوب عليهم الظالمون، ومن ورائهم الضالون المكذبون.

والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على صفوة الله من خلقه، ومصطفاه من رسله، إمام الهدى ومعلم الناس الخير سيدنا محمد بن عبد الله، الذي ابتعثه في الأميين رسولاً من أنفسم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغز الميامين والأوفياء المجاهدين، ومن تبعهم بإحسان وجاهد في سبيل الله إلى يوم الدين.

وبعد: فهذه صفحات تتحدث عن صفوة من أحباب الله الربانيين الذين علموا وعلّموا وعملوا، واجتهدوا في إيصال الخير إلى الآخرين على بيّنة من ربهم في نور هداية الإسلام، وهو حديث يصحبه شيء من الدراسة والتحليل، قدر المستطاع بغية الوصول إلى ما يمكن من تيسير الانتفاع لنفسي وللأخ القارئ بمواقف الواحد منهم، وكلماته مواعظه وسلوكه علماً وعملاً، درساً وتدريساً وجلباً للخير إلى المسلمين، ناهيك عن الزهادة والتألّه والعبادة، والجهاد في سبيل الله، علماً بأن النسب متصل بين سلوك الربانيين في رسالة العلم والعمل والدرس والتدريس والإصلاح، وبين طبيعة الرسالة المحمدية (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) (الجمعة2) الأمر الذي يذكر بالقاعدة المباركة التي يقوم عليها بناء الربانية وهي التي يغمرنا فضلها المنوّر بقوله تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون، ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) (آل عمران) والصفحات المومى إليها، كنت في ماض يربو على ثلاثين عاماً أكتبها لركن في مجلة "حضارة الإسلام" الدمشقية التي أشرف برئاسة تحريرها عنوانه: "هكذا يعلم الربانيون" وكنت أسعد بكتابتها، كما أسعد بحسن تلقي القراء الكرام مع الثناء وطلب المزيد، وقد تم النشر في المجلة المذكورة –حضارة الإسلام- ذات التميز والقبول –والحمد لله= خلال عدد من السنين وكانت الكلمات عن أولئك الرجال تلقى ما تلقى من القبول الحسن عند القراء، وطلب الاستزادة من هذا النوع من الترجمة والدراسة والبحث.

وأنشرها اليوم، وبناء على رغبة الكثيرين ممن لا ملك لي بمخالفتهم، وزوّدت ما كتبت بقدر كاف من التوثيق، وقدر لا بأس به من الزيادة والتنقيح والتحرير، كما حرصت على إثبات تاريخ النشر بالسنة والشهر في الحاشية، لما لذلك من فائدة كبيرة للقارئ إن شاء الله، راجياً من الله تبارك وتعالى أن يجد قراؤنا الكرام من خلال صلتهم بهذا الكتاب ما يأملون من الفائدة المرجوة والنفع الذي يصبون إليه.

وهنا لابد من التذكير بتكريم الله للربانيين وثقل الأمانة التي حملوها بأن "الرباني" هو المنسوب للرب تبارك وتعالى (ولكن كونوا ربانيين) والألف والنون للمبالغة، ويمكن القول بأن الرباني هو الذي يقوم في نفسه على العلم والعمل والإخلاص، وفي علاقته بالآخرين على طاعة الله بمخاطبة القلوب والعقول بكلمة الإسلام، ولا يألو أحدهم جهداً في إيصال الخير للآخرين، وتربية الناس على ما يخاطبهم به من هدي الكتاب والسنة، وهي تربية بالكلمة والقدوة، ومن أخلاق الربانيين: قال عبد الله بن عمران: سمعت مجاهداً يقول: "صحبت ابن عمر رضي الله عنهما وأنا أريد أن أخدمه، فكان هو الذي يخدمني".

والحق الذي لا مرية فيه: هو أن هؤلاء الربانيين يمثلون الوجود العملي في حياة المسلمين لما يهدف إليه المنهج القرآني من تربية المسلم على العلم والعمل، والإخلاص في عبادة الله وطاعته، وملاحظة التقوى في النية والعمل والسلوك، لما أن ذلك هو المعتصم –بحول الله- من أن تزيغ بهذا المسلم –ذكراً كان أو أنثى- الأهواء وتتقاذفه الفتن، أو يباعد حب الدنيا، والذلة لشهواتها ورغباتها بينه وبين تحقيق الغاية المثلى وهي العبودية الخالصة لله عز وجل، وأن يكون على كل أحواله في مرضاته سبحانه، الأمر الذي يعقب –بفضل الله- النجاة يوم الحساب والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

ولنذكر أنه كلما ازداد طغيان المادة على النفوس، وتفاقم التماع الوارد المعادي للقيم الخيّرة والأفكار المنبثقة عن حقائق الإسلام ومنهجه في السلوك: ازدادت الحاجة إلى التعرف على هؤلاء البررة والانتفاع بسلوكهم ماضيَ الأمة وحاضرها، والخير كل الخير في الوقوف تربية وتعليماً وإعداداً عند الذي رسمته الهداية الربانية..

