توظيف الدين في خدمة الاستعمار والهيمنة
توظيف الدين في خدمة
الاستعمار والهيمنة
إبراهيم غرايبة
يناقش مايكل برير رئيس كلية اللاهوت والدراسات الكتابية في جامعة سانت ماري، والذي أمضى عدة سنوات في فلسطين في كتابه "الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني" كيف استخدم الكتاب المقدس في دعم الصهيونية وتقديم المسوغ العقدي للفصل العنصري في القارة الأميركية وجنوب أفريقيا وفلسطين، وتشجيع الاستعمار العسكري المنبعث من أوروبا.
ففي أمريكا اللاتينية كان المستوطنون في ممارساتهم الوحشية يستمدون سلطتهم من شرعية دينية تبيح كل شيء بحق الكفار تماما كما سوغ الكتاب المقدس غزو بني إسرائيل أرض كنعان. وعندما زار البابا يوحنا بولص الثاني القارة الأميركية تسلم رسالة مفتوