معالم قرآنية في البناء
تأليف: أ.د/محمد أديب الصالح رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام |
عرض: عبد الله الطنطاوي |
أصل هذه السلسلة القرآنية البيانية، أحاديث قدّمها الأستاذ الدكتور محمد أديب الصالح- رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام الدمشقية- في إذاعة القران الكريم- السعودية، واستغرقت منه سنوات طولاً، أمضاها، باحثاً ومنقباً في كتاب الله العزيز الذي لا ولن تنفد عجائبه، على الزمان، والمؤلف هو ابن الدعوة التي تنادي بالقرآن العظيم دستوراً لها في الحياة، عاش في ظلاله منذ طفولته، فحفظ منه ما حفظ، وختمه مئات المرات، وأكبَّ على دراسته، واستخلاص الكثير من عجائبه، منذ وعى الحياة، وعرف أهمية هذا الكتاب الجليل في حياة الفرد، وفي حياة الجماعة معاً..
وبعد سنوات من إذاعة هذه الأحاديث الجميلة الهادفة إلى النهوض بالأمة وشعوبها وأفرادها- بادر شيخنا الجليل إلى تصنيفها، ثم إخراجها في سبعة كتب مهمة، تحت هذا العنوان الشامل: معالم قرآنية في البناء، وتولت شركة العبيكان للأبحاث والتطوير في الرياض، طباعتها طباعة أنيقة، لتظهر في حلل قشيبة حقاً لا قولاً، من القطع الكبير. وهذه الكتب هي:
1- بناء على منهاج النبوة: تبيان المعالم والأخلاق. (112 صفحة).
2- بناء الأمة ومواجهة التحديات: تعدّد الميادين.. واليقظة. (437 صفحة).
3- المسلم والبناء الحضاري: الوجود الذاتي، وعمارة الأرض. (341 صفحة).
4- الإنسان والحياة في وقفات مع آيات. (473 صفحة).
5- شفاء القرآن، وجيل البناء: ملامح المجتمع القدوة. (451 صفحة).
6- موقع المرأة المسلمة: بين الإسلام، ودعاوى التجديد. (290 صفحة).
7- القصص القرآني وعطاء الشباب: القلب، والعقل، والساعد. (430 صفحة).
قال المؤلف في المقدمة التي قدّم بها كلَّ كتاب من هذه السلسلة الطيبة:
"الحمد لله الذي يسجد له ما في السموات وما في الأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدوّ والآصال.
والحمد لله عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، القائم على كل نفس بما كسبت وهو شديد المِحال.
والحمد لله الذي له مقاليد السموات والأرض، والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون، وتبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، سبحانه من إله غفور ودود إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، أنزله بالحق وبالحق نزل، وهو النور المبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوحى بهذا الكتاب المبين إلى خاتم رسله وصفوته من خلقه محمد بن عبد الله رحمة للعالمين، مباركاً ليدّبروا آياته وليتذكّر أولو الألباب، نعم، ونزّله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، ويسّره بلسانه ليبشر به المتقين، وينذر به قوماً لدّا، حيث الغاية الكبرى أن يحصل التذكر وتأخذ الهداية سبيلها إلى القلوب (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)(1).
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أدى الأمانة في تبليغ ما أنزل إليه من تلكم الآيات البينات، ولم يدع أن يبيّن –وقد أوتي القرآن ومثله معه- ما يلزم بيانه خير بيان، عملاً بقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم ولعلهم يتفكرون)(2).
فجزاه الله عن الأمة ونصرة الحق خير الجزاء، وصلى الله وسلم وبارك عليه ما اختلف الليل والنهار: أداءً لبعض حقه وقد أنقذنا الله به من التهلكة وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس، كلما ذكره الذاكرون وغفل عنه الغافلون، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الهداة المهتدين، الذين أدّوا أمانة نقل الكتاب الكريم وبيانه المحمدي على خير وجه وأكمله للعالمين، ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم على طريق القرآن المجيد وبيانه من سنة سيد المرسلين.
وبعد: فليس من نافلة القول أو مكروره التذكير بواحدة من المسلّمات عند أولي الألباب، وهي أن واحداً من أهل النّصفة أوتي ولو أثارة من علم، لا يماري في أن من أجل نعم الله على الأمة المحمدية، بل على البشرية جمعاء، هذا القرآن المجيد الذي أنزله الله على نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بالحق، وبالحق نزل، أنزله عليه –كما تدل معالمه- ولم يجعل له عوجاً، ويسره بلسانه ليبشر به المتقين وينذر به قوماً لداً لعلهم يتذكرون.. هذا الذكر الحكيم –وهو كلام الخلاق العليم- يتبوأ من رفعة القدر وسعة العطاء في كلماته التي لا تنفد، المنزلة التي لم يبلغها كتاب (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً)(3)، كما يتبوأ من عظيم المكانة التي لا تجارى في قيمه وحقائقه ومعانيه الناطقة بها معالمه، ناهيك عن أسلوبه وفصاحته، حيث بلغ من سموّه أن الله تبارك وتعالى رقاه إلى مقام دلّ بعظمته أنه المعجز حقاً، وأنه مع دلالاته القاطعة على أنه من عند الله لو اجتمعت الإنس والجن على معارضته، ولو بالإتيان بسورة من مثله لعجزوا ولم يقدروا ولو تمالؤوا جميعاً على ذلك (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)(4).
