قبور المثقفين العرب
د. عبد الستار قاسم
مقدمة
تتعالى الصيحات في مختلف أنحاء الوطن العربي حول ضرورة إحداث تغيير في مختلف مجالات الحياة العربية وعلى رأسها المجال السياسي. تتصاعد الوتيرة يوما تلو الآخر وفي ذلك ما يؤذن بقرب تطورات ميدانية تؤثر على التركيبة السياسية في عدد من الدول العربية بشكل أو بآخر. وفي خضم الحركة والتململ يتساءل كثيرون من مختلف الأوساط العلمية والثقافية والفكرية والشعبية عن دور المثقفين في قيادة التغيير أو في المساهمة بدفعه إلى الأمام، أو على الأقل في عدم عرقلته.هناك افتراض بأن للمثقفين دورا، ومن المهم الاضطلاع به لكي تندفع عجلة التغيير متسارعة وعلى بيّنة من الأهداف والمقاصد.
أين نحن المثقفين؟ هذا إن كنت أنا أحدهم. حصل ذات مرة بينما كنت معتقلا في سجن النقب من قبل اليهود أن اقترب مني شاب اسمه عماد أبو جودة من سكان مخيم الدهيشة/بيت لحم وسألني بنوع من الاستحياء: لماذا أنت هنا في هذا السجن، أليس من الأفضل أن تكون في بيتك مع زوجك وأطفالك؟ أجبته بأن سبب وجوده في المعتقل هو ذاته سبب وجودي. فحاورني بأنني أقوم بعمل لا يتناسب مع مؤهلاتي العلمية والفكرية، ولأن الذين يتمتعون بوظيفة جيدة ويحصلون على راتب جيد يجب ألا يقوموا بتلك الأعمال التي تقودهم إلى السجن. وأضاف بأن السجون فقط للجوعى والمساكين الذين لا يخسرون شيئا نتيجة اعتقالهم. لكنني لم ألحظ في حواره إيمانه بما يقول، بل ظننت أنه كان يطلق آلاما تعتمل في صدره وكأنه أراد القول: نعم، السجون والمعتقلات يجب ألا تكون حكرا على أبناء الفقراء والمعوزين، وعلى المثقفين وذوي الدخول الجيدة أن يكونوا جزءا من عملية النضال من أجل الحرية والتحرير.
عماد من عائلة فقيرة جدا لجأت إلى منطقة بيت لحم عام 1948، وعاش في ظروف اجتماعية واقتصادية بائسة، ونشأ على هدير المجنزرات وأزيز الطائرات والعربات المصفحة وأصوات الرصاص، وحمل الحجر صغيرا دفاعا عن كرامته ورغبة منه في تحرير موطنه. لم ينل من التعليم إلا اليسير، ولم يستطع إكمال دراسته نحو الثانوية. عذبه اليهود الصهاينة وضربوه حتى أسقطوا منه الأسنان الأمامية لفكه العلوي، وكلما ابتسم أو ضحك رأيت مأساته أمامك واقعا. سألته بعد أن توطدت علاقاتنا عن سر أسئلته لي في اللقاء الأول، فقال بأنه كان يتخوث (يهزأ بنوع من الاستخفاف الجدي) علي ظنا منه أن اليهود قد سجنوني من أجل تحسين سمعتي ورفع شعبيتي لدى الشارع الفلسطيني. (هذا الظن مبني على حقيقة واقعة وهي أن إسرائيل صنعت العديد من الزعامات الفلسطينية بوسائل مختلفة منها اعتقال الشخص المعني والترويج له إعلاميا). وقال لي بأن المثقفين أمثالي لن يحرروا فلسطين، ودق على صدره مضيفا بأن أمثاله هم الذين سيحررون وينهضون بالأمة.
أصبح عماد بعد ذلك صديقا لي، وما زلت أقوم بزيارته كلما تواجدت في منطقة بيت لحم. وقد فاتحني بعد أن قام الود بيننا بأنه كان يشك بقدرتي على تحمل السجن والعيش مع شباب في مقتبل العمر ينحدرون في غالبيتهم الساحقة من أوساط غير متعلمة وفقيرة. قال لي: "كنت أتخيلك تجلس أمام باب المعتقل باكيا تريد الذهاب إلى أمك." فسر لي خياله بناء على انطباع لديه بأن المثقفين لا يتقنون غير ترتيب الكلام الجميل المنمق، ويبدعون في استعمال كلمات مثل لكن وإنما وحيث وربما، ويرون أن واجبهم يتوقف عند إصدار التوجيهات المفذلكة والتوصيات الجبانة. إنهم ليسوا أصحاب مواقف، حسب قوله، وإنما أصحاب مظاهر.
