مع الأديب الدكتور محمد عادل الهاشمي
و رائد الأمة ... قائد الدعوة
الداعية الدكتور المجاهد مصطفى السباعي يرحمه الله
شريف قاسم
د. مصطفى السباعي يرحمه الله |
د. محمد عادل الهاشمي |
لن أفيض في الحديث عن الجهود التي بذلتُها ،وإنما أودُّ أن أهدي إلى القارئ في غضون صفحات ... شخصية نادرة ، قلَّ نظيرُها ، جاءت حسب متطلبات عصرها ، فكأنما صيغت لمهماته ، وهُيِّئت لمجموع قضاياه ، أما الرجل الذي أُؤرخ له فماثلٌ أمامي حتى هذه اللحظة بمهابته وجاذبيته ، وسعة موهبته بنورانيته وتوهجه ، بحماسه وحلمه ، تتماثل لي قامته الفارعة المهيبة ، لايثنيه عن إنجازه مرضٌ أو وَهَنٌ ، ثم يتماثل لي في أخريات عمره وقد اتكأ على عصا بعد شلله ، لم تزايله بسمةُ الثقة ، ولم تفارقْه همته العالية ، تسبق عزيمتُه طاقةَ جسدِه ، لايأبه بما يصيبُه من ألم ، فقد كانت حلاوةُ الحركة والإنجاز تذيب لديه كلَّ سقم ، لم يكن يخص سورية أو بلاد الشام بجهاده وعلمه ودعوته ، وإنما كان رجل العالم العربي والإسلامي بذلا وعونا ، فمنذ مقتبل عمره لم يفرِّقْ بين سورية ومصر في كفاحه ، حيثُ تصدَّرَ في سورية معارك التحرير ضد فرنسا جِلادًا ومقاومة ، حتى إذا ماقصد الأزهر بمصر للدراسة قاد المظاهرات ضد الاستعمار البريطاني ، ودفع الثمن لكفاحه هذا سنوات من الاعتقال في سورية ومصر .أما فلسطين فقد عرفت كفاحه وتوعيته لقضيتها ، وانطلاقه على رأس كتيبة من إخوانه لجهاد الصهاينة ، وذودهم عن المسجد الأقصى .
بهذه المقتطفات الوجيزة من مقدمته لكتابه الأثير ( مصطفى السباعي ... رائد أمة ورجل دعوة ) افتتح الأديب الدكتور محمد عادل الهاشمي ــ يحفظه الله ــ صفحات سيرة الداعية الرائد والقائد المجاهد الشيخ الدكتور مصطفى السباعي ــ يرحمه الله ــ الذي عاش عظيما لمهمة عظيمة ، إذِ اكتملت فيه صفات الداعية ومزايا الريادة ، ورشَّحتْه شخصيتُه الفذة للنهوض بالدعوة الإسلامية في زمن أعلن أعداء الإسلام فيه حربَهم على شريعة الله وعلى سٌنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكشَّروا عن أنياب مكرهم ومخالب حقدهم على حملة لواء العودة إلى أسباب العزة والكرامة والفتح ، من العلماء العاملين والدعاة المجاهدين على امتداد عالمنا الإسلامي الفسيح .
