حرب أم سلام

عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف

تأليف : لوران كوهن ـ تانوجي

تياران أساسيان يتحكمان في مسيرة العلاقات الدولية اليوم

الحلقه الرابعه

عبر تحليل دقيق يقدم المؤلف هنا خارطة متشابكة للطرق التي يتعين على الغرب المضي بها في التعامل مع العواصم الثلاث الرئيسية التي تشغل المحللين والمفكرين فيه، وهي بكين وروسيا وطهران، وهو يشير إلى أنه في غضون ذلك تبرز مجموعة شائكة من علامات الاستفهام أبرزها ما يتعلق بما إذا كان الضعف النسبي للغرب سيتأكد في المستقبل من عدمه، غير أن من المؤكد أن الأسئلة الصعبة تتركز بشكل خاص حول المسيرة المستقبلية للصين التي لا يتردد المؤلف في وصفها بأنها اللاعب الوحيد القادر على تعديل الوضع الاستراتيجي الدولي السائد منذ عام 1945.

ماذا يخبئ القرن الحادي والعشرون للعالم؟ وما هي المبادئ التي سوف تحكم العلاقات الدولية؟ وإلى أين سيصل التطرف؟ وهل سيتعزز صعود قوى اقتصادية جديدة ذات أبعاد عالمية؟ وهل سيتأكد الضعف النسبي للغرب؟ هذه هي بعض الأسئلة التي يطرحها مؤلف هذا الكتاب حول مستقبل العولمة. وفي معرض الإجابة يشرح أولا كيف أن فترة ما بعد الحرب الباردة قد شهدت بروز تيارين على صعيد العلاقات الدولية. يقول الأول بأطروحة (نهاية التاريخ) التي قال بها المفكر الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما. مفاد هذه الأطروحة باختصار هو أن هزيمة الشيوعية تدل على فشل آخر إيديولوجية منافسة للديمقراطية الليبرالية وللرأسمالية المدعوّة منذئذ كي تعمم خيراتها على العالم كله. وبدا لفترة من الزمن أن مؤشرات عديدة تسمح بقدر من التفاؤل، وليس أقلها تعميم اقتصاد السوق حتى في البلدان الشيوعية السابقة، وكذلك بروز ملامح نظام دولي جديد وانفتاح أفق تحقيق السلام في الشرق الأوسط مع توقيع اتفاقيات اوسلو.

التيار الآخر عارض تماما مقولة نهاية التاريخ ليرفع شعار (صدام الحضارات) الذي قال به المفكر الأميركي أيضا صمويل هنتنغتون على قاعدة الخلافات الاتنية والثقافية والدينية بدلا من المواجهات الإيديولوجية السابقة التي سادت خلال فترة الحرب الباردة. لقد بدت هذه الأطروحة مفرطة في التشاؤم في مطلع عقد التسعينات بالقياس إلى أطروحة فوكوياما، لكنها أصبحت أقرب إلى الواقع بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001. إن هاتين الأطروحتين المتعارضتين كان لهما دورهما في صياغة سياسات المحافظين الأميركيين الجدد. وهذا ما وجد ترجمته في القول بتشجيع الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط ودمجها في الاقتصاد العالمي وسياسة توسيع إطار الاتحاد الأوروبي وتجديد الثقة بالتجارة والعولمة والتكنولوجيا وإيجاد نوع من (الحكومة العالمية). هذه الأمور كلها جرى اعتبارها كعوامل مساعدة في التنمية والسلام، وهي مستوحاة إلى هذا الحد أو ذاك من النظرية (المتفائلة) لفرانسيس فوكوياما. أما نظرية هنتنغتون فقد وجدت ما يدعمها في سقوط أوهام فترة ما بعد الحرب الباردة، وبروز حالة من التوتر بين الشرق المسلم والغرب اعتبارا من مطلع القرن الحادي والعشرين وعودة قوى كبرى غير غربية للبروز على المسرح العالمي وتنامي التجزئة والنزاعات على أسس اتنية وقومية وعقائدية.