على كل حال، منطق عماد هو منطق الذين يريدون للمثقفين أن يكونوا من أهل القبور وهم أجهزة المخابرات وأهل السلطان والمستسلمين، إنما بفارق واحد وهو أنه تبنى المنطق بسخرية. هذا هو المنطق الذي تسلح به رجال مخابرات إحدى الدول العربية في كل مرة كنت أستدعى فيه للتحقيق، وبسبب عدم اقتناعي به طُردت من الجامعة التي كنت أدرّس فيها. وهو ذات المنطق الذي تتسلح به المخابرات الصهيونية والذي قادني عجزي عن التمسك به إلى الاعتقال مرارا، وهو ذاته الذي تستخدمه أجهزة السلطة الفلسطينية والتي لها معيار إضافي يقوم على الظن بأنها هي التي تمثل المصلحة الوطنية وكل من يشذ عن خطها عبارة عن مغرض أو خائن أو طابور خامس أو قاطع طريق.
لكن الأهم من كل أجهزة المخابرات هو أغلب عامة الناس والمثقفين والذين لا يبخلون عادة بنصائحهم. بسهولة يميل الشخص الناصح والحريص على مصلحتك ليهمس في أذنك قائلا أنه مقتنع بما تقول وتعمل، لكن الظروف غير مناسبة وقاسية والأفضل أن يسكت الإنسان حتى يتجنب الأذى الذي يمكن أن يلحقه به "هؤلاء المجرمون." ولا ينسى بالطبع أن يدعم كلامه بما يتناقله الناس بأنه حديث عن رسول الله عليه السلام بأن المرء يحاول التغيير بيده أولا، ويلجأ إلى اللسان إن لم يكن قادرا على استعمال اليد، وأخيرا إلى القلب إن لم يستطع اللسان. وبالطبع لا يريد الناصح أن يتذكر أن رسول الله قال أن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
أما المثقف المستغبي المتعبقر فيحاول أن يفلسف الأمور ويضعها في رونق فكري يظنه إنجازا فكريا. ففي بحر تعليقه يرى أن الوقفة في وجه الحاكم الظالم أو من أجل التغيير والقضاء على الظلم ومصادر الإذلال عبارة عن محاولة لإبراز الذات وتحقيق الشهرة. ومن الممكن أن يكون تعليقه أكثر ذكاء ويقول أنه من الممكن إسكات الذين يصرخون بإعطائهم المناصب. وفي هذا لا يختلف كثيرا عن الحملة التي تشنها الأنظمة العربية على الواقفين في وجهها دفاعا عن حرية الناس وحقوقهم والذين تصفهم بالغوغائيين أو الفوضويين الذين يسعون لتحقيق مآرب خاصة. يحاول المثقفون، إلا من نفر قليل جدا منهم، أن يتواروا عن أدوارهم والأمانة الملقاة على عاتقهم بتبريرات ينسجونها في عقولهم هاربين بها من الميدان. إنهم يتبعون سياسة الإسقاط في مواجهة محاولات الإنجاز وشحذ الهمم. إنهم يعون عجزهم وجبنهم وغياب رغباتهم في إحداث التغيير الذي يمكن أن يُخرج الأمة العربية مما هي فيه من ويلات مرعبة على مختلف المستويات، فيغطون على أنفسهم بمهاجمة من هم أكثر قدرة منهم ويملكون الاستعداد للتضحية من أجل الأمة. الطعن بالآخرين هي الوسيلة المثلى لتبرئة الذات من عجزها وجبنها، ولصناعة هالة وهمية من الحكمة والعقلانية حول ذواتهم كعمل استراتيجي يقود إلى التغيير التدريجي الذي يحفظ على الأمة دماءها ومقومات بقائها.
الأمة تنحدر
حدثني عماد أثناء زيارة له بأن الأمة العربية تتهاوى بالمزيد سنة بعد سنة. قال بأنه يعرف ذلك ويعيه على الرغم من أنه لا يحمل الشهادات العليا ولم يدخل الجامعات. كان يتألم وهو يقول لي بأن العرب كانوا يتطلعون نحو الوحدة العربية، وأصبحت الآن الوحدة الوطنية أقصى تطلعاتهم؛ وكانوا يريدون تحرير فلسطين، لكنهم الآن يلاحقون من يحاول المساس بأمن إسرائيل؛ وكانوا يريدون تطوير السوق العربية المشتركة فأصبحوا سوقا للآخرين؛ ونظروا نحو الاستقلال الغذائي، فباتوا لا يأكلون إن لم يستوردوا منتجات الدول الأخرى؛ وكان لهم طموح بالاستقلال فأصبحوا مطية وأرضهم ملعبا لجيوش الأمريكان والبريطانيين. أنهى حديثه بالقول بأن المثقفين خانوا الأمانة وانحنوا أمام المصالح الخاصة، وتحول عدد كبير منهم إلى مطايا للحكام الذين لا يعرفون الله ولا غيرة لهم حتى على أعراضهم الخاصة.
