البعد الإنساني في الرسالة الإسلامية(5)

البعد الإنساني في الرسالة الإسلامية(5)

عدنان سعد الدين

الفصل الخامس

تحرير الإنسان من القهر والاستغلال

منذ فجر التاريخ والإنسان يسعى جاهداً إلى بناء مجتمع خالٍ من الطغيان والاستبداد، ويتطلع إلى العيش في مجتمعات يسودها العدل وتعمها المساواة. وقد جاءت الرسالات لتخليص الإنسان من حياة الجور والاستعباد، كما أرسل المفكرون صيحاتهم لفك إسار الإنسان من قيود الرق وأغلال العبودية، وقد استغرقت هذه الدعوات وما نجم عنها من صراع دهوراً وعصوراً، لا يكاد الإنسان يرى فيها بصيص أمل حتى ينطفئ الضوء، ويطغى الظلام على حياة الإنسان.

لقد استشهد على طريق الدعوة والإصلاح وتخليص الإنسان أنبياء ومصلحون دون بلوغ هذه الغاية النبيلة، وتعد فترات التحرر التي نعم فيها الإنسان بالحرية والعدل والهناءة ضئيلة ومتقطعة إذا ما قيست بالحقب التي تسلط فيها الجبابرة والطغاة على رقاب العباد، وساموهم فيها الخسف والذل والهوان، حتى تقلصت فيها محاولات الإصلاح والإنقاذ إلى دوائر ضيقة اقتربت من العدم، فشرع الكثيرون من المصلحين والفلاسفة يستسلمون للواقع المر، ويتعايشون معه، مقتصرين في دعواتهم على التخفيف من أوضاره ومآسيه، فالفلاسفة اليونان الذين يحتلون الصدارة في تاريخ الفلسفة، وفي مقدمتهم سقراط وأرسطو وأفلاطون، عاصروا المجتمعات الوثنية، وعايشوا حياة الرق في ظل الإمبراطوريات التي عرفوها. لقد دعا أحدهم أو أشهرهم أفلاطون إلى حياة مثالية للإنسان عبر جمهوريته التي صنف فيها الشعب إلى فئات وطبقات، جاعلاً الرقيق إحدى طبقات المجتمع في جمهوريته المثالية التي دعا إليها.

أما أرسطو الذي ترجم المسلمون آثاره، فإن كتبه في الأخلاق والسياسة تدرس في الحلقات والمعاهد والجامعات في شرقي العالم وغربه منذ حوالي عشرين قرناً، ويمتحن بها الطلاب، ويقدمون بها الأطروحات دون أن نجد هذه الفلسفة قد شكلت أساساً لقيام دولة أو إنشاء حكومة أو تشكيل حزب أو منظمة سياسية، بل ظلت محصورة في بطون الكتب وجدران الغرف وقاعات الدراسة، وكأنها لون من ألوان الترف العقلي، سرعان ما يطويه الإهمال أو النسيان مثله كمثل رواية أو مسرحية أو قصة يتمتع بها قارئها لفترة وجيزة ثم تتقلص في ذاكرته أو تغيب عنها.

لماذا لم تُحدث هذه الفلسفات ـ ولا سيما الشهيرة منها ـ انقلاباً في حياة البشرية كما أحدثت رسالات الأنبياء؟ ولماذا لم تسيطر بطروحاتها ونظرياتها وتصوراتها على ضمائر الشعوب ومشاعرهم ومرافق حياتهم ونسيجهم الاجتماعي كالذي تركته دعوات الرسل وما نزل به الوحي من السماء من أثر كبير في المجتمعات الإنسانية وفي حياة الشعوب؟‍ وكيلا نتيه في التحليلات والتفسيرات والافتراضات، نقتصر على نظرة واحدة أو حكم واحد فنقول: إن تلكم الفلسفات لم تخترق حجب النفس البشرية، ولم تبلغ أعماقها أو تلامس جذورها، بل اقتصرت على مخاطبة العقل والحوار معه دون أن تكون لها صلة حقيقية بالروح أو القلب أو الشعور، هذا هو الفيصل بين الفلاسفة والأنبياء، أو بين الأفكار الفلسفية وبين مبادئ الرسالات السماوية.

إن نصف سكان المعمورة يدينون بالمسيحية والإسلام، حيث يبلغ عدد المسيحيين زهاء مليار ومائة وخمسين مليوناً موزعين على أوربا وأمريكا وأستراليا، وتسكن أقليات منهم في إفريقيا وآسيا، كما يبلغ عدد المسلمين زهاء ألفي مليون([1]) موزعين ما بين آسيا وإفريقيا، وتسكن أقليات منهم في أوربا وأمريكا وأستراليا، فكم يبلغ أتباع سقراط أو أرسطو أو أفلاطون أو أتباع المدارس الفلسفية الأخرى كالمدرسة الرواقية والإبيقورية أو غيرها في القديم أو الحديث؟ وأي من المجتمعات قام بناؤه على أفكارهم ونظرياتهم في العصور القديمة أو الوسيطة أو الحديثة؟

إن الرسالة الإسلامية باعتبارها عالمية وشاملة وخاتمة، وأن لها دورها في تحرير الإنسان من القهر والاستغلال والانحطاط، وفي تحطيم القيود التي ظل يرسف فيها قروناً، ليضحي ذا رسالة عالمية وحضارة إنسانية، وخليفة لله في هذا الكون، سخر له ما في السموات والأرض جميعاً منه، هذه الرسالة جاءت بمنهاج نعرض باختصار وإيجاز إلى كنهه وجوهره.

منهاج الرسالة الإسلامية في الإصلاح

وصل المنهاج الرسالي الإنسانَ بالمطلق، ورسم مسار حياته منذ خَلْقِه وبعد مماته، وحدد له المصير الأبدي، وأوضح له معاني الشر والخير، وطريقي الضلال والهدى، ومفاهيم الحق والعدل، وربط له ذلك كله بالمصير الأبدي والحياة السرمدية للإنسان، وزوده قبل ذلك وبعده بعقيدة كاملة الأصول والفروع ـ أيديولوجية ـ تتغلغل أنوارها في أغوار النفس البشرية وأعماقها، وتخاطب بالنواميس العقل والفكر، وتلامس المشاعر والخواطر، فتتفاعل وتتكامل، وتنشأ عنها مراقبة ذاتية من داخل الإنسان، لينبثق المؤمن المثالي، أو المصحف الناطق، أو السوبرمان كما يحلو للغربيين تخيله أو البحث عنه.