 عودة الإمبراطوريات... لم تدم الشراكة الإستراتيجية الأميركية ـ الروسية التي طبعت بطابعها فترة رئاسة بوريس يلتسين طويلا، إذ سرعان ما أخلت المكان للعودة إلى علاقات تنازعية، بل وأحيانا إلى ما يشبه أجواء الحرب الباردة. الإجراءات الليبرالية، بما في ذلك الخصخصة، التي عرفتها روسيا خلال عقد التسعينات إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، جرى الرجوع عنها لصالح زيادة رقابة الدولة على الاقتصاد عامة، جرى الرجوع عنها لصالح زيادة رقابة الدولة على الاقتصاد عامة. خاصة في القطاعات الإستراتيجية مثل النفط والغاز. ورغم تأكيد موسكو على الوقوف مع واشنطن بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 في حربها ضد الإرهاب، فإن عوامل عديدة جاءت لتباعد بين الولايات المتحدة الأميركية، خاصة والغرب عامة، وبين روسيا. وفي مقدمة هذه العوامل، بالإضافة إلى الابتعاد عن آليات اقتصاد السوق، النزوع التسلطي المتنامي لدى فلاديمير بوتين. ويغدو الوضع أكثر دقة بالنسبة للعلاقات الروسية-الأوروبية بفعل عوامل القرب الجغرافي ووزن التاريخ.

أما بالنسبة للعلاقات الصينية-الأميركية فإن التوترات تتعدد على خلفية السياسات التجارية والنقدية للصين مثلما هو بسبب الشره الذي تبديه حيال مصادر الطاقة والمواد الأولية في إفريقيا والشرق الأوسط. ويؤكد المؤلف في هذا السياق أن الصعوبة التي واجهها، ويواجهها، الغربيون من أجل دفع روسيا والصين للقبول بالقرارات الخاصة بفرض عقوبات على إيران، وقبلها على كوريا الشمالية، داخل مجلس الأمن الدولي تذكّر كثيرا بتلك الأجواء التي كانت سائدة في العلاقات الدولية خلال المواجهة بين المعسكرين الغربي والشرقي.

إذا كان التنظيم الذي ساد العالم في ظل الاستقطاب الثنائي الدولي قد ولّى وانقضى فإن الكثير من ملامحه لا تزال قائمة. ذلك أن روسيا في ظل فلاديمير بوتين تعلن بوضوح عن طموحها لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي الغابرة، بل وأمجاد روسيا القيصرية، لاسيما في محيط منطقة النفوذ السوفييتية السابقة وعبر ذلك على المسرح الدولي. مثل هذا الطموح لا بد له إلا أن ينتج علاقات تنازعية مع (عدو الأمس) الذي غدا القوة العظمى الوحيدة في العالم. وأيضا نفس العلاقات التنازعية، إنما بدرجة أقل، مع الاتحاد الأوروبي باعتباره منافسا (أكثر جذبا من الكرملين) بالنسبة لأوكرانيا وبيلوروسيا وجيورجيا وغيرها من الدول التي لا تزال موسكو تعتبرها (قريبة) منها.

أما الصين، فإنها لا تزال دولة شيوعية وإحدى القوى المنافسة للولايات المتحدة ولليابان في منطقة شرق آسيا، هذا قبل أن تصبح أيضا و(بسرعة) منافستهما الاقتصادية في إطار العولمة. ثم إن الصين ولا شك هي تستعد كي تقسم خلال العقود القريبة القادمة الزعامة الاستراتيجية للعالم مع الولايات المتحدة. هذا يعني أن القطبين الأساسيين في العالم الشيوعي للأمس كانا قد تخليا عن منظومتيهما الاقتصاديتين (المفلستين) للانضمام إلى ركب الرأسمالية (المعولمة) من أجل العودة إلى المنافسة مع منافسهما التاريخي الكبير، أي الولايات المتحدة الأميركية.