نشأ السباعي في بيت علم ودين ، ودرج وهو يتدفق ذكاءً وحيوية ، تولع منذ صِباه بمجالس العلم والذكر ، مستمعا لأبيه وغيره من العلماء الأجلاء ، تدفعه إلى ذلك بيئته المباركة الطاهرة ، وشبَّ وهو يعيش هموم بلده سورية وأمته الإسلامية ، وكانت مواهبه وقدراته أكبر من طموح متعلم متفوق في مدرسة ، أو مجرد طالب في جامعة ... يؤكد ذلك وقوفُه بين الطلبة السوريين في مصر قائلا : ( إنَّ أمتنا التي أرساتنا إلى هذه البلاد لننهل من معين ثقافتها لهي الآن تنتظرنا على أحرِّ من الجمر ، لنعودَ إليها أبطالا كما خرجنا منها أطفالا . تنتظرنا لنعود إليها أسودا كما خرجنا منها أشبالا ، تنتظرنا لنعود إليها قادة كما خرجنا منها جنودا ، وسيأخذ كلُّ واحد منَّا على عاتقه قيادة الجبهة التي يكون فيها ) . وهكذا انتدبته عنايةُ الله سبحانه وتعالى ليكون من أبرز القيادات العالمية للدعوة الإسلامية في العصر الحديث . لقد نال شهادة الدكتوراه في التشريع الإسلامي ، وقاد كتائب المجاهدين في فلسطين ، وفاز بالنيابة في المجلس النيابي السوري ، وأثَّر في صياغة الدستور ، وناصر المجاهدين في قناة السويس ، وأسس كلية الشريعة الإسلامية في جامعة دمشق ، وردَّ على المستشرقين الرَّرَّّ القاطعَ الحاسمَ ، وأصدر العديد من المجلات الإسلامية المؤثرة ... ولقد أنجز السباعي ــ يرحمه الله ــ في سنوات حياته القليلة.منجزاتٍ كبيرةً لاتستطيعها العصبة من أولي القوة ، ولقد حمَّلَ جسمَه وأعصابَه من إرهاق العمل الدؤوب المتواصل في سبيل إعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ ، مما جعل هذا الجسمَ على ماكان يتمتع به من قوة وحيوية نادرة ينوء بالأعباء الثقيلة ، وهاهو ينطلق لسانُه ــ يرحمه الله ــ رغم كل الآلام مناجياربَّه قائلا في محراب خشوعه وشوقه إلى الله : ( ياحبيبي ... هاأنا بعد خمس سنين لم ينفعني علمُ الأطباء ، ولا أفادتني حكمة الحكماء ، ولا أجداني عطف الأصدقاء ، ولا آذتْني شماتة الأعداء ، وإنما الذي يفيدني بعد اشتداد المحنة كسوةُ الرضا منك ، وينفعني بعد القعود عنك حُسنُ القدوم عليك ، ويخفف عني جميل الرعاية لمن زرعتهم بيدك وعجزت بمحنتي عن متابعة العناية بهم ، ومن مثلك ياحبيبي ... في صدق الوفاء ... ) إلى آخر هذه المناجاة الهائمة في مرضاة الله والشوق إلى لقائه . وهذه إحدى نتائج التربية الربانية التي تلقَّاها ــ يرحمه الله ــ من بيئته ، بيئة الإيمان والتقوى ، وهي الصَّدى لِما أودعه الله تعالى في صدره الكبير من المُثُل والقيم والآمال ، أمضى ليله في محاريب الخشوع والقنوت لربه ، وشهد له نهارُ سعيه بالبذل والإخلاص والتضحية ، وشهد له إيمانه بالله بقوة ثباته وصلابة الحق في مواقفه ، ورضاه بما قدَّر الله عليه في مواطن الابتلاء . وشهدت له يداه بالعفة والزهد ، مثلما شهد له قلبُه بالسلامة والتجرد والصفاء ، ينطلق في ميادين الدعوة شجاعا جريئا لايخشى في الله لومة لائم ، دؤوبا مواصلا جهاده بجهاد ، وحديثَه بحديث ، لايفتر ولا يمل ولا يرضى بغير الجِدِّ والإتقان ، فبارك الله له في عمره القصير ، مثلما بارك لأوليائه وأصفيائه من خَلقه على امتداد العصور ، وحباه سبحانه وتعالى بسجايا قلَّ أن تجدَها مجتمعةً في رجل واحد ، عاش متفائلا رغم الرزايا والنُّوب ، جَلدًا صابرا مصابرا رغم الأكدار والأرزاء والآلام والمنغصات، ذا مروءة وتواضع ودماثة خُلُق وأُخوَّة صادقة فريدة افتقدها أصحابُه ومحبوه وسائر الناس ... يوم وفاته ، وهو لم يجاوز الخمسين عاما من عمره المبارك . فكانت لوعتهم لفراقه شديدة ، لِما عرفوا من كريم سجاياه ومكانته ، وكان لهم في تأبينه ماتفيض به قرائحهم وقلوبهم من كلمات مفعمات بالألم والحسرة على فراقه ، ولقد استشعر الداعية الدكتور حسن هويدي ــ يرحمه الله ــ آلاء الإخلاص عند السباعي ، فأبَّنه يوم رحيله بكلمات تصاعدت من نفس داعية عرف السباعي وشام إخلاصه : ( لقد أخلصت يا أبا حسان حتى نسيت نفسَك ومالك وولدك ، ولقد ثبتَّ وصبرتَ حتى هددْتَ كيانك ، وطرحت بصحتك وعافيتك ، وأنت في كل ذلك مما أصابك لاتشعر أنه أصابك ، وأنت تقترب من الموت ، ولا تشعر أنك قريب من الموت ، ولقد وافاك الأجل وأنت بمنأى عن التفكير في الأجل ، تغمرك نشوةُ الإخلاص ، وتسحرك نفحة الجهاد حتى قضيت وأنت على قدم الثبات ) .