إن الأيديولوجية الإسلامية التي تملأ حياة الإنسان وتغوص معانيها ومفاهيمها في عقله وقلبه وروحه ومداخل نفسه، ترتكز على دعائم تتفرع عنها وتنبثق منها، أبرزها أو أهمها:

1- وحدة الرسالات وأخوة الأنبياء: فالأديان السماوية من لدن آدم وحتى النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تستقي من معين واحد، وترمي في دعواتها إلى تحقيق غاية واحدة، وترسم لأبناء الإنسان طريقاً واحداً مستقيماً، كلما بعث نبي أكمله وزاد فيه: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}([2])، وأن الأنبياء إخوة لا تفاضل بينهم من حيث الرسالة، وأن على المسلمين أن يؤمنوا بهم جميعاً: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}([3])، وعلى المؤمنين ليكتمل إسلامهم أن يؤمنوا بالرسل جميعاً، وهذا أمر جوهري وحاسم في التعاون بين أتباع الرسالات، وإحلال التفاهم والتقارب والتعاون بينهم، بدلاً من النـزاع والصراع، والتنافر والاقتتال بين أتباع الأنبياء.

2- الأخوة الإنسانية: فاتحة الكتاب ـ وهي أعظم سور القرآن ـ تبدأ بالآية الأولى من آياتها السبع: الحمد لله رب العالمين، فالمولى جل شأنه ليس إله عالم واحد أو شعب بعينه أو عرق متفوق كما يزعم الأدعياء زوراً وسخفاً بأنهم شعب الله المختار، بل هو سبحانه رب الكون كله والعوالم جميعاً، والشعوب التي خلقها من نفس واحدة، والقرآن المجيد ـ كما رأينا من قبل ـ يخاطب الناس كأبناء أسرة واحدة: يا بني آدم، ويكرر هذا النداء في ثنايا الكتاب الخالد وفي كثير من سوره وآياته، وقد أكمل المصطفى صلى الله عليه وسلم بسنته القولية والفعلية هذا المعنى وأكد عليه، وبنى المجتمع الإسلامي الراسخ على أسسه، ولأمر ما كانت النواة المباركة الأولى لهذا المجتمع تضم مع النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي وصهيباً الرومي، منوِّهاً صلى الله عليه وسلم إلى هذه البنية الطيبة أو هذه اللبنة المباركة في هذا الصرح الميمون، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أسبق العرب، وبلال أسبق الحبشة وسلمان أسبق الفرس وصهيب أسبق الـروم([4]). ليبشر الإنسان بفجـر جديـد يغمر بضيائه البشرية كلها ـ كأسرة واحدة ـ فتفيض عليها أنوار المودة وشموس المحبة في ظل المجتمع الإنساني المثالي الذي طالما حلم الفلاسفة والمصلحون بميلاده وبعثه.

بل إن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم رسم للإنسان سبيل الفوز، وطريق القرب من خالقه، ودرب الخلاص الذي يفضي بذويه وسالكيه إلى النعيم المقيم، بفعل الخير والإحسان إلى الناس، ومد يد العون للمعذبين والمحرومين والمكروبين والمرضى، ولكل صاحب حاجة من بني آدم، ومن أفراد الأسرة البشرية، فقال صلى الله عليه وسلم: (الناس كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله)([5]) كما مر معنا في صفحات سابقة، واستمر المصطفى صلى الله عليه وسلم بالتأكيد على هذه المعاني في تربيته لآل بيته الأطهار وصحبه الأبرار حتى استحالت هذه المبادئ الإنسانية المثلى إلى واقع عملي سجله التاريخ بصحائف غر وأحرف مضيئة، فهذا بلال الذي حرره الإسلام من قيود العبودية، يعتلي سطح الكعبة المشرفة، ويعلن من فوقها كلمة التوحيد، ويتقدم بعمله الصالح وصبره الجميل وجهاده المبارك على وجهاء مكة وصناديد قريش، وقل مثل ذلك عن المئات والألوف من بني آدم وحواء الذين حررتهم رسالة الإسلام وسمت بهم إلى مصاف العلماء والفقهاء وكبار رجال القضاء، إن لم نقل إلى مصاف الملائكة المقربين أخلاقاً وسلوكاً وتهذيباً.

فالأخوة الإنسانية ثابتة وراسخة في معاني الرسالة الإسلامية ومبادئها ثبات الجبال ورسوخها، يجب وصلها، ولا يجوز ولا يصح بحال قطعها، فقد أمر الله تعالى أن توصل القلوب بالمودة، والعلاقات الإنسانية بالبر والقسط والمحبة([6])، ومن المناسب التأكيد على قول الله تعالى في محكم آياته، فيما يخص البر وعمل الخير لغير المسلمين طالما أنهم لم يشنوا حرباً على عقيدة المسلمين ولم يعملوا على إخراجهم من أوطانهم: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين}([7]). وكي لا تكون مبادئ الأخوة الإنسانية محل مساومة أو جدل فإن: الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره.

3- التعاون الإنساني: نفذ المصطفى صلى الله عليه وسلم منذ الأيام الأولى لقيام الدولة الإسلامية في المدينة أحكام التعاون الدولي بين المسلمين وغير المسلمين، فعقد مع اليهود حلفاً أساسه التعاون على البر، وحماية الفضيلة، ومنع الأذى، وكرر عليه الصلاة والسلام عقد هذا الحلف مع قبائل يهودية عديدة، وقبائل عربية أخرى لإيجاد تعاون إنساني وإعلاء المعاني الإنسانية، وكان يعلن عليه الصلاة والسلام أن الله يمد بالقوة والعون كل من يسعف أخاه الإنسان في أي موطن، ومن أي جنس، ويفرج عنه فيقول: (واللهُ في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)([8]).

