مذكرات الدكتور معروف الدواليبي

مذكرات الدكتور معروف الدواليبي

رواية : د. عبد القدوس أبو صالح

إعداد: د.محمد علي الهاشمي

(2)

القاوقجي كان يوصل أسرار الألمان إلى إنجلترا وكان وراء فشل ثورة رشيد الكيلاني في العراق

في هذه الحلقة من مذكراته يواصل الدكتور محمد معروف الدواليبي سرد قصة فوزي القاوقجي وكيف ان الألمان الذين اشتبهوا بأمره وضعوه تحت المراقبة حتى انكشف أمره. ويورد الدواليبي حوادث ووقائع تثبت تعامل القاوقجي مع الانجليز في الوقت الذي ظن فيه الناس انه «بطل يقاوم الانجليز». كما يستعرض الدواليبي الخطة التي رسموها لتهريب المفتي الحاج أمين الحسيني من معتقله بفرنسا. ويصف الاجراءات الأمنية الصارمة التي كانت الشرطة الفرنسية تفرضها على القرية حيث سجن الحسيني.

* ألم تكشف ألمانيا أمر القاوقجي؟

- اشتبهوا به بعد الحادث، ووضعوه تحت المراقبة إلى أن انكشف أمره، وقبضوا على رسوله الخاص به، وأمسكوا الرسالة التي كان ينقلها، وأعدموه. ولكن بعد فوات الأوان، إذ كانت المعامل الذرية كلها قد نُسِفت، وكان غوبلز وزير الإعلام الألماني يقول: سننتصر، وانتصارنا متوقف على اختراعنا للأسلحة، وما كان يدور في خَلَده أن أسرار مخترعاتهم تصل إلى إنجلترا أولاً بأول.

كانت هناك حوادث ووقائع تثبت تعامل فوزي القاوقجي مع الإنجليز في الوقت الذي ارتسم في أذهان الناس أنه بطل يقاوم الإنجليز، ومن هذه الوقائع: مرابطته في الصحراء للتصدي لكلوب باشا. وحدث هذا بعد إخفاقه في ثورة سنة 1936 في فلسطين، ولجوئه إلى العراق الثائر ضد الإنجليز بزعامة رشيد عالي الكيلاني. كان أيضا يهدف فوزي القاوقجي إلى الإيقاع بين الحاج أمين الحسيني ورشيد عالي الكيلاني; لأن إيقاع الاثنين ـ وهما خصمان لإنجلترا ـ في الحبال يسقط الاثنين، ويحمل ألمانيا على التخلص منهما، أو جعلهما على الهامش، وهذا ما كان يعمل له فوزي القاوقجي بالتآمر مع الإنجليز.

* أو لم يفكر الألمان بإعدام فوزي القاوقجي؟

ـ إعدامه كان سيحدث ردة فعل عند الحاج أمين وعند العرب; ولذلك اكتفوا بوضعه تحت المراقبة، وتبين لهم أن هناك رسائل وخرائط كان يرسلها إلى أماكن معينة.

* كيف اشترك فوزي القاوقجي بعد ذلك في حرب فلسطين أيام شكري القوتلي؟ وكيف كانت له قيادة الجيش سنة 1948 لما ذهب المتطوعون الإسلاميون وعلى رأسهم الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله؟

ـ ما كان يعرف حقيقة فوزي القاوقجي غير المفتي، والمفتي رفض أن يسلموه الجبهة، وياسين باشا الهاشمي كان يعتقد أن المفتي هو الذي أفشى سر الأسلحة، والحقيقة أن المفتي بريء من هذه التهمة، وعنده المعلومات الكافية عن القاوقجي، وصادف أن توفي ياسين باشا الهاشمي فوضعوا أخاه طه الهاشمي قائداً للجيش، ومعه القاوقجي لأن سمعته ما زالت طاغية. وقد اعترض المفتي على اشتراك القاوقجي في القيادة فلم يردّوا عليه، ولم يأبهوا باعتراضه. وهكذا كان شأن القاوقجي الذي منع السلاح عن عبد القادر الحسيني حتى قُتِل وسقطت القدس، وبعد ذلك أعطى الإنجليز دبابات لسورية ودبابات للقاوقجي، فدخل بها من الخليل وسلمها لإسرائيل عند انسحابه من الجليل، وكان أخي مصطفى معه، فما أخذا من دبابات معاً بقيت مع أخي، أما الدبابات التي تسلمها القاوقجي وحده فسلّمها إلى اليهود. ولما قُتِل حسني الزعيم، وانتُخِبت الهيئة التأسيسية، وجاء هاشم الأتاسي إلى الحكم في سنة 1950، جاء وفد من العراق من أجل ضم سورية إلى العراق، وهو مشروع كنت قاومته وعارضته. وفي هذا الوقت قَدِم من بيروت فوزي القاوقجي وعادل العظمة، ليروِّجا للمشروع، فأسرعت وأبلغت هاشم الأتاسي رئيس الجمهورية وناظم القدسي رئيس الحكومة بمجيئهما، وقصصت عليهما قصة القاوقجي، فقال هاشم الأتاسي: لقد بلغني هذا الشيء، وقال ناظم القدسي: يلزم أن نوقفه، فقلت: لا توقفوه، فإيقافه سيسبّب مشكلات; لأنه رجل يتعاون مع الإنجليز والجيش الإسرائيلي، ولكن الرأي العام يعدّه بطلاً مجاهداً، فاعتقالكم إياه سينكره الرأي العام، ويتوجه إليكم بتهمة التنكيل بالأبطال المجاهدين. فدعوه لي، سأحمله على الهرب. وجئت إلى فندق أورينت بالاس حيث كان ينزل هو وعادل العظمة، وقلت له: يا فوزي بك، لقد قدّم الجيش السوري تقريره وذكر فيه أنك مسؤول عن الإخفاق في الجليل، وهو يجمع الآن الوثائق التي تدينك، وإنك في نظره متهم. وإنك لتعلم مكانتك عندي من دخولك بيتي ورؤيتك صورتَك معلقة على الجدار، وإني أنصحك الآن ألا تبيت هذه الليلة هنا. وما إن سمع مني هذا الكلام حتى جمع ثيابه وأغراضه وغادر الفندق هو ونبيه العظمة، وكفى الله المؤمنين القتال. وما قلته له من اتهـام الجـيش إيـاه كـان حـقيقة، فـأخي مصطفى ورفــاقه أثبتوا للجـيش أنـه كان يتعاون مع إسرائيل. وبعد ذلك عاد إلى مسقط رأسه طرابلس، وبقي فيها حتى مات.

تهريب الحاج أمين الحسيني من فرنسا

* وكنت هرّبت معي أيضاً من ألمانيا سوّاق الحاج أمين الحسيني خالد رمضان، وهو من حمص.

* هل جاء معكم إلى باريس؟

- نعم، هرّبته معي ليساعدني، فكنا أنا وزوجتي وابني (محمد) وخالد رمضان.

* هل كان تهريبه بالطريقة نفسها، بأنه من رعايا دولة تحت الحماية؟

ـ كان يمشي معنا، ومنذ تسلم المراقب (كروز التبغ) لم يعد يسأل، وخرجنا وخرج معنا. وقال لي السفير السوري عدنان الأتاسي: يجب أن تختبئ. فقلت له أنا مختبئ عند يوسف باشا. ولكن المهم أن نبذل جهدنا في تهريب الحاج أمين: قال يا أخي السفراء العرب كلهم يسألون عنه، وفخري باشا بأمر من فاروق يسأل عنه، هو في قبضة العسكريين، ولا يعلم أحد عنه شيئاً، فيئست من عدنان الأتاسي، واتجهت إلى خالد رمضان سواق المفتي، فأعطيته بعض النقود وطلبت منه أن ينزل في فندق، وأفهمته أن مجيئنا بالأصل من أجل معرفة مكان سجن المفتي وتهريبه، ولا توجد طريقة لذلك كله إلا إذا سلّمتك للسلطات فتعتقلك، وفي الغالب إذا اعتقلوك أخذوك إلى حيث يوجد المفتي، وعندئذ ما عليك إلا أن تبعث إليّ بطريقة من الطرق مبيناً مكان وجودكم. بذلك ينفتح لنا الطريق. ونحن على كل حال في قبضة الفرنسيين، وسنبقى في خطر ما دمنا في قبضتهم، وعلينا أن نعمل. أما الطريقة التي سنتّبعها لتسليمك للسلطات فهي الطريقة الآتية: سآخذك إلى رجل اسمه قدّور، لجأ إلى فرنسا، وله صاحب مسؤول من البرابرة، وهو الآن شيخ الجامع، ويعدّه الفرنسيون رئيساً على كل المسلمين في باريس.

* هل هو متعاون مع السلطات الفرنسية؟

ـ نعم، ومركزه في الجامع، ونحن الطلاب كنا مقاطعين الجامع لمعرفتنا به. قلت له: سآخذك إلى قدور هذا شيخ الجامع، فتدخل عليه وتقبّل يده وتقول له: أنا سوّاق الحاج أمين الحسيني، لجأت إليك بصفتك شيخ الجامع لتساعدني بشيء من النقود لئلا يعتقلني الفرنسيون، وتقول له: إنك رجل من علماء الدين، والحاج أمين من علماء الدين، وهو معتقل، وأنا معرّض للاعتقال إذا سمع بي الفرنسيون، لأنني هارب. وقلت له: بهذه الطريقة سوف تُعتَقل في الغالب، وسيأخذونك إلى عند الحاج أمين، ومن هناك تَهرّب لي رسالة فيها مكان وجودكما، فاستجاب الرجل، وأخذته ومعنا أم محمد، لتكون معنا دوماً امرأة تبعد النظر قليلاً عنا، وأوصلته بالحافلة إلى الجامع، وعينت له مكان غرفة الشيخ قدور، وبقيت أنا وأم محمد في موقف الحافلة حتى لا نلفت الأنظار. وبعد عشر دقائق جاء خالد رمضان وقال: لقد فعلت ما رسمته لي: قبّلت يد الشيخ وسردت عليه قصتي، فقال: يا بني أعطني عنوانك، وأنا أتصل بك. ركبنا عندئذ الحافلة، ونزلنا قبل الفندق الذي ينزل فيه بمسافة مائة متر تقريباً، وقلت له: اذهب الآن من هذا الرصيف، وأنا أمشي من الرصيف الآخر، والطريق عريض وبين الرصيفين ثمانون متراً تقريباً، مشيت أنا وأم محمد نراقبه من بعيد، فما إن وصل إلى الفندق حتى خرج إليه رجال الأمن، وسألوه عن هُوّيته، وكانوا قد سبقوه إلى الفندق وأنزلوا حقيبته، وقبضوا عليه، واقتادوه في السيارة إلى السجن. فقلت في نفسي: هذه أول مرحلة. ولبثت أنتظر يومين فثلاثة فأربعة.. فعشرة، ولم يجئني شيء. كنت واثقاً أنه سيصل إلى الحاج أمين، ويهرّب لنا خبراً عنه، وما كان في وسعي أن أفعل غير ذلك; فالسفراء لا يعرفون شيئاً عن مكان الحاج أمين، وأنا مطارد يفتشون عني، وما علينا إلا أن نعمل. لقد نفذنا من ستراسبورغ بحيل ووصلنا إلى هنا، ونحن الآن ندبّر الحيل الأخرى التي توصلنا إلى هدفنا وهو تهريب الحاج أمين. كنت أوصيت خالد رمضان أن يرسل رسالة إلى بوابة البناية، وكنت قد أكرمتها، وأوصيتها إذا جاءتها رسالة من صديق لي أن ترسلها لي إلى عنواني، ووضعنا لهذا الصديق اسماً مستعاراً، وكنت أمر عليها كل يومين فأسألها هل وصل إليك شيء؟ وبعد خمسة عشر يوماً سلمتني رسالة وصلت إليها، ففتحتها فإذا فيها: نحن موجودون على نهر اللوار في جنوب باريس، في قرية صغيرة، في منزل مستقل (فيلا) هي سجن خاص بالمفتي، ومع المفتي راسم الخالدي وابن أخته إسحاق درويش، على مسافة 30 كم تقريباً من باريس، والقرية فيها عدة بيوت، وفيها شرطة.

* هل عينوا لكم اسم القرية حيث كان الحسيني معتقلا؟

- كتبوا اسم القرية، ورقم الفيلا. وللفيلا نوافذ على الشارع، وفي داخلها شرطة وفي خارجها أيضاً، يوقفون كل شخص يمر ويسألون عنه، فانتبهوا واحترزوا. ويطلب الحاج أمين منكم أن تأتوا وتهرّبوا إلينا رسالة، وليكن مجيئكم بعد الاتصال بنا، وكونوا حذرين. فقررت في اليوم الثاني أن آخذ سيارة وأذهب إلى القرية. وحتى الآن ما كنا نقول للعجوز عمة الملك فاروق (ناجية ذو الفقار) إننا نبحث عن المفتي. فلما قررت الذهاب إلى القرية لدراسة وضع سجن المفتي، أجمعت أن أخبر زوجتي والعجوز ناجية ذو الفقار بنيّتي; لأن ذهابي محفوف بالمخاطر، فقد أُعتَقل ولا أعود، فقلت لهما: القصة كيت وكيت. وهنا انفجرت زوجتي بالبكاء، وقالت ناجية ذو الفقار: لا خروج من البيت، وغلّقت الأبواب، فأجبتها: يا أختي لا يجوز أن أتهاون في مسعاي، فقد حملت سائق المفتي على دخول السجن لهذه الغاية، فقالت أم محمد: أنا أذهب. أما أنت فلا تذهب. وفعلاً كان اقتراحها أبعد من الشبهة.

