حرب أم سلام

عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف

تأليف: لوران كوهن ـ تانوجي

أسباب موضوعية وراء نهاية المرحلة الأطلسية

الحلقه الثالثه

لا يتردد المؤلف، عند هذا المنعطف من كتابه، في التنبؤ بنهاية المرحلة الأطلسية، وهو يرد هذه النبوءة إلى أسباب موضوعية لا ترتبط بالضرورة بمفهوم انحطاط الغرب الذي تحدث عنه الكثير من المفكرين والمحللين الفرنسيين، وهو يشدد على ما يصفه بغسق السلام الأميركي، لكنه يلفت نظرنا إلى ضرورة التمييز بين أوروبا والولايات المتحدة فيما يتعلق بتدهور النفوذ مستقبلاً، حيث ان واشنطن لا تزال لديها أوراق تؤجل هذا التدهور إلى حين.

نوقشت كثيرا في السنوات الأخيرة مقولة نهاية الغرب على قاعدة الهوة المتعاظمة بين القطبين الأساسيين للغرب الأميركي والأوروبي أثناء أزمة 2002-2003 حول التدخل الأميركي في العراق. سادت آنذاك الأطروحة القائلة ان الخلاف المتزايد بين هذين القطبين في المصالح، بل حتى على صعيد القيم، سوف يؤدي إلى الطلاق، أي إلى تفجر الغرب كواقع سياسي، بل حتى كمفهوم حضاري. 

لكن مؤلف هذا الكتاب، وبعيدا عن القبول بمثل هذه الأطروحة، يشير إلى أن رجحان كفة الاقتصاد العالمي باتجاه آسيا وازدهار عدد من بلدان الجنوب الصاعدة وأشكال أخرى من التطور أدّيا إلى بروز سيناريوهات مختلفة لا تشير إلى تفجر الغرب عبر التباعد بين أميركا وأوروبا وإنما بالأحرى إلى انحطاطه النسبي والتراخي التدريجي لسيطرته على العالم منذ الثورة الصناعية في أواسط القرن التاسع عشر.

 بهذا المعنى، يرى المؤلف انحطاط الغرب كمعطى موضوعي أنتجه ازدهار العالم الصاعد، وليس كتأكيد للمقولة التي يرددها المثقفون الفرنسيون حول الانحطاط الأميركي. نقرأ: «إن نهاية ما سوف نطلق عليه تسمية المرحلة الأطلسية تأتي بالأحرى من تلاقي عدة تطورات لا يشكل الانحطاط المعلن أبرزها. على العكس، سوف نرى أن نهاية القطبية الثنائية في عالم غد متعدد الأقطاب قد كانت تأثيراتها على الزعامة الأميركية أقل بكثير مما كانت على موقع القارة القديمة». 

إن معطيات كثيرة استجدت على حالة العالم وستؤدي إلى ضعف الغرب خلال العقود المقبلة. ويدل تقرير أعدّه المكتب الدولي للسكان عام 2005 إلى أن عدد سكان العالم سوف يصل في أفق عام 2050 إلى 3, 9 مليارات نسمة، أي بزيادة 45 بالمئة وستكون الحصة الأكبر في هذه الزيادة للعالم المتخلّف مقابل 4 بالمئة فقط للعالم المصنّع مع تراجع ديمغرافي في ألمانيا وإيطاليا وروسيا واليابان.

وستصل نسبة عدد سكان إفريقيا إلى 20 بالمئة من مجمل عدد سكان العالم عام 2050 مقابل 13 بالمئة عام 2000 وستبقى نسبة عدد سكان آسيا ثابتة، أي 60 بالمئة. وسوف يتجاوز عدد سكان أميركا اللاتينية 9 بالمئة من عدد سكان العالم، عدد سكان أوروبا، بما في ذلك روسيا، 

أي ما يعادل 7 بالمئة من إجمالي سكان العالم. للتذكير كان عدد سكان القارة الأوروبية عام 1950 يعادل ربع سكان العالم. أمّا على صعيد إجمالي الإنتاج العالمي فتدل التوقعات على أن قيمة هذا الإنتاج ستصل في الصين بأفق عام 2050 إلى 44453 مليار دولار.

وفي الهند إلى 803 27 مليار مقابل 165 35 مليار بالنسبة للولايات المتحدة وأقل من عشر هذا المبلغ بالنسبة لفرنسا. هذا يعني أن القارة الأكثر سكانا في العالم سوف تصبح أيضاً القطب الاقتصادي الأول فيه.