إكمالا لحديثه، يرى المراقب أن الأمة قد انحدرت فعلا في كثير من الأمور والمجالات الهامة بحيث أن تطلعاتها استمرت بالتقلص والتلاشي، وأحلامها تحولت إلى أوهام وخيالات. صحيح أن بعض أجزاء العواصم العربية شهدت تطورا عمرانيا وبنى تحتية متطورة، وأن بعض الشوارع الواسعة قد فُتحت، وأن العمارات والفنادق الفخمة والمطاعم قد أنشئت، وأن المنتجات الاستهلاكية الدائمة وغير الدائمة متوفرة في الأسواق، إلا أن المخفي تحت مثل هذه التطورات يفسر ظهورها. بدل التركيز على الإنتاج استفحل الاستهلاك حتى خبُل العقل تحت وطأة التخمة، وبدل البحث العلمي وما يرافقه من اكتشافات واختراعات راجت الشهادات الجامعية التي تناثرت في كل زاوية وركن من الوطن العربي، وبدل التماسك الاجتماعي وفق البعد الوطني الأشمل تعززت النظرات الفئوية والعشائرية والحزبية التعصبية، وبدل طرد الاستعمار بدأنا نغضب إن لم يقم الاستعمار باستعمارنا وتوجيه حياتنا، الخ.
عجز متهمي الأنظمة بالعجز
ليس من العسير على المرء أن يدرك أن ضعف الأمة العربية في معالجة مشاكلها والسير نحو المنعة والتقدم ليس ناجما عن ضعف في أحد أوصالها أو أجهزتها أو أعضائها وإنما عن تكامل عجزي ينتشر في مختلف أنحاء جسدها. يصب كثيرون بخاصة من المثقفين والكتاب والأكاديميين جام غضبهم على الأنظمة العربية على أنها السبب فيما فيه الأمة من ضعف وهوان. إنهم يلومون القادة والحكام بشكل رئيس بحيث يقلصون مشكلة الأمة في كثير من الأحيان في اثنين وعشرين شخصا فقط هم مجموع الحكام العرب.
السؤال الذي يمكن أن يطرحه شخص لا علاقة له بالعرب أو حتى بالأرض: ما هذه الأمة المترامية الأطراف ويسيطر عليها نفر قليل يكممون الأفواه وينهبون الثروات ويتحكمون بالرقاب؟ هل من المعقول أن يمتلك هذا النفر القليل قوة تمنع مئات الملايين من ممارسة أدوارهم في الحياة العامة بحرية؟ من اليسير على السائل أن يستنتج أنه لولا ضعف الأمة لما ساد الضعفاء غير القادرين على نقل الأمة إلى مراتب العزة والمجد. (لو) كانت الأمة قوية لأفرزت الأقوياء، و(لو) كانت حية لما قبلت بالأموات.
كثيرون هم الذين يتمنون ظهور صلاح الدين أو أي شخص يشبه أولئك القادة العظام عله يخلص الأمة مما هي فيه. لكنني لا أظن أن هؤلاء متأكدون أننا سنستقبله بحفاوة وترحاب إن ظهر. من المحتمل أننا سنقتله أو سنصر على انتخابات من أجل هزيمته. مثل هذا القائد لا يمكن أن يكون قبليا وبالتالي لن يرضى عنه أقاربه وأهل بيته، ولن يكون حريصا على جمع المال وبالتالي لن يرضى عنه الراشون والباحثون عن المال الحرام، ولن يكون فاسدا إداريا يقبل الوساطات والمحسوبيات وبالتالي لن يرضى عنه الفاشلون الذين لا وظائف لهم إلا على حساب أصحاب الكفاءة، ولن يكون عطشا لتبجيل أو مديح كاذب وبالتالي لن يكسب ود المنافقين والأفاقين والكاذبين، ولن يسمح بتخلف علمي أو تجيير الطاقات العلمية لخدمة أعداء الأمة وبالتالي لن يرضى عنه سماسرة المعرفة، ولن يسمح بالتهاون بأمن الأمة الغذائي والعسكري والنفسي وبالتالي لن يرضى عنه الجواسيس والعملاء، ولن يكون وثنيا أو مشركا هاجرا لكتاب الله لصالح كتب تاريخية وبالتالي لن يرضى عنه أصحاب الغلو والتضييق اللاديني باسم الدين. باختصار، ستكون شعبيته محصورة جدا وسيلاقي مشاق كبيرة يصعب عليه حملها.
