حرب أم سلام
تأليف : لوران كوهن ـ تانوجي
عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف
الحلقة الأولى
عودة التاريخ بدأت مسيرتها رغم التنظيرات الأميركية
يستمد هذا الكتاب أهميته من كونه دراسة حول عالم الغد، تتصدى لإيضاح كيف أن نهاية الحرب الباردة وانهيار جدار برلين والانتصار المفترض للديمقراطية واقتصاد السوق، كل ذلك قد أدّى إلى قيام عالم أقل استقرارا وأكثر تهديدا حيال المستقبل. كما يشرح كيف ساهم الفشل الأميركي في العراق وتلكؤ المشروع السياسي الأوروبي في نهاية زعامة الثنائي الأميركي- الأوروبي للعالم.
وصعود قوى جديدة في مقدمتها الصين والهند وروسيا. أمّا العولمة فقد غدت تحمل قدرا أكبر من التوترات مما تحمل من عوامل التهدئة، لاسيما مع تنامي ظهور إستراتيجيات القوة والمنافسة على صعيد الطاقة واستيقاظ النزعات القومية ونشوب الحروب وتعاظم الإرهاب. وهكذا فإننا أمام كتاب مهم من أجل فهم معادلات عالم اليوم... وعالم الغد أيضا.«انتهت فترة ما بعد الحرب الباردة». بهذه الجملة يبدأ المؤلف تحليلاته كي يشير إلى نهاية الأمل الذي بعثه انهيار جدار برلين ومعه انهيار الستار الحديدي الذي كان قائما وسط القارة الأوروبية. وانهار أيضاً الاستقطاب الثنائي الدولي الذي حكم العلاقات الدولية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين.
ويشير المؤلف في البداية أيضاً إلى أن القرن الحادي والعشرين قد «افتتح بخبرين»، أحدهما جيد والآخر سيئ. النبأ الجيد هو النهوض الاقتصادي المنتظر منذ فترة طويلة لمجموعة من البلدان التي يطلقون عليها صفة الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل وغيرها. وهذا ما نجم عنه خروج عدة مئات الملايين من البشر من حالة الفقر المزمنة. في الوقت نفسه أوجد «العالم الصاعد» دينامية نمو اقتصادي عالمي تبدو آثارها حتى في البلدان الأكثر فقرا في إفريقيا وآسيا.أما النبأ السيئ فيحدده المؤلف ب«الخطر الذي يمثله نزاع كامن، ومستمر، بين العالم العربي ـ الإسلامي والغرب». وتتم الإشارة في هذا السياق إلى تعاظم قوة الحركات المتشددة وتنامي ظاهرة التطرف في عدد كبير من البلدان المعتدلة تقليديا والصديقة للغرب. كما تتم الإشارة إلى الملف النووي الإيراني كأحد مصادر التهديد.
لكن إذا كانت درجة الخطورة الحقيقية لا تزال غير محددة بدقة فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للازدهار الاقتصادي الذي حققته الصين والهند وعدة بلدان أخرى، كما يشير المؤلف ليؤكد مباشرة أن مثل هذا الواقع: «سوف يغيّر دون شك التوازنات الكونية في أفق نصف القرن المقبل». وبهذا المعنى يمثل «النبأ الجيد» نفسه أيضاً تحديا كبيرا ستكون له تداعيات جيوستراتيجية هامة.
عودة التاريخ
شاعت في الغرب، كما هو معروف، إثر نهاية فترة الحرب الباردة فكرة طوباوية تقول ان «التاريخ قد انتهى». وذلك كنتيجة ل«الانتصار الإيديولوجي» للديمقراطية وللرأسمالية على الصعيد العالمي. وقيل ان مظاهر ذلك الانتصار و«نهاية التاريخ» تبدّت في سيادة «النموذج» الأميركي وثورة الانترنت وتقدم مسيرة التوحيد السياسي الأوروبي وتوقيع اتفاقيات اوسلو للسلام وبروز المنظور الديمقراطي في روسيا والصين والبحث عن «نظام دولي جديد».
