فجوة الحداثة العريبة

فجوة الحداثة العريبة

الحداثة العربية انتهت إلي مصير بائس يناقض ما دعت له وما قامت من أجله!

تأليف: د.محمود نسيم

الشاعر محمود نسيم يحصل على الدكتوراه في فجوة الحداثة العربية :

القاهرة ـ القدس العربي : أصدرت أكاديمية الفنون كتابها الأول في سلسلة هي الأحدث بين إصداراتها تحت عنوان فجوة الحداثة العربية . والكتاب يمثل رسالة الدكتوراه التي قدمها الشاعر محمود نسيم للأكاديمية قبل حوالي ثلاثة أشهر.

والسلسلة الجديدة التي أصدرتها الأكاديمية هي فكرة الدكتور مدكور ثابت رئيس الأكاديمية الذي شارك في مناقشة الرسالة وقرر علي اثرها تخصيص سلسلة بعنوان سلسلة الرسائل لإصدار رسائل الدكتوراه المتميزة والمهمة.

تتناول الرسالة مفهوم الحداثة المتكون ـ حسب نسيم ـ تدريجياً عبر مراحل تاريخية متعاقبة إلي جملة من الترابطات، فهو حسب الباحث يعني ـ في آن واحد ـ واقعاً تقنياً اقتصادياً، وبناء قانونياً سياسياً، وتكويناً نفسياً وثقافياً.

وفي ملخص رسالته يقول محمود نسيم:

علي المستوي التقني/ الاقتصادي تحدد الحداثة نوع العلاقة الناشئة مع الطبيعة:

ثمة تحديد واحد اليوم هو الشائع والبديهي، يتناول الحداثة بوصفها معرفة علمية محققة تساعد علي تنظيم الإنتاج عقلانياً، وذلك في سبيل إنتاجية تبلغ حدها الأقصي.

تتناول الرسالة في خمسة فصول وخاتمة الأنساق والتحولات الحداثية من خلال الطبيعة والكون والمعرفة وتأثيرها في تشكيل العقل الحديث، وبودلير بين الهالة والطريق، وفي الفصل الثاني يتناول نسيم ما يسميه بعقل الحداثة عبر أربعة محاور هي الحواجز المتجاورة، الحداثة المتأخرة، البيانات، المسرح، أقنعة المدينة، أما في الفصل الثالث الأصول والنماذج يتناول ما يسميه بالمشابهة والاختلاف، الجماعة المغلقة والهوية الفردية، ونقد العقل التوفيقي، التجربة بين اليومي والجزئي.

أما في الفصل الرابع الصلب والأثير فيتناول المكان والعلامات والراوي والمتطور، وصعود الفردية أم انكسارها، والصياغات النظرية. أما في الفصل الخامس والأخير الذي جاء تحت عنوان النص والسياق فيتناول نسيم حداثة النقد، قصيدة النثر، المدينة والحياة اليومية.

ويشير المؤلف في حديثه عن أنساق وتحولات الحداثة إلي أن تحويل البيئة الطبيعية هو في أساس تغيير شروط الحياة المتعاقبة، في العصر الحديث، لم تعد الطبيعة رحم كل نظام اجتماعي وأخلاقي، لم تعد انعكاساً أو مقياساً للانسجام الأزلي، إنها مستودع القوي المنتجة التي يتصرف فيها البشر ويعطونها قيمة من خلال عمل مكثف ومنظم، ما دام الإنسان يتموضع في الطبيعة بل في مواجهتها، وما عاد يعد نفسه عنصرا من عناصرها بل سيد لها متابع من خلال عمله مهمة الخلق نفسها.

ويضيف نسيم: إن تقسيم العمل الذي تفرضه متطلبات الإنتاج غير تماما العلاقة التي يقيمها المجتمع مع الوقت، هذا الوقت الذي لم يعد محسوباً بإيقاع الأشغال والأعياد المتطابقة مع دورات الطبيعة، بل صار مقسماً ومقدراً وفقاً للمتطلبات الوظيفية للعقلية الإنتاجية.

وعي محمود نسيم أنه علي المستوي القانوني / السياسي تكمن الحداثة في الفصل القائم بين دائرة الحياة العامة ودائرة الحياة الخاصة، هناك من جهة، الدولة المتعاظمة المجردة، ومجموع قواعد القانون الشكلية التي تتناسب معها، ومن جهة ثانية، هناك الفرد وحرياته المحددة هي أيضاً بصورة مجردة.