حتى يكون بإمكان هذا الشخص أن يحمل الأمانة لا بد أن يكون ابن المرحلة التاريخية. يعني أنه يجب أن يكون من الناس ومعبرا عنهم أو الأغلبية منهم وليس ساقطا علينا من كوكب أو محمولا على نيزك متهاو على الأرض. الخبيث لا يقيم في أمة من الطيبين، والطيب لا يعمر في أمة من الخبيثين. فلا بد من أن نرتقي ونسمو إلى الدرجة التي نطلب من القائد أن يكون عليها، وهذه هي مهمة أصحاب الوعي والفكر الذين يسبقون زمانهم ويمهدون الطريق نحو تغيير يشمل مختلف نواحي الحياة.
يتحدث مثقفون وكتاب ووعاظ عن حال الأمة بمرارة وأسى عبر المقال والكتاب والخطاب والمقابلات الإذاعية والفضائية ويعبرون عن ضيقهم وضيق الأمة. لكن هناك فرقا واسعا بين التعبير عن الضيق وبين العمل على إزالته. صحيح أن الكلام مهم ويمكن أن يُبنى عليه مستقبلا من قبل آخرين أو أجيال قادمة، لكنه من المطلوب تغيير الأوضاع بما هو أكثر من الكلمة. على كل جيل مسؤولية ولا أظن أنه على جيلنا أن يكتفي بالكلمة. فحتى يكون للكلام صدى أوسع مما هو عليه الآن أرى أن الخطوة الأولى تتمثل في التجمع. لماذا لا يتجمع كل هؤلاء المثقفين والأكاديميين الرافضين للوضع القائم في تكتل يجعلهم أكثر تأثيرا وهيبة وقدرة على نقل الفكرة نحو التطبيق؟
ما الفائدة من تكرار الكلام واجترار الجمل والشعارات ما دام حكام العرب لا يحسنون الاستماع ولا يقيمون للناس وزنا ولا يسعون نحو تغيير ما هم فيه؟ ألا يقول عدد من المفكرين والواعين أن الولايات المتحدة لن تستجيب للعرب إلا إذا صنعوا لأنفسهم هيبة؟ لماذا لا يقولون أن هذه الهيبة لن تُصنع إلا إذا صنع أهل العلم والثقافة لأنفسهم هيبة تضع الحكام على مفترق طرق؟ التكتل ممكن وفوائده كثيرة وممكن جنيها. على المثقفين أن يجتمعوا من كل البلاد العربية ضمن فريق واحد ليدافعوا جماعة عما يريدون أن يروه يتحقق على الأرض العربية. يجب ألا تمنعهم الحدود الاستعمارية التي يدافع عنها حكامنا من التلاقي، وألا ترهبهم سيوف أجهزة المخابرات المسلطة على أعناقهم. الجبن لا يورث إلا الذل، وعزة الأمة بحاجة إلى تضحيات.
أنظروا كيف يستفرد كل نظام عربي بمناضلي الأمة ومناهضي الاستبداد والتجزئة. لا يكاد صوت يعلو هنا أو هناك في الوطن العربي حتى تسارع أجهزة المخابرات إلى كمه وزجه في غياهب السجون. وقد يجد هذا الأسير صوتا يصرخ من أجله ودفاعا عنه وقد لا يجد، وغالبا لا تجد أسرته من يرعاها ويقوم على احتياجاتها اليومية. أليس في هذا عار يلحق بكل المنظّرين المتطلعين إلى تغيير الأحوال؟ أليست هذه مشكلة الفئة الواعية الواعدة وليست مشكلة الحكام؟
نعم، الحكام غير مؤتمنين، لكنهم يرون الساحة خالية من التحدي فيسيحون ويسرحون ويمرحون. يعاني مفكرو الأمة ومثقفوها وكتابها من مشكلة لا تقل خطورة عما نعتبره مشاكل الحكام. مشكلة المثقفين ليست هي ذاتها مشكلة الحكام لكن الجذور واحدة. هناك مشكلة الفردية وعدم الرغبة في العمل ضمن فريق، ومشكلة الظن بأن رأيي هو الأفضل وعلى باقي الآراء أن تدور حولي، ومشكلة "يسلم رأسي ما بقي أي رأس"، وهكذا. أي أن حملة لواء التغيير هم أنفسهم جزء من المشكلة كما أن قطاعات واسعة من الأمة جزء منها.