وفي اليوم الثاني، وكان الوقت في حزيران، يبدأ اليوم بصحو، وبعد ساعتين تتكاثف الغيوم وتهطل الأمطار كأفواه القرب، في هذا اليوم خرجت أم محمد ترتدي ألبسة صيفية، وفي منتصف الطريق جاء الغيث وانسكبت الأمطار غزيرة سخية، فبدت المرأة كأنها خارجة من نهر، تقطر ماء من رأسها إلى أخمص قدميها، ومع ذلك تابعت مسيرتها حتى وصلت القرية، وبلغت الشارع الذي فيه المنزل، ووقفت أمامه، ولكن غزارة الأمطار لم تبق لها مكاناً تقف فيه، فلجأت إلى منزل ثانٍ ومعها دراجتها لتستتر من الأمطار في دهليزها. وكان المفتي ومَنْ معه منذ إرسالهم الرسالة الأولى في مراقبة دائمة للطريق من الشباك ليلاً ونهاراً. وكان الحراس لا ينقطعون عن الحراسة والمراقبة ليلاً ونهاراً، ولكن غزارة الأمطار ألجأتهم إلى الدخول. وفي هذه الأثناء كان دور خالد رمضان في المراقبة، والشرطة حوله يجلسون مع المسجونين، فرأى أم محمد، فصاح: أم محمد، أخذته الوهلة، فاستدعى بصياحه انتباه الشرطة فركضوا مستفسرين غير فاهمين معنى أم محمد، وهنا أنقذ المفتي بذكائه الموقف، إذ تبع الشرطة ووقف وراءهم وأشار إليها، وهم يضحكون، وأوحى إليهم أنها امرأة مسكينة، غطّتها المياه من كل جانب، فهي تقطر ماءً من شعرها وملابسها، فأثار استغرابهم لمنظرها، وبعد قليل أغلقوا الشباك وعادوا إلى أماكنهم. أما الحاج أمين فقد صعد إلى الدور الثاني وكتب رسالة، لفّها بعدة أوراق وأشار إلى أم محمد، وكانت لا تزال واقفة والأمطار تهطل بغزارة، وألقى بها إلى أم محمد فأخذتها، والشرطة كلهم في الداخل، وركبت دراجتها وعادت وسلمتنا الرسالة، وفيها أن المفتي بحاجة إلى شيء من المال. وذهبت إلى عدنان الأتاسي وأطلعته على الرسالة بتوقيع المفتي، فبُهِت. وقال: نحن منذ شهر نسأل عنه من دونما جدوى، وأنت لقيته وأتيت برسالة منه في عدة أيام؟ وفتح الخزينة وأعطاني مائة ألف فرنك فرنسي، وقلت له: إن المفتي يوصينا بألا نذهب إليه إلا بعد الساعة الثانية ليلاً، ولذلك أريد سيارتك الدبلوماسية، فهي على الأقل لا توقفها الشرطة أو هي أقل مراقبة من غيرها، فقال: أعطيك السيارة، ولكن لا أعطيك سائقها، فقبلت. وكنت على اتصال بأحد أبناء الشام، اسمه عزت شيعي، وهو تاجر، وكان يربح ويقيم لنا معشر الطلاب سهرات، فباع صفقة سيئة للجيش الألماني فيها غشّ، فقبضوا عليه وكادوا يعدمونه، وجاءتني امرأته تبكي، فاتصلت بالحاج أمين في برلين، فتوسط له وأُفرِج عنه.

جئت إلى هذا الرجل وقلت له: يا عزت الرجل الذي أنقذ حياتك ذات يوم هو بحاجة الآن إلى إمداده بالمال في الساعة الثانية ليلاً، وكنت أعلم أنه ساكن في القرية نفسها منذ مجيئه من سورية قبل عشرين سنة، لأنها بعيدة ورخيصة الأجور، وتسير إليها قطارات وحافلات، فإذا كنت تجيد قيادة السيارة فسأحضر لك سيارة دبلوماسية تقودها إلى قريتك التي تسكن فيها، فوافق الرجل، ولم ينسَ أننا أنقذنا حياته ذات يوم، وذهب معي إلى السفارة السورية، فأخذنا السيارة إلى بيتي، حتى إذا كانت الساعة الثانية ليلاً، ركبنا أنا وأم محمد معه، وسار بنا وهو يرتجف من الرعب، حتى وصلنا إلى القرية، وأوقفنا السيارة في غابة من الغابات. وقالت أم محمد: لا تنزل أنتَ. أنا سأنزل. وجلسنا نحن الاثنين في السيارة، وذهبت هي، وكنا قد وضعنا المبلغ 100 ألف فرنك في صرّة وفيها حجر. وبعد الساعة الثانية حسب الموعد ألقت الصرّة من الشباك، وعادت برسالة من المفتي تقول: إن لديه أشياء يريد أن يكتب بها إلينا، ولكن يخشى من القبض على الرسالة، لأنها تتضمن أسراراً خطيرة لا يجوز كشفها، ولذلك يلحّ عليّ أن يرتّبوا ترتيباً أدخل به السجن.

* أتدخل أنت لتذهب إليهم؟ ـ نعم، وأنا لم أنس بعد، أن بيتي مصادر، وأنا هارب! كان الترتيب أن آتي ليلة 14 تموز بعد الساعة الثانية ليلاً، فأجتاز طريقاً محجَّراً يوصل إلى الباب الداخلي للفيلا، فأدفع الباب، ويكون المفتي جالساً وراءه، فأدخل إليه. ذهبت إلى أحد أصدقائنا المراكشيين المشتغلين بالحركة الوطنية هو عبد الهادي الدوري، وهو رجل كسّاب وهّاب، عنده دار تجارية في باريس، ودار تجارية في بروكسل، ودار تجارية في الرباط، وينفق على الحركة الوطنية، وقلت له: إنني بحاجة إلى سائقك، وهو سائق مأمون; لأن اجتماعاتهم كلها ضد فرنسا، وكنت بحاجة إلى سيارة وسائق; لأن عدنان الأتاسي لم يعد مستطيعاً إعطائي السيارة، وعزت شيعي انقطع عن المجيء، ولا بد لي من سيارة، فقال لي عبد الهادي: أعطيك السيارة والسائق. وفي ليلة 14 تموز خرجت بها أنا وأم محمد بعد منتصف الليل من باريس ولكننا لاحظنا دَرّاجة نارية تتعقّبنا أينما مشينا، يميناً أو شمالاً، وظلت تتابعنا إلى مسافة 30 كيلومترا، لقد لفتنا نظر الدورية، إذ رأت سيارة تخرج بعد منتصف الليل وتخرج من باريس إلى القرية، ونحن في أيام أواخر الحرب. فقلت للسائق: قف مكانك ولا تتكلم، ونزلت إلى الدورية، فأبرزت جواز سفر زوجتي وقلت لهم: نحن فرنسيون، نفد من عندنا البنزين، أرجو أن تساعدونا بإعطائنا ليتراً من البنزين، أو تدلونا على محطة بنزين قريبة، فنحن نسير من مكان إلى مكان ولا نجد مكاناً لبيع البنزين. فأجابوا: ما لك إلا أن ترجع، وتذهب إلى الجهة الفلانية حيث محطة للبنزين. حييناهم، وتركونا وانصرفوا. عدت إلى أم محمد وقلت لها وللسائق: انتبها جيداً حتى أعود. ودخلت في ظلمات الليل إلى المنزل بأقدام ثابتة واجتزت الممشى الحجري، ووصلت إلى الباب الداخلي، دفعته، فخرج الحاج أمين، وكان الدهليز مظلماً، ودخلنا غرفة وراء الباب فيها مذياع (راديو)، وسألته كيف استطعت أنا الدخول، وأين الحرس؟ قال: اطمئن، في ليلة 14 تموز أكرمنا الحرس، وجلس معهم إسحاق درويش، فسقاهم كثيراً حتى أسكرهم، وأخذنا المفاتيح منهم وفتحنا الباب، فاطمأننت، ولكن لم نكد نجلس نتحدث، على صوت الراديو الخفيف، وعلى ضوئه الخفيف أيضاً، حتى سمعنا صوت انغلاق الباب، وهذا معناه أنهم استيقظوا، فطار عقلي من الفزع، ونظرت فرأيت نافذة مرتفعة عن الشارع مسافة ثلاثة أمتار، ولم يبق أمامي إلا أن ألقي بنفسي من الشباك الذي نرسل منه الأموال والرسائل، فلحقني الحاج أمين يريد أن يمسكني، ولكنني تدلّيت متراً ونصف ثم ألقيت بنفسي، ورجعت إلى السيارة.

* هل عرفتم فيما بعد كيف أغلق الباب؟ ـ نعم، عرفنا فيما بعد أن أحد أولئك السكارى حصره البول فانتبه لقضاء حاجته، فرأى باب المنزل مفتوحاً، فطار عقله، ووجد باب الغرفة مفتوحاً أيضاً، ودخل علينا ووجد اثنين في الغرفة، فذهب ليأتي برفاقه ليقبضوا على الرجل الثاني، ولما جاءوا لم يجدوا سوى المفتي; لأنني كنت قد ألقيت بنفسي من الشباك وهربت، فسألوا المفتي: أين الرجل الثاني، فضحك المفتي وقال: أنتم سكارى، خُيِّل إليكم أن شخصاً آخر معي في الغرفة، وأنا وحدي، لا أحد معي، فاتهموا رفيقهم بالتخيل من شدة سكره، وانصرفوا. علمت ان قضية الحاج أمين في يد قونصوه المفوض السامي، وهو سفير في الخارجية الفرنسية، والأوراق السرية المتعلقة بقضية المفتي لا يطلع عليها غيره. فقلت لعدنان الأتاسي السفير السوري: أحب أن أتعرّف على قونصوه، فعرّفني عليه. اجتمعت بقونصوه، وكانت القضية السورية قد انحلّت، وبلغ قونصوه أنني شخص عمل شيئاً في هذه القضية، فقلت له: ما مصلحتكم في اعتقال الحاج أمين؟ لقد كانت إنجلترا تشوّش عليكم في قضية استقلال سورية حتى إنكم ضربتم دمشق، وهي تشوّش عليكم باعتقالكم الحاج أمين. إنها تريد أن يبقى معتقلاً عندكم! قال: أنت مخطئ. إنجلترا وأميركا تطالبان باستلامه ونحن نرفض. قلت: إنهم يكذبون; لأنهم لو تسلموه لقامت عليه ضجّة في العالم، تنتقل منكم إليهم. إن لنا قضيتين، قضية سورية، وقد وصلنا فيها إلى حل، وقضية الحاج أمين، وينبغي أن نصل فيها إلى حل; ذلك أن الحاج أمين زعيم الحركة الوطنية ضد الاستعمار، ليس في فلسطين والعالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي; لذلك جعلت إنجلترا قضيته نقطة الجرس الذي تلعب فيه. وإذا كنت غير مقنع بما أقول فخذ موافقة الجنرال ديغول فقط، وقل للسفير البريطاني: سنسلمكم الحاج أمين، وانظر ردّة الفعل، قال: يا أخي لا تحملنا على أمر صعب. قلت: والله إنهم يكذبون. قال: ما دليلك؟ قلت: لما استقللنا قامت ثورة في فلسطين سنة 1936 دعمتها سورية. وكان الفلسطينيون يريدون أن يستقلوا بثورة كما استقللنا نحن بثورة. فلما توقفت ثورتنا من أجل المفاوضات توقفت الثورة في فلسطين، وبدأ المفتي يعدّ لثورة ثانية قبيل الحرب. فإذا كانت الثورة ستتفجّر بعد سنة فاعتقال المفتي يفجرّها في اليوم التالي لاعتقاله. ففكر الانجليز أن يشعروه عن طريق ابنه أنه سيعتقل فاضطر للهرب، وبدأت الثورة الثانية، وجاء إلى بيروت، حتى إذا أعلنت الحرب بدأ الضغط من الإنجليز على لبنان لتسليمه، فهرب إلى العراق حيث انجلترا هناك فما اعتقل في العراق، ولو اعتقل في العراق لقامت ضجة ضد إنجلترا في العالم العربي والإسلامي. لقد طلبه الانجليز من لبنان المسيطرة فيه فرنسا، ولما لجأ إلى العراق المسيطرة فيه إنجلترا لم يطلبوه. وهذا دليلي على أن الإنجليز لا يريدون أن يتعرضوا لنقمة العالم العربي والإسلامي، ويريدون ذلك لفرنسا. ذهب قونصوه وحدّث ديغول بالفكرة التي أبديتُها دليلاً على أن إنجلترا لا تريد تسلّم الحاج أمين، فقال له ديغول: جَرِّب. استدعِ السفير الانجليزي وحدّثه بالفكرة، فاستدعى قونصوه السفير الانجليزي وقال له: لقد كلّفني الجنرال ديغول أن أبلغك بأننا بعدما أعلنّا استقلال سورية لم تعد لدينا رغبة في التدخل في الشؤون العربية، وأننا قررنا إطلاق سراح الحاج أمين وتسليمكم إياه، فأجابه السفير الانجليزي بقوله: يا سيدي أرجوك، أنا عندي تعليمات أننا لا نريد أن نتسلّمه، ونريد أن نطمئن ببقائه عندكم. قال له: بلِّغ حكومتك. فبلّغ حكومته، وجاء الجواب: لا، لا نريد استلامه، نريد فقط أن تطمئنونا بأنه لا يخرج من عندكم! وأبلغ قونصوه الجنرال ديغول جواب الحكومة الانجليزية، فزادت مكانتي عند الجنرال ديغول; إذ رأى سداد رأيي في القضية السورية، وفي هذه القضية الثانية قضية المفتي، كما توثّقت صلتي بقونصوه، وأصبحت أتردد على بيته بعد الامتحانات كصديق، وذلك لاعتقاده بصحة الخطط التي أرسمها.