لقد هيأت العناية الربانية سيد الخلق منذ نشأته، وقبل أن ينـزل الوحي عليه، على حب الخير للناس جميعاً، وعلى نصرة الضعيف، إنصافاً له ورحمة به، فعندما كان في الخامسة والعشرين من عمره الميمون، حضر حلفاً لبعض أشراف قريش، فَسُرَّ عليه السلام لذلك سروراً عظيماً، فقال الهادي الأمين: لقد حضرت بدار عبد الله بن جُدعان حلفاً ما يسرني به حُمُر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت([9])، وكان من بنود هذا الحلف إنصاف المقهورين، ورد الاعتداء عن المستضعفين.

4- المساواة بين الناس: قام المجتمع الإسلامي على المساواة في الاعتبار البشري، وأن هذه المساواة لا تتحقق كاملة إلا في ظل الحرية التي ينبغي أن تتوفر وتتاح في اعتقاد الإنسان وفي تفكيره، وفي تصرفه وسلوكه، فالاعتبار البشري لكل الأفراد واحد، لأنهم جميعاً من نوع واحد، مهما كانت الفروق الفردية داخل الإطار العام للطبيعة البشرية، وعلى أساس من هذه الفروق يتم التمايز بين الأفراد كأفراد، دون أن يدعو ذلك إلى قيام الطبقية، وتقسيم النوع الإنساني إلى فئات يفضل بعضها بعضاً بالقيمة الإنسانية، ويؤدي هذا التفاضل إلى استغلال الأعلى منها للأدنى، على نحو ما هو شائع ومعروف في تاريخ المجتمع الأوربي([10]).

فالمجتمع الأوربي ـ والغربي عموماً ـ تأصل وقام على روح طبقية، ولازمته هذه الروح في تطوره وتغييراته المختلفة، وما زالت باقية فيه، بالرغم من صنوف الثورات التي شهدها، ومن تعدد شعاراتها، ولن تنعدم هذه الروح أو تخف وتتلاشى إلا إذا سادت الروح الإنسانية وحدها، وعلت كل عامل آخر في تسيير المجتمع([11]).

إن مجتمع الثورة الماركسية يكاد يمثل مجتمع العبيد كما كان في القرن العشرين، فقد استحلَّ فيه الرقَّ الجماعيَّ فريق من الأسياد عن طريق الإرهاب الذي تقوم به أو تشرف على تنفيذه تشكيلات بوليسية وأمنية وحزبية مختلفة لحماية ما يسمى بالثورة. وإذا كان للأفراد الأرقاء في نظام الرق القديم أمل في التحرر عن طريق العتق والمكاتبة، فالنظام الماركسي في الاسترقاق لا يترك بصيصاً من أمل في الخلاص من رقه وعبوديته، ومن إكراهه وإرهابه([12]).

يقول توينبي أكبر مؤرخي القرن العشرين: إن الإسلام قد قضى على النـزعة العنصرية والصراع الطبقي بتقرير مبدأ الإخاء الإنساني والمساواة المطلقة بين المسلمين، وعلى الغرب أن يأخذ بهذا المبدأ الإسلامي لتنجو المدنيّةُ الحالية مما يدب فيها اليوم من عناصر العداء. ويقول برنادشو: الإسلام يوحد بين أهل العقيدة المشتركة دون أن يجعل أي فرق بينهم بسبب أوطانهم وألوانهم وجنسياتهم، وهو المبدأ الذي لم يُعرف عند الرومان السابقين، ولا عند الأوربيين والأمريكيين الحاضرين([13]).

الإسلام لا يسمح بقيام نظام طبقي تسيطر فيه طبقة أو مجموعة، كما لا يسمح بتحكم فئة تدعي لنفسها الاستعلاء بالثقافة أو البيئة أو العنصر أو اللون أو الجنس على الفئات الأخرى، بل جاء ديناً يقرر المساواة بين أفراد البشر بشكل مجرد، يطبق على نطاق الإنسانية كلها بلا تمييز([14])، فالبشر متساوون في أصل المنشأ، فهم من تراب، وحتى الرسل عليهم السلام لا يختلفون عن بقية البشر في ذلك: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون}([15])، ويقرر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيقول: الناس ولد آدم، وآدم من تراب([16])، ويقول: الناس متساوون كأسنان المشط، ويقول: من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه([17]).

ومن مظاهر المساواة أمام القانون الإسلامي قصة المرأة المخزومية التي سرقت كما سبق ذكرها، وحادثة المصري القبطي ـ المسيحي ـ عندما تسابق مع ابن والي مصر عمرو بن العاص فسبقه المصري، فاعتدى عليه ابن الأمير بالضرب، فشكاه القبطي إلى الخليفة عمر بن الخطاب الذي أحضرهما، واقتص للمصري من الوالي ومن ولده، وأطلق صيحته التي ما زالت مدوية في أرجاء الزمان: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، كما نقل ذلك ابن الجوزي في كتابه: تاريخ عمر ابن الخطاب، ومن معالم هذه المساواة التامة، حادثة جبلة بن الأيهم الذي لطم الأعرابي لأنه داس على طرف ردائه في أثناء الطواف، فحكم عليه الخليفة أن يرضي الأعرابي أو يلطمه الأعرابي، وعندما اعترض على هذا الحكم بدعوى أنه ملك، والأعرابي من العامة، أجاب الخليفة: الإسلام سوَّى بينك وبينه، فهرب جَبلةُ وارتد كما رواه البلاذري في كتابه فتوح البلدان طبعة القاهرة 1959 في الصفحة 142، فليس في الإسلام فرد لا تطوله يد القضاء، وهذا ما تميز به القضاء الإسلامي على النظم القضائية الأخرى([18])، وفي رسالة عمر بن الخطاب لعامله على الكوفة أبي موسى الأشعري: آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، وقد مر ذكرها في صفحات سابقة.