فسبحان من أنزله تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وجعله مهيمناً على ما سبقه من الكتب، وأغزرها علماً للعباد ونفعاً، وأجلّها منزلة وقدراً (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق)(5).
وهكذا شاء ربنا تبارك وتعالى أن يكون هذا الكتاب الخاتم –وقد أنزل على صاحب الرسالة الخاتمة- ينبوع الحكمة وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، ولم لا وهو الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير، ألا له الفصل ليس بالهزل، لا يمتري عاقل في أنه كلّي التشريع، وعمدة الملة، فهو أصل الأصول، وحبل الله المتين، لا تزيغ به الأهواء ولا يخلق على كثرة الرد –أو عن كثرة الرد- ولا تنقضي عجائبه، فهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)(6) من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
وأنت واجد في معالمه النورانية الخيرة، المكي منها والمدني، والتي يطالعك من خلالها عموم هدايته.. نهجاً من البناء الحضاري القويم، على صعيد الفرد والجماعة والأمة بشمول وعمق بالغين، الأمر الذي يرقى بالأمة، أن لو عملت به، إلى كل ما فيه سعادة الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين، ذلك بأن هذه المعالم –وهي من هذا الكتاب وإليه- حق كلها ونور كلها، ألم تر إلى قوله تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً، وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً)(7) وقوله جل شأنه: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير)(8).
أجل، هو الحق وأنزل بالحق، فليس لشيء من الباطل –كائناً ما كان شأنه وشأن أهله- إلى تلك المعالم من سبيل، مهما افترى المفترون، ومكر الماكرون، ومارى السفهاء والمبلسون، وانتحل العابثون المبطلون، وجل شأن ربنا السميع القاهر فوق عباده إذ يقول: (إن الذين كفروا بالذكر لمّا جاءهم وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(9).
فطوبى لمن تحملهم نورانية هذه المعالم إلى أن يكونوا على الجادة يحسنون اصطحاب هذا القرآن تلاوة وتدبراً وتذكراً، يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويدورون معه –وهو كلام العليم الحكيم- حيث دار وما أعزّها ثمرة مخالطة تلك المعالم مخالطة إيمانية واعية، تسمو بأصحابها المهديين إلى حيث السداد في الأقوال والأفعال، والظفر بالسعادة العاجلة، وحسن العقبى يوم الدين، حيث يشهد لهم القرآن بأنهم كانوا في الدنيا لا يدعون أن يدوروا معه حيث دار.
وكم دعا السلف الصالح إلى التحقق بذلك، وكشفوا لمن يقوم به عن أعظم البشريات، روى صاحب "الحلية" عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: أن رجلاً أتى أباه عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن علّمني كلمات جوامع نوافع، فقال رضي الله عنه:
"اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، ودر مع القرآن حيث دار، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيباً قريباً."(10) وروى الباجي عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً يقول: "إن استطعت أن تجعل القرآن إماماً فافعل، فهو الإمام الذي يهدي إلى الجنة"(11) ورضي الله عن ابن أم عبد إذ يقول: "إنما هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره"(12). ولا تعجب ما دام القرآن هو الكتاب المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس على معارضته ولو اجتمعوا وتظاهروا، والذي صرف الله فيه دلائل الهدى ونوعها لتخاطب كل عقل وقلب، وسبحان من أنزله على نبينا المصطفى ليكون للعالمين نذيراً.
وعلى هذا السنن من اصطحاب اللمحة السريعة في هذه العجالة في القول: ما بد من التنويه بوضوح الدلالة على أفضلية هذه المعالم وما تتسم به من الدقة المتناهية، والحكمة – البالغة في وفرة عطائها الذي لا يستثني ساحة من ساحات البناء، ذلك البناء الذي لا ينأى عن العبودية لله والحفاظ على إنسانية الإنسان ونصرة الحق وتوفير ما يثمر الحضارة المثلى، لما أن هذه الحضارة من نور القرآن الذي هو المعجزة الحقة الباقية إلى يوم الدين، وسداها ولحمتها هديه الرباني وبناؤه الحق المكين.
وجماع ذلك على صعيد الهداية والبناء الشامل المتكامل للفرد والجماعة والأمة – ناهيك عن البناء الحضاري القويم – قول الله تعالى في سورة الإسراء – وهي سورة مكية -: ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً)(13). وأقوم من القوام وهو العدل والاعتدال، ومنه قول تعالى: (وكان بين ذلك قواما)(14)، وفلان أقوم كلاماً من فلان: أي أعدل.