في مواجهة مثل تلك المقولات يقول مؤلف هذا الكتاب ب«عودة التاريخ» وأن هذه العودة بدأت مسيرتها الجديدة منذ أواخر عقد السبعينات الماضي مع توجهين مختلفين في طبيعتهما وآثارهما تجسّدا في منعطف التحديث الصيني وفي قيام الثورة الإسلامية في إيران. ويرى أنهما يمثلان، رغم تباينهما الكبير، عدة سمات مشتركة تعطيهما مكانة متميزة في الدخول إلى القرن الحادي والعشرين.
السمة المشتركة الأولى بين الاتجاهين هي أنهما قد دفعا إلى مقدمة المسرح العالمي، إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا، بلدانا مصنّعة أخرى وقوى فاعلة جديدة ليست غربية. هذا بينما كان العالم يخضع لأوروبا ثم للثنائي الأطلسي ـ الأوروبي منذ بدايات الحقبة الحديثة في أواسط القرن التاسع عشر. بهذا المعنى شكّل تحديث الصين والثورة الإيرانية نوعا من القطيعة التاريخية. كما أن ذلك كان، بصورة ما، نوعا من العودة إلى عدة قرون سابقة.
كيف؟ تشير المعلومات المقدّمة إلى أنه في عام 1820، أي في فجر الثورة الصناعية كانت الصين تمثل حوالي 30 بالمئة من الاقتصاد العالمي وتمثل الهند حوالي 15 بالمئة مقابل 23 بالمئة بالنسبة لأوروبا وأقل من 2 بالمئة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية. لكن في أواسط القرن العشرين لم يكن العملاقان الآسيويان، أي الصين والهند، يمثلان أكثر من 8,7 بالمئة من الاقتصاد العالمي الذي كانت أميركا تسيطر على نسبة 27,3 بالمئة منه وأوروبا على 26,3 بالمئة.
السمة المشتركة الأخرى للاتجاهين المعنيين، في الصين وإيران، هو أنهما مرتبطان، كليهما، بالعولمة. وإذا كان الربط سهل فيما يخص النهوض الاقتصادي للبلدان «الصاعدة» كنتيجة مباشرة لحرية المبادلات الدولية، فإن الأمر أكثر دقة فيما يخص العلاقة بين العولمة وتنامي التطرف. المقولة التي يدافع عنها المؤلف تقول ان التطرف بدا إلى حد كبير بمثابة استيقاظ للمشاعر الدينية المرتبطة بالدفاع عن الهوية في مواجهة العنف الاقتصادي والثقافي الذي مارسته العولمة الغربية على المجتمعات العربية ـ الإسلامية.
السمة الثالثة المشتركة بين الاتجاهين في الصين وإيران كانت أنهما وضعا حدا للهيمنة المطلقة التي مارسها الغرب على العالم منذ عقد الثمانينات، حتى قبل انهيار جدار برلين، وحتى تفجيرات 11 سبتمبر 2001. وكانت تلك الفترة قد عرفت تسارع العولمة الاقتصادية وتقدم اقتصاد السوق على المستوى الكوني وبدايات الثورة التكنولوجية الجديدة (المعلوماتية) وتراجع نزعات السيادة الوطنية والتوترات الجيوسياسية. باختصار تأكّدت في تلك الفترة الزعامة العربية على العالم بدون منازع.
وما يؤكد عليه المؤلف هو أن تفجيرات 11 سبتمبر 2001 وما تركته على صعيد القيم لم تكبح أبدا العولمة نفسها وظهور قوى اقتصادية جديدة. بل إن الاقتصاد العالمي شهد عام 2006 أعلى نمو اقتصادي له منذ الصدمة النفطية لعام 1973 وتابعت التجارة الدولية تقدمها بإيقاع زيادة ما بين 5 بالمئة إلى 6 بالمئة كل سنة.
لكن الجمع بين التوترات على أساس خلفية عقائدية ونهوض البلدان الكبرى في الجنوب رسم معالم عالم جديد تلعب فيه الأبعاد الجيوسياسية ومشاغل الأمن والطاقة والدول والنزعات القومية وإستراتيجيات القوة دورا كبيرار في إطار المجال الاقتصادي المعولم. وهذا يمثل أيضا، برأي المؤلف، منعطفا تاريخيا ستكون له تداعياته الكبيرة.