بالتوازي مع هذا، وبينما كان الصعود القوي الاقتصادي لأميركا الشمالية ولأستراليا اعتبارا من نهاية القرن التاسع عشر قد أدّى إلى إثارة ظاهرة هجرة كبيرة من بلدان القارة القديمة نحو هذه «الفراديس» الجديدة التي أصبحت بالتالي ذات صبغة أوروبية.

 فإن الازدهار الحالي للبلدان الصاعدة في آسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا يتم بصورة مستقلة ذاتيا ودون أن يستقدم مهاجرين من البلدان الغربية. هذا يعني أن تأثير الغرب سيكون بدرجة أقل قياسا بالماضي اقتصاديا وسياسيا وثقافيا في أقطاب عالم الغد.

 صدمة العودة

سبق انحطاط المرحلة الأطلسية بروز قوي جديدة كبرى في شرق العالم وجنوبه ومثّل ظاهرة أكثر اتساعا من مجرد إعادة توزيع الأوراق الاقتصادية على الصعيد الكوني. لماذا؟ على الزعم من أن الحرب العالمية الثانية قد كرّست الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقوتين عظميين وانحطاط أوروبا. 

فإن هيمنة الكتلة الغربية على الاقتصاد العالمي تعززت من جديد بفضل إعادة التعمير الاقتصادي للقارة القديمة بواسطة المساعدة الأميركية وتحوّل اليابان نحو الحداثة الديمقراطية وتقهقر المنظومة الشيوعية. وعادت الولايات المتحدة وأوروبا ـ ولا تزالان ـ لاحتلال موقع الصدارة على الصعيدين التجاري والصناعي. وقامت تحت إشرافهما مؤسسات ومنظمات دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مهمتها تنظيم اقتصاد العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين. 

على الصعيد السياسي كان الغرب وراء قيام منظمة الأمم المتحدة ذات التطلع الكوني كما أنشئ الحلف الأطلسي في مواجهة التهديد السوفيتي أما على الصعيد الجيوسياسي فأصبح العالم مقسوما إلى معسكرين، شرق وغرب وإلى ثلاثة معسكرات على الصعيد الاقتصادي بوجود شمال غني ومصنّع يسيطر على الجنوب المتخلّف والفقير وينافس المعسكر الثالث المتمثل في الشرق الشيوعي. لقد اكتسبت أميركا في هذا السياق زعامة «العالم الحر» مما ساعدها على تبوؤ المركز القيادي في العالم على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.

وللمفارقة كان تفجر الكتلة السوفييتية ونهاية حقبة الحرب الباردة بداية ظهور الصعوبات أمام المعسكر الغربي واهتزاز موقع زعامته العالمية. على الصعيد الاستراتيجي أدّى زوال التهديد السوفييتي والثنائية القطبية الدولية بين شرق وغرب إلى اختلاط الأوراق وتراخي روابط التضامن والتبعية السياسية - العسكرية لعدد كبير من البلدان الغربية أو الحليفة حيال الولايات المتحدة.

 كما واجه الحلف الأطلسي تحديات جديدة. ثم أبرزت وسائل الإعلام وجود خلافات بين جانبي الأطلسي حول مواضيع مثل آليات تنظيم الاقتصاد العالمي والتبدلات المناخية والصراع العربي - الإسرائيلي ودور القانون الدولي في تسيير قضايا العالم.

واستمرّت هذه الخلافات بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 حول تقييم التهديد الإرهابي وحول طريقة مواجهة الأزمة العراقية خلال عامي 2002 و2003. كذلك كان لنهاية فترة الحرب الباردة آثارها السلبية على علاقات الولايات المتحدة مع بعض حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط (تركيا) أو في آسيا (كوريا الجنوبية) أو في أميركا اللاتينية.

 غسق السلام الأميركي

كان للمغامرة العراقية تأثير سيئ جدا بالنسبة لصورة القوة الأميركية في العالم وأيضا بالنسبة لهامش مناورتها، إذ مسّت ما كان قد بقي من المصداقية الكونية الهائلة التي كانت الولايات المتحدة تتمتع بها في زمن الحرب الباردة. لا شك أن هذه المصداقية كانت قد تدنّت أصلا مع زوال الاتحاد السوفييتي وبالتالي زوال تحركاته، وتحركات الصين، في مختلف أصقاع العالم.