ويري محمود نسيم أن هذه الازدواجية مجهولة من الأنظمة السياسية كلها، وقد أشار ماركس ـ حسب المؤلف ـ إلي التماثل الذي كان موجوداً بين حياة الشعب وحياة الدولة في القرون الوسطي، حيث كان الإنسان آنذاك هو مبدأ الدولة الحقيقي.

أما هذا الفصل بين الدولة السياسية والحياة الخاصة، فهو من مقومات الأزمنة الحديثة، وحين تختفي أو تضعف المراتب والجماعات المتوسطة والتجمعات البدائية للمجتمعات التقليدية، تنبسط سيطرة الدولة البيروقراطية وتقولب تبعاً لعقليتها الخاصة، قطاعات الحياة الاجتماعية كلها، وتقلص مدي السيادة التي لا تزال في حوزة التجمعات والأفراد.

ويري محمود نسيم أن الاستتباب يتحقق لنفوذ الدولة مع ظهور حداثة فلسفية تحققت مع كانط الذي يطرح العقل بين الذات والموضوع، أي بين الوعي وهو في الموقع المركزي والكون. وتكتمل هذه السيرورة المزدوجة فيما يمكن تسميته الحداثة النفسية ـ حسب نسيم ـ أي من خلال طريقة تساعد الإنسان علي مراجعة نفسه كفرد، وعلي العمل لاكتساب هويته.

وينقل نسيم عن جان بودريار أن العصر الحديث إذا ما قيس مع التوافق السحري والديني والرمزي للمجتمع التقليدي، يتميز بظهور الفرد بوعيه المستقل، ونزعاته الشخصية، ومصلحته الخاصة، وحتي بلا وعيه واستلابه وتجريده وخسارة هويته في العمل وفي وقت الفراغ، وفي عدم القدرة علي التوصيل الذي يسعي إلي التعويض عنه نظام شخصنة كامل من خلال الموضوعات والإشارات.

ويري نسيم أن هذه التحولات في مجملها تشكل صيرورة مطعمة بنزعة الهدم النسبية، هدم الجماعات والحقائق الجماعية كلها: العائلة، الكنيسة، القرية، المنطقة، التجمع المهني، وهي الأشكال التي كانت تؤمن سابقاً بتحقيق الذاتية والتكامل الفردي والجماعي.

والحداثة بهذا المعني لدي نسيم تولد عند تقاطع انتشار هذه المؤسسات المرسومة علي صورة الدولة، والمشتملة علي الحياة الاجتماعية، وعند تصدع شبكات الانتماء حيث كانت تبني، في الماضي، هوية الإنسان.

ومن هنا يري محمود نسيم أنه تنتج لدي كل منا للتحرك في هذا العالم المبرمج والمتفجر في آن، انعكاسات رمزية لممارسات الاستهلاك، التي تحللها، وفقاً لوجهات نظر مختلفة، العلوم الاجتماعية المخصصة لدراسة الحياة اليومية، وبدلاً من أن يتم تحديدنا من خلال الاسم والنسبة والقرية التي ننتمي إليها، والأرض التي نقيم

فوقها، يتحدد كل منا من خلال الثياب، والأثواب، والأشياء التي تحيط به، الموسيقي التي يستمع لها، والرياضة التي يمارسها، والكلمات التي يستعملها، لقد أصبحت ممارسة الحياة اليومية في أدق تفاصيلها، إشارات صغيرة جداً يرتسم فيها التصنيف الاجتماعي إشارات للتمييز تتوزع طبقاً لقوانين السوق المعممة.

وتبعاً لذلك فإن محمود نسيم يؤكد أن ما يسمي، من وجهة نظر علم اجتماع الأديان ـ دنيوياً ـ ليس إلا أثر الحداثة الحاسم بمستوياتها المختلفة، الاقتصادية والثقافية والرمزية، علي الدين، أو بشكل اكثر تحديداً، علي الشكل التقليدي للعلاقات بين الدين والمجتمع.

ومن هنا يري نسيم انتصار القانون العلماني علي القيم التقليدية، فلا يصمد الدين الأخلاقي أمام الآلية والتقنية والمجتمع هو الذي يعقب الطائفة، ويستعاض عن العلاقات الشخصية، إجمالاً، بتوزيع أدوار اجتماعية متخصصة، تستبدل بالعلاقات التي تقوم وجهاً لوجه مع أشخاص معروفين أو غير معروفين، وهكذا فإن مفهوم الحداثة ـ حسب نسيم ـ رغم تعدد دلالاته وعدم تحديده الدقيق ـ أقرب إلي أن يكون مفهوما كلياً مجرداً يشمل مستويات متعددة، ثقافية وسياسية وتقنية. وبمجرد انتهاج طريق هذا النموذج الفكري فإن الدارس يشعر مباشرة بوجود قدر من التعارض بين الحداثة والتحديث، فالمفهوم الأول يتخذ طابع بنية فكرية جامعة للقسمات المشتركة بين مستويات متعددة من خلال منظور أقرب ما يكون إلي المنظور البنيوي، بينما يكتسب مفهوم التحديث مدلولاً جدلياً وتاريخياً منذ البداية حيث أنه لا يشير إلي القسمات المشتركة بقدر ما يشير إلي الدينامية التي تقتحم هذه المستويات، وإلي طابعها التحولي.