فهذا الكتاب المبين يهدي ويرشد العباد على خير منهج في دينهم ودنياهم وآخرتهم لأقوم الحالات وأصوبها، وأفضل الطرق وأسدها، وأوضح السبل وأعدلها: فالهداية به قائمة أبداً للحالة التي هي أسد وأعدل وأصوب، ويمكن أن نقول: يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق. وهذا مبني على أن كلمة (أقوم) نعت لموصوف محذوف ذهب كثير من العلماء إلى تقديره على الوجوه التي ذكرنا أو بعضها، ومثل هذه الكناية كثير في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن..) (15) أي بالخصلة التي هي أحسن، فكان أفعل التفضيل (أحسن) صفة لكلمة الخصلة المقدرة.
ولا علينا أن نذكر أن فريقاً من العلماء ذهب إلى أن (أقوم) ليست للتفضيل: فالمعنى: يهدي للتي هي قيمة أي قيمة مستقيمة، كما قال تعالى: (وذلك دين القيمة)(16)، وكما قال سبحانه: (فيها كتبٌ قيمة)(17)، أي مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق.
هذا: ومن الأهمية بمكان، أن نشير إلى أنه على كلا الوجهين في كلمة (أقوم) فإن قوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) يأتي على وجه الإطلاق في تقرير أن هذا الكتاب الكريم يرشد للطريقة التي هي أسدُّ وأعدل فيمن يهديهم وفيما يهديهم له، فيشمل الهدى – كما يقول صاحب الظلال(18) أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان، ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.
هذه واحدة، وأما الثانية: فهي ما أوضحه الزمخشري من عظمة الإعجاز ورفعة الذوق البلاغي في حذف الموصوف بقوله تعالى: (للتي هي أقوم) قال في "الكشاف": (التي هي أقوم) للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدُّها، أو للملة أو الطريقة، وأيمُّا قُدِّرَتْ لم تجد مع الإثبات – أي إثبات الموصوف – ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تُفقَدُ مع إيضاحه"(19).
وفي خاتمة المطاف: لقد قدمت هذه اللمحة الوجيزة من القول الذي هو في سمو موضوعه عن القرآن ومعالمه الخيرة قليل قليل من كثير كثير، قدمتها وأنا بسبيل الإشارة العجلى إلى أن الصفحات القادمات هنا ثمرةٌ من ثمرات رحلة ميمونة طالت بعض الشيء، مَنَّ الله بها عليَّ – وهو ذو الفضل العظيم – صحبتُ من خلالها عدداً وافراً من المعالم القرآنية المكي منها والمدني، الهادية إلى كل ما هو أسدُّ وأعدل في مختلف الأحوال والشؤون، لما أنها من محكم التنزيل وإليه.
وقد كنت حريصاً – من خلال التدبر المستطاع – على تناولها بأمانة علمية منهجية والكشف قدر الطاقة عن معانيها ومنارات الهداية في كل منها حسب موقعه على الصعيد المطروق في ساحة البناء الشامل المتكامل بمعناه الإسلامي الحضاري، البناء الذي تناول – مع العقيدة والعبادة والأخلاق – شؤون الحياة بأكملها، لما أن جذور حضارتنا الإسلامية تكمن في هذه المعالم الخيرة وبيانها من السنة المحمدية، ثم فُهُوم أئمة الهدى عليهم الرحمة والرضوان، وأينما وجدت المصلحة في عرف هذه الحقيقة: فثم شرع الله ودينه.
والله أسأل أن يتقبل بقبول حسن هذا العمل النير بجوهره وعطائه، المتواضع بتناوله والكلام فيه، وأن ينفع به قارئه والناظر فيه، وأن يتفضل بالعفو عما يكون من زلل. إنه سميع مجيب الدعاء، لا رب غيره ولا خير إلا خيرُه، منه التيسير والعون وإليه المرجع والمآب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وأزكى تسليماته على إمام الهداة وصفوة الله من خلقه سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الهادين المهتدين: أجمعين.
الهوامش
(1) (الدخان: 58).
(2) (النحل: 44).
(3) (الكهف: 109).
(4) (الإسراء: 88).
(5) (المائدة: 48).رر
(6) (الجن: 1-2).
(7) (الإسراء: 105-106).
(8) (فاطر: 31).
(9) (فصلت: 41-42).
(10) "الحلية" لأبي نعيم الأصفهاني: 1/132. "صفة الصفوة" لابن الجوزي: 1/165، "الربانيون قدوة وعمل" للمؤلف: 132.
(11) ينظر تفسير الثعالبي: 2/252.
(12) "الربانيون قدوة وعمل" 171، وانظر "الحلية" 1/131.
(13) (الإسراء: 9).
(14) (الفرقان: 67).
(15) (فصلت: 34).
(16) (البينة: 5).
(17) (البينة: 3).
(18): (4/5/22).
(19): "الكشاف": (2/353).