لكن الخروقات المرتكبة على صعيد حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب والفشل المتعدد للتدخل في العراق قد حوّل النزعة الجديدة المناهضة لأميركا التي كانت قد تولّدت على قاعدة الهيمنة المطلقة التي مارستها الولايات المتحدة على العالم خلال عقد التسعينات الماضي إلى مكوّن ثابت في الجيوسياسة العالمية الجديدة. 

ويسوق المؤلف عددا من استطلاعات الرأي التي أظهرت تدهورا كبيرا لصورة الولايات المتحدة في العالم بعد بداية حرب العراق الأخيرة، بما في ذلك في بلدان حليفة تقليديا لأميركا. ففي تركيا مثلا، العضو في الحلف الأطلسي وركيزته الأساسية في منطقة الشرق الأوسط، لم تتجاوز نسبة مؤيدي واشنطن عام 2006 سوى 12 بالمئة من الرأي العام، أي أن أميركا هي البلد الأقل شعبية في تركيا. 

وفي اسبانيا خلال السنة نفسها بلغت نسبة المؤيدين لأميركا 23 بالمئة مقابل 41 بالمئة في عام 2005. ثم إن «غوانتانامو وأبوغريب» أصبحا تعبيرين مألوفين بالنسبة لتسعة أعشار الأوروبيين واليابانيين، أي أكثر مما هو في أميركا نفسها. البلدان الوحيدان اللذان لا يزالان يعرفان رأيا عاما مؤيدا بأغلبيته للمفهوم الأميركي للحرب ضد الإرهاب هما روسيا والهند حيث توجد حركات متطرفة، لكن أيضاً حيث تتزايد نسبة العداء لأميركا.

وتشير الأرقام المقدّمة إلى أنه توجد في البلدان المدروسة أغلبية من الرأي العام ترى أن العالم قد أصبح أكثر خطورة بسبب الحرب العراقية. هذا خاصة رأي 60 بالمئة من البريطانيين الذين تقاتل قواتهم إلى جانب القوات الأميركية في العراق. وتبدو النسبة نفسها تقريبا لدى الأميركيين.

ويدل استطلاع للرأي نشرته «الفاينانشال تايمز» في يونيو 2006 على أن 36 بالمئة من الأوروبيين (البريطانيين والألمان والفرنسيين والإيطاليين والأسبان) يرون في الولايات المتحدة اليوم التهديد الرئيسي بالنسبة للاستقرار العالمي، وذلك قبل إيران (30 بالمئة) والصين 18 بالمئة.

يقرأ مؤلف الكتاب وراء هذه الأرقام «تحولا مزدوجا منذرا بالخطر» بالنسبة لعلاقات الولايات المتحدة مع بقية العالم. التحول الأول يخص منظور إمكانية نشوب نزاع مستمر بين أميركا والحركات المتطرفة في العالم العربي ـ الإسلامي بحيث لم يعد يتمحور فقط على الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وإنما شمل النزاعات الخاصة بالتدخل في العراق والمجابهة مع إيران والحرب «الشاملة» ضد الإرهاب وحتى المسائل الثقافية والعقائدية.

الأمر لم يكن كذلك من قبل، كما يشير المؤلف، ليؤكد أن أميركا مارست لفترة طويلة «جذبا حقيقيا» للعالم العربي، أو على الأقل نفوذا كبيرا بفعل قوتها الاقتصادية والعسكرية وقدرتها في الضغط على إسرائيل. التحول الثاني «المنذر بالخطر» يخص تدهور علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين والآسيويين بعد الحرب، إذ رأوا في الجمع بين الغطرسة والهشاشة اللتين تتسم بها أميركا بعد تفجيرات 11 سبتمبر عاملا إضافيا لعدم الاستقرار في عالم خطير. 

لقد ولّى الزمن الذي كانت واشنطن تبدو فيه ضامنا أو وسيطا في النزاعات المحلية أو الإقليمية. ثم إن التوتر الجديد بين العالم الإسلامي والغرب يُعاد في قسم كبير منه إلى السياسة الخارجية الأميركية بنظر الرأي العام الأوروبي والعربي والآسيوي، مع ما يترتب على هذا على المشاعر الشعبية حيال الولايات المتحدة ومن خلال ذلك على هامش مناورة الحكومات الحليفة والمعتدلة فيما يخص التضامن الأطلسي.