وما دام الأمر كذلك: فلنقدر تلك الصفات التي يتحلى بها من تفضل الله عليهم بأن يكونوا المتحققين بما عناه قول الله تبارك وتعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون).

من هنا كان من الأمور التي هي موضع الإعجاب والغبطة ما يشهده المرء، حين يرجع البصر في سلوك أولئك الرجال الذين نسبهم ربنا تبارك وتعالى لنفسه –أولئك الذين تسعد بهم  الأمة ويشرف بسلوكهم التاريخ- من تكامل في البنية التربوية حيث لا تنمو قضية جوهرية على حساب قضية جوهرية أخرى، فتراهم يستبقون الخيرات متحلّين بكريم الخلائق في كل ميدان يقوَون فيه على السباق في مضماره، ولا يتخلفون عن مكرمة يشهدها من همّهم نصرة دين الله في أنفسهم، وفي المجتمع، بل والأمة على حد سواء، الأمر الذي يذكر بما كشفت عنه الكلمة الهادية في القرآن، من تنوّع وتعدّد في المسالك التي تصل أصحابها بمرضاة الله عز وجل، وتضمن لهم -إن أحسنوا اصطحابها- الجزاء الموفور في الدنيا والآخرة، كالذي نرى في قوله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يُصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كُتب لهم به عمل صالح ‘إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) (التوبة).

والذي يستوقفك وأنت تتبصّر في سلوك هؤلاء العلماء الحكماء المجاهدين: أنك تجاوزت الحيز النظري في الكلام المحدد عن واحد منهم، وتحوّلت إلى الواقع العملي رأيت الكثرة الكاثرة التي تتحلى بالعلم النافع والعمل الصالح –ومن ذلك الجهاد في سبيل الله- واستوقفك ارتياد شتى ميادين الصلاح والإصلاح، بدءاً من الدرس والتدريس والتعليم، إلى التعاون المثمر في سبيل الصلاح والإصلاح، وصدق الوجهة في التألّه والتنسّك والتربية بالكلمة والقدوة، والتجرّد عن كل ما يتنافى مع الإخلاص من رياء أو غيره والعياذ بالله.

وهذا ما تؤكده المصادر التي حملت إلينا أسماء الكثيرين من حملة الأمانة في تاريخنا على أنهم ربّانيون.

وحرصاً على عدم الإطالة، سأكتفي ببعض ما نقلت إلينا المصادر من مقولات الإمام الذهبي في هذا الميدان، ها هو ذا يقول عن عبد الله بن مسعود: الإمام الرباني الحبر فقيه الأمة.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: العالم البحر العابد الرباني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضله على أبيه.

ونقل إلينا قول ابن الحنفية يوم مات ابن عباس قوله: اليوم مات ربانيّ هذه الأمة.

ويقول عن أبي القاسم الزيدي الحرّاني علي بن أحمد الحسيني الحنبلي: قلت: وكان رجلاً صالحاً ربانياً.

أما عن حاتم الأصم فيقول: الزاهد القدوة الرباني.

ويقول عن واحد من أصحابه: أحمد بن خضرويه: الزاهد الكبير الرباني.

وعن أبي عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي يقول: العالم الرباني.

أما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: وكان أبو موسى صواماً قواماً ربانياً زاهداً عابداً.. إلخ.

وعن عبد الرحمن بن شريح يقول: الإمام القدوة الرباني أبو شريح المعافري الإسكندراني العابد.

وها هو ذا يقول في ترجمة حفص بن ميسرة وهو الإمام المحدث الثقة، وكان ناسكاً ربانياً.

أما عن علي بن الفضيل فيقول رحمه الله: وكان علي قانتاً لله، خاشعاً، وجلاً، ربانياً كبير الشأن.

ولا يدع أن يقول عن عبد الرحمن بن أبي نُعم: الإمام الحجة القدوة الرباني أبو الحكم البجلي الكوفي.

وينقل عن أبي بكر بن عياش أن الضحاك بن مزاحم دخل الكوفة فرأى جنازة أبي إسحاق السبيعي وكثرة من فيها من الأخيار فقال: كأن هذا فيهم رباني.

أما عن بشر بن الحارث (الحافي) فيقول: الإمام العالم المحدث الزاهد الرباني القدوة شيخ الإسلام. وعن الإمام المحدث شجاع بن الوليد يقول الذهبي: الإمام المحدث العابد الصادق أبو بدر السكوني الكوفي نزيل بغداد، وكان إماماً ربانياً من العلماء العاملين حديثه في دواوين الإسلام، وقع لنا جملة صالحة من عواليه.