(3)

 ـ ديغول أمر بتسليم الحسيني لنا وهربناه بطائرة أميركية إلى إيطاليا ومنها إلى مصر بجواز سفر مزور

قلت للسفير السوري: أي بلد عربي يقبل المفتي ستمنعه انجلترا * الفرنسيون حققوا معي وكل ما طلبوه مني إقامة جبرية في بيتي

رواية : د. عبد القدوس أبو صالح إعداد: د.محمد علي الهاشمي

في هذه الحلقة من مذكراته يختتم محمد معروف الدواليبي روايته لقصة تهريب الحاج أمين الحسيني من فرنسا بعد تدخل المفوض السامي الفرنسي قونصوه الذي أبلغ الرئيس شارل ديغول الذي أمر بدوره بتسليم المفتي وتسفيره الى أية دولة عربية تقبله فيما كانت بريطانيا تترصده لتمنع دخوله الى أي بلد عربي خاضع لهيمنتها.

ويروي الدواليبي ان الحاج أمين الحسيني تم تهريبه في النهاية على متن طائرة أميركية الى روما ومنها وصل الى مصر. أما الدواليبي نفسه فقد خضع للاستجواب ويقول انه أصر على الكتمان. ويروي ان اعتقاله كان نوعاً من التوقيف الإداري الذي لا يساعد القانون الفرنسي عليه.

دعا قونصوه السفراء العرب إلى حفلة شاي، وجئت معهم إلى بيته، وقلت له: أي دولة عربية تطلب تسلم الحاج أمين فسلموها إياه، وستجدون انجلترا ستمنعه من الدخول إليها، وبذلك تكونون أنتم قد أعلنتم للناس قاطبة إطلاق سراحه، ولكن انجلترا هي التي لا تريد الإفراج عنه وتقف في وجه لجوئه. وما كان من السفراء العرب غير فخري باشا عن مصر، وعدنان الأتاسي عن سورية، وفؤاد حمزة عن السعودية، وأحمد الداعوق عن لبنان. وقبل حضور حفلة الشاي ذهبت إلى عدنان الأتاسي وأخبرته بأنهم سيتسلمون اليوم الحاج أمين، فكاد يطير من الدهشة والفرح، وما علم بنبأ الإفراج عن المفتي غيره. ولما تكامل جمع المدعوّين أعلن قونصوه أنه مكلف من الرئيس ديغول بتسليمهم الحاج أمين، وكان الحاج أمين موجوداً في غرفة ثانية، وأي دولة تقبل تسلمه يستطيع اللجوء إليها، وفتح الباب وظهر الحاج أمين، وكانت مفاجأة السفراء جميعاً ما عدا عدنان الأتاسي. وذهب السفراء وأبرقوا إلى حكوماتهم بالنبأ، وجاءت أجوبة الدول العربية مصر وسورية ولبنان إلى عدنان الأتاسي بأنهم كلّفوا رياض الصلح بأن يأتي إلى فرنسا ليرى الحاج أمين. وفي اليوم الثاني طلبت إخراجه من المعتقل إلى بيت خفيّ، إذ لم يعد من الجائز أن يبقى في المعتقل بعد الإعلان عن تسليمه إلى إحدى الدول العربية، وكانت ملاحظة الفرنسيين أنه معرّض للخطر، فقلت: نستأجر له بيتاً خفياً ينتقل إليه، وأنتم تساعدوننا في حمايته. وذهبت إلى خارج باريس واستأجرت بيتاً، وقلت لهم: يلزمنا هوية باسم مستعار لهذا الساكن في البيت، ويلزمنا أيضاً أسلحة، وأنا سأحضر حراساً من عندنا من شمالِ أفريقيا. نقل المفتي إلى بيت خفي

* وتسلّمتُ الحاج أمين، ونقلته إلى البيت الجديد الذي لا يعرف عنوانه أحد سوى قونصوه ورئيس الشرطة العسكرية الذي يعطينا الحماية اللازمة من سلاح فقط، أما فرنسا فنحن مطمئنون لها في عهد ديغول، هكذا جاء التبليغ، ووقفت الأمور عند هذا الحد. وبعد يومين أو ثلاثة كتبت الصحف أن فرنسا خارجة من الحرب محتاجة إلى قرض، وكلفت سفيرها في أميركا أن يطلب قرضاً منها. وبعد شهر تقريباً نشرت الصحف أن أميركا اعتذرت، فتأثر ديغول لذلك، وكان حوله يهود، أشاروا عليه أن يبعث إلى أميركا سفيراً فوق العادة هو ليون بلوم اليهودي، الذي كان رئيساً للوزارة، ووضعت المعاهدة السورية ـ الفرنسية في عهده، فهذا السفير يستطيع الحصول على القرض; لأنه يهودي. واستجاب ديغول لهذه المشورة، وأعلنت الصحف بعد شهرين أن ليون بلوم قد تعين سفيراً فوق العادة، وأنه ذاهب لهذه المهمة التي لم ينجح بها سلفُه. وهنا قلت للحاج أمين: اختاروه يهودياً، وسيستعين باليهود، فإذا حالفه التوفيق فأنت الضحية والثمن. ولذلك دعنا نعد العدّة من الآن للرحيل. كان الحاج أمين لما تسلمناه ودخل البيت الخفيّ خاضعاً لمراقبة شديدة، فالفرنسيون اشترطوا علينا ألا يدخل عليه أحد، سوى المرأة الخادمة التي أرسلوها هم لخدمته وهي تابعة للمخابرات، والطباخ التونسي الذي كان معه في المعتقل، وهو تابع للمخابرات أيضاً. وفهمنا يومها أن هذين للمراقبة، ولذلك كنت أتهيب أي تصرف يؤخذ عليّ، وأمشي في خططي على مراحل. ففكرت بالتخلص من هذه المراقبة الداخلية. وكنت بحاجة إلى صورة للمفتي وهو حليق، لأضعها على جواز مزوَّر، فإذا أقدمت على حلق لحيته لفتُّ نظر المراقبة، وأثرت لديها التساؤل: لماذا حلق ذقنه؟ ولهذا ذهبت إلى أكبر مصوّر أرمني، يعدّ أحد المصورين الستة في العالم، وكنت تعرّفت عليه من قبل، ومعي صورة للحاج أمين، فقلت له: هذه صورة والدي، أود أن أحتفظ بها للذكرى، وأود أن تخفّف اللحية قليلاً بعمل تشذيب (رتوش) أنت قادر عليه بوصفك مصوراً كبيراً. فأجرى الرجل عملية التشذيب (الرتوش) فظهرت اللحية خفيفة. وبعد ذلك انتقلت إلى مصور آخر، وقلت له ما قلته للمصور الأول، على أن تزيل اللحية تماماً بعملية (الرتوش)، ودون عمامة. وبذلك هيأت الصورة المطلوبة. جواز مزور للحسيني

* وكنت قد سرقت جواز سفر من السفارة السورية. أما جواز سفري فقد أخذت عليه تأشيرة خروج بالسرقة أيضاً; لأنني ممنوع من الخروج إلا بإذن خاص. صحيح أنني ما كنت موقوفاً، ولكن تحركاتي مراقبة، وخروجي لا يكون إلا بإذن خاص. وقد دبّرت هذه التأشيرة مع بنت صديقة لأحد إخواننا، كانت الأختام بيدها، بعد أن أكرمناها، فوضعت الموافقة على الخروج من دون استئذان. وجئت إلى الجواز الجديد المسروق وجوازي، وكانت الجوازات الجديدة في ذلك الحين مخروزة خرزاً، ففككت خرزة الجوازين، ونقلت الورقة التي في جوازي وعليها تأشيرة الخروج إلى الجواز الجديد، ولصقت صورة الحاج أمين التي أعددتها كما أسلفت، وهو حليق ودون عمامة. وبذلك كان بيد المفتي جواز سفر عليه صورته، ولكن الاسم: معروف الدواليبي، الذي يؤذن له بالخروج بالتأشيرة التي سبق تدبيرها. وجئنا بعد ذلك إلى تدبير أمر الحجز بالطائرة، وما كان هناك طيران مدني، كل الطيران كان عسكرياً، فرنسياً أو أميركياً. حجزت له بالرشوة والوساطة على الطيران الفرنسي وبلّغتُه فتخوّف; لأن الطيران الفرنسي سيخرج من فرنسا ويمر بتونس إلى ليبيا إلى القاهرة حتى يصل إلى سورية، ولذلك تخوّف من كثرة المراقبة، وعدل عن السفر في الطيران الفرنسي. وأرسلنا شخصاً من إخوان الحاج أمين اسمه أكرم الجاعوني إلى المطارات ليصف لنا المراقبة فيها، فذهب وأبرق لنا: أنه لا توجد مراقبة ولبثنا ننتظر، ونتتّبع الأخبار، إلى أن أعلنت الصحف والإذاعات أن ليون بلوم نجح في مهمته، وحصل على قرض لفرنسا من أميركا، وأنه سيصل إلى فرنسا في يوم كذا. أخبرت المفتي بذلك فانزعج كثيراً، وقلت له: ليس أمامنا إلا الطيران الأميركي، إذ يحسن ألا نلفت الأنظار بالسفر على الطيران الفرنسي بعد أن احتلنا عليهم بواحدة والطيران الأميركي لا يسمح في كل رحلة إلا براكب مدني واحد، فتوجّس المفتي خيفة، ولكنني قلت له: يجب أن تمشي هذه الليلة; وفيها طائرة أميركية مسافرة. وذهبت إلى مكتب الطيران الأميركي، وكان مديره فرنسياً، وقلت له: أنا أريد السفر إلى القاهرة، وبسرعة، لأني رجل أعمال تاجر. قال: يا أخي هذه طائرة عسكرية، ولا يُسمَح فيها إلا بكرسي واحد لمدني، وبإذن من السفارة الأميركية، والأمكنة محجوزة من شهر مايو (أيار) إلى نهاية أغسطس (آب). قلت له: يا أخي أنا عندي صفقة تجارية سأربح منها عشرة ملايين فرنك، إذا وصلت غداً إلى القاهرة، وإني مستعد أن أعطيك مليون فرنك، إذا حققت لي الحجز، وأخرجت له مائة ألف فرنك دفعة على الحساب. قال عد إليّ بعد ساعة. وبعد ساعة عدت إليه فقال: دبّرتُ لك الحجز، على أن تأتي في منتصف الليل، أعطني رقم هاتفك، فأعطيته، وذهبت إلى البيت. كان لا بد لي من التخلص من المراقبين: الخادمة والطباخ، بل كان من الضروري جداً ألا يكونا موجودين حين تحين ساعة الرحيل، ويحلق المفتي لحيته، ويصبغ شعره باللون الأشقر، ويرتدي بزّة (طقماً) ذات لون بُنّي فاتح أشقر اللون، ويضع قبعة على رأسه، وهذا ما كنت أعددته لساعة الرحيل. كانت مراقبة الخادمة والطباخ محكمة مستمرة; فالخادمة تقوم بعملها من الصباح حتى المساء أما الطباخ فكان يأتي في الصباح أيضاً. فكنت أرسلهما أو أرسل أحدهما ليجلب لنا من القرية الفلانية زبدة وجبنة وبيضاً; لأن كل شيء في الحرب خاضع للسوق السوداء، ومفقود، وكنت أفعل هذا بين حين وآخر، وحينما تغيب الخادمة يقوم الطباخ مقامها في التنظيف، وحين يغيب الطباخ تقوم هي مقامه، وبذلك تبقى التقارير من الداخل مستمرة. وقبل السفر بيوم جئت إلى الخادمة وكانت قد نظفت البيت، فأعطيتها مبلغاً من المال، وقلت لها: لا تحضري غداً وسينوب عنك زميلك، وتذهبين إلى القرية الفلانية وتشتري لنا كيت وكيت، وسأعطيك إجازة مدتها خمسة عشر يوماً. وجئت إلى الطباخ وقلت له: لا تأتِ غداً، وزميلتك ستطبخ، واذهب إلى القرية الفلانية وأحضر لنا بعض الحاجات، وهكذا تخلّصت منهما وغيّبتهما عن البيت يوم السفر، لئلا ينكشف أمر تهريب المفتي إلا بعد عودة أحدهما إلى البيت. وأخذت سيارة دبلوماسية من عدنان الأتاسي، وكنت قد تعلمت قيادة السيارة، وخرجت بها في منتصف الليل، ودخلت على المفتي في البيت الذي هو فيه، وأجرينا الإجراءات التي ألمعت إليها آنفاً، وبعد أن ارتدى البزّة ذات اللون البنيّ الفاتح، في سمته الحليق وقبعته وبشرته الحمراء أصبح في هيئة لو فاجأني بها ما عرفته. وقلت للإخوان: الليلة سيكون تهريب المفتي، فإذا براسم الخالدي يبكي ويقول لا أترككم تسافرون حتى أسافر أنا، إذا سافر المفتي فسيعتقلونني غدا. وكنت دبّرت جواز سفر لراسم الخالدي، فقلت له: هيا.. فركب إلى باريس، ومنها إلى مرسيليا حيث يركب الباخرة إلى بلاده.