عاش السباعي هذا العمر القصير بأيامه ، الطويل العريض بإنجازاته وآفاقه ، تكلم فكان الخطيب الفذ المؤثر ، ونزل إلى ميدان الجهاد في فلسطين ، وهو على رأس إخوانه المجاهدين فكان القائد المتمرس ، وفي المساجد وفي ميدان اجتماع الجماهير الشعبية فكان الشجاع الهزبر الذي لايملك إلا كلمة الحق مهما كانت ثقيلة على الطغاة والظالمين ، واقترن اسمه بمقارعة الاستبداد والديكتاتورية ، فلقد امتلأت نفسُه المؤمنة الأبيَّة بالمُثُل التي فاضت على الناس لتروي صورُها وظلالُها أفئدتهم الظمأى كما يروي النهر الجيَّاشُ ماحوله ، فتعشب المغاني ، وتخضر الأرجاء ، وتزهر بساتين الحياة الكريمة .... هكذا كان السباعي وهكذا عاش ، عاش قلبا تدفَّقَ بمعاني الجهاد والعزة الإسلامية في كل مواقفه ، وفي كل أقواله التي تتلظَّى انفعالا في حشاشة قلبه وسويداء فؤاده قبل أن تكون خطبة في جمهور ، أو كلمة قيِّمة في مجلة . إنها طبيعة المجاهد الذي لايُلقي سلاحه حتى اللحظة الأخيرة ، وإنها رسالة الداعية الرباني الذي يخشى أن يخرج من الدنيا قبل أن ينصر دعوته ، وينتصر لها في كل المواقف والمواجهات . يقول الذين عايشوه وجالسوه آخر أيامه ، أيام تفاقم الآلام على جسده وإحساسه كان يمسك بيمينه القلم ، ويرتجف تحت شماله القرطاس ، يستجيب من قِمَّة آلامه لِما تُمليه عليه القريحة النافذة ، والروح العميقة ، والعقل القوي غير عابئ بما يقرؤه جليسه على وجهه من آثار الآلام العصبيَّة الحادة . كانت آلامه هي التي تحدثنا عن نفسها ، أما هو ــ شهد الله ــ فلم يكن يجأر بالشكوى إلا بمقدار مايعلمنا الصَّبر على قضاء الله ، والخضوع لحكمته ، والصَّبر على بلائه .
أجل ... عاش رائد أمة بكل ماتحمل الريادة من المعاني والإنجازات والقيم ، كان همُّه جمع شمل المسلمين ، ورص صفوفهم أمام موجات الأخطار المتتالية والمؤامرات التي تحاك هنا وهناك ، أشغلت بالَه القضية الفلسطينية ، ولم ينس مناصرة الأقطار العربية والإسلامية في ثوراتها وانتفاضاتها ، ولقد رعى ــ يرحمه الله ــ المؤتمر الإسلامي الشعبي المنعقد في دمشق عام 1956م ، كما حضر بنفسه مؤتمر القدس عام 1953م في مدينة القدس مؤيدا ومناصرا ، ودعم دولة باكستان الإسلامية عند نشوئها ، ونافح عن حقها في كشمير . وفي عام 1951م أعلن ومن على منبر المجلس النيابي السوري خيانة كل من يصالح الصهاينة في فلسطين ، وحيث قال : ( وإنني أعتقد أنني أعبِّرُ عن حقيقة واقعة وهي أنهم لم يجدوا في هذه البلاد ، ولا في أي قطر عربي آخر رجلا واحدا ترضى له كرامته ، وترضى له وطنيته أن يرى الصلح مع إسرائيل أو يقبل به ، إلا إذا كان معناه الموت ، وإلا إذا كان معناه تسليم رقلبنا للجزارين الأشرار ، إنَّ الصلح مع إسرائيل خيانة وطنية ، فلا يفكر أحد بأن يحملنا عليها ) .