 في محصلة هذا النهج من التحليل يتم التأكيد على أن وجود 000 150 مقاتل أميركي في العراق وتنامي مشاعر العداء العام في العالم العربي ـ الإسلامي يقلّص كثيرا من هامش مناورة أميركا-بوش على الأصعدة العسكرية والدبلوماسية والسياسية ويُضعف قدرتها على مواجهة الاستفزازات النووية الإيرانية وعلى إعادة النظام في الشرق الأوسط وفي أفغانستان أو على صد الصعود القوي لمنافسيها التقليديين في موسكو وبكين. لكن ضعف موقع واشنطن ليس خبرا جيدا بالنسبة للسلام، حسب تعبير المؤلف.

 أزمة تعدد الأطراف

مع التقدم الذي حققته مسيرة التوحيد الأوروبي وتجارب التكامل الإقليمي الأخرى اهتزّت، إلى هذه الدرجة أو تلك، منظومة المؤسسات متعددة الأقطاب التي كانت الولايات المتحدة قد اخترعتها غداة نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد كانت تلك المؤسسات خاضعة سياسيا طيلة نصف قرن لأميركا وللبلدان الصناعية الأخرى.

منظمة الأمم المتحدة وحدها اعترفت منذ البداية للاتحاد السوفييتي وللصين باستخدام حق النقض - الفيتو- باعتبار أنهما عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي. وكان من نتيجة ذلك تهميش تلك المنظمة الدولية متعددة الأقطاب فيما يخص إدارة النزاعات الإقليمية الكبرى، وزاد تهميشها بسبب واقع سيطرة بلدان العالم الثالث على جمعيتها العامة.

وكان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد جسّدا لفترة طويلة هيمنة البلدان المصنّعة على البلدان النامية عبر فرض إصلاحات اقتصادية ليبرالية مهما كانت درجة عدم تماشيها مع الواقع الاجتماعي ـ الاقتصادي للبلدان المعنية بها. 

لكن هذه الهيمنة تراجعت بسبب ما أثارته «الإصلاحات البنيوية» المفروضة على البلدان الفقيرة من مشاكل اجتماعية وأيضا بسبب الأزمات المالية الآسيوية واللاتينية ـ الأميركية والروسية في نهاية عقد التسعينات الماضي. كما أن زيادة العائدات من النفط والغاز وازدهار العديد من البلدان «الصاعدة» قلل من هامش حاجتها لطلب التمويل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مما قلل من أهمية المهمة التقليدية لهاتين المؤسستين.

 ويتم الحديث في السياق نفسه عن أشكال الفشل المتكرر الذي عرفته المنظمة العالمية للتجارة المولودة عام 1995 بقصد إيجاد إطار منظم لحرية التجارة الدولية وتنظيمها. وكان فشل «دورة الدوحة» لعام 2001 المسمّاة «دورة التنمية» والرامية إلى تشجيع تجارة «أكثر عدلا» بحيث تسمح ب«دمج البلدان الأقل تقدما في الاقتصاد العالمي«، 

قد مسّ ـ أي الفشل ـ مصداقية تلك المنظمة وأفسح المجال أمام انتشار الاتفاقات التجارية الثنائية أو الإقليمية التي أصبحت تسيطر اليوم على 40 بالمئة من التجارة الدولية وهي ليست لصالح البلدان الأكثر فقرا بينما تشجع على ازدهار الحروب التجارية بين البلدان الأكثر غنى.

لكن مثل هذه التعددية في الأقطاب لم تصب في صالح تعزيز سلطة المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات والهيئات التي قامت أصلا من أجل خدمة البلدان المصنّعة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.

وكانت أميركا قد اخترعت في الواقع منظومة متعددة الأطراف من أجل «تنظيم العالم» أكثر مما هو كي تخضع هي نفسها لما يفرضه هذا العالم. هكذا لم يؤد انتصار «الموديل الأميركي» بعد الحرب الباردة إلى تدعيم قوة المؤسسات الدولية التقليدية، وإنما ساعد، على العكس، على زيادة عدم فعاليتها، بل «احتقارها» حتى من قبل إدارة جورج دبليو بوش «الأولى» بشكل خاص. 