ادعى جماعة ضد الخليفة المنصور أمام القاضي محمد بن عمر الطليحي، فاستدعى القاضي الخليفة، وأجلسه مع الخصوم، ثم حكم القاضي ضد الخليفة، وبعد انصراف الناس وعودة الخليفة إلى دار الحكم، استدعى الخليفة القاضي ليقول له: جزاك الله عن دينك ونبيك، وعن حسبك وعن خليفتك أحسن الجزاء، وأخيراً ـ وليس آخراً ـ فالإسلام سوّى بين الجميع في تحمل مسؤولية الجهاد والدفاع عن البلاد والعباد دون أي استثناء بسبب الحسب أو النسب أو الجاه، قال الله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا في بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}([19])، وعندما تخلف عن الحشد ثلاثة من المسلمين، كان عقابهم عبرة لكل أبناء الأمة، ثم نزل فيهم قرآن قرر أحكاماً أبدية تطبق على الجميع وتكون عظة لهم: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب الله عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم}([20]).

5- إقامة العدل: يُثَبِّتُ العدلُ دعائمَ الحياة الاجتماعية البشرية كما تثبت الجبال الأرض أن تميد بذاتها وبسكانها، لهذا أكد الإسلام على العدل تأكيداً شديداً كجزء من نظامه ـ أو أيديولوجيته ـ وقرر إقامته بين الخلائق جميعاً، والأنبياء قد بعثوا جميعاً منذ بدء الخليقة لإذاقة الناس حلاوته، قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}([21])، وقال سبحانه: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}([22]). وما دام العدل في نظر الإسلام غاية تقصد لذاتها، فكل ما يوصل إليه يُعد شريعة، وإن لم يصرح الشارع به ويذكر تفاصيله.

قال ابن القيم: من له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها([23]): {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون}([24]).

الجميع أمام العدل في نظر الإسلام سواء، لأن العدالة لا تتجزأ، وهي في نظام الدولة كالفضيلة في حياة الفرد، أو الشعاع في طبيعة الشمس، لا تتخلف ولا تتغير، فالمؤمن والكافر أمام القانون سواء، لقد عاب القرآن الكريم على اليهود أنهم يفاوتون بين أتباع الأديان في معاملاتهم، وبيّن أن ذلك ينافي التقوى والوفاء: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً، ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين}([25]).

روى سفيان: سمعت من حماد بن أبي سليمان يحدث عن الشعبي أن أم الحارث بن أبي ربيعة ماتت وهي نصرانية، فشيعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأن قريشاً استشفعت لإحدى نسائها كيلا يقام عليها الحد، فأجاب المصطفى من فوق المنبر خطيباً: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد([26]). وأن عمر قال لجبلة بن الأيهم وهو أحد ملوك الغساسنة في خلافه مع فرد من أبناء الأمة: الإسلام سوّى بينكما كما سبق. لقد التزم الإسلام جانب العدالة المطلقة، يوم دانت له الأرض، ولم يبق على ظهرها سلطان مرهوب غير سلطانه([27]).

لقد تمتع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي بالعدل كالمسلمين سواء بسواء، فعن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتل معاهداً لم يُرح رائحة الجنة([28])، وفي رواية أخرى: من قتل قتيلاً من أهل الذمة حرّم الله عليه الجنة([29])، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقفن أحدكم موقفاً يُضرب فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة تنـزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه([30])، وروى الأصبهاني عن النبي صلى الله عليه وسلم: من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط، يوم تزل الأقدام([31]).

6- ضمان الحياة الكريمة للإنسان: وكما قررت الرسالة الإسلامية في أحكام الشريعة الإسلامية الضرورات التي تحفظ للإنسان عقله ونفسه ودمه وماله ونسله، فإنها ضمنت للإنسان حياة كريمة في تأمين أسباب معيشته بكرامة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والدواء وما يتبع ذلك، وجاء التكافل بين أفراد المجتمع وفي مسؤولية الدولة في مقدمة ذلك، واتخذ الشارع لتنفيذ ذلك طريقين، حرم في الأول كل ما يؤدي إلى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان في ابتزازه وسرقة جهوده وحقوقه، ومن ذلك: التحريم القاطع للتعامل الربوي، وتهديد المرابين بأشد العقوبات عاجلة وآجلة، وإعلان الحرب عليهم: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}([32]) لأن الربا يجعل رأس المال متحكماً بالإنسان، بدلاً من أن يتحكم الإنسان بالمال يتصرف به طبقاً لموازين العدل والإنصاف ومصلحة الفرد والمجتمع، ومن ذلك أيضاً تحريم جميع المعاملات التي تنطوي على غش أو رشوة أو تطفيف بالكيل والميزان، وتحريم الاحتكار. ومَقْت المحتكرين ولعنهم بنص الحديث الشريف، ولا سيما الذين يحتكرون الأغذية وأقوات المواطنين، فقال صلى الله عليه وسلم: المحتكر ملعون([33])، كما اتخذ الإسلام إجراءات عدة ليستفيد المجتمع كله وبجميع أفراده من ثروة الأمة التي يشارك المواطنون بتداولها، فلا تبقى دُولة بين الأغنياء دون الآخرين، فقد شرع الإسلام قانون الإرث ليوزع الميراث على أكبر عدد من الوارثين، وفرض الزكاة على الأرباح ورؤوس الأموال. أي الثروة العامة (الثروة القومية)، بحيث لا يبقى ضعيف أو فقير أو مسكين أو مدين خارج أحكامها، إلا ويناله تكافلها وأسهمها، وكذا أحكام الصدقات المفروضة في المواسم العديدة مثل عيدي الفطر والأضحى، وتسديد مبالغ النذور والكفارات، كذلك فتح الإسلام باب التبرع والتصدق الطوعي على مصراعيه والترغيب في ذلك والتشجيع عليه بما أعده الله من الأجر العظيم للمتبرعين والمصّدّقين، كما شرع الإسلام أحكاماً استثنائية لعلاج الأزمات الطارئة والظروف القاسية في الحروب وتفشي الأمراض المعدية كالطاعون، وذلك لتعديل الأوضاع وتحقيق التوازن([34]) الاقتصادي في المجتمع إذا تعرض للاضطراب أو الخلل، من ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء الفيء  للمهاجرين ولرجلين من الأنصار بعد المعركة مع بني النضير([35])، ورغّب فيه في إنفاق ما زاد أو فاض عن الحاجة، واتخاذ الإجراء الحاسم إذا داهمت المجتمع مجاعة أو نزلت بساحته أزمة خانقة، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: الأشعريون مني وأنا منهم، قالوا: وما الأشعريون يا رسول الله، قال: قوم إذا أرملوا ـ أصابهم القحط ـ جمعوا كل ما لديهم ثم تقاسموه بالسوية، فهم مني وأنا منهم([36]). ولقد تم تطبيق هذا الإجراء الاستثنائي الذي يعالج به المسلمون حالات طارئة وقاهرة في مناسبات عدة، كالذي حدث في غزوة مؤتة، عندما استلم خالد بن الوليد قيادة الجيش بعد استشهاد القادة الثلاث، جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، فاستأذن الجنودُ الأمير بذبح بعض الإبل ليقتاتوا فأذن لهم، فاعترض بعض القادة على ذلك وقالوا: إنها عدتنا في الحرب وفي السفر، فقال وما العمل؟ قالوا: تجمع الأقوات في مكان واحد ثم يشترك الجميع بها في السوية، فنادى منادي الأمير الجند قائلاً: توقفوا عن ذبح الإبل، واجلبوا كل ما لديكم من مؤونة وضعوه في الخيمة التي خصصها لذلك، وهكذا حلت أزمة تموين الجيش في غزوة مؤتة، وقد صح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة رضي الله عنهم أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة، فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء([37])، ثم كانت بعد ذلك أشد الإجراءات صرامة وحسماً، عندما أعلن المصطفى صلى الله عليه وسلم إنذار المجتمع بكل فئاته وأفراده أنهم سيكونون خارج دائرة الإيمان إن كان فيهم جائع أو مضطر فلم يسعفوه، وأقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: والله ما آمن، والله ما آمن، والله ما آمن، من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه وهو يعلمه([38]).