وكان ترتيبي لهروب المفتي أن آخذه إلى بيتي في الساعة التاسعة، ومن هناك ننطلق إلى المطار، ولكننا ما كدنا نصل إلى البيت حتى رنّ جرس الهاتف يخبرني أن زوبعة هبت في لندن، والطائرة لا تستطيع الخروج إلا في الساعة الثامنة من صباح غد. واضطررنا إلى النوم في بيتي تلك الليلة، وفي الساعة السادسة صباحاً علمنا أن الزوبعة مستمرة، وأن زمن مجيء الطائرة غير معروف ورحنا نراقب محطات الإذاعة، ونستعرض المراحل السابقة التي جرى فيها تهريبه وقُبِض عليه، وما وصلنا إليه الآن من إعداد لتهريبه، فقد هيأت له على مراحل: الجواز والصورة والتأشيرة كما أسلفت، كل مرحلة مستقلة عن الأخرى، كنت أقوم بها بنفسي; لأنه لا يجوز أن يطلع عليها أحد. والشخص الوحيد الذي كان يساعدني هو أم محمد. نقل المفتي إلى روما بطائرة أميركية

* ويسّر الله تسفير المفتي على طائرة أميركية إيطاليا (روما) إلى القاهرة. ولم يكن من الدول العربية السبع دولة مستعدة لاستقباله وحمايته غير مصر. والملك فاروق كان يسعى لحمايته ويحذر من الإساءة إليه. ولذلك فكرنا بنقله إلى مصر، فهرَّبنا رجلاً من جماعة المفتي اسمه أكرم الجاعوني إلى مصر، ليتصل بشخص فيها ممن يعتمد عليهم المفتي من التجار اسمه علي رشدي، ليهيئ مكاناً لاختفائه حين وصوله مصر، على أن يبقى هذا كله سراً لا يعلم به أحد. أما التخطيط لسـفري والــذي أصبح للمفتي فكان الحجز إلى سورية ولكن جوازي مكتوب فيه TRANSITE MOIS أي مرور بالقاهرة بدون إقامة. فغيّرت العبارة إلى TROISMOIS، أي إقامة ثلاثة أشهر; وذلك بالاستعانة بالمزيل في طمس الحروف وتعديلها وإزالة الخط من فوق MOIS، وتثبيت الحروف بلون الحبر نفسه. وبذلك صار لديّ إقامة ثلاثة أشهر في القاهرة بدلاً من ترانزيت، وأخذ ذلك كله المفتي.

* ألم يتخذ الفرنسيون أي إجراء قضائي؟ ـ لا، لأنني لست موظفاً عندهم، وإنما أبقوني في البيت.

* ألم يؤاخذوك بإعطائك جوازك إلى الحاج أمين؟ ـ ما كانوا يعرفون.

* ولما عرفوا بعد شهر من تهريبه ألم توجه إليك تهمة مساعدته على الهرب؟ ـ كانت الأوضاع قد تغيرت، والأفراح أقيمت في العالم العربي، حتى إن ديغول كان في ذلك الحين من أنصار التهريب والعالم العربي قدّر موقف فرنسا. ولا شك أن الرأي العالمي أدرك أن ديغول سـدّد ضربتين لكبرياء انجلترا، عبّر بهما عن كراهيته لها، الأولى إعلان استقلال سورية ولبنان، والثانية تهريب الحاج أمين وإفلاته من يد انجلترا، وقد تم هذا كله بما بذلنا من مساعٍ سلف ذكرها. وجاء التحقيق، وكل ما طلبوه مني إقامة جبرية في بيتي. وأقبل مراسلو الصحف العالمية في أميركا وغيرها على باب البناية التي أسكن فيها، يريدون أن يسألوني كيف خرج المفتي وغادر فرنسا؟ وتضايق الفرنسيون من هذه الزحمة الصحافية، ومنعوا بعض الوفود الصحافية من المرابطة أمام باب البناية، وطلبوا مني أن أخرج إلى بيت آخر يكون تحت المراقبة بعيداً لا يعرفه أحد، فذهبت إلى بعض ضواحي باريس التي تبعد 30 كم عن المدينة، وحجزت غرفة في فندق لي ولعائلتي وأمضينا المدة المطلوبة.

الدواليبي وديغول

* طلب الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول مع وزير الخارجية الفرنسي آنذاك جورج بومبيدو الاجتماع بي لأفهمه القضية السورية.. دهشت عندما اكتشفت ان الرجل الذي خرج لاستقبالي في الخارجية الفرنسية هو الذي ضربته يوم سحبوا منا هويّاتنا وجوازاتنا.. قلت له: أنا أعرفك ومن المصلحة قبل البدء بالحديث أن تعرف من أنا، أنا جندي مجهول قاوم احتلال فرنسا لبلاده. وأنت جندي قاوم الاحتلال الألماني لبلاده. إلا أن الاحتلال كلما زادت مدته زاد الشعور الوطني لدى المقاومين، فأنا أعرفك وأعرف وطنيتك وأقدرك، لقد خرجت على الاحتلال الألماني لبلادك، ولكن وطنيتك وشعورك الوطني بنسبة ست سنوات، وأنا وطنيتي وشعوري بنسبة ربع قرن. فإذا كنت تريد أن نصل إلى درجة واحدة في المشاعر الوطنية ضد المحتل، فتعال ندعو الله أن يعيد هتلر إلى الحياة، ويحتل فرنسا مرة أخرى، وتصبروا على الاحتلال خمساً وعشرين سنة حتى نتساوى في الشعور بالنقمة على المحتل، فقال: لا، يكفينا خمس سنوات، وقلت: ونحن يكفينا 25 سنة. هكذا افتتحت الحديث بترطيب الجو، واسترسلنا في قصة الاحتلال الفرنسي لسورية. قال: لقد أعلنت إنجلترا وأميركا استقلال سورية بعد ثورة العراق سنة 1941، من دون أن يستشيروا الجنرال ديغول. والآن بعد أن انتهت الحرب طلب ديغول أن تُوقَّع معاهدة كمعاهدة 1936 فرفض السوريون. وجاء الإنجليز والأميركان إلى جيوشنا فاعتقلوها. فنحن لا نستطيع أن نخرج من سورية بهذا الذل، وإنجلترا تدعونا اليوم إلى اجتماع ثلاثي للبت في قضية سورية، تحضره أميركا وإنجلترا وفرنسا. وديغول يرفض هذه الدعوة; لأنهم تجاهلوه ولم يسألوه الرأي، ولذلك هو يرفض دعوتهم اليوم، ولا يقبل إلا باجتماع خماسي، يكون فيه الاتحاد السوفياتي والصين، أي الدول الخمس، فقلت له: يا معالي الوزير، بعد أن وقعت فرنسا معاهدة 1936، عادت وسحبت توقيعها تحت تأثير اليهود، فهل اطلعت على ما تم في تلك المرحلة؟ وشرحت له ذلك، ثم قلت له: عندنا مثل يقول: لا يلدغ المؤمن جحر مرتين، ولقد لدغنا منكم لدغة واحدة كافية، ولا يمكن أن تجد سوريّاً واحداً يقبل أن يعيد معكم الكرّة. قال: لكننا نحن الآن غير فرنسا القديمة. قلت: دعنا يا معالي الوزير نتكلم بصراحة ووضوح وبشعور ودي، نحن نعطف على قضيتكم ونتفهّم تخوفكم، وأرجو أن تفهمونا جيداً. أنتم ترفضون الاجتماع الثلاثي، ولكن في النهاية ستخرجون من سورية. أما المعاهدة فاغسلوا أيديكم منها، فلن تقبل سورية بها. قال: إذاً فلنخرج، ولكن لا يمكن أن نجتمع مع خصمين لديغول: إنجلترا وأميركا. أما إذا كان الاجتماع بحضور صديقين آخرين: الاتحاد السوفياتي والصين فيمكن أن نجتمع. قلت له: إذاً دعنا ندرس الموضوع برويّة وأناة. أنتم ستُجبَرون على الخروج من سورية في الأحوال جميعها ولكن أتعلم إذا حضرتم الاجتماع الثلاثي ماذا نقول نحن؟ سنقول عندئذ: الفضل لإنجلترا وأميركا، وليس لكم. ولو اجتمعتم الاجتماع الخماسي سنقول: الفضل لإنجلترا وأميركا والاتحاد السوفياتي والصين، فأنتم في الحالتين خاسرون، ونحن كنّا سندفع العمولة لدولتين، فجعلتمونا ندفع لأربع دول. فما رأيك أن ندفع العمولة لكم وحدكم؟ قال: وهل هذا ممكن؟ قلت: نعم، لقد أهانت إنجلترا وأميركا ديغول إذ تجاهلوه ولم يستشيروه في قضية استقلال سورية، وأثاروا الرأي العام العربي ضده، إذ ضرب دمشق، وفوق ذلك حملوكم على اعتقال الحاج أمين الحسيني، وبذلك وجّهوا ضربتين على الرأس; فقضية استقلال سورية وقضية الحاج أمين قضيتان ستبقى إنجلترا تستخدمهما لتسويد سمعتكم في البلاد العربية قاطبة، بحيث لا تستطيعون التحرك فيها. وأنا بصفتي رئيساً لجمعية الطلاب العرب حريص على أن أنشئ معكم صداقة وأضع بين يدكم طريقة للحل الأمثل بيننا وبينكم، تعلنون قرار الانسحاب من سورية في أقرب وقت، وتعترفون باستقلال سورية، وتقدمون معدّات الجيش الفرنسي وإمكاناته هدية للجيش السوري، من دونما حاجة إلى اجتماع أو توقيع أو معاهدة، وبذلك توجّهون صفعة موجعة لإنجلترا، وتستغنون عن الاجتماع الثلاثي والاجتماعي الخماسي. وعندئذ يمكننا القول: إن فرنسا اليوم غير فرنسا الأمس، وتنقلب عداوتنا إلى صداقة. وهنا انفجر بومبيدو ضاحكاً، وقال والابتسامة تعلو شفتيه: يأتي على الإنسان كثير من الأوقات يكون فيها بليداً حيواناً لا يرى الحقيقة! معك الحق. قلت: أقبلتَ الفكرة؟ قال: نعم، وسأتبنّاها. قلت: بذلك تغيظون إنجلترا، وتكسبون سورية إلى جانبكم، وتثبتون للعالم بإعلانكم استقلال سورية من طرف واحد: أن فرنسا اليوم غير فرنسا القديمة. قال: انتظر مني هاتفاً غدا، وفي طريق عودتي إلى البيت مررت بعدنان الأتاسي، وقصصت عليه ما جرى، فلم يصدق، وظل متخوفاً من اعتقالي. وفي اليوم الثاني هتف لي الوزير بومبيدو قائلاً: أهنئك، لقد قبل ديغول الفكرة، وكلف الكونت سترولو بالسفر إلى لبنان، ليعلن من هناك استقلال سورية من دون قيد ولا شرط ولا مفاوضات.

* هل أعلنت فرنسا استقلال سورية ولبنان في آن واحد؟

ـ نعم، في آن واحد.

* والجلاء متى تم؟

ـ إعلان الاستقلال كان في سنة 1945. أما الجلاء فقد تم في سنة 1946 . وبقي عليّ بعد إعلان استقلال سورية ولبنان أن أتفرّغ لقضية الحاج أمين وبيتي المصادر. أما البيت فقد وكلت المحامي أوجار فاستطاع أن يحصل على قرار بإخلاء البيت، وأخرِج الشخص الذي كان يحتلّه، وباستعادة البيت لم يعد ثمة مجال لاعتقالي أو ملاحقتي، ولا سيما بعد أن عُرِف في الأوساط السياسية أنني أصبحت عند ديغول الشخص الذي يُسمَع كلامه.

(4)

 دخلنا معركة انتخابية واحدة ثم وقع انقلاب حسني الزعيم لدعم إسرائيل

عدت إلى سورية بالباخرة وأمر ديغول بأن يعطوني مقصورة من الدرجة الأولى

رواية : د. عبد القدوس أبو صالح

إعداد: د.محمد علي الهاشمي

في هذه الحلقة من مذكراته يروي محمد معروف الدواليبي رحلة عودته من فرنسا الى سورية ويقول انه بعد أن هدأت الضجة حوله لا سيما اثر قضية تهريب الحاج أمين الحسيني طلب السماح له بالسفر. ويقول انه كان على علم بما طرأ على الجو من تطورات ومخاطر، وقدّر خطورة حركة وكيد الصهيونية العالمية، ولا سيما بعد معرفتها باسمه ولذلك كان عليه أن يسافر بأسرع وقت ممكن.

وفي سورية خاض الدواليبي أول معركة انتخابية وبعدها حدث انقلاب حسني الزعيم، وحُلّ المجلس. ولما قُضِي على حسني الزعيم اشترك في الانتخابات للمرة الثانية باسم حزب الشعب لتشكيل هيئة تأسيسية في سنة 1950، وكان رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي. العودة الى الوطن

* عندما هدأت الضجة حولي رجعت إلى باريس، وطلبت السماح لي بالسفر، وكان ديغول في غاية السرور مما جرى. ونبّهني الفرنسيون من خطر الاعتقال، وكنت على علم بما طرأ على الجو من تطورات ومخاطر، وأقدّر خطورة حركة وكيد الصهيونية العالمية، ولا سيما بعد معرفتها اسمي، ولذلك كان عليّ أن أسافر بأسرع وقت ممكن، ولكن لأن سفري غير ممكن إلا بالباخرة، وقد تأخر بعض الوقت.

* هل دخلتم معركة انتخابية بقائمة مرشحين كاملة باسم حزب الشعب في مواجهة الحزب الوطني قبل انقلاب حسني الزعيم؟ ـ نعم، دخلنا معركة انتخابية واحدة. وبعدها حدث انقلاب حسني الزعيم، وحُلّ المجلس. ولما قُضِي على حسني الزعيم، وتنادينا للاجتماع لانتخاب مجلس يضع دستوراً جديداً، اشتركنا في الانتخابات للمرة الثانية باسم حزب الشعب لتشكيل هيئة تأسيسية في سنة 1950، وكان رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي.