 العودة إلى المواجهة

هناك إذن نوع من العودة إلى المواجهة الضمنية بين متنافسي الأمس في إطار الحرب الباردة. لكن هناك أيضا مع ذلك خلافات كبيرة بين ما كان عليه العالم خلال سنوات 1950-1989، وبين ما هو عليه اعتبارا من مطلع القرن الحالي، إذ بعد الفترة المعترضة لسنوات التسعينات التي عرفت هيمنة أميركا الظافرة، سادت في العالم التعددية القطبية مع بروز قوى صاعدة جديدة اقتصاديا وسياسيا في آسيا وأميركا اللاتينية، هذا دون نسيان الاتحاد الأوروبي نفسه. لكن من الواضح أيضا أن (أقطاب القوة الجدد) لا يمثّلون في الأفق المنظور تهديدا للأمن الدولي أو للغرب.

ويتم التأكيد في هذا الإطار على أن دولا مثل الهند، التي شرعت الولايات المتحدة مؤخرا بتعاون ثوري معها في المجال النووي المدني، وكوريا الجنوبية والبرازيل والمكسيك وجنوب إفريقيا، لا تمثل أيضا أي تهديد بسبب طبيعتها الديمقراطية وتاريخها وموقعها الجغرافي. ثم إن الجهود التي تبذلها البرازيل والهند وجنوب إفريقيا من أجل تشكيل قطب جنوبي ديمقراطي ومعولم على المسرح الدولي تفتح الطريق أمام بديل إيجابي في مواجهة ما يسمّى ب(النزعة القومية العدوانية) المعادية لأميركا مثل تلك التي يعلنها الرئيس الفنزويلي شافيز.

لكن بالمقابل، يتم التأكيد أيضا على أن بروز قوى دولية جديدة مثل إيران وروسيا، وخاصة الصين، يكتسي بُعدا إستراتيجيا يمكن أن يساهم إلى حد كبير في تحديد (جيوسياسة) القرن الحادي والعشرين. 

إن هذه الدول الثلاث (إيران وروسيا والصين) كانت، على خلاف الدول الصاعدة الأخرى، إمبراطوريات كبرى سابقة ذات تاريخ عريق ولديهما طموح قومي ويمكن تعبئة مواطنيها في منظور اكتساب مكانة قوة دولية بارزة. وهي أيصا دول ذات ماض شمولي غريب عن الثقافة الديمقراطية واللبرالية الغربية، بل هو في قطيعة مع هذه الثقافة. 

كما أنها دول دفعتها طموحاتها نحو اكتساب القوة إلى أن تكون علاقاتها مع الغرب، ومع الولايات المتحدة في السياق الحالي، ذات طبيعة تنازعية، مع استخدام إيديولوجيات سياسية أو عقائدية من أجل تعزيز نفوذها الدولي كما أن الدول الثلاث المعنية يعتريها الشعور بنوع من الهشاشة حيال المحيط الجغرافي الذي توجد به، وأيضا حيال واقع القوة الذي تتحلّى به الولايات المتحدة، وهذا يجعلها أكثر عدوانية. هذه السمات المشتركة بين الدول الثلاث يجعلها أقطاب قوة إستراتيجية في عالم اليوم والغد. ولكن مع وجود خصوصيات تستحق الدراسة على انفراد.

 في صميم الاهتمام الدولي

أصبحت إيران منذ عدة سنوات في صميم اهتمامات المجموعة الدولية التي تعتقد أنها تريد امتلاك السلاح النووي وليس فقط الصناعة النووية المدنية. وزاد ذلك الاهتمام الدولي مع وصول محمود أحمدي نجاد إلى السلطة إثر انتخابات عام 2005 وما تبع ذلك من إعلان مواقف مناوئة للغرب وخاصة مناوئة لإسرائيل. ويشير مؤلف الكتاب إلى أن البرنامج النووي الإيراني الذي جرى الشروع به سرا منذ عام 1987 كان موضوع مفاوضات صعبة انقطعت عدة مرات مع المجموعة الدولية. 