صراع جديد
أثارت تفجيرات 11 سبتمبر 2001 إدراكا كونيا بتبدل الفترة التي يعيشها العالم. مئات وآلاف الملايين في الغرب وغيره رأوا تلك الصورة الرهيبة على شاشات التلفزة. ويرى مؤلف هذا الكتاب أن ذلك الحدث شكّل انتقالا إلى ساحة «الفعل» من قبل إرهاب كان حتى آنذاك افتراضيا.
وقد أدركت الديمقراطيات الغربية في الوقت نفسه إنها لن تستطيع بعدئذ أن تعزل نفسها عن الزوابع والنزاعات المتأججة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وعبر تفجيرات 11 سبتمبر برز البعد الإستراتيجي والأمني بقوة في مجال العولمة.
وبعد أكثر من خمس سنوات لا يزال ذلك «العمل الذي لا سابق له على الأرض الأميركية حيا في الأذهان ولا يزال تهديد القيام بمثله يثير المخاوف في الغرب على أساس أن معطيات المواجهة لا تزال قائمة هي الأخرى.
ويرى المؤلف أن جذور هذا النزاع تذهب إلى ما هو أعمق وأكثر تعقيدا من التهديد نفسه. ذلك أنه يعيده إلى قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وعملية احتجاز الرهائن الأميركيين الطويلة التي أعقبت ذلك. ثم إن الجيش الأحمر السوفييتي كان قد اجتاح أفغانستان المجاورة في شهر ديسمبر من تلك السنة نفسها مما أثار مقاومة إسلامية ساهمت إلى حد كبير بهزيمة ذلك الجيش بعد عشرة سنوات.
التتمة معروفة ويصفها المؤلف بالقول: «خلال سنوات الثمانينات كانت هيمنة السلفية الشيعية في إيران والحرب العراقية-الإيرانية والاحتلال السوفييتي لأفغانستان وراء حث أطراف أخرى كي تشجع وبمساعدة الولايات المتحدة على إيجاد ثقل مقابل سنّي سيولد فيما بعد القاعدة».
وبعد أن يشير المؤلف إلى استخدام التنديد بإسرائيل وأميركا والغرب بمجمله من أجل كسب الشارع العربي يقول إن التيارات السياسية المتشددة أصبحت تشكل قوة سياسية كبرى في العالم العربي-الإسلامي. بل ووصلت ديمقراطيا إلى السلطة في تركيا وفلسطين وأكّدت حضورها القوي والمهدد أحيانا في عدة بلدان عربية مثل المغرب ومصر وفي آسيا الوسطى كما في الباكستان وأخيرا في العراق.
ويتم التأكيد في هذا السياق على أن تنامي التيارات المتشددة له تأثيره على عدة رهانات أساسية بالنسبة للمجموعة الدولية على صعيد الأمن واستقرار وتعاون الدول الإستراتيجية من أجل الوصول إلى التوازن الجيوستراتيجي والنمو الاقتصادي العالمي والمحافظة على مصادر التزود بالطاقة والوصول إلى درجة جيدة من التعايش مع المهاجرين، خاصة في أوروبا.
ويرى المؤلف في هذا السياق أن تصاعد قوة التيارات المتشددة يزيد من التصادم مع الحداثة في العالم العربي-الإسلامي، كما أنه يزيد من صعوبة اندماج ما بين 5 إلى 20 مليون من المهاجرين المسلمين في أوروبا، والذين يمكن أن يتضاعف عددهم في أفق عام 2025.
ويرى مؤلف الكتاب أن الإدارة الأولى للرئيس جورج دبليو بوش قد ساهمت بقسط غير قليل في زيادة التوتر بين العالم الإسلامي والغرب. ذلك عندما أعلنت الحرب الشاملة على الإرهاب وحاولت إيجاد رابطة مصطنعة إلى حد كبير» بين القاعدة ونظام صدام حسين لتبرير التدخل الأميركي في العراق، ثم برفعها شعار «الشرق الأوسط الجديد» ذي الطبيعة الشاملة أيضا.
مع ذلك يتم التأكيد على أنه من الظلم عدم التذكير أن واشنطن قد ميّزت دائما بين الإسلام والتشدد باسمه. أما الخطر الكبير في التطور الحالي فإنه يعود، حسب التحليلات المقدّمة، إلى أن «عولمة النزاع» لم تعد تخص المسرح السياسي فحسب وإنما تندرج تدريجيا في الواقع الجيوسياسي.