أما عن محمد بن أسلم الطوسي: فيقول: وسمعت أبا إسحاق المزكي، سمعت ابن خزيمة يقول: حدثنا ربانيّ هذه الأمة محمد بن أسلم الطوسي.

وفي كلام على أبي عمر المقدسي: قال الإمام الذهبي: قلت: كان قدوة صالحاً عابداً قانتاً لله ربانياً خاشعاً مخلصاً.

وها هو ذا يقول عن أحد العارفين العالم المجاهد محمد بن واسع: الإمام الرباني القدوة.. أحد الأعلام.

ويقول عن العلاء بن زياد: وكان ربانياً قانتاً لله، بكّاء من خشية الله.

وفي شأن محمد بن أسلم يقول الذهبي رحمه الله: كان زنجويه بن محمد إذا حدّث عن محمد بن أسلم يقول: حدثنا الزاهد الرباني.

وعند الكلام على منصور بن عمار يذكرنا بأنه الواعظ البليغ الفصيح الرباني.

وبعد هذا: كم هو رائع حقاً أن نستذكر أن خشية الله عند هؤلاء العلماء الربانيين مضموماً إليه الإخلاص الذي تبعث عليه الخشية: من العوامل الأصيلة فيما وضع الله لهم من العقول، وفينا وعدهم به مولاهم من حسن العاقبة يوم الدين.

ويرحم الله ابن عطاء السكندراني إذ يقول في "الحكم"" 49: "العلم النافع هو الذي ينبسط في الصدر شعاعه، وينكشف به عن القلب قناعه" ويقول: "خير العلم ما كانت الخشية معه" ومن الخير أن لا يغفل عن التكامل الواضح في تحرك هؤلاء الكرام، فقد جاء عن الرباني شقيق البلخي أنه مع تألهه وزهده كان من رؤوس الغزاة كما جاء في "السير": 9/314 ومثله كثير كعبد الله بن المبارك ومحمد بن واسع وآخرين.

ولعل من الخير أن نسير هنا إلى صورة من هذا التكامل في حركة العالم الرباني: كالذي نرى عند سيد التابعين وإمام الربانيين في عصره، البحر القدوة: الحسن البصري رحمه الله، فقد جاء في "السير" 4/579: وقال أبو سعيد بن الأعرابي في "طبقات النساك": كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن، ويسمعون كلامه، ويذعنون له بالفقه، في هذه المعاني خاصة، وكان عمرو بن عبيد، وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له، وكان له مجلس خاص في منزله، لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن، فإن يسأله إنسان غيرها، تبرم به وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر، فأما حلقته في المسجد فكان يمر فيها الحديث، والفقه، وعلم القرآن، واللغة، وسائر العلوم، وكان ربما يسأل عن التصوف فيجيب وكان منهم من يصحبه للحديث، ومنهم من يصحبه للقرآن والبيان، ومنهم من يصحبه البلاغة، ومنهم من يصحبه الإخلاص، وعلم الخصوص، كعمرو بن عبيد، وأبي جَهير، وعبد الواحد بن زيد، وصالح المُرّي، وشميط، وأبي عبيدة الناجي، وكل واحد من هؤلاء اشتهر بحال –يعني في العبادة-.

وهذا –أو بعضه- جدير بأن يذكر بما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن الثناء الحسن على الميت يجيز الشهادة له بالجنة، وضرب مثلاً بالعديد من هؤلاء الكبار من أئمة الربانيين. قال رحمه الله: وقال طائفة: بل من استفاض من بين الناس إيمانه وتقواه، واتفق المسلمون على الثناء عليه، كعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، وعبد الله بن المبارك رحمهم الله وغيرهم، شهدنا له بالجنة، لأن في "الصحيح": أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: "وجبت" وجبت" ومُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً، فقال: "وجبت، وجبت" قالوا: يا رسول الله ما قولك: وجبت، وجبت؟. قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً، فقلت: وجبت له الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت لها النار" قيل: بمَ يا رسول الله؟! قال: "بالثناء الحسن والثناء السيّئ" "مجموع الفتاوى: 18/314.

وصلى الله وسلم وبارك على خيرته من خلقه ومصطفاه من رسله سيدنا محمد بن عبد الله معلّم الناس الخير وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين، وجزى ربانيي هذه الأمة خير الجزاء إنه البر الجواد الكريم."

إنني أدعو نفسي الخاطئة، وأدعو غيري من الناس، إلى قراءة هذا الكتاب القيّم، بل إلى دراسته، ففيه ما فيه من تربية، وتزكية، وتهذيب، في أسلوب أدبي، علمي، بديع، قلما نطالعه في كتابات المعاصرين.