7- الإسلام والمرأة: كم بلغت تعاسة المرأة وبؤسها قبل بزوغ شمس الإسلام وانبلاج فجر الهداية؟ وكم بلغت فداحة المظالم التي وقعت عليها ونالت منها على مدى عشرات القرون!! فمن الشعوب من اعتبر المرأة سلعة تورَّث، وبعضهم شكك في آدميتها، واعتبرها خارج الجنس البشري، والبعض حكم عليها بالانتحار أو الاحتراق لتلحق بزوجها إن سبقها بالوفاة، وآخرون لم يقروا لها باستقلال الذمة المالية والحق الكامل بالملكية وهكذا.... فالرومان لم يعترفوا لها بالأهلية الحقوقية، بل وضعوها تحت وصاية الأب أو الزوج الدائمة، لا تملك أية حرية في تصرفاتها، فهي موروثة لا وارثة، وهي في ميزان الشريعة الرومانية شيء من الأشياء التابعة للرجل، وفي أوربا كانوا يتساءلون: هل المرأة تتمتع بروح كروح الرجل؟ أم أن روحها كروح الحيوانات كالكلاب والثعابين، وكانت المرأة عند كثير من العرب عاراً وشراً على ذويها([39])، كما كانت سلعة للمقايضة، يزوجها الرجل بابنة أو أخت رجل آخر، وكانت في العرب الجاهليين وصمة عار، لأنها تسبى ولا تشارك في دفاع أو قتال، فإذا ولدت اربد وجه والدها وتجهم، واستعاذ وتشاءم، وقد وصف القرآن الكريم هذه الحالة: {وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجهُه مُسْوَدّاً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّرَ به، أيمسكه على هون أم يدسُّه في التراب، ألا ساء ما يحكمون}([40])، {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم}([41]). وهذا ما دعا البعض منهم إلى التخلص من المولودة بالوأد والدس في التراب دونما شفقة أو رحمة([42]). فهي محرومة من الإرث، بل كانت جزءاً من الميراث والتركة، يزوجها الوارث من يشاء دون إرادة منها أو سماع رأيها، روى ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها وهم أحق بها من أهلها([43]).

انتقل الإسلام منذ الساعات الأولى لظهوره بالمرأة من الحضيض إلى أعلى عليين، قفز بها من العدم إلى الوجود، ومن الشك في آدميتها إلى كامل إنسانيتها، ومن منتهى المهانة إلى أعلى الكرامة، ومن فقدان الشخصية إلى كامل الأهلية، لا فرق بين ذكر وأنثى في أهلية الولاية لكل منهما على الآخر([44]): {والمؤمنون والمؤمنات، بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}([45])، بل إن المرأة تقدم في بعض الحالات على الرجل في الأحكام الفقهية، مثل الحضانة، إذ تقدم الزوجة على الزوج، وفي بر الوالدين تقدم الوالدة على الوالد([46]).

لقد خص القرآن الكريم المرأة بعدد من سوره، مثل سورة النساء من طوال سور القرآن، وسورة الطلاق التي تعالج موضوعه، وسورة المجادلة التي احتوت على الحوار بين الزوجين، لتؤكد الأخذ والرد بين الرجل والمرأة لعلاج ما ينتاب العلاقة بين الزوجين في بعض الأحيان من اختلاف، وسورة الممتحنة التي تحدثت عن هجرة النساء ومبايعتهن، بالإضافة إلى كثير من الآيات الكريمة التي تحدثت عن النساء وشؤونهن، تكريماً للمرأة التي احتلت مكانتها المرموقة في المجتمع الإسلامي تشارك الرجل في تحمل المسؤولية، والاضطلاع بأعباء الدعوة، وإصلاح المجتمع، وتقويم الاعوجاج فيه، وإشاعة الفضيلة ومكافحة الرذيلة وتربية الجيل وإعداده للمستقبل في النهوض بأمته، وقيامه بما يلزمه ويترتب عليه من الواجبات حيالها.