ومنذ فترة ليست بعيدة كان يمكن التمييز بين خمسة محاور للمواجهة بين الشرق والغرب يحددها المؤلف بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والحرب المعلنة بين تنظيم القاعدة وأميركا الذي امتد ليطال الغرب بمجمله بما في ذلك روسيا، والصراع بين «المقاومة» العراقية والمحتل الأميركي، وعملية المواجهة بين المجموعة الدولية وإيران حول الملف النووي والمحور الأخير يتمثل في مجموعة التوترات الإيديولوجية ـ العقائدية للعالم الإسلامي مع الحداثة. هذا المحور الأخير يعني أوروبا أكثر من الولايات المتحدة الأكثر تدينا وليبرالية من القارة القديمة.
ونتيجة للإطاحة بنظام صدام حسين ثم تدهور الوضع الأمني في العراق تعزز موقع إيران في المفاوضات مع الغرب حول الملف النووي، بل ويرى مؤلف الكتاب أن تزايد تدهور الأوضاع في العراق والحرب في صيف 2006 بين إسرائيل وحزب الله يبدوان كنتائج مباشرة لتعزز الموقع الإيراني. ثم جاء وصول حماس إلى السلطة في الأراضي الفلسطينية كي يوجد روابط تضامن جديدة تصبّ في طاحونة الحذر أكثر حيال الغرب.
ازدهار الجنوب
بينما كانت أميركا ما بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001، والعالم من ورائها، تركز جهودها حول محاربة الإرهاب، كانت هناك ظاهرة من طبيعة أخرى تتعاظم من دون ضجيج، وهي ظاهرة إعادة هيكلية التراتبية الاقتصادية العالمية لمصلحة الصين والهند وعدد من الدول «الصاعدة» الكبيرة الأخرى. ولا يتردد المؤلف في القول أن عواقب هذا التشكّل الجيوسياسي الجديد للعالم ستكون أكثر ثورية وأكثر خلخلة للاستقرار ولنأمل أن تكون أكثر إيجابية من صعود الحركات المتشددة.
هكذا بعد قرن ونصف من التخلف والتهميش، أي منذ الثورة الصناعية الغربية في القرن التاسع عشر حتى الثلث الأخير من القرن العشرين، أدّى ظهور الصين والهند كقوتين اقتصاديتين فاعلتين على المسرح العالي إلى تحوّل حقيقي في المشهد الجيوسياسي. هذا التحول قد تكون آثاره أكبر من الصعود القوي الذي عرفته ألمانيا في القرن التاسع عشر والصعود الذي عرفته الولايات المتحدة في بدايات القرن العشرين.
وتعزز ذلك التطور مع الازدهار الذي عرفته بلدان صاعدة أخرى في أوروبا الشرقية (روسيا) وفي أميركا اللاتينية (المكسيك والبرازيل)، من دون نسيان كوريا الجنوبية وجنوب إفريقيا. وينقل المؤلف هنا عن دراسة أعدّها بنك «جولدمان ساتش» للأعمال منشورة عام 2003 أن دخل الفرد في البلدان الصاعدة يمكن أن يتجاوز قبل عام 2050 دخل الفرد في الدول الصناعية القديمة، ذلك بفعل وجود واقع نمو اقتصادي حقيقي أعلى من النمو في أوروبا والولايات المتحدة.
أيضاً يمكن بصورة أعم وأشمل أن يبلغ مجمل الإنتاج الداخلي للبلدان الصاعدة في أفق عام 2050 نسبة 60 بالمئة من الإنتاج العالمي بينما يمثل دخلها في عام 2006 حوالي 30 بالمئة منه أي ما يبلغ ضعف ما كانه عام 1980 وما يعادل أكثر من إنتاج 80 بالمئة من سكان العالم.
كذلك تصب الدينامية التي يشهدها الاقتصاد العالمي كله منذ عدة سنوات في مصلحة البلدان الأكثر فقرا في جنوب آسيا وإفريقيا حيث وصل معدل النمو السنوي في بعضها إلى 10 بالمئة بينما أن تدفق رؤوس الأموال الخاصة نحو البلدان الصاعدة قد بلغ رقما قياسيا قارب ال500 مليار دولار أميركي لعام 2005 وحده.
