وفي روايةٍ أخرى لسمر عبد الجابر

"وفي روايةٍ أخرى" لسمر عبد الجابر..

قصائد قصيرة جداً محكومة بفوضى الاحتمالات

هلال شومان

كسرت سمر عبد الجابر رهبة تجربة النشر الأولى. مهندسة الكمبيوتر اتخذت قراراً جذرياً بالانتقال من الكتابة لنفسها ولبعض الأصدقاء، للكتابة العامة. «شو جاب لجاب؟ شو دخل الهندسة باللي عم تكتبيه؟»، كم مرة سمعت سمر هذا التساؤل؟ هل كانت تكتفي بابتسامة في كل مرّة؟

يمكننا أن نبدأ بالسؤال: «ما الذي تكتبه سمر؟». لكن السؤال هذا سيردّنا إلى نقاش الشعر الحديث، حراً كان أو مفعَّلاً أو موزوناً. هذا ليس موضوع المقالة، بل يتخطاه إلى نقاش آخر مستمر منذ أمد.

فلنبسِّط الأمر، ولنتعامل مع قصائد سمر كقصص قصيرة جداً محكومة بفوضى الاحتمالات وأنانية العالم المعيش. في قصيدة «اليوم» تكتب: «لم أكن في الباص ذي الزجاج المهشَّم / الذي اصطدم في الحائط وكاد يقع في الوادي / أحياناً / كل شيء على ما يرام».

هكذا، يصبح العنوان المنتقى جزءاًُ من القصيدة. إنه السطر الأول في القصيدة، بدونه ستبدو القصائد ناقصةً بداية ما. هو المحفِّز الذي يوصل للكلمة الأولى في القصيدة، أو قد يكون توضيحاً ما يعبِّد الطريق للوصف الآتي، أو إثباتاً لزمن القصيدة (كما في «اليوم»)، وهو في غالبه بسيط: (أحياناً - تلك الأغنية الحزينة - فجأةً - في الليل - ممكن جداً - غيّرت رأيي - بالأمس حين رأيتك..).

فلسطين وبيروت «أضعف» ما في الكتاب. حسناً. فلنشذب اللفظ أكثر. ليستا «أضعف» كما لو أن إيراد الضعف هو موقف سياسي. فقط، ذكرهما ضعيف. فالمشهدية التي توردها سمر تصح على أي مدينة أو بلد. المدن تتشابه في التفاصيل. لكأن إيراد اسم المدينة في العنوان، في الإهداء أو في متن القصيدة، هو توجيه للقارئ، أو لربما هو موقف شخصي جداً من الكاتبة تريد إثباته. الجميل أنها لا توقع نفسها في وطنية متطرفة فارغة، بل تؤنسن علاقتها بالمدن حيث تسكن، وبفلسطين التي لم تزرها إلا في تفاصيل قصائدها.

قد تكون سمر خرجت ذات صباح إلى الشرفة أو إلى سطح البناية، أغمضت عينيها وتخيلت كيف تبدو حيفا صبيحة يوم عادي، أو تكون نظرت إلى صورة على موقع، وقد تكون توقفت على رصيف في وسط شارع الحمراء، والتقطت التفاصيل وفرّغتها في أقرب مقهى على كمبيوترها المحمول. وربما تكون في الغرفة قلبت فعلاً صور ألبوم الصور المكدّسة على الرف بعينيها من بعيد، قبل أن تكتب قصيدتها «ألبومات الصور».

قد، ربما، لو، كأن، أو، أحياناً. هذه أدوات أساسية تحضر أكثر من مرة لوصف المشهد، تعين على استحضار كل تفاصيل المشهد، تلك الموجودة وتلك التي كانت هنا، وتلك التي ستحضر مستقبلاًُ. هذه ذرائع لاستحضار أسئلة متكررة تعيد سمر طرحها بين وقت وآخر بينها ونفسها قبل تفريغها في كلمات.