إن تحرير المرأة من الظلم والعسف، والنهوض بها ورفع شأنها يختلف في موازين الحضارة الغربية عنه في معايير الرسالة الإسلامية، فالإسلام يرفض بشكل قاطع أن توظف أنوثة المرأة في الترويج للسلع التجارية أو الدعاية الانتخابية، أو أن يُدفع بها إلى العمل الشاق في ساحاتٍ تصادم فطرتها وتكوينها على حساب مسؤولياتها ووظائفها الأساسية، كما هو حال العاملات في تنظيف محطات السكك الحديدية كالذي نراه شائعاً في الغرب، أو العمل الشاق في المناجم. كما يرفض الإسلام للمرأة أن تمارس حرية التعري والتبذل والفوضى الجنسية التي تقوض أركان العائلة، وتفرز أجيالاً من اللقطاء أو الأطفال خارج الحياة الزوجية تُملأ بها الملاجئ، فيفقد الإنسان اعتباراته الإنسانية ومقوماته الشخصية وصحته النفسية.

أما الإسلام فقد رفع شأن المرأة، وسما بها إلى مقامات كريمة، فجعل الجنة تحت أقدامها والدة، وجعل طريق النعيم لوالديها مولودة، (من ربى جاريتين ـ فتاتين ـ فأحسن تربيتهما أدخلتاه الجنة)([47])، وأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بها زوجة وحض على تكريمها وإسداء الخير لها، فقال: خيركم خيركم لأهله ـ لزوجته ـ وأنا خيركم لأهلي([48])، وأعطاها الإسلام حريتها الكاملة في ذمتها المالية وملكيتها، وفي إبداء رأيها في كل ما يتصل بحياتها ومستقبلها كالزواج وغيره، وشؤون الأمة والمجتمع، دونما خوف أو وجل، فكانت المرأة المسلمة في عصور الازدهار، تثبت الرجال في الأزمات، وتناقش الخلفاء، وتحاور العلماء، دون أن يكلفها الإسلام عبء الإنفاق على نفسها أو زوجها أو أطفالها، لأن الإسلام بنى العلاقة بين الزوجين على المودة والرحمة، وليس على الشراكة الاقتصادية التي تجعل الزوجين في محاسبة يومية كثيراً ما تفضي إلى الخلاف والشنآن كما يحدث في كثير من المجتمعات الغربية، فالمرأة تكون دائماً أو غالباً في بحبوحة ويسر بما ترثه ـ وإن كان نصف ما ينال الرجل ـ لأنها غير مسؤولة عن النفقة ـ إلا تطوعاً ـ مهما كانت ثرية، وكان حال الزوج معسراً.

في هذا المناخ الذي هيأته رسالة الإسلام للمرأة استعادت ثقتها بنفسها، واستكملت بناء شخصيتها، وأخذت مكانتها في المجتمع الإسلامي، وأدَّتْ دورها في بناء حضارته، كثمرة للتعاليم الإسلامية الخاصة بالمرأة، وللنصوص القطعية التي وردت في الكتاب والسنة، فدخلت المرأة المسلمة التاريخ من أوسع أبوابه، فأقبلت على العلوم بمختلف فروعها، بدءاً بعلوم القرآن والسنة الشريفة منذ فجر الإسلام، فقد كانت عائشة رضي الله عنها من كبار من حدث على لسان الرسول عليه السلام، وكانت واسطة العقد بين الرسول والمسلمات، قال النبي صلى الله عليه وسلم بشأنها: خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء، كما أقبلت النساء على رواية الحديث إقبالاً عظيماً، حتى إن ابن سعد عقد فصلاً كبيراً في كتابه الطبقات الكبرى خص به النساء المحدثات، فأحصى أكثر من سبعمائة محدثة روت الحديث عن الرسول وعن الثقات من أصحابه، وترجم ابن حجر حياة أكثر من ألف وخمسمائة محدثة قال عنهن: إنهن كنَّ ثقات عالمات، كما خصص النووي في تهذيب الأسماء، والخطيب في تاريخ بغداد والسخاوي في الضوء اللامع حيزاً كبيراً للحديث عن النساء اللائي كانت لهن ثقافة عالية، ولا سيما في العلوم الإسلامية وفي رواية الحديث. وقد عد ابن عساكر أساتذته وشيوخه الذين تلقى عنهم، فكان من بينهم إحدى وثمانون امرأة، واشتهرت من النساء نفيسة بنت الحسن بن زيد كمحدثة، سمع منها الشافعي نفسه، وزينب بنت عبد الرحمن الشعري التي أجازت ابن خلكان، وكريمة بنت أحمد المروزي التي قرأ عليها الخطيب البغدادي صحيح البخاري، وفي مجال الأدب والطب والفلسفة اشتهرت كثيرات من أمثال زوجة الفرزدق، ورابعة العدوية وزبيدة زوجة الرشيد، كما برعت بعض النساء بالطب حتى ترجم ابن أبي أصيبعة لبعضهن في مؤلفه طبقات الأطباء، وأورد ذكر بعضهن القفطي في أخبار الحكماء، ومنهن زينب بنت أود المختصة في طب العيون، وأم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطنجالي، وكان الميدان الذي شمل عدداً من النساء الاشتغال بالتربية والتعليم، والوعظ والتدريس.

فمتى تُحقق المرأة ما بلغته في العهود الإسلامية الزاهية وفي عصور الازدهار من شأن في كل ميدان، وما نالته من حقوق؟ ستستغرق وقتاً طويلاً حتى يتم لها استرجاعها، وهذا الانتصار المأمول ستبلغه المرأة بسهولة ويسر، ودونما عنت أو عناء عندما تعود الأمة عودة صادقة إلى رحاب الإسلام، وتتفيأ ظلاله الوارفة الهنيئة.