ويحاول سليم تذكيرنا ببعض التجسدات الفكرية التاريخية لتجربة الحداثة في مجالين هما الطبيعة والمعرفة وذلك عبر النسق الفكري والمعرفي وعبر المنظور التاريخي.

وفي كلمة المناقشة أجمل محمود نسيم حديثه بالقول إن تجربة الحداثة لم تكن نتاجاً للإشكاليات التي أثارتها وصاغتها النخب الحديثة قدر ما كانت للإشكاليات التي فرت منها وحلقت فوقها، ومن هنا ـ يقول نسيم ـ ان تحليلاً لما هو مضمر وخفي، ومسكوت عنه، في البنية والأنساق والخطابات، يمكن أن يكون عملاً لازما وضرورياً ولكنه يستلزم إجراءات منهجية غير تلك التي اتبعتها في البحث وأسئلة مغايرة، لأن الحداثة في آفاق الوعي الذي صاغها، ليست مجرد إنتاج نص شعري أو مسرحي أو روائي حديث، بقدر ما هي الطموح لتأسيس تجربتها في بنية اجتماعية وثقافية شاملة.

ويتساءل محمود نسيم: كيف نتفحص هذه الإشكالية، نحلل حدودها وآفاقها، وكيف ندرس وعي النخبة في صياغتها خصوصاً وأنها تستدعي ليس دراسة الإنتاج الأدبي وحسب، بل والوعي الذي تشكله بواسطته هذا الإنتاج اتصالاً بتلك التحديدات.

ويرصد محمود نسيم عدداً من النقاط تعقيباًَ علي مجمل رسالته وهي نقاط يراها مرتبطة بواحدة من الرؤي الأساسية، تلك التي تري الحداثة العربية تابعة أو نسخة عن أصل غربي ـ حسب نسيم ـ الذي يضيف أن هذه رؤية مترددة ومتكررة في كتابات مختلفة، وتستند بشكل عام علي ان تجربة الحداثة مبنية أساساً علي النموذج الغربي سواء كان المرء تابعا للغرب ام لا، لأن فكر الحداثة كان محكوماً بمعيارية النموذج الغربي واطره المتعددة، إذ نشأ علي خلفية الوجود الغربي وهيمنة اقتصادية وثقافية في المجتمع الغربي، بحيث لم يعد الغرب عاملا خارجياً بل غدا داخليا في مجتمعنا الحديث.

يضيف محمود نسيم أنه في إطار هذه الفرضيات يبدو نموذج الحادثة العربية أكبر عائق أمام امتلاك الحداثة الفعلية، فقد انتهي هذا النموذج إلي عكس الأهداف التي انطلق منها واستمـــد منهــــا شرعيته، فأعاد إنتــــاج ما عمل علي تقويضه في سياق جديد أتاح لمعجم وصفي / دلالي أن يبرز في التوصيات الشائعة للحداثة التابعة، ومن ابرز المفردات التي يرصدها نسيم: الحداثة المغدورة، المأزومة، المبتورة، المتأخرة، غير المنجزة، ويري الكاتب أن هذه المفردات تعبر عن حس فاجع بمأزق ذلك النموذج وانسداده، بقدر ما تعبر عن الرغبة في تملك حداثة اخري وإعادة انتاجها كمشروع تحرر لا مشروع سيطرة، ومشروع تفتح لا مشروع إقصاء وتهميش، وهو ما لا يمكن تحقيقه - حسب نسيم - وفق هذه التصورات، إلا عبر نقد جذري

متجاوز لنموذج الحداثة التابعة.

وينتقل نسيم إلي التصورات النقيضة التي يقول عنها انها تأتي لتؤكد علي الطبيعة النوعية المختلفة لتجربة الحداثة في المجتمعات العربية، حيث لم تطرح الحداثة إلا ضمن شكالية خاصة بها، فهي لم تكن صورة عن الحداثة الغربية، بل كانت محاولة عربية لصياغة الحداثة، داخل مبني ثقافي له خصوصياته التاريخية، ويعيش مشكلات نهضته، فجاءت حداثة نهضوية، ويري نسيم أن ذلك هو إطار التكسر الثقافي والاجتماعي بحثاً عن شرعية المستقبل في عالم يهيمن عليه الغرب وتنفي فيه الأطراف إلي الذاكرة التاريخية، حيث لا تستعاد إلا بوصفها فلكلورا أو دليلاً علي التفوق الغربي.