هذا الجنوح الذي عرفته المؤسسات المعنية صبّ في مصلحة «ايقاظ» النزعات القومية إذ حثّ كل بلد على الدفاع عن مصالحه الخاصة عبر مفاوضات ثنائية أو إقليمية وبعيدا عن أية «رقابة» دولية. وهذا قد تكون له آثار سيئة كبيرة في وقت تسود فيه العولمة وتستدعي التعددية القطبية تحديد قواعد دقيقة أكثر من أي وقت مضى. هذا لاسيما أن حالة «الانفلات» المرافقة لأزمة المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف تترافق مع شعور متزايد داخل المجتمعات الغربية بفقدانها للسيطرة على مصيرها.

 التقهقر الديمقراطي

عرفت الزعامة الثنائية الأميركية-الأوروبية (الأطلسية) فقدان جزء مهم من نفوذها بعد نهاية الحرب الباردة. لكنها عرفت أكثر من ذلك، في الوقت نفسه، أزمة الشرعية السياسية داخل أطرها الديمقراطية. وتبدّت مظاهر هذه الأزمة بطرق مختلفة مثل تضاؤل شعبية الحكومات والأحزاب الحاكمة وظهور تيارات متطرفة وصلت أحيانا في بعض الديمقراطيات الغربية إلى المشاركة في الحكم والافتقار إلى زعماء سياسيين يمتلكون مكانة عالمية.

تتم إعادة هذه الظواهر كلها إلى التباين المتزايد بين عام له محدداته الاقتصادية والسياسية المعقّدة والمعولمة والخارجة على السيطرة أكثر فأكثر من أسواق ومفاوضات متعددة الأطراف وقرارات ذات مدى دولي وبين مجتمعات ديمقراطية محصورة ضمن الأطر التقليدية للدول- الأمم.

مثل هذا التباين يظهر بوضوح أكبر في المجتمعات الأوروبية التي تعاني من ضغط المنافسة الدولية، وحيث تزداد الهوّة بين الديمقراطيات الوطنية و«الحكومة الدولية». بالتوازي مع هذا تراجعت زعامة النخب السياسية الأميركية والأوروبية عمّا كانت عليه خلال عدة عقود أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية.

وكانت إدارة جورج دبليو بوش قد مارست زعامتها الدولية على أساس دعامتين هما مكافحة الإرهاب وتشجيع الديمقراطية. لكن هذه الزعامة اهتزت بسبب الحرب في العراق وفضائح سجن أبوغريب ومعتقل غوانتانامو وتعاظم نزعة العداء لأميركا في العالم. وإذا كان الأوروبيون، وعلى رأسهم توني بلير وجاك شيراك قد استطاعا ممارسة بعض التأثير على مواضيع ذات أبعاد عالمية مثل التنمية وإفريقيا والتغيرات المناخية.

فإن مثل ذلك النفوذ قد خبا مع بروز المصاعب الداخلية. أما مسألة تشجيع الديمقراطية فقد ارتبطت في ذهن الرأي العام الغربي عامة بالصورة السلبية للحرب الأهلية العراقية وتمحورت في أوروبا حول قضية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

بالمقابل، وفي مواجهة الآثار الاجتماعية ـ الاقتصادية للعولمة على الرأي العام لم يمتلك القادة السياسيون الأوروبيون، وبدرجة أقل الأميركيون، شجاعة مواجهة التحديات التي طرحها الازدهار الاقتصادي والسياسي والثقافي للبلدان الصاعدة على المجتمعات الصناعية الغربية.

 هنا أيضاً تعاني الديمقراطيات الغربية من إعاقة مزدوجة بالقياس إلى البلدان ذات التقاليد الاستبدادية العريقة مثل روسيا والصين حيث يمكن للسلطة السياسية أن تعبئ بسهولة الجماهير حول توجهات الدولة. كذلك يترافق ضيق هامش التعبئة في المجتمعات الديمقراطية مع تراجع تأثير النفوذ الكوني للنموذج السياسي ـ الاقتصادي الذي أنتجه عصر الأنوار والثورة الصناعية. 

وتتم الإشارة في هذا الإطار إلى تقهقر الديمقراطية والإصلاح الليبرالي في بلدان أوروبا الشرقية لصالح تقدم النزعات القومية والتيارات اليمينية المتطرفة وحيث لم يكن تلكؤ مسيرة التوحيد الأوروبي بعيدا عن مثل هذه الظواهر. إن عدة عوامل قد اجتمعت لتساعد في ترسيخ التقهقر الديمقراطي أكثر.