8- حقوق غير المسلمين: ليس ثمة فروق في الحقوق بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع الإسلامي أو ظل الحكم الذي يلتزم بتعاليم الإسلام، وقد أدهش هذا الأمر المفكرين الغربيين والمستشرقين المنصفين وكبار المؤرخين من أمثال أرنولد توماس وبروكلمان وبيكاي وجيب وغيرهم، وهم يقارنون بين ما كانت عليه المجتمعات البشرية في الصين والهند في آسيا، وفي الإمبراطورية الرومانية وبلاد فارس قبل الإسلام، وفي الدول الأوربية في العصور الوسطى مثل إسبانيا وبلاد الغال من تفرقة مقيته وامتهان للأقليات ولبعض الفئات والطبقات، على أساس من الدين أو العرق أو اللون أو الجنس أو غير ذلك، وبين ما كان يسود المجتمع الإسلامي من مساواة كاملة بين جميع أفراد المجتمع، بل لقد كان التأكيد على حماية غير المسلمين في حقوقهم وحرياتهم على أشده، وكان التحذير بالغاً لكل من يمس معاهداً أو مواطناً من أهل الكتاب ـ يهود ومسيحيين ـ أو من هم في حكمهم، في شعوره أو كرامته أو أي حق من حقوقه.

لقد نصت أحكام الشريعة السمحاء على أن للذميين من أهل الكتاب ومن هم على شاكلتهم الحرية في الاحتكام إلى كتبهم وشرائعهم في الزواج والطلاق وأحوالهم الشخصية، بله المعتقدات والعبادات، وحماية أديرتهم وصلبانهم وكنائسهم ومقراتهم ودور سكنهم. ويرى أبو حنيفة أنه لا يجوز التعرض لهم في معاملتهم وعلائقهم الاجتماعية التي لا يتعدى ضررها إلى الآخرين، كما يرى أن يقضى بينهم بأحكام دينهم، كما أباح الإسلام لهم التعامل بما لا تحرمه ديانتهم كالخمر والخنـزير، وبه قال جمهور العلماء كما ورد في الجزء 19 ص138 من كتاب المبسوط للسرخسي، وإذا أتلف أحد المسلمين خمر الذمي أو قتل خنـزيره كان عليه غرامة، وقد أكد صاحب الدر المختار ذلك بقوله: ويضمن المسلم قيمة خمره وخنـزيره إذا أتلفه([49]).

لقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمح لأهل الكتاب من اليهود والنصارى بالرجوع إلى أهل دينهم في شؤون المواريث والحقوق الخاصة كما جاء في بدائع الصنائع للكاساني في الجزء الثاني ص312، كتب خالد بن الوليد لأهل الحيرة: أيما شيخ ضَعُفَ عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله كما جاء في كتاب الخراج لأبو يوسف ص144، وكتاب المودودي الخاص بحقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية([50]).

أما تسامح المسلمين في تولية غير المسلمين في الوظائف فقد كان مثار إعجاب ودهشة الغربيين، ومنهم آدم ميتر الذي قال: من الأمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال والمتصرفين (الموظفين) من غير المسلمين في الدولة الإسلامية. وتعقب لورافيشيا (المفكرة الإيطالية) على ذلك فتقول: الواقع أن اليهود والنصارى لم يمنحوا حرية المعتقد الديني فحسب، بل عُهد إليهم بتولي المناصب الحكومية، واستمر هذا الوضع على ذلك في الدول الإسلامية وحتى في عهد الأتراك العثمانيين كما قال كارل بروكلمان([51]). وزبدة القول في هذا الموضوع، أن أملاك المعاهدين وغير المسلمين والذميين مصونة، تنقل إلى ورثتهم، ويكون لهم فيها جميع حقوق التصرف كالبيع والهبة والرهن، ولا يجوز للدولة الإسلامية أن تحرمهم من شيء من أملاكهم، وأن دم الذمي كدم المسلم، فإن قَتَل مسلمٌ أحداً من أهل الذمة اقتُصَّ منه له كما لو قتل مسلماً، فقد قتل رجل من المسلمين رجلاً من أهل الذمة، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا أحق من وفى بذمته، ثم أمر به فقتل. وفي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل رجل من بني بكر بن وائل رجلاً من أهل الذمة بالحيرة، فأمر عمر بتسليم الرجل إلى أولياء المقتول، فسلم إليهم فقتلوه، وقال علي رضي الله عنه: من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا([52])، كما لا يجوز إيذاء الذمي باليد أو اللسان أو شتمه، كما لا تجوز غيبته، بل يجب كف الأذى عنه وتحريم غيبته كالمسلم، كما ورد في كتاب الدر المختار([53])، وللذميين وغير المسلمين في المجتمع الإسلامي الحق في أن ينظموا أمر تعليمهم الديني في المعاهد المخصوصة بهم([54])، ولهم الحق في الدخول في الوظائف الحكومية حسب الأهلية والكفاءة بلا تمييز بينهم وبين غيرهم من المسلمين([55]).

لقد طبقت هذه الأحكام وسادت تلكم السياسات حيال غير المسلمين في طول البلاد الإسلامية وعرضها، على مدى القرون الخمسة عشر التي انقضت على ظهور الإسلام، فعاش أهل الكتاب من اليهود والنصارى وأهل الذمة والمعاهدين في أمان واطمئنان في المجتمعات الإسلامية كجزء منها، لا يمسهم فيها نصب ولا ذلة، حقوقهم محفوظة، وكرامتهم موفورة، ودور عباداتهم مأمونة، ودماؤهم تتكافأ مع دماء المسلمين، حتى غدت الأرض الإسلامية ملاذاً آمناً لكل المضطهدين والمعذبين يلجؤون إليها، ويحيون حياة كريمة في رحابها كلما نالهم ظلم أو وقع عليهم عدوان بسبب معتقدهم أو عِرقهم، فلا يجدون الملجأ والأمن إلا في بلاد المسلمين، وفي مجتمعهم وظل سلطانهم كالذي جرى لليهود في أوربا، وفي إسبانيا على وجه الخصوص.