انقلاب حسني الزعيم

* حدث انقلاب حسني الزعيم عقب تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، ذلك أن نقمة الشعوب على الحكام كانت شديدة بسبب ضياع فلسطين وانتصار العصابة اليهودية. وظهرت الرغبة العامة بوجوب التغيير، لأن الدول العربية السبع دخلت المعركة ضد إسرائيل بسبع قيادات، ودخلتها إسرائيل بقيادة واحدة، ولذلك كانت الجيوش العربية غير منسجمة ولا مهيأة لمعركة النصر. وظهرت هذه النقمة في الوقت الذي كان رجال وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي ايه» في بدء نشاطهم وتخطيطاتهم عقب الحرب، وبعد قيام إسرائيل، انتهزوا فرصة انتشار النقمة على الحكام لضرب سورية بإحداث انقلاب فيها يمتص نقمة الشعب الناقم.

وإذا رجعنا إلى كتاب مايلز كوبلاند (لعبة الأمم)، وكوبلاند هذا أحد مؤسسي «سي آي ايه» بعد قيام إسرائيل، فإننا نجده يقول فيه: كنا نفكر بأن نبدأ بالانقلاب في المملكة العربية السعودية، ولكن كنا نعتقد أن لا جدوى في هذا الانقلاب، لأن السعودية كانت لا تزال معزولة عن العالم. والتفكير ببدء الانقلابات في السعودية من تأثير الصهيونية العالمية في «سي آي ايه»، لأن السعودية هي الدولة الوحيدة التي وقفت موقفاً صريحاً حازماً ضد تأسيس دولة إسرائيل، وأفهمت ذلك روزفلت الذي استطاع محادثتها في أثناء الحرب، بخلاف الدول العربية الأخرى، إذ كانت كلها تحت الاستعمار. ويضيف كوبلاند: ولذلك فكرنا أن يكون الانقلاب في العراق، ولكن وجود الانجليز وعرقلتهم لمساعينا من جهة، وحرصنا على ألا نخسر صداقة العائلة الهاشمية من جهة أخرى، كل هذا صرفنا عن العراق ووجهنا إلى سورية، وكان انقلاب حسني الزعيم. وكنت عضواً في المجلس النيابي، فعرض علينا اتفاقيات للتسوية النقدية بيننا وبين فرنسا، لأن نقدنا كان يصدر من البنك اللبناني الفرنسي مضموناً بالذهب، وكنا نطلب حسب النص المكتوب على الليرة السورية أن تعيد فرنسا قيمتها ذهباً حتى تستطيع سورية إصدار عملتها مغطاة بالذهب، ورفضت فرنسا وأصرت على أن تعطينا ما يقابله ونشتري به بضاعة من عندها. وفي الوقت نفسه كانت شركة التابلاين تأسست لضخ البترول من المملكة العربية السعودية ماراً بالأردن والجولان على الحدود التي توجد فيها إسرائيل. وكنت أنا رئيس اللجنة الاقتصادية والاتفاقيات. كانت عندنا اتفاقية التسوية النقدية بيننا وبين فرنسا، واتفاقية التابلاين، فرفضنا بإجماع اللجنة الاتفاقيتين، وحجتنا أن إسرائيل قد قامت فلا يجوز أن يمر هذا الخط ومعه رجال الصيانة من الأميركان في المنطقة العسكرية التي يجب أن تكون مراقبة وسرّيّة، ورفضنا أيضاً مشروع التسوية النقدية التي وقعها آنذاك جميل مردم، على أن يكون الذهب في مقابل البضاعة. وكنا تقدمنا بمشروع إقامة اتحاد عربي كما أسلفت، فجاء رفض هاتين الاتفاقيتين، ومشروع الاتحاد العربي برهان على أن سورية ستكون قائدة معركة المصير والكيان المنتظر، وهذا ما لا يرضي الأعداء المتربصين بنا، فحدث الانقلاب، وكان خديعة لتمرير المخططات التي كنا نقف في وجهها، ففي اليوم السادس من الانقلاب وُقِّعت الاتفاقية مع التابلاين، ووقعت اتفاقية التسوية النقدية مع فرنسا، وتنازلت سورية عن نهر الدان لإسرائيل. وهكذا كان انقلاب حسني الزعيم مخططاً لدعم إسرائيل، وتحقيقاً لمصلحة فرنسا أيضاً، لأنه كان في الجيش الفرنسي ضابطاً له صلات وثيقة بالفرنسيين ـ وعرفوا كيف ينتهزون فرصة النقمة العامة على الحكام التي لم يسلم منها أحد كشكري القوتلي وجميل مردم وغيرهما. وقد بلغت النقمة عليهم أن ظهرت معارضة لتجديد مدة حكم شكري القوتلي التي انتهت في أثناء الحرب مع أن الأكثرية صوتت بالتجديد له. ولكن الخلاف بين الشبيبة والشيوخ كان بارزاً أيضاً، واستغله حسني الزعيم، ولذلك دعانا في صبيحة الانقلاب، وقال: إننا قمنا بالانقلاب لتحقيق رغبة الشباب.

* هل كان رئيس وزرائه حسني البرازي؟ ـ لما جعل حسني الزعيم نفسه رئيساً للجمهورية، كان البرازي أميناً عاماً في القصر الجمهوري، فصار رئيس وزارة. وبعد أن جعل حسني الزعيم نفسه رئيساً للجمهورية بانتخابات مزيفة بدأ يتقرّب من مصر ضد العراق، وكانت العراق تعمل سراً على إزالته وضم سورية إلى العراق، وكان عبدالإله وصياً على عرش العراق، فإذا ضُمّت سورية إلى العراق، كان من الممكن فصلها مرة ثانية، وبذلك يكون عرش لعبد الإله وعرش لابن فيصل. كانت العراق تسعى لهذا الهدف، فهيؤوا سامي الحناوي الذي قام بالانقلاب على حسني الزعيم. انقلاب سامي الحناوي

* كان الحناوي على صلة مع العراق، ولكنه لما قام بالانقلاب دعا لوضع دستور جديد، وأعلن أنه لن يتدخل. وهنا طالب العراق بضم سورية إليها. واختلفت الآراء ما بين داع إلى انتخابات ووضع دستور جديد، وبين داع إلى الانضمام إلى العراق قبل الانتخابات والدستور. ولما دعانا سامي الحناوي لم نرض إلا بانتخابات جديدة. وتمت الانتخابات وقضت أن نضع الدستور، وتبين لنا أن الحناوي كان على تفاهم مع العراق، وأن حسني الزعيم كان على تفاهم مع مصر. ولما تمت الانتخابات التي جرت على أنها ستفضي إلى هيئة تأسيسية تضع دستوراً للبلاد، كثرت الوفود بين العراق وسورية ذاهبة آيبة من أجل وضع دستور ينص على الاتحاد مع العراق. وكان العراق مرتبطا بمعاهدة مع إنجلترا، ولذلك لم تلق الرغبة بالوحدة مع العراق أي تجاوب في سورية. وحرصنا نحن بعد الانتخابات على وضع مادة وحيدة في الدستور قبل إخراجه: (سورية جمهورية). لكي نغلق الباب أمام الفريق الآخر، وصوّتنا على هذه المادة أولاً، على أن نتمّ مواده الأخرى فيما بعد، وانتخبنا هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، وكان من أنصار فكرة العمل مع العراق، لأنه كان رئيساً للوزارة في عهد فيصل، ولكن الفكرة التي سادت في سورية أن العراق مرتبط مع إنجلترا، فكيف ننضم إليها؟ وإذا كانت هناك نقمة على الحكم في سورية التي ذهبت فلسطين في عهده، فإن العراق لم يقاتل البتة، وكلمتهم (ماكو أوامر) مشهورة متداولة على الألسنة للتندر!. وبذلك أخفق الحناوي في مهمته، وقطعت الطريق على المساومات والمؤامرات. وتبين لنا فيما بعد أن تفاهماً قام بين الفرنسيين المتخوفين من ضم سورية إلى العراق وبين أديب الشيشكلي الذي جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري أيضاً، على أن يضم العراق إلى سورية، وليس العكس. انقلاب أديب الشيشكلي

* ما تحليلكم لدوافع انقلاب أديب الشيشكلي، هل كانت وراءها فرنسا؟ ـ في سنة 1950ابتدأت الخلافات بين محمد الخامس ملك المغرب وبين فرنسا، وقامت الثورة الجزائرية، وقام تحرك في تونس ضد فرنسا أيضاً، وكانت فرنسا تقابل هذه التحركات كلها بالشدة والبطش والقمع. وكانت سورية الدولة الوحيدة التي ترفع صوتها بمهاجمة فرنسا. وكانت خطاباتي ضد فرنسا شديدة واضحة، فقد هاجمت موقفها من الجزائر، وهاجمت مشروع معاهدة ابن عمار في تونس، وهاجمت موقفها من السلطان محمد الخامس في المغرب. وكنت ما بين سنة 1950إلى نهاية سنة 1952انتقلت من وزير في وزارة خالد العظم إلى رئيس مجلس النواب. وكان هذا التقدم مني يضايق فرنسا ومن كان على مزاجها، حتى إن فوزي سلو في حكومة ناظم القدسي اشتد في الهجوم عليّ، وحجته كيف ألقي خطاباً ضد فرنسا، ولا أحد يعطينا السلاح سواها؟ وتبين بعد ذلك أن فرنسا كانت تهيئ أديب الشيشكلي ليقوم بانقلاب، واشترطت عليه أنه إذا سكت عن شمال إفريقية سهّلت عليه ضم العراق إلى سورية.

ثورة الدروز

* وماذا عن ثورة الدروز في عهد الشيشكلي وقمعه إياها؟ ـ انكشف للعراقيين أن أديب الشيشكلي اتصل ببعض الضباط العراقيين الذين كانوا ملحقين عسكريين في سورية، وتفاهم معهم على إحداث انقلاب في العراق وضمه إلى سورية، على أن يجعل الضابط الذي يقوم بالانقلاب نائباً لرئيس الجمهورية. وصادف أن الضابط الذي اتصل به الشيشكلي كان من أنصار القصر الملكي في العراق. فبلّغ الخبر إلى القصر وكتمه عن غيره. وطُلِب إليه أن يقبض من الشيشكلي المبلغ المتفق عليه ـ وكنت أنا في المعتقل ـ واتصل العراقيون بهاشم الأتاسي واتفقوا معه على أن يحدثوا ثورة في جبل الدروز عن طريق منصور بن سلطان باشا الأطرش ضد الشيشكلي، برئاسة الحكومة السورية غير المستقيلة، وقالوا لهاشم الأتاسي: أرسل لنا مندوباً بالنيابة عنك وسنقبل به، فأرسل إليهم صبري العسلي ليتفاوضوا معه على تفاصيل بدء الثورة في جبل الدروز. في هذه الأثناء كان أديب الشيشكلي يفاوضني في السجن، بوصفي رئيس الوزارة غير المستقيل، ويسألني: ماذا تريد؟ وأجبته: أن تعيد السلطة إلى الشعب، وبعد ذلك نتحدث في التفاصيل، فأطلق سراحي، وعرفت أن هناك ترتيباً واتفاقاً على القيام بالثورة بين العراق ومنصور بن سلطان باشا الأطرش. ودعينا للاستفتاء على الدستور الذي وضعه أديب الشيشكلي. وكان المؤتمر الأول في حمص الذي تداعينا إليه، ولم يحضره صبري العسلي ولم يعرف سبب تغيبه. وفي مؤتمر حمص اتخذنا قراراً برفض الدستور الذي اقترحه أديب الشيشكلي، وفي آخر المؤتمر جاءني رسول من العراق يقول: إنا قبلنا أن يكون صبري العسلي رسولاً إلينا لأنك كنت معتقلاً، ولما علمنا بالإفراج عنك رددنا صبري العسلي. وبينوا لي هدفهم من التعاون معنا ضد الشيشكلي، لأن فرنسا اتصلت به ليحدث انقلاباً في العراق بالاتفاق مع انجلترا وأميركا فقرَّرنا أن نزيله. فقلت لهم: ولكنكم تعلمون أني خصمكم، وقلتم عني الوزير الأحمر، فأنا لا أقبل بوحدة معكم مع وجود النفوذ الانجليزي في العراق، ثم إن أميركا ضدي. قالوا: لا نريد منك شيئاً، ولقد تفاهمنا مع أميركا وانجلترا على مجيئك ويكفينا أنك لست متهماً بأنك صديق للعراق، وتريد أن يزول أديب الشيشكلي، ونحن نريد أن يزول أيضاً، لأنه يريد أن يقوم بانقلاب علينا بالاتفاق مع فرنسا في سبيل سكوته عن فظائعها في شمال إفريقيا بينما تقف أنت أمام فرنسا وتندد بها. فبيّنت لهم أخطاء الثورة ونقاط الضعف فيها، وقلت لهم: خطتكم لن يحالفها النجاح، وأنا عندي خطة أخرى أفضل منها، وشرحتها لهم فرفضوها. وأخفقت ثورة جبل الدروز. وعندئذ شرعتُ بتنفيذ خطتي، واعتقلنا جميعاً، وانكشف أمر الاتصال بالعراقيين.

* ما الترتيبات التي اتخذتموها بعد إخفاق ثورة جبل الدروز؟ ـ كانت الترتيبات إقلاق الأمن، وكنا نجري اتصالات ونحن في السجن مع رؤساء القطع العسكرية، فاتفقنا مع رئيس القطعة في منطقة دير الزور، ومع رئيس القطعة في حلب فيصل الأتاسي، ومع رئيس القطعة في حمص محمود شوكت، وكذلك في اللاذقية. اتفقنا مع رؤساء المراكز العسكرية الأربعة هؤلاء ألا يتحركوا حتى تقوم الاضطرابات في دمشق ـ وكنا أعددنا للأمر عدته، وقمنا بالاضطرابات وإلقاء متفجرات في دمشق، فاستعان أديب الشيشكلي بالجيش لقمع هذا الاضطرابات، فطلب من محمود شوكت إرسال قوة إلى دمشق، فقال له محمود شوكت: أنا مع دمشق، مع الاضطرابات، وطلب من غيره فقال: أنا مع دمشق مع الاضطرابات ـ وهكذا أذيع بيان الجيش بدعوة الشيشكلي إلى حقن الدماء والتخلي عن الحكم، وعندئذ أحس الشيشكلي أن الجيش قد تخلى عنه، فغادر البلاد إلى بيروت، وكان ذلك في 25/2/1954.