ولم يُنسِه الجهاد ومقارعة الطغيان أهمية العمل الاجتماعي والتربوي ، والعناية بشباب الأمة وشاباتها ، وتربيتهم على الفضائل والمكرمات ، ولا ماعلى المجتمع تجاه العمال والفلاحين والفقراء وشرائح المجتمع المحتاجة للعلم أو للمال أو التوجيه ، وتجاه الرعاية الاجتماعية للأسرة ... ومَن يتصفَّح اليوم ، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته ــ يرحمه الله ــ على ماكتبه في المجلات والجرائد التي أنشأها أو أشرف عليها أو ضمَّت صفحاتُها بعض مقالاته ... مثل : الفتح والشهاب والمنار والمسلمون وحضارة الإسلام وغيرها ... يجد الكلمة الحانية ، والفكرة الواعية ، والتعبير الدقيق ، والمعالجة الحكيمة لكل تلك القضايا والمشاكل الاجتماعية ، وقد حذَّرَ بلهفة وقوة النساءَ المسلماتِ من الانسياق وراء بهارج الدعوات الخسيسة الكاذبة التي تطلقها أبواق الغزو الفكري الأوروبي ، وما تدَّعيه زورا وبهتانا من دعوى تحرير المرأة العربية المسلمة لتكون كالمرأة الأوروبية في سفورها وفي ...
ولطالما كان يرددُ ــ يرحمه الله ــ وهو يتحدث إلى الشباب قول الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ) . فبغير الإسلام يكون توهين المسلمين ، وتكون سيطرة الأعداء على الأمة ثقافيا وفكريا ، وكذلك في العادات والتقاليد التي تنافي فطرتنا وتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف . ولكن وبفضل من الله كانت ولم تزل وستبقى فطرة الله الصافية في حياة الأمة إلى يوم الدين ، وستبقى الأمة صامدة عزيزة شامخة بإسلامها ، وهو منهج عزِّها ونصرها وسؤددها ، وقد خسئ الفرنجة ومن حاول قبلهم طمس نور هذا الإسلام فباؤوا بالفشل ، ولسوف يخسئ لأعداء الإسلام المرة تلو المرة في حربهم لهذه الأمة بمعونة الله رب العالمين . ولقد أظهرت الأيام أن سبب ضعف المسلمين وتأخرهم هو هجرهم لكتاب ربهم وسُنَّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، فكانت دعوة السباعي منصبة للعودة بالأمة إلى تلك الينابيع الثَّرة من الخير والمجد والسؤدد ، ففيها تجديد وصحوة وتفاؤل وبشرى ماغفل السباعي عن مكانها ومكانتها في انبعاث الأمة فيقول : ( إنَّ وجهة العالم الإسلامي تتجلَّى في مساجده التي تغص بالمصلين ، وفي متدينيهالذين يزدادون يوما بعد يوم ،وفي هذه اليقظة الفكرية الإسلامية ...) ليصل : ( إلى المدِّ الإسلامي الجارف الذي لاينتهيحتى تقول الدنيا لأمتنا: يافرحة اللقاء بالأمة المنقذة بعد أن طال غيابها ) .
بعد هذه اللمحات من سيرة ربانية متميزة لرجل ربَّانيٍّ متميز أقول لفضيلة الأديب الشيخ الدكتور محمد عادل الهاشمي أجدت وأبدعت ، وسلمت يمينك على هذا التوثيق والعرض الذي يأخذ بالألباب ، وكأن الشيخ السباعي مازال ماثلا أمام أعيننا كما قلت في مقدمة كتابك : شخصية نادرة ، قلَّ نظيرُها ، جاءت حسب متطلبات عصرها ، فكأنما صيغت لمهماته ، وهُيِّئت لمجموع قضاياه ، أما الرجل الذي أُؤرخ له فماثلٌ أمامي حتى هذه اللحظة بمهابته وجاذبيته ، وسعة موهبته بنورانيته وتوهجه ، بحماسه وحلمه ، تتماثل لي قامته الفارعة المهيبة ، لايثنيه عن إنجازه مرضٌ أو وَهَنٌ ، ولك منا أيها الأديب المتميز كل الحب والتقدير على نشر مآثر هذه السرة المباركة:
أغنى أبو النَّضرِ المحامدَ سيرةً |
|
لك في المآثرِ وجهُها لايُنكرُ |