وبتاريخ 31 يوليو 2006 اقترعت منظمة الأمم المتحدة على قرار بصيغة إنذار أخير يفتح الطريق أمام اتخاذ عقوبات اقتصادية كانت القوى الكبرى العالمية قد أمضت عدة أشهر في التفاوض من أجل الوصول إلى اتفاق حولها. ويشير مؤلف الكتاب أن طهران تشكل اليوم، برأي الغرب، مصدر التهديد الوحيد الصادر عن دولة في العالم الإسلامي، ذلك أن مثل هذا التهديد لا يصدر عادة عن دول وإنما بالأحرى عن حركات متطرفة أو عن ميليشيات مسلّحة أو عن تيارات تتبنّى العنف على أساس خلفية سياسية-عقائدية.

لا شك أن إيران ليست سوى قوة إقليمية، لكن المؤلف يشير إلى أن عدة عوامل جعلتها ترتفع إلى مصاف رهان إستراتيجي عالمي، وفي مقدمة هذه العوامل أن دائرة فعلها ونفوذها وقدرتها على المساس بمصالح عالمية في منطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تدفع الغرب إلى الخوف منها على مصالحه الحيوية. وكان النهج السياسي الذي اختارته طهران منذ عام 1979 وتداعياته حتى في قلب العالم الغربي، قد جعل منها عاملا مهما على الصعيد الجيوسياسي الدولي.

ويحدد مؤلف هذا الكتاب أربعة رهانات أساسية تترتب على الأمن العالمي من احتمال امتلاك إيران للقدرة النووية العسكرية. ينتج الرهان الأول مباشرة من واقع تمركز الجزء الأكبر من احتياطات مصادر الطاقة العالمية في منطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وحيث أن إيران نفسها تمتلك ما بين 10 بالمئة و15 بالمئة من الاحتياطات النفطية والغازية في العالم.

 وهذا الواقع جعل المنطقة المعنية محط طموحات القوى الكبرى منذ الحقبة الاستعمارية. ثم إن المنطقة تشهد اليوم تكاثر القوى النووية فيها بوجود الهند والباكستان وإسرائيل فضلا عن روسيا والصين والولايات المتحدة. هكذا يمثّل السماح لإيران بأن تمس مسألة استقرار عملية التزود بالطاقة مخاطرة غير مقبولة بالنسبة للغرب وروسيا والصين.

 قوة ايران 

الرهان الثاني يتمثل في سعي إيران منذ عقود عديدة كي تصبح القوة الإقليمية الأكثر بروزا في منطقة الخليج والشرق الأوسط برمّته. وكان ذلك المسعى قد شق طريقه في فترة حكم الشاه الذي كان أول من شرع ببرنامج نووي بمساعدة الغربيين، ثم تسارع المسعى في وقت لاحق . وتتم الإشارة في هذا السياق إلى أن إيران لم تعد تجد أمامها منافسا حقيقيا في العالم العربي-الإسلامي بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق.

الرهان الثالث يتمثل في كون وصول إيران إلى مصاف القوى النووية سوف يكون إنذار خطر لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، التي تشكل الركيزة الأساسية في النظام الدولي في هذا الميدان لفترة ما بعد الحرب والذي كان قد اهتزّ أصلا عندما قامت كوريا الشمالية بتجربتها النووية في خريف عام 2006. 

كما أن التهديد الكوري الشمالي والصعود القوي للصين قد تمكن ترجمتهما في السباق من جديد إلى إعادة التسلح، بما في ذلك النووي، بالنسبة لليابان مثلما قد يحث حصول إيران على القنبلة النووية دولا أخرى على السعي للتزود بالقدرة النووية. وهذا سيكون معناه نهاية معاهدة منع انتشار السلاح النووي وأيضا نهاية الوكالة الدولية للطاقة الذرّية. 

أما الرهان الرابع والأخير فمصدره أن إيران النووية سوف تشكل، حسب التحليلات المقدمة، خطرا أكبر من ذلك الخطر الذي كان يمثله نظام صدام حسين في العراق، على إسرائيل. ومثل هذا التهديد ليس مقبولا بالطبع بالنسبة للغرب وقبلهم أيضا بالنسبة للإسرائيليين. 