وفي مقدمتها الأزمة الداخلية للديمقراطيات الغربية وأشكال الفشل في الحرب ضد الإرهاب ومساوئ السياسة الأميركية لتشجيع الديمقراطية في الشرق الأوسط والانتعاش المتعاظم للهويات الوطنية والدينية والثقافية في شتى أنحاء العالم. هذه الأمور كلها أصبغت شرعية أكبر على حركة الاحتجاج الصريح أكثر فأكثر على السمة الكونية ـ يونيفرسال ـ للقيم الديمقراطية.

إن مثل هذا الرفض للمفهوم الغربي للديمقراطية ولحقوق الإنسان ولاقتصاد السوق ظهر بوضوح في العالم العربي-الإسلامي ولكن يتنامى أيضاً في روسيا والصين وفنزويلا وبلدان صاعدة أخرى عديدة باسم التنوع الثقافي واختلاف مستوى التنمية وتأكيدا للسيادة والمصالح الوطنية في مواجهة «الموديل» الغربي المسيطر. 

ثم إن نجاح «موديلات» التنمية الاقتصادية الصينية والروسية والتركية عبر الجمع بين اقتصاد السوق وتأكيد سلطة الدولة والانفتاح الدولي والنزعة الوطنية الاقتصادية والرأسمالية والمعتقد الإسلامي، شكّل داعما قويا لحركة الاحتجاج الايديولوجي على مقولة تفوق «الموديل» السياسي ـ الاقتصادي الغربي ولقيمه. 

في المحصلة تقلّص النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي لأوروبا وللولايات المتحدة في إفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وآسيا، ذلك بسبب تنامي المشاعر القومية ونزعة العداء لأميركا والعالم ثالثية والوزن المتعاظم للصين وللبلدان الصاعدة الأخرى.

ثم في الميدان الأساسي الذي يمثله الإعلام جرى كسر الاحتكار الغربي لوسائل الإعلام والاتصال على الصعيد الدولي بفعل شبكة الانترنت ودخول وسائل إعلام دولية جديدة مثل «قناة الجزيرة» إلى سوق الإعلام العام باللغة الانكليزية.

هنا يفتح المؤلف قوسين كي يؤكد أن «المسافة تكون أحيانا قصيرة جدا بين منافسة صحيّة لمنافسة وجهات النظر والاحتجاج المقبول نسبيا للديمقراطية اللبرالية وبين تشجيع أشكال جديدة من النزعات الشمولية ـ التوتاليتارية ـ التي تنتشر في شرق العالم، ويميل نحوها بنفس الوقت مركز ثقل الاقتصاد العالمي».

ومن الظواهر الجديدة التي يتم التأكيد عليها التأكيد أن القوى الاقتصادية الآسيوية الجديدة لم تعد تكتفي بدور العمل لحساب الشركات الغربية في صناعات التكنولوجيات المتقدمة مثل الالكترونيات والمعلوماتية وإنما هي تستعد لمنافستها وفرض تحويل تلك التكنولوجيات المتقدمة، بما في ذلك الحقل النووي المدني، والصناعات الفضائية وغيرها من الصناعات الاستراتيجية. وتستعد هذه القوى أيضاً كي تحقق بعد أجل الزعامة العلمية والتكنولوجية.

لكن مع ذلك يميّز المؤلف بين الولايات المتحدة وأوروبا فيما يخص تدهور النفوذ مستقبلا. ويرى أن أميركا تمتلك ورقتين رابحتين كبيرتين ستحفظان لها دورا رياديا في القرن الحادي والعشرين وهما قوتها العسكرية وسيطرتها على التجديد في تكنولوجيات الإعلام والاتصال وعلوم الحياة.

«إن الجمع بين هذه الميزات سيسمح للولايات المتحدة أن تظل القوة العالمية الأولى، أو على الأقل، المحاور الرئيسي للصين التي سيطبع ازدهار القرن الحادي والعشرين بطابعه. الوضع مختلف في أوروبا حيث سيكون من الصعب عليها تأكيد دورها في عالم متعدد الأقطاب وقد تسوده زعامة ثنائية صينية-أميركية». هكذا يختم المؤلف حديثه عن «نهاية المرحلة الأطلسية».

يتبع ...