* بعد سقوط الشيشكلي ماذا حدث؟ ـ دعيت الحكومة لاستلام زمام الأمور، لأنها غير مستقيلة، ودعي رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي ـ وكنت على صلة برئيس الأركان شوكت شقير، وهو الضابط الوحيد الذي عرض عليه الضباط الأربعة في المناطق الأربعة التي تحدثنا عنها أن ينضم إليهم ويقود الحركة بوصفه رئيس الأركان، فقال لهم: بعد مشورة ـ وجاءني إلى بيروت، وفهم مني، ثم عاد فأيدهم ـ ولما هرب الشيشكلي هتفت له من لبنان وقلت له: ماذا تنتظر؟ قال: أنتظر أن تجتمعوا ـ قلت له: لا، قبل كل شيء تخرج المعتقلين، لأن الشيشكلي لما ضرب الجبل اعتقل رشدي كيخيا وعدنان الأتاسي وصبري العسلي وغيرهم، فأخرج المعتقلين ـ ولما أخرجهم جاء رئيس الشرطة العسكرية التابع للشيشكلي واعتقل شوكت شقير ـ وكنت أنا بعد هتافي له من لبنان في طريقي إلى دمشق ـ ولما وصلت دمشق علمت باعتقال شوكت شقير، وكانت جماعة المعتقلين المفرج عنهم قد مشوا إلى حمص حيث عقدوا مؤتمر حمص الثاني، وجئت إلى بيتي فإذا هو مطوّق، لأن المخابرات التقطت المخابرة التي أجريتها مع شوكت شقير ـ فلم أستطع المبيت في بيتي، وبقيت في أحد المستشفيات عند الدكتور منير السادات ـ وأحضرت السفارة العراقية سيارة رسمية، وركبت فيها باسم عراقي ورجعت إلى بيروت، ومنها عدت في الليل إلى حمص لنعقد الاجتماع هناك، واخترنا حمص لأن آمر المنطقة العسكرية هو محمود شوكت أحد الضباط الأربعة المتفاهمين معنا ـ وتم في هذا الاجتماع تأليف الحكومة برئاسة صبري العسلي، وهاشم الأتاسي رئيس الجمهورية ودعي المجلس المنتخب وقدمت فيه استقالتي التي كنت منذ ثلاث سنوات أرفض تقديمها ـ وعددنا المرحلة السابقة في زمن الشيشكلي كلها غير صحيحة بقوانينها وجميع أشكالها ـ وكان الاتفاق أن يكون رشد كيخيا رئيساً للوزارة، وذهب من حمص على هذا الأساس ليهيئ نفسه، ولكن الحزب الوطني هدد هاشم الأتاسي وأحدث مشكلات ـ فلما رجع رشدي أقنعه هاشم الأتاسي أن يكون صبري العسلي هو رئيس الوزارة ـ ووضعوا اسمي لوزارة الدفاع فاعتذرت ـ فغضب هاشم الأتاسي، وقال لي: إذا اعتذرت عن وزارة الدفاع، وأنت تقود الحركة كلها، فأنا أيضاً أستقيل، وأمام هذا الضغط والإلحاح اضطررت إلى أخذ وزارة الدفاع.

* في أي سنة كانت هذه الوزارة؟

ـ سنة 1954.

قضية الأسلحة السوفياتية

* هل في هذه الوزارة أثرتم قضية قبول الأسلحة من الاتحاد السوفياتي؟ ـ لا، هذه القضية أظن كانت في سنة 1950لما كنت وزيراً للاقتصاد في وزارة خالد العظم، عقب توقيع الملك عبدالله الصلح مع إسرائيل، وفي وقتها دُعينا إلى مجلس الجامعة العربية في مارس (آذار) 1950، واصطدمنا مع الوفد الأردني. وكانت الدعوة إلى مجلس الجامعة العربية موجهة من الأردن لأمر يتعلق بفلسطين، وكان الصلح المشار إليه آنفاً موقَّعاً سرا. وسُرِّبت إليّ نسخة صحيحة عن التوقيع، وكنا نتساءل لماذا تدعونا الأردن بالذات؟ وتبين لنا بعد ذلك أن اجتماعنا سيكون من أجل الموافقة على الصلح، كما وافق مجلس الجامعة بضغط من انجلترا على الهدنة الأولى والهدنة الثانية، وما بين الواحدة والأخرى عدة أشهر، ما بين 1948 إلى نهاية 1949، وبذلك توقفت الحرب. وقلت يومها لخالد العظم ونحن ذاهبون إلى الأردن: لقد وصلت إليّ وثيقة تفيد أن المطلوب منا في هذا الاجتماع الموافقة على الصلح مع إسرائيل، وأنت يا خالد العظم ليس لك رصيد في الحركة الوطنية، إذ كان يشتغل في القضايا الاقتصادية، وهذا دورك. قال: ماذا أفعل؟ قلت له: تعقد الآن مؤتمراً صحافياً تعلن فيه: إذا أبرم هذا الاتفاق فإننا سنغلق الحدود بيننا وبين الأردن، ونعده جزءاً من إسرائيل، كما كنا أغلقنا الحدود بيننا وبين لبنان لتصحيح وضعنا. وفعل هذا خالد العظم قبل 48 ساعة من المؤتمر الصحافي. وفي ليلة السفر التي كنا سنسافر أنا وإياه في صبيحتها جاء السفير الأميركي في الساعة الثانية عشرة ليلاً، وطلب الاجتماع مع خالد العظم، فقال له: أنا الآن في غرفة نومي، سأنام، وغداً صباحاً سأسافر، فقابل وزير الخارجية. قال السفير: لا، جاءتني برقية من الرئيس يجب أن تسمعها أنت بنفسك، قال له: إذاً أستقبلك في صالون غرفة النوم. وجاء ومعه إنذار مفاده أن تصريحك بإغلاق الحدود مع الأردن إذا أبرمت الصلح مع إسرائيل تدخّل في شؤون دولة ثانية، لا تسكت أميركا عنه.

* من كان الرئيس الأميركي؟ ـ كان الرئيس ترومان، وذلك في سنة 1950. وأكد هذا الاحتجاج صحة الوثيقة التي تسرّبت إليّ. وأجابه خالد العظم: أوليس احتجاجكم هذا تدخلاً في شؤون دولة ثانية؟. لقد سبق أن أغلقنا حدودنا مع لبنان لتصحيح أوضاعنا، وما جئتم محتجين قائلين: هذا تدخل. فلماذا جئتم الآن؟ ألأن الإغلاق مع الأردن يمسّ إسرائيل؟ هذا تدخّل. ولم يستطع التفاهم مع السفير الأميركي. وفي الصباح أخبرني بما دار بينه وبين السفير الأميركي. وبعد العصر كان اجتماع مجلس الجامعة العربية في وزارة الخارجية في القاهرة. وكنا سبع دول في ذلك الاجتماع. وقد استقبلنا النحاس باشا وأبلغناه بما كان بين خالد العظم والسفير الأميركي. وكانت هناك اتفاقية صادرة من الجامعة العربية بعد قيام إسرائيل بحلّ جميع الأحزاب في فلسطين، وتأليف حزب واحد منها أسموه الهيئة العربية العليا. وألّفوا حكومة عموم فلسطين، على أن تحضر هذه الحكومة مجلس الجامعة كلما كان الموضوع يتعلق بفلسطين. وبما أن هذه الدورة عقدت من أجل فلسطين بناء على طلب الأردن. افتتحت الجلسة بحضور حلمي باشا رئيس حكومة عموم فلسطين، وكان الحاج أمين في ذلك الحين رئيس مجلس النواب، فرفض الوفد الأردني افتتاح الجلسة بحضور حلمي باشا، فقال له النحاس باشا رئيس المجلس: أنتم طلبتم الاجتماع من أجل القضية الفلسطينية والاتفاق الذي وقعناه كلّنا يقول: إذا كان الموضوع يخص قضية فلسطين يجب أن تحضر الحكومة الممثلة للفلسطينيين. قالوا: ولكن هذا الموضوع بالذات لا نقبل بحضورها. فقال النحاس: ونحن لا نستطيع أن نخالف القرار. قال ممثل الأردن: إذاً أنا أنسحب وانسحب. وتكررت القصة وانسحب الممثل الأردني في اليوم الثاني والثالث. وتعقدت الأمور، وخرجت الصحافة بلا بلاغ ولا بيان، وراحت تتحدث عن هذه الأزمة. وهنا بدأ الضغط عليّ من أميركا، إما أن توافقوا على الصلح مع إسرائيل، وإما أن تبتلعكم الشيوعية. فعليك أن تختار إما صهيونية وإما شيوعية. قلت للسفير الأميركي: أليس هناك خيار ثالث؟ قال: لا. فقلت له: أنا أختار الشيوعية لأنها تريد أرضاً وسكاناً، أما الصهيونية فتريد أرضاً من غير سكان. وبعد ثلاثة أيام من اجتماع مجلس الجامعة العربية لم نصل فيها إلى قرار، والتصريحات ممنوعة، قررت أن أفضح موضوع الصلح والمساومة التي نتعرض لها، فانتظرت حتى خرجت كل الوفود، ولم يبق في وزارة الخارجية سوى أنا والفرّاش، واستبقيت الصحافيين، وقلت لهم: ما دار بيني وبين السفير الاميركي. وقد أحدث هذا التصريح ضجة عالمية. وانهالت عليّ البرقيات من العالم العربي كله بالآلاف. ولما عدت إلى سورية ومعي خالد العظم استقبلنا استقبال الفاتحين. وأقامت جمعية العلماء المعروفة بميلها إلينا حفلة كبيرة في المطار ضمت السلك السياسي ووجوه دمشق والغرف التجارية. وهنا التقيت بالسفير الأميركي في الحفلة. وبينما كنا داخلين في المطار، والازدحام شديد رأيت سكيلي هذا الذي كان هدّدني، يشق الصفوف، ويسحب بيده شخصاً، حتى إذا أوصله إليّ قال له: أقدم لك زبوناً جديداً حاملاً كرافات حمراء، فقلبتها له قائلاً لكن هذه مصنوعة في الغرب، ثم قلت له: من هذا؟ فقال مندهشاً؟ ألا تعرفه؟ قلت: لا. قال: هذا هو السفير السوفياتي، ثم تركتهم والحفلة قائمة وكأني عروس الحفل. وجاءني السفير السوفياتي مرة ثانية وقال: طلب مني ستالين أن أقابلك وأسألك بعض الأسئلة. فواعدته في مجلس الوزراء. ولما حضر سأل: ما سبب التصريح الذي أدليت به؟ فأجبته: ان الأميركان جاؤوا يفاوضوننا ويهددوننا بعد توقيع الملك عبدالله الصلح مع اليهود، ويزعمون أنهم يريدون إنقاذنا من الشيوعية بقبولنا الصلح مع اليهود، وإنا لنذكر جواب ستالين لروزفلت في يالطة عندما طلب لليهود وطناً قومياً، وقال: نضم الحكومة السورية ونضم الحكومة الفلسطينية، قال له ستالين: لا للوطن الثقافي لليهود، وإنما لدولة يهودية أنا أتعهد بحمايتها. والآن حملوا الملك عبد الله على توقيع الصلح، من أجل الاستعداد للحرب ضدكم. ولكن ليس لديّ ثقة أنكم ستستفيدون من هذا التصريح ومن ظروفنا الخاصة. فأنا الآن أريد سلاحاً منكم، ولست شيوعياً. وأنتم مخطئون في موقفكم المتحفظ من الإسلام والأديان قاطبة. وكلما اختلفت الأديان وكان قيصر مع الشعب مشت الكنيسة والجامع معاً مع الشعب. ولما يحدث التصادم بين الشعب وقيصر تمشي الكنيسة والجامع مع الشعب. ونحن صدّرنا لكم الأديان ففسدت عندكم الكنيسة، لأنها ماشية مع قيصر ضد الشعب. وأنتم لا تستطيعون تصدير الأديان إلينا، ومصلحتكم بالتفاهم مع الإسلام. وقلت له أيضاً: أنتم شاركتم في زرع اليهود في بلادنا، وهذه هي النتيجة. والآن أريد منكم سلاحاً، لأننا مهددون. قال: لا يمكننا أن نعطيكم سلاحاً، لأننا خرجنا لتوّنا من الحرب، وكل إنتاجنا من السلاح يجب أن يكون لبلادنا. وطلب مني نسخة من اتفاقية الصلح، فأرسلتها إليه، وبعث بها إلى ستالين، فجن جنونه، وبعد أربعة أيام أصدر أمراً بإعطائنا ما نريد من السلاح. وبذلك فتح باب السلاح. وبعد ثلاثة أشهر أصبحت رئيساً لمجلس النواب. وبعد ذلك توالى على الحكم عدة حكومات.

(5)

ـ ديغول بعد استماعه الى الملك فيصل: الآن فهمت القضية الفلسطينية .. أوقفوا السلاح المصدَّر لإسرائيل

رواية : د. عبد القدوس أبو صالح إعداد: د.محمد علي الهاشمي

يشرح الدواليبي في الحلقة الأخيرة من مذكراته ظروف خروجه من سورية الى لبنان أولا ثم الى السعودية بدعوة من الملك فيصل، كما يروي تفاصيل اللقاء الذي جمع الملك الراحل والرئيس الفرنسي شارل ديغول والذي غير فيه الاخير موقفه من اسرائيل. وأخيرا يفرد جزءا مهما من هذه الحلقة من مذكراته لعمله مع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، وكيف أنه ألح على الأمير فهد آنذاك «أن يكون للأمير خالد كما كان فيصل لسعود. ويضيف انه لما آل إلى الأمير فهد الأمر أظهر كفاءة عالية، وحافظة طيبة، وجلداً على العمل». ويقول انه في عهد الملك فهد تعددت المشكلات وتفرعت وتعقدت، وآخرها مشكلة أزمة الخليج القاصمة، وقد واجهها ووقف أمامها. وفي هذا السياق يقول الدواليبي انه لما تأكد ان صدام حسين حشد 250 الف جندي على حدود المملكة لم يتردد الملك فهد في اتخاذ قرار المقاومة.