في المحصلة يصل المؤلف إلى القول إن إيران ستكون في جميع الحالات قوة إقليمية ذات نفوذ، وسوف يرتبط استخدامها لهذه القوة على المدى القصير بما ستؤول إليه المواجهة مع المجموعة الدولية حول الملف النووي. كما سوف يرتبط على مدى أطول بالتطورات التي سيشهدها المجتمع المدني الإيراني وسياستها الداخلية ودبلوماسيتها، وأيضا بالتطورات التي سوف تشهدها المنطقة كلها.

ويشير المؤلف أيضا إلى إمكانية أن تختار إيران التركيز على اللحاق اقتصاديا بالدول الصاعدة الكبرى وأن تتعاون مع الغرب، بل وربما تتقارب إستراتيجيا مع واشنطن، أو على العكس قد تختار أن (توحّد) حولها العالم الإسلامي ضد أميركا وإسرائيل وأوروبا. وعبر هذا الخيار أو ذلك ونتائجهما سوف يتحدد مصير الشرق الأوسط الذي وصفوه لفترة طويلة أنه برميل بارود العالم.

عودة روسيا

تمثل عودة روسيا إلى المسرح الدولي رهانات مختلفة. وإذا كانت سنوات التسعينات، بعد انهيار الإمبراطورية السوفييتية، قد افتتحت فترة واعدة بالليبرالية والإصلاح، فإن ذلك أعقبه مباشرة تعميم حالة من الفساد والأزمة المالية والفوضى السياسية. ترافق ذلك كله مع نوع من الغياب الكامل عن اللعبة الدبلوماسية الدولية. 

كان وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2001 إعلانا عن تدشين مرحلة جديدة ساد فيها الكرملين على الاقتصاد والسياسة وتعزز طموح فرض القوة الروسية في محيطها كما فيما يخص الملفات الدولية الكبرى. لقد بدا بوضوح أن روسيا بوتين هي في طريق الاقتراب من نمط الاتحاد السوفييتي السابق أكثر مما هي تقترب من ولوج سبيل الديمقراطية على الطريقة الغربية واقتصاد السوق. إن مثل هذا الجنوح، حسب تعبير المؤلف، ولّد توترات متنامية مع الولايات المتحدة وأوروبا وأعاد أجواء الحرب الباردة من جديد.

لكن روسيا اليوم هي شيء آخر تماما غير الاتحاد السوفييتي في الأمس والذي مثّل لعقود عديدة قوة عظمى عالمية. إن روسيا عام 2000 هي مجرّد اقتصاد صاعد من وزن اقتصاد البرازيل، ويواجه صعوبات أكبر من غيره في عملية الاندماج بالاقتصاد العالمي، ثم إنه لا يزال يحتل مرتبة متأخرة خلف اقتصادات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين والهند، وسيبقى كذلك لفترة طويلة. وتعاني روسيا اليوم أيضا من انحسار ديمغرافي بواقع 000 700 شخص سنويا وانخفاض في متوسط العمر المتوقع وبحيث سيبلغ عدد سكانها في أفق عام 2050 حوالي مئة مليون نسمة مقابل 146 مليون في عام 2005. كذلك لا تمكن مقارنة إمكانياتها العسكرية اليوم مع إمكانيات الولايات المتحدة.

 في مثل هذا السياق تنتعش رغبة الكرملين من أجل تحقيق هدف المعاملة بالمثل حيال الغرب، خاصة المنافس الأميركي، فيما يتعلق بالملفات الدولية واستعادة جزء من النفوذ الضائع لدى محيطها. إن الاقتصاد والسياسة يشكلان وسيلتين في خدمة ذلك الهدف. من هنا جاءت سياسة التقارب مع الحلفاء السابقين للاتحاد السوفييتي واستخدام حق النقض ـ الفيتو ـ في مجلس الأمن حيال بعض القرارات الخاصة بالأزمات الدولية بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية، والعودة إلى (بلاغات) الخطاب المناهض لأميركا، خاصة في الشرق الأوسط وآسيا. 