هذا يعني أن القرن الحادي والعشرين سوف يكون مسرحا لإعادة توازن كبيرة للاقتصاد العالمي وفي مصلحة البلدان الصاعدة خاصة في آسيا، كما سيترتب على ذلك تقليصا كبيرا للهوّة بين الوزن الديموغرافي والثروة على صعيد العالم كله.
ولا يتردد المؤلف في القول أن الازدهار السريع لقوى اقتصادية عالمية أو إقليمية كبرى، في مقدمتها الصين والهند، إنما هو نتيجة مباشرة للعولمة وأفضل مظاهرها الإيجابية على الصعيد الإنساني. هذا النهوض هو إذن ثمرة لتوسع ميدان التجارة الدولية وتحريرها ولتدفق الاستثمارات ولسياسة فتح الحدود ولوجود يد عاملة رخيصة الكلفة.
هكذا استطاعت الصين أن تحقق خلال السنوات العشرين الأخيرة متوسط معدل تنمية يقارب ال10 بالمئة سنويا مقابل 6 بالمئة بالنسبة للهند. كما أن عدة مئات الملايين من الأفراد أصبحوا في عداد طبقة وسطى واسعة قادرة على الاستهلاك والتوفير.
ونتيجة لهذه التطورات والازدهار الاقتصادي الجلي والصارخ، أصبحت آسيا هي مصدر التهديد، أكثر من أميركا، الذي تمثله العولمة الليبرالية على المجتمعات الأوروبية ذات البنى القديمة. هكذا أدرك الأوروبيون شيئا فشيئا ماذا تعنيه العولمة من إعادة تقسيم القوة الاقتصادية والثروة على صعيد العالم لصالح بلدان تتمتع بعدد سكان كبير وبيد عاملة رخيصة أو تمتلك موارد طبيعية. ويتم تحديد البلدان المستفيدة أكثر من غيرها ب«الصين والهند، وبدرجة أقل روسيا والبرازيل وبلدان الخليج النفطية وجنوب إفريقيا».
العمالقة الجدد
إن الصين والهند وروسيا والبرازيل يوحّد بينها قاسم مشترك يشكل ورقة رابحة كبيرة في منظور المستقبل، وهي أنها كلها «أمم- قارّات». هذه البلدان الأربعة تمتلك كلها مساحات شاسعة ويبلغ عدد سكان البلدان الأولان وحدهما 2,4 مليار قسمة بينما تمتلك روسيا والبرازيل ثروات طبيعية هائلة وثمينة لاسيما في مجال الطاقة. ثم إن كل بلد منها يشكل سوقا داخلية ضخمة يساعد من جهة على النمو ومن جهة أخرى على جذب الاستثمارات الخارجية.
ويرى مؤلف هذا الكتاب أن قوة هؤلاء العمالقة الجدد في الاقتصاد العالمي تأتي أيضاً من عامل سياسي، هو أنها أمم لها تاريخ عريق يحيي لديها إرادة إعادة اكتساب النفوذ على الصعيد العالمي كما يحيي مشاعر الاعتزاز الوطني، أي ما يسمح لقادتها السياسيين أن يعبئوا جماهيرهم بسهولة مهما كانت طبيعة الأنظمة القائمة، حتى لو كانت تسلطية مثل حالتي الصين وروسيا الحديثتين، وريثتي إرث مزدوج إمبريالي وشيوعي.
ثم إن اقتصاد هذين البلدين لا يزال خاضعا إلى حد كبير لسلطة الدولة، فأغلبية المؤسسات والشركات الصينية الكبرى هي ملك للدولة أو لهيئات تعاونية أو كيانات عامة، وإن لم تكن مملوكة لهذه أو تلك فإنها تكون خاضعة لسيطرتها المباشرة. أما روسيا في ظل رئاسة فلاديمير بوتين فقد قامت بإعادة تأميم الشركات والمؤسسات الإستراتيجية التي كان نظام بوريس يلتسين قد خصخصها خلال سنوات التسعينات خاصة في قطاع النفط والغاز.