الخروج إلى السعودية ولقاء الملك فيصل

* متى خرجتم من سورية إلى السعودية؟ ـ كان خروجي بعد الانقلاب البعثي، وخروجي من السجن في سنة 1964، بناء على طلب أمين الحافظ رئيس الدولة آنذاك، أن أخرج إلى لبنان، وهنا تدخّل الملك فيصل; إذ رآني خارج حدود بلادي، فأرسل لي السفير مسعود الدغيثر، وكان ذلك في صيف 1964، إذ استقرّيت في لبنان، بعد أن نودي بفيصل ملكاً.

* ماذا تذكرون من ملامح شخصية الملك فيصل رحمه الله، ودعوته للتضأمن الإسلامي وانعكاساتها، وموقفه من وزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر حينما طاف بالبلاد العربية؟ ـ كان رجلاً مسلماً متفهماً أوضاع المسلمين، بعيداً عن المظاهر وحب الدنيا والزعامة والرئاسة، كانت دعوته لي إلى المملكة بإلحاح صادق، واتجهنا بعد مجيئي إلى تقوية جهاز الديوان الملكي وإقامة نظام شورى إسلامي، يشترك فيه الشعب في التعبير عن رأيه، وذلك بوضع دستور، وكان يمتلئ اقتناعاً بذلك وكان لا بد من أن نبدأ أولاً في تنظيم الديوان، وملئه بالأشخاص الأكفاء، ولا بد من إيجاد عناصر متعلمة مثقفة; لأن الدولة تقوم على بضع عشرة وزارة، وقد تصل إلى عشرين، وهذه الوزارات ترفع تقاريرها إلى الديوان، ولم يكن في الديوان في ذلك الحين العدد الكافي من العناصر الأكفاء، ومن هنا كان لا بد من الاستفادة من الفئات العائدة من التعلّم، وفكرت بالاستفادة من أولاد الملك فيصل الذين جاءوا متعلمين، ولكنهم ينصرفون إلى الأعمال التجارية، فمنعني قائلاً: أنت تريد أن تضع أولادي في الديوان لأنهم متعلمون، ولكن سيأتيني بقية الأمراء مطالبين بوضع أبنائهم كما وضعت أنا أبنائي، وليس كل الأمراء متعلمين، ولذلك كان يلح عليّ ألا يدخل ابنه في الديوان الملكي. لقد هيأت له الحكمة التي كان يتحلى بها الأسباب، وفتحت له الأبواب، وأزالت الصعاب، وكان يقابل السيئة التي تُوجَّه إليه من عبد الناصر بالحسنة.. والضربة التي نزلت بعبد الناصر سنة 67 كانت قاسية، فطلب عقد مؤتمر قمة وطلب مساعدات; لأنه من دون مساعدات لا يستطيع الصمود. ومع ذلك قال فيصل لجمال عبد الناصر: أنا مستعد أن أعطيك ما تريد، فدُهِشَ عبد الناصر. أما مجيء كسينجر إلى البلاد العربية فكان لاستطلاع آرائها، وإيجاد حل للقضية الفلسطينية بعد صدور القرار (242)، ولما قابل الملك فيصل كان جوابه: أنا ما عندي حل إلا حق تقرير المصير للفلسطينيين، ولو أن الفلسطينيين كلهم قبلوا الصلح ما قبلتُ أن أصالح، لأن إسرائيل خطر على الإسلام والمسلمين. أما حق تقرير المصير فمن حق الفلسطينيين، وأما القدس بصورة خاصة ثالث الحرمين فأنا أطالب بها. وقال له كسينجر: أنا طفت العالم العربي فما وجدت أحداً يذكر القدس غيرك.

زيارة وفد السعودية الى الفاتيكان

* هل كان لزيارة وفد المملكة للفاتيكان آثار سياسية؟ ـ لا شك أن نجاح زيارة وفد المملكة للفاتيكان أدّى إلى إيجاد نوع من التقارب بين المسلمين والمسيحيين; ولذلك فقد استاءت إسرائيل جداً من هذه الزيارة ومن ذلك التقارب، ولم تفلح محاولاتها في إحباط تلك الزيارة. وكان الملك فيصل متهيباً منها، وأذكر أنه قال لي حينما وصلت إلينا دعوة البابا: يا دكتور، نحن مشايخنا يجتمعون، وربما يتفاهمون مع مشايخ العالم الإسلامي، فكيف تأخذهم إلى البابا؟. قلت له: يا جلالة الملك، هذا القصر الذي يسكنه الفاتيكان هو البناء نفسه الذي أصدر قراراً قبل عشرة قرون بمحاربة الإسلام. والآن يطلبون منكم أن تدخلوا إليه، لتعلنوا كلمة الإسلام في حقوق الإنسان. ونحن أمة دعوة، يجب أن نذهب إليهم وندعوهم. هم دعونا، فكيف نرفض الدعوة؟ فقال: ولكن المشايخ ربما لا يتفهّمون هذه الدعوة، فقلت له: عيّن أسماء الوفد، وأنا أعمل على تهيئتهم إن شاء الله. وكان الأمر كذلك، وحققت نجاحاً كبيراً.

* ما الذي حال من دون تطبيق المخطط الذي اقترحه كسينجر وهو احتلال المملكة؟ ـ الحرب الباردة بين القطبين جعلت الأمر صعباً. واحتلال الجزيرة ومناطق البترول ليس بالأمر السهل. فالسوفيات كانوا يحاربون في أفغانستان مروراً ببلوجستان، ويتطلعون للسيطرة على المنطقة. والسباق على أشده في التقنية التي تمكّن من جعل الحرب قصيرة، وما كانوا مهيئين لخوض حرب سريعة; ولذلك انصرف القطبان، كلٌّ منهما يريد أن يسبق في الإعداد التقني وقد استفادوا من هذا الإعداد وطبقوه في أزمة الخليج. الملك فيصل وديغول

* كيف استطاع الملك فيصل أن يغيّر رأي ديغول وموقفه من إسرائيل ودعمها بالسلاح؟

ـ يعرف عن ديغول أنه يغيّر مواقفه إذا عرف الحقيقة; ولذلك كنت حريصاً على تدبير لقاء الملك فيصل به، ولكن كان له ولأخيه خالد موقف من ديغول، على خلفية استقباله لهما في مطلع 1945 في مكتبه في لندن بشيء من الجفاء، ودعمه لليهود. ولذلك كنت ألحّ على الملك فيصل أن يقابله إلى أن حدث ذلك في باريس قبل 5 (حزيران)1967، وكان اللقاء على غداء فقط. وكان ديغول يراعي الحِمْية في الطعام والشراب والنوم وأوقاته منضبطة محدّدة; ولذلك استقبله قبل نصف ساعة من الغداء بالضبط في قصر الإليزيه، وكان مع فيصل الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون. وطلع فوراً إلى اللقاء، رأساً لــرأس، ولا يـوجد معهما سوى مترجم من عند ديغول. قال ديغول: يتحدث الناس بلهجة متعالية أنكم يا جلالة الملك تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر. إسرائيل هذه أصبحت أمراً واقعاً، ولا يقبل أحد في العالم رفع هذا الأمر الواقع. فأجابه فيصل: يا فخامة الرئيس، أنا أستغرب كلامك; إن هتلر احتل باريس وأصبح احتلاله أمراً واقعاً، وكل فرنسا استسلمت إلا أنت! فانسحبت مع الجيش الإنجليزي، وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلّبتَ عليه. وألمانيا تنتهز الفرصة من وقت لآخر لخلافها معكم على منطقة الألزاس. كلما احتلتها وقف الشعب الفرنسي ينتظر حرباً عالمية ليستعيدها، فلا أنت رضخت للأمر الواقع ولا شعبك رضخ; فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع. والويل عندئذ يا فخامة الرئيس للضعيف من القوي إذا احتلّه القوي وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديغول أن الاحتلال إذا أصبح واقعاً فقد أصبح مشروعاً. فدهش ديغول من سرعة البديهة والخلاصة المركّزة بهذا الشكل، وكان ديغول لم يستسلم ويتراجع، وإنما غيّر لهجته متأثراً بما سمع، وقال: يا جلالة الملك، لا تنسَ أن هؤلاء اليهود يقولون: إن فلسطين وطنهم الأصلي، وجدهم الأعلى إسرائيل وُلِد هناك. قال فيصل: فخامة الرئيس أنا من الأشخاص الذين يعجبون بك ويحترمونك; لأنك رجل متدين مؤمن بدينك، وأنا يسرني أن ألتقي بمن يخلص لدينه، وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس. أما قرأت أن اليهود جاءوا من مصر غزاة فاتحين، حرّقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال، ما تركوا مدينة إلا أحرقوها، فكيف تقول إن فلسطين بلدهم، وهي للكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون. وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل منذ أربعة آلاف سنة، فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة؟ أنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود، ولا نصلحها لمصلحة روما عندما كانت تحتل فرنسا والبحر الأبيض كله وإنجلترا أيضاً؟ ونحن العرب أمضينا مائتي سنة في جنوب فرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نفوا بعدها. وهذا مثال تاريخي أيضاً. قال ديغول: ولكنهم يقولون: في فلسطين وُلِد أبوهم. قال فيصل: غريب!! عندك الآن مائة وخمسون دولة لها سفراء في باريس، وأكثر السفراء يولد لهم أولاد في باريس، أفلو رجع هؤلاء السفراء إلى بلادهم، ثم جاءت ظروف صار فيها هؤلاء السفراء رؤساء دول، وجاءوا يطالبونك باسم حق الولادة بباريس، فمسكينة باريس، لا أدري لمن ستكون؟!. هنالك، سكت ديغول، وضرب الجرس مستدعياً بومبيدو، وكان جالساً مع الأمير سلطان والدكتور رشاد فرعون في الخارج، وقال له: الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السلاح المصدَّر لإسرائيل. وهكذا قُطع السلاح الفرنسي عن إسرائيل منذ ذلك اليوم من عام 1967 قبل الغزو الثلاثي لمصر بأربعة أيام.

واستقبلنا الملك فيصل في الظهران عند رجوعه من هذه المقابلة، وفي صباح اليوم التالي ونحن في الظهران أُعلِن الغزو، فاستدعى الملك فيصل رئيس شركة التابلاين الأميركية، وكنت حاضراً، وقال له: إن أي نقطة بترول تذهب إلى إسرائيل ستجعلني أقطع البترول عنكم. ولما علم بعد ذلك أن أميركا أرسلت مساعدة لإسرائيل قطع عنها البترول، في حين لم يقطع عنها البترول العراق، كما لم تقطع البترول كلٌّ من الجزائر وليبيا. وقامت المظاهرات في أميركا، ووقف الناس مصطفين أمام محطات الوقود، وهتف المتظاهرون: نريد البترول ولا نريد إسرائيل، وهكذا استطاع هذا الرجل بنتيجة حديثه مع ديغول، وبموقفه البطولي في قطع البترول أن يقلب الموازين كلها.

مع خادم الحرمين الشريفين

* إذا انتقلنا إلى علاقتكم بخادم الحرمين الشريفين الملك فهدبن عبد العزيز وهو في سُدَّة الحكم، فما هي ذكرياتكم عن اتصالكم به وبشخصيته وأعماله؟ ـ لا شك أن الملك فهد أظهر مرونة وكفاءة. وخصوصاً إذا علمنا أن الأحداث العالمية بعد الملك فيصل أخذت تتعقّد. ففي عهد الملك فهد تعددت المشكلات وتفرعت وتعقدت، وآخرها مشكلة أزمة الخليج القاصمة، وقد واجهها ووقف أمامها. وقبل ذلك قام بعمليات مصالحة ما بين المغرب والجزائر، والمغرب وليبيا، والأردن وسورية، وهي مشكلات في داخل البلاد العربية، برزت في أيام الملك فهد، وتصدى لمعالجتها. ولما حشد صدّام مائتين وخمسين ألف جندي على حدود السعودية، ولم يُكتَشف هذا الحشد إلا بالأقمار الصناعية في الصحراء، لم يصدق الملك فهد ذلك حين أبلغه الأميركان فتثبت من صحة الخبر بالهاتف فكلم صداماً، فحاول هذا أن يراوغ، ثم لماذا الخوف؟ أليس بيني وبينك معاهدة صداقة وعدم اعتداء؟ وتبين لفهد صدق الأميركان. وكان لا بد من اتخاذ قرار سريع لمواجهة هذه المصيبة، فلم يتردد في اتخاذ قرار المقاومة، ولم يلتفت لتضارب الآراء، فهذا يقول يجوز، وهذا يقول: لا يجوز. ولو تردّد أو توقّف عند تضارب الآراء لطارت المملكة، ولنزل بها ما نزل بالكويت، وما كان هناك من يقول للمملكة ما قالته المملكة للكويت. لقد كانت السرعة في البت في هذه المسألة الخطيرة وتحمّل المسؤولية فيها أمراً مهماً جداً، وليس عملاً بسيطاً، ولقد سمعت من أساتذة جامعيين أنه ليس من رأيهم التفاهم مع أميركا في هذه المسألة الخطيرة. ومن هنا كان للملك فهد الفضل في سرعة اتخاذ القرار، وكانت الحرب العالمية التي انتهت بعد مائة ساعة، وتجمّع فيها ستون دولة، وبذلك أعاد الكويت إلى أصحابها. ولما سأل أميركا ما موقفها؟ كان الجواب: سنحدد موقفنا بعد أربع وعشرين ساعة. وتمكنت الإدارة من أن تأخذ موافقة الكونغرس، بعد أن أفهمت أعضاءه أن القضية قضية بترول قد تزلزل الاقتصاد العالمي، ومن هنا أَذِن الكونغرس، وكان المنتظر ألا يأذن، لأنه خاضع لتوجيهات إسرائيل، بل كان المتوقَّع أن تكلَّف إسرائيل بالوقوف في وجه صدّام حسين، وتدفع المملكة التكاليف لصالح إسرائيل. ولقد نجح بوش بأخذ موافقة الكونغرس في ليلة واحدة، اجتمع فيها مائة من أعضائه وأعطوا موافقتهم، وبسبب هذه السرعة في البتّ تغيرت المقاييس كلها، وأذكر أنني قلت للملك فهد أمام جمع من العلماء: إن الأخطار التي وقعت شتَّتَتْ مليون كويتي، وكانت ستُشّتِت ثمانية عشر مليوناً، والكويتيون الذين أخرجوا من ديارهم لجأوا إليكم، فماذا لو حلت المصيبة بكم، فموقف الملك فهد كان موقفاً عصيباً تتزلزل فيه الأقدام، وقد أعانه الله عليه. القضية الأفغانية