وتنتهج روسيا سياسة المحافظة على نفوذها وقدرتها على (إلحاق النظر سياسيا) بما يزيد كثيرا على وزنها الاقتصادي والعسكري على الساحة الدولية. إنها تستفيد من موقعها الجغرافي واحتياطاتها الكبيرة من مواد الطاقة ومن كون أنها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي ومن الماضي السوفييتي أيضا. لكن يمكن للتداخل المتزايد اقتصاديا وسياسيا مع الاتحاد الأوروبي وواقع الانحسار الديموغرافي وضغط الصين على حدودها الشرقية والقوى الإسلامي في جنوبها أن يدفع روسيا نحو التقارب مع أوروبا بصيغة تأسيس نوع من الشراكة الإستراتيجية الطموحة، ومما سوف تكون له آثاره الإيجابية على الاستقرار الدولي.

 المجهول الصيني

تمثل الصين في التحليل المقدّم الوضع الأكثر تعقيدا والأكثر مفارقة في رسم صورة جيوسياسية العولمة اليوم. الصين ليست في مواجهة أي بلد غربي. وهي ترافق صعودها الاقتصادي بسياسة اندماج مع المنظومة الدولية وبجهود تهدئة النزاعات مع البلدان المجاورة، خاصة الهند.

لكن الصين بالمقابل، بالاعتماد على وزنها الديموغرافي وقوتها الاقتصادية والعسكرية، هي الدولة الوحيدة القادرة خلال القرن الحالي أن تحتج على التفوق الكوني للولايات المتحدة، أي القادرة على تعديل الوضع الإستراتيجي الدولي السائد منذ عام 1945. وهي تتأمل، مثل إيران وروسيا، أن تستعيد أمجاد إمبراطوريتها الغابرة العريقة. مثل هذا الطموح يبدو قابلا للتحقيق اليوم.

إن الصين، كي لا تثير المخاوف من هيمنة صينية مقبلة، رفعت شعار الازدهار السلمي والعالم المنسجم، أي ما يعني رغبة الاندماج في الاقتصاد العالمي والانصياع للمؤسسات الدولية واحترام الصالح العام للبشرية.

 من الواضح أن هدف الصين الحالي هو التنمية الاقتصادية والاجتماعية حصرا. لكن هذا لا يمنع مشروعية طرح التساؤلات بل واجب طرحها فيما يخص النتائج المترتبة على الصعود الهائل للصين بالنسبة للغرب وللعالم، ذلك أن التاريخ أظهر بوضوح أن كل سيطرة سياسية وعسكرية تعتمد على القوة الاقتصادية أولا.

بالتالي لا يتعارض في التركيز الصيني على الاقتصاد اليوم مع مراميها الإستراتيجية على المدى الطويل. ثم إن بحثها الدؤوب للوصول إلى مصادر الطاقة قد ولّد منافسة على الصعيد العالمي، ووجد الغرب نفسه في المواجهة.بكل الحالات يحدد المؤلف في محصلة تحليله لدور الصين في عالم اليوم والغد ثلاثة أسئلة، أو ربما ثلاثة تحديات أمام الغرب.

كيف يمكن للولايات المتحدة وللغرب مواكبة الصعود القوي للصين؟ وكيف يمكن للغرب الديمقراطي أن يحافظ على تفوقه الإستراتيجي في مواجهة أية توتاليتارية تسعى إلى الهيمنة؟ وأخيرا كيف يمكن لأوروبا أن تتجنب التهميش في عالم يمكن أن تقوم هيكلته المقبلة على الثنائي الأميركي-الآسيوي؟

إضاءة

يحدد المؤلف في محصلة تحليله لدور الصين في عالم اليوم والغد ثلاثة أسئلة، أو ربما ثلاث تحديات أمام الغرب. كيف يمكن للولايات المتحدة وللغرب مواكبة الصعود القوي للصين؟ وكيف يمكن للغرب الديمقراطي أن يحافظ على تفوقه الإستراتيجي في مواجهة أية توتاليتارية تسعى إلى الهيمنة؟ وأخيرا كيف يمكن لأوروبا أن تتجنب التهميش في عالم يمكن أن تقوم هيكلته المقبلة على الثنائي الأميركي-الآسيوي؟