هكذا أصبحت خاضعة من جديد لرقابة الكرملين، وحتى في الحالات التي لا تقوم فيها الدولة الروسية اليوم بالسيطرة المباشرة على رؤوس أموال الشركات المعنية فإنها هي التي تتولى «الوصاية» على مجمل الاقتصاد الوطني في خدمة غاية سياسية محددة هي «العودة القوية إلى المسرح الدولي».
إن الصين، بالاعتماد على رقعتها الجغرافية المترامية الأطراف ووزنها السكاني الكبير وطموحاتها، تتهيأ كي تصبح القوة العظمى الاقتصادية الجديدة في العالم. ويرى مؤلف هذا الكتاب أنه يمكن تشبيه عملية تصنيعها الراهنة بعملية إعادة التعمير الأوروبي أو الياباني بعد خرائب الحرب العالمية الثانية. أما نقطة بداية مسيرة النهوض الاقتصادي فيتم تحديدها بخطة «التحديث المربّع الأطراف» التي تبنّاها دينج هيساوبينج عام 1978.
والمقصود هو تحديث «الصناعة والعلوم والزراعة والدفاع». كان نهوض العملاق الصيني قد تمحور بشكل أساسي على الانفتاح على الاقتصاد العالمي واستثمار الميزة الكبيرة في مجال المنافسة على الأسواق والمتمثلة في توفر اليد العاملة الرخيصة وجذب رؤوس الأموال والتكنولوجيات الأجنبية.
هكذا حقق الاقتصاد الصيني أو «ورشة العالم» كما أطلقوا عليه نسبة عالية في النمو الاقتصادي المستمر لمدة ثلاثة عقود تقريبا. واستطاعت الصين منذ عام 2003 أن تكون الوجهة الأولى في العالم بالنسبة للاستثمارات الدولية، هذا إلى جانب أنها تتمتع ب«توفير وطني لا يوجد مثيلا له في البلدان المتطورة».
واعتبارا من عام 2005 احتلت الصين المرتبة الاقتصادية الرابعة في العالم ويمكن لإنتاجها الداخلي أن يتجاوز إنتاج ألمانيا في عام 2008 وإنتاج جارها ومنافسها الياباني قبل عام 2030 ثم إنتاج القوة الدولية العظمى، الولايات المتحدة - الصين تقوم بتمويل عجوزاتها الهائلة ـ من الآن وقبل ثلاثين سنة مقبلة. وكان دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية في ديسمبر 2001 قد كرّس اندماجها في السوق الدولي.
ويتم تحديد أسباب الصعود القوي لإمبراطورية الوسط، الصين، في تبنّي إستراتيجية مدعومة بحزم نظام سياسي على مستوى الداخل وبحس عملي نفعي لدى القادة الصينيين عندما التحقوا بالرأسمالية المعولمة. وساعد وجود سوق كبير ونمو سريع على جعل الصين قوة فاعلة قادرة على أن تفرض على الشركات الدولية الكبرى متعددة الجنسيات معايير تقنية وتحويل التكنولوجيات في صناعات إستراتيجية مثل الميادين النووية والكهربائية والنقل.
وسمحت العائدات الكبيرة من الصادرات ومن الاستثمارات الأجنبية بجعل الصين تهتم بمختلف الميادين. وقد فاقت استثماراتها في ميدان البحث والتنمية عام 2006 (136 مليار دولار) استثمارات اليابان (130 مليار دولار). كذلك تفوقت في هذا الميدان على الاتحاد الأوروبي (عندما كان يضم 15 دولة).
ولم يعد يسبقها سوى الولايات المتحدة بواقع 330 مليار دولار. والصين تمتلك أكبر احتياطيات في العالم من العملات الصعبة، أي ما يقارب 000 1 مليار دولار في نهاية عام 2006. وهذه تموّل عجز الميزانية الأميركي والاستثمارات الصينية في الخارج. في المحصلة تقيم بكين علاقات اقتصادية وسياسية في جميع أنحاء العالم خاصة مع البلدان الغنية بالطاقة والمواد الأولية في أميركا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط، أي حيث كانت أوروبا والولايات المتحدة «تسيدان وتميدان» حتى فترة قريبة.
يتبع ...