بيد أن هذه المبادئ أو الأصول التي أتيت على ثمانية منها، وهي: وحدة الرسالات، والأخوة الإنسانية، والتعاون الإنساني، والمساواة بين الناس، وإقامة العدل على الجميع، وضمان الحياة الكريمة لكل إنسان، ورد الاعتبار إلى المرأة كما هو حال الرجل سواء بسواء، وضمان حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي كما هو حال المواطنين المسلمين، أقول: ستبقى هذه المبادئ حبراً على ورق، لا أثر لها في واقع الناس وفي حياتهم إذا لم ترتبط بإحكامٍ في عقيدة المسلمين وفي أيديولوجيتهم التي تحدد للإنسان البداية والنهاية والمصير المحتوم، وتواجهه بالمساءلة التفصيلية عن السلوك الإنساني، وما يقدمه الفرد لنفسه ولغيره من الخير والشر في المآل ليبلغ السعادة الأبدية أو يؤول حاله إلى الخسران المبين، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة}([56]).

لهذا نجد القرآن الكريم دائب التذكير باليوم الآخر والتأكيد على الإيمان به، بل وربطه بالإيمان بالله، ليجعله الإنسان نصب عينه في كل تحركه وسلوكه، بل وفي سكناته عندما يخلو لنفسه، فينأى بنفسه عن كل الدنايا والأعمال المنكرة، ويبتعد عن كل عمل لا يرضي الله، أو يلحق ضرراً بالآخرين من أبناء الإنسان أياً كان دينهم أو جنسهم أو عرقهم، ويسعى جاهداً ودائباً على فعل الخيرات والإحسان إلى الناس، وقضاء حوائجهم والتخفيف من آلامهم وأحزانهم، ومد يد العون إليهم، فهذه هي رسالة المسلم في الدنيا، وهذا هو طريق الفوز والنجاة والسعادة في الحياة الأخرى، فالذين يؤمنون بالله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات هم السعداء والمفلحون.

           

الهوامش:

([1]) قدرت هذا العدد إذاعة لندن في إحدى نشراتها في الشهر السادس من عام 2003، كما قدر الكاتب كلاس شواب رئيس ومؤسس منتدى دافوس الاقتصادي العالمي عدد المسلمين في العالم بـ 1.9 مليار، أي مليارين إلا مائة مليون في مقال نشره في صحيفة فرانكفورتر الألمانية ونقلته جريدة الدستور الأردنية في 25/6/2003، كما جاء في جريدة الحياة في تاريخ 10/7/2003 أن عدد المسلمين قد بلغ 2.1 مليار نسمة.

([2]) سورة الشورى الآية 13.

([3]) سورة البقرة الآية 136.

([4]) رواه حاكم في >المستدرك< 3/321.

([5]) رواه البزار.

([6]) العلاقات الدولية في الإسلام لأبو زهرة ص42، دار الفكر العربي.

([7]) سورة الممتحنة الآية 8.

([8]) المرجع السابق لأبو زهرة ص25،24.

([9]) رواه ابن سعد في >الطبقات الكبرى< 1/129.

([10]) طبقية المجتمع الأوربي للدكتور محمد البهي ص41،39 ، طبعة دار الفكر.

([11]) المرجع السابق ص37.

([12]) المرجع السابق ص70.

([13]) الإسـلام فـي غزوة جديدة للفكر الإنساني ص223،222 كما نقله الدكتور عبد الوهاب الشيشاني في كتابه حقوق الإنسان ص249.

([14]) المرجع السابق الدكتور الشيشاني ص335.

([15]) سورة آل عمران الآية: 59.

([16]) رواه أبو داود (5116)، والترمذي (3955).

([17]) رواه مسلم (2699).

([18]) المرجع السابق للشيشاني ص653،652،646.

([19]) سورة التوبة الآية 41.

([20]) سورة التوبة الآية 118.

([21]) سورة الحديد الآية 25.

([22]) سورة النساء الآية 58.

([23]) حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة للشيخ محمد الغزالي ص35،34 ـ الطبعة الأولى عام 63.

([24]) سورة المائدة الآية 8.

([25]) سورة آل عمران الآية 76،75.

([26]) رواه البخاري (3475).

([27]) المرجع السابق للغزالي ص41،38،37.

([28]) رواه البخاري (3166).

([29]) رواه النسائي (4747) بنحوه.

([30]) رواه الطبراني في >المعجم الكبير< 11/(11675).

([31]) المرجع السابق للغزالي ص63،61،57.

([32]) سورة البقرة الآية 279،278.

([33]) رواه ابن ماجه في >سننه< (2153).

([34]) حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور عبد الواحد وافي ص16 طباعة مكتبة نهضة مصر.

([35]) ورد في الترغيب والترهيب للمنذري.

([36]) رواه البخاري (2486)، ومسلم (2500).

([37]) حقوق الإنسان للغزالي ص222.

([38]) رواه الطبراني والبزار من حديث أنس بن مالك بنحوه، قال الهيثمي في >مجمع الزوائد< 8/167: وإسناد البزار حسن.

([39]) ندوات علمية ص 136،135 طبعة دار الكتاب اللبناني 1973 والمرأة بين الفقه والقانون للدكتور السباعي.

([40]) سورة النحل الآية: 58،59.

([41]) سورة الزخرف الآية 17.

([42]) الوصية النبوية للأمة الإسلامية للدكتور فاروق حمادة ص78.

([43]) رواه البخاري (4579).

([44]) المرجع السابق في ندوات علمية ص137.

([45]) سورة التوبة الآية 71.

([46]) المرجع السابق ـ ندوات علمية ص138.

([47]) رواه بنحوه ابن ماجه (3670)، وأحمد في >مسنده< 1/363.

([48]) رواه الترمذي (3895) وقال: حديث حسن صحيح.

([49]) حقوق الإنسان للدكتور عبد الوهاب الشيشاني ص665 طبعة 1990.

([50]) المرجع السابق ص669،667.

([51]) المرجع السابق ص674.

([52]) حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية للمودودي ص14،13،11.

([53]) المرجع السابق ص17.

([54]) المرجع السابق ص17.

([55]) المرجع السابق ص34.

([56]) سورة المدثر الآية 38.