* ما انطباعكم عن القضية الافغانية وما يحيط بها من مؤامرات ومخططات، فقد ذهبتم إليها وحاولتم جمع كلمة المجاهدين وقابلتم المسؤولين الروس من أجل هذه القضية. ـ القضية الأفغانية مرتبطة بمخططات مسبقة للسوفيات، الهدف منها الوصول إلى المحيط الهندي، ليحيطوا بالخليج العربي والبحر الأحمر، ويمنعوا أي تسرّب من البترول إلى أميركا في حالة وقوع حرب. أرادوا أن يجدوا لهم منفذاً من مضيق الدردنيل إلى البحر الأبيض بعد أن تشيّعت الصين، وأكسبت السوفيات قوة، فطلبوا المرور بالدردنيل، فامتنعت تركيا، إذ كان هناك اتفاقية دولية، تجعل الدردنيل أراضي تركية، وبحسب هذه الاتفاقية تخضع الأساطيل المسلحة إذا مرت بها للتفتيش والمراقبة، وتمنع من المرور الحرّ، لأنه قد يفضي إلى احتلال البلد. عندئذ فكروا في أفغانستان، فهي متصلة بباكستان، البالغ تعداد سكانها مائة وعشرين مليوناً، ومشكّلة من أربعة أقاليم: إقليم السند الذي فيه كراتشي، وإقليم البنجاب الذي فيه لاهور، والإقليم الشمالي وفيه بشاور، وبلوجستان وهو أكبر الأقاليم، يبدأ من أفغانستان في الشمال. ويهبط إلى البحر ويتصل به، وهذا الإقليم الأكبر لا يزيد عدد سكانه عن مليون ونصف، فهو أراض غير مسكونة تقريباً. فإذا احتلوا أفغانسان فبإمكانهم أن يطلبوا مروراً حراً في بلوجستان كما طلبوا المرور الحر في الدردنيل، وهذا ما كنت أقدّر وقوعه لما رأيت من صنيعهم في العد الملكي، إذ أنشأوا طريقاً معبداً بالإسمنت المسلّح، لأنه يقع في منطقة جبلية باردة، ليصمد أمام الرطوبة والجليد، وهذا الطريق كلّفهم مبالغ طائلة، لا يُعقَل أنهم دفعوها من أجل المرور التجاري. وإنما لأهداف عسكرية.

لذلك قلت يومئذ لضياء الحق إن عملهم هذا يدل على أنهم يضعون أعينهم على بلوجستان غير المسكونة تقريباً. وزاد من أطماعهم ما رأوا من حاجة باكستان إليهم، لما استقرت وظهرت فيها ثروات زراعية وبترولية ومعادن وطلبت من الروس العون بعد أن رفضت إنجلترا وأميركا من مساعدتها. وهو ما حدث إذ رتب الشيوعيون انقلابا على الملك ظاهر شاه، ملك أفغانستان، عن طريق داود شاه ابن عم الملك وزوج أخته، بمساعدة محمد طراقي أحد الضباط الشيوعيين، وتم إعلان الجمهورية وتعيين داود شاه رئيساً لها، من دون أن يقدموا على قتل الملك، وبذلك تجاوزوا مشكلة الإرث في النظام الملكي.

ولما صار داود شاه رئيساً للجمهورية ألف حكومة، وطلب العون من السوفيات، وأعلن أن منطقته بحاجة إلى منفذ على البحر; إذ لا يجوز أن تبقى محبوسة لا منفذ لها، وليس هناك من طريق إلى ذلك إلا من بلوجستان، فأخذ موافقة السوفيات وطلب السماح له بالمرور الحرّ من بلوجستان. فطلبوا من ضياء الحق السماح لهم بالمرور الحر من بلوجستان، فرفض. وقلت له يومذاك: لا بد لك من أن تصالح أميركا; لأنه كان مخاصماً لها لما استعمل سلاح حلف بغداد في مقاومته انفصال باكستان الشرقية، فقطعوا عنه الإعانات; فقلت له: جرب الاتصال بهم، فلا يزال في الرئاسة بقايا ممن نعرفهم منذ عام 1962 أيام كنتُ رئيساً للحكومة السورية، ومنهم جونسون وبعض الشخصيات الأميركية الذين كنا نتعامل معهم، ويمكنني أن أتصل بهم وأنبّههم إلى الخطر الذي يسعى إليه الروس ـ وذهبت فعلاً في سفرة سرّيّة في سنة 1977 إلى أميركا، والتقيت ببعض الشخصيات الأميركية المسؤولة ممن يمكنهم السيطرة على البيت الأبيض، ونبّهتهم إلى خطر ما كانوا متنّبهين إليه إلا بعد ما صار الانقلاب في أفغانستان. وأعادوا الصلات مع باكستان، وأعطوها الأسلحة التي كانوا أوقفوها.

ولما بدأ المجاهدون بمقاومة السوفيات أيدهم العالم العربي والعالم الإسلامي. وأمام إصرار السوفيات على الحرب كان لا بد لي من التدخل، وإفهام الروس خطأ محاربتهم للمجاهدين. وفي عام 1987 ذهبت إلى قصر الكرملين، وكان غروميكو رئيساً للجمهورية، ولكن المسيطر هو سكرتير الحزب غورباتشوف، وكان لقائي بشيفرنادزه وبعض المسؤولين، وكانت الثورة الأفغانية على أشدها. وبحثت مع المسؤولين السوفيات القضية الأفغانية، وحاولت إقناعهم بأن حربهم للمجاهدين ليس في مصلحتهم، ورأيت أن كلامي ترك أثراً في نفوسهم، ووعدوا بالخروج من أفغانستان. واجتمعت بعد ذلك بالمجاهدين، وأفهمتهم أن القتال لن يجدي; وقد تسنح الفرصة للتفاهم مع رئيس جديد مقبل إلى روسيا، لديه رغبة في التسامح مع الأديان، وأن المستفيد من هذه الحرب هي أميركا، ومن مصلحتها استمرار هذه الحرب. فاقتنع المجاهدون بوجهة النظر هذه، وتوصلنا إلى أحجية التفاهم مع السوفيات على أساس إجراء انتخابات بعد وقف الحرب، تقوم بها لجنة دولية. ومن يحوز على الأكثرية يتسلم الحكم. ولضمان موافقة الروس على مشروع كهذا، وحتى لا يخرجوا منكسرين، ويسحبوا عميلهم ويطردوه، أقنعناهم أن يعين هو الحكومة التي ستجري الانتخابات، على أن يتسلم الحكم من يحوز على الأكثرية، سواء أكانوا من الشيوعيين أم من المجاهدين. وكان هذا الاقتراح بالاتفاق مع الملك فهد، وأرسل السوفيات فولنستوف للالتقاء بالمجاهدين، وكانوا ممتنعين عن اللقاء بالسوفيات. وكان الاجتماع بالطائف. اجتماع الطائف

* تم التفاهم أن يرسل السوفيات وفدهم للالتقاء بالمجاهدين على أرض المملكة. وهنا حدثت أخطاء من إخواننا المجاهدين. فقد نزل الفريقان في فندق الطائف، على أن يكون الاجتماع في قاعة الاجتماع فيه. وكان المكلّف بترتيب هذا الاجتماع الأمير تركي الفيصل رئيس المخابرات السعودية (آنذاك)، فطلب من الأفغانيين أن ينزلوا إلى قاعة الاجتماع أولاً، ثم يأتي السوفيات، فيرحب بهم الأفغانيون. فرفض هؤلاء ذلك قائلين: نحن لا نقوم لكفار. وأصبح الموقف حرجاً وخصوصاً إذا فهم السوفيات موقف الأفغانيين. ولكن تمكّن الأمير تركي بنباهة وذكاء من حل هذا الإشكال بأن قال للأفغان: تخرجون أنتم وهم في آن واحد، متجهين جميعاً إلى القاعة، ونوصي رجال المراسم بأن يمشوا معكم ببطء، ويمشوا مع السوفيات بسرعة، وبذلك يدخلون القاعة قبلكم من حيث لا يشعرون. وتم ذلك، ووصل الوفد السوفياتي إلى القاعة وجلسوا قليلاً، ودخل بعدهم الأفغان. ووقف السوفيات واستقبلوا الأفغان. وبذلك سارت الأمور على ما يرام. ولكن ربّاني ذهب بعد ذلك وأعلن في الصحف أننا رفضنا أن نقوم لهم، وجعلناهم يقومون لنا. وهنا انزعج غورباتشوف جداً، ولام شيفردنادزة وأنّبه قائلاً: كيف ترضون أن يدخلوا بعدكم ثم يقولون ما قالوا؟ ولذلك أخفقت المهمة التي جاء الفريقان من أجلها، واستمرت الحرب وسبّبت خراباً أكثر. وكنت نبّهت المجاهدين إلى أن الروس سيذهبون إلى أميركا قريباً للتفاهم معهم. فإذا تم هذا التفاهم بينهم فسيستمر السوفيات بضربكم، وستقطع أميركا عنكم السلاح. وفعلاً تم هذا التفاهم، وصارت أميركا تعطي المجاهدين السلاح الذي يساعد على دوام الحرب لا على إحراز النصر. وهدفها أن يفني الفريقان المتصارعان بعضهما بعضاً.

دور إسرائيل في الحرب بين العراق وإيران

* هل هناك تعليق على حرب العراق وإيران؟

ـ الحرب بين العراق وإيران دخلت فيها أيد إسرائيلية يهودية; ذلك أن العلاقات والصداقات والتعاون، كل ذلك كان موجوداً بين الشاه وإسرائيل. ولما جاء الخميني دعمته إسرائيل، والدليل على ذلك أنه لم يسمح إلا بتأسيس حزبين: الحزب الإسلامي والحزب الشيوعي، مع أن الحزب الشيوعي حلّه الشاه، وكان رئيس حزب توده في إسرائيل، واتفقت إسرائيل مع الحزب الشيوعي الموجود في إسرائيل على التفاهم مع الخميني لحل الجيش الإيراني الواقف في وجه الثورة الإسلامية وفي وجه الشيوعيين. والدليل على ذلك سماح الخميني للحزب الشيوعي بالعمل في إيران وهذا كله يرضي السوفيات.

كان الاتفاق على التعايش السلمي بين الاتحاد السوفياتي ونيكسون عام 69 ـ 70 مقابل شروط، اشترطت أميركا أن يخرج السوفيات من مصر، واشترط السوفيات أن تخرج أميركا من فيتنام، كما اشترطوا حلّ الجيش الإيراني الذي كان متوقعاً أن يكون أكبر جيش في المنطقة، وهو الذي يتحمل المبادرة والصدمة الأولى إذا وقعت حرب، وإلى أن تصل الجيوش الأميركية يكون الجيش الإيراني قد وصل إلى البحر، فتركيا وإيران وباكستان، تشكّل الجبهة الأولى التي تتحمّل الضربة الأولى، وكان الجيش الأكثر تجهيزاً هو الجيش الإيراني، ومن مصلحة إسرائيل حلّ هذا الجيش.

ولقد طلب الأميركان من الشاه حلّه فأبى. وكانت الأسلحة تأتي إلى إيران من إسرائيل لمواجهة العراق، وهي أسلحة تأتي من مستودعات أميركا في إسرائيل التابعة للحلف الأطلسي. فلما أخذت إيران أميركيين رهائن صدر قرار أميركي بعدم تسليح إيران، ونصح الخميني بني صدر وكان رئيساً لجمهورية إيران بعدم الاعتماد على هذا المصدر للتسليح من إسرائيل.

* ما رأيكم في أن إسرائيل هي التي عملت على الإيقاع بين الخميني وصدام؟

ـ في أثناء الحرب سنة 1982كنت عائداً من مؤتمر في الشرق الأقصى سمعت بيغن رئيس وزراء إسرائيل يقول: لا أريق دمعاً على الدماء التي تراق بين الإيرانيين وصدام; لأن العرب ما داموا يتقاتلون بينهم أو بينهم وبين غيرهم من المسلمين فلا يمكن أن يشنوا حرباً علينا. إذاً من مصلحة إسرائيل أن تقوم هذه الحرب. لذلك شجعت الخميني على الحرب ضد صدام، وأعطوه أسلحة، وبذلك دخل صدام الحرب، وشُغل العرب جميعاً عن إسرائيل، وهذا ما تريده إسرائيل، وما قاله ريغان.