ويقول نسيم انه رغم التداخلات والتعارضات بين التصورين اللذين يري أولهما الحداثة صيغة تابعة أو نسخة عن اصل فيما يدرج الثاني تجربتها في سياق نوعي وخاص هو التحولات العربية وخصوصيتها الثقافية. ورغم ذلك يميل نسيم إلي عرض النزعة التبسيطية المجملة للتصور الاول، ويقول إنه لا يفعل ذلك بحثاً عن تميز نوعي للتجربة العربية، بل يتحرك بدافع منهجي يراه ساعياً إلي التعرف علي التجربة في

سياق المنتج لها، وليس بوصفها نقيضاً لشيء آخر او مطابقاً له.

أما فيما يتعلق بالحداثة الشعرية فيري محمود نسيم أن هناك تحولا يكاد أن يكون انقطاعا في تاريخ الثقافة العربية، تحولا معرفياً وروحياً يكاد أن يكون انبتاتاً عن الجذر، لا يبقي فيه من رابط سوي اللغة باكثر دلالاتها اولية، أي بكونها قاموسا مشتركاً للتواصل. ويضيف نسيم أن كل حادثة سابقة تبدو هامشية جزئية قياسا إلي الحداثة الراهنة، غير ان هذا التحول المعرفي يتم في إطار لا يتوازي فيه تحول معرفي خارج الكتابة ضمن البنية الاجتماعية والسياسية، ولهذه الأسباب يقول نسيم اما ان يصل إلي طرف الهاوية سريعاً، أو يخلق هاويته الجديدة، هاوية لا تنشأ بينه وبين الماضي هذه المرة بل بينه وبين الحاضر، هكذا يقف معزولاً، وليس أدل علي عزلته - حسب نسيم - من كون التراجع الذي نراه الآن علي مستويات مختلفة يكشف عن الثبات النسبي الذي ظلت عليه البني الاجتماعية والثقافية في مقابل التسارع الهائل علي صعيد الفاعلية الإبداعية، هذا الانفصام - حسب نسيم - يكشف الحداثة وعزلتها ويجعلها محدودة من حيث مدي فاعليتها ضمن بنية الوجود العربي الكلية، وهنا تحديداً تكمن ازمة الحداثة فهي من جهة تحول معرفي واندفاع متسارع لا يوازيه تحول اجتماعي مماثل، هو تحرير للنص، للكتابة من السلطة، ضمن بنية ثقافية أو عمق ما يميزها التناص المتسارع لطغيان السلطة، ومن هنا يؤكد نسيم أن الحداثة تتحرك في مسار مضاد تماماً لحركة الوجود العربي.

يذكر أن الرسالة فجوة الحداثة العربية تضمنت ملحقاً كاملاً لوقائع المناقشة وبطاقات تعريف موسعة للمناقشين والمشرفين علي الرسالة، ومقدمة مطولة مسهبة لرئيس أكاديمية الفنون الدكتور مدكور ثابت تصل إلي ستين صفحة، وذلك عبر طبعة شديدة الأناقة والفخامة، وهي خطوة شديدة الأهمية في سياق إخراج الرسائل الجامعية المهمة إلي النور وإلي عموم القراء. وإن كان لي ثمة اقتراح علي الدكتور ثابت هو ضرورة تحرير بعض الرسائل المتخصصة قبل نشرها وإيقاع بعض الاختصارات الضرورية لتخليص الرسائل من بعض جفافها الأكاديمي ومن بعض نزوعها التعليمي طالما كان يطمح لتصديرها إلي عامة القراء.

وصاحب الرسالة محمود نسيم هو أحد شعراء السبعينيات في مصر وهو إلي جانب ذلك كاتب مسرحي وباحث وناقد ويعمل الآن مديراً لتحرير مجلة فصول المتخصصة في النقد الأدبي وقد اصدر عدة دواوين شعرية هي السماء وقوس البحر ، عرس الرماد ، كتابة الظل ، طائر الفخار ، مرعي الغزلان و الغرفة بالإضافة إلي بعض الدراسات المتخصصة عن صلاح عبد الصبور ومحمود دياب.

صدرت رسالة فجوة الحداثة العربية في 548 صفحة من القطع الكبير.