الغاردينيا بتناسلها وحبال الغسيل والصور والطرق والألوان والقطط والكلاب والأضواء الشاحبة والغرف والأغاني بتكرارها، والأطفال بضوضائهم، والمطر بإصراره، وبرك المياه بركودها، والشحاذون النائمون تحت الجسور، وسائق التاكسي الذي يمسح عرق جبهته، والصحافيون في الشارع يغطون حدثاً مفاجئاً، وعمال التنظيف ينظفون الطريق السريع بلا نهاية، والأشخاص النائمون في المقعد الخلفي في الباص، وضجيج المولدات الكهربائية. تفاصيل، تفاصيل. سمر تنظم أشياء المشهد الحقيقي لصالح كتابة قصيدتها. حتى أنها في قصيدتها «أحياناً»، تكتب: «أتقصّد وضع الأشياء/ في غير مكانها المعتاد/ لأوهم نفسي/ أن أحداً غيري في المنزل».

في ما عدا قصائد قليلة، يبدو كل شي دائراً في الرأس. الأفكار فوضى، فُرِّغَت في سطور قليلة. أحياناً يكون المشهد مشبعاً، وأحياناً تكتفي سمر بسطرين أو أسطر قليلة تنهيها بلقطة أو تساؤل مفاجئين. في «ليس الشرشف وحده» التي نشرت سابقاً في ملحق «شباب السفير»، وبعد استعراض كل الأشياء الزرقاء حولها من لون شفرات المروحة، وزجاجة مبيد الحشرات، ووجه الرجل الميت في ثلاجة، والدم الفاسد، ولون الرضيع الذي يختنق في مكان ما، تنهي بفكرة صادمة: «الأزرق/ سوداويّ/ ولهذا/ اختارته السماء».

تتفاوت بالطبع قيمة القصائد. لكن هذا غير مهم في تجربة أولى. غداً، تكتب سمر كتابها الثاني، مشبعة أكثر في مشاهدها. تنظم فوضى أفكارها أكثر، وتسعى إلى ترتيب فوضى المشاهد حولها، أكثر. غداً، تمتلك قوة الحذف عند النشر أكثر.

القصائد متفاوتة الطول تتراوح بين سطرين وعدة صفحات. في «في العالم الخارجي الغريب» مثلاً سطران: «أرغب أحياناً/ بتثبيت تعابير وجهي». وفي «على شرفات البيوت» أسطر أربعة: «مشنوقةٌ/ بملقط واحد/ أو/ مصلوبة بملقطين/ تنتظر شمساً». أما «السجّادة» فقصيدة تمتد لصفحات عدة، تصف فيها حياة السجّادة من على البلاط في الشتاء إلى زاوية الغرف في الصيف، تتلقى الصفعات من ربات البيوت عند تنظيفها. لكأن السجادة في لحظة امتلكت روحاً!

كلمات سمر سهلة. التفاصيل عندها تفوق اللغة. المشهدية تحتاج للتفاصيل الملموسة، واللغة هناك لتدعيم هذا الخيار. سمر قادمة من خارج المشهد الشعري، من خارج الوسط الثقافي. في ذلك حماية ما لها من سطوة ما يُكتَب حولها ويصدَّر على أنه «الطريقة الشبابية الجديدة» لكتابة الشعر. في ذلك حماية لها من عرض عضلاتي في اللغة، يفوق الحد أحياناً، مع ما يستتبع ذلك من رص لكلمات غير مفهومة لإخراج قصيدة «غير شعبية» ولا يفهمها الناس «العاديون».

ليت سمر تبقى قادمةً من خارج الوسط. ليتها تظل تكتب.

توقّع سمر عبد الجابر كتابها «وفي روايةٍ أخرى»، الصادر في تعاون مشترك بين دار ملامح ومنشورات «اكس أو»، في مقهى «ة» (تاء مربوطة)، السابعة من مساء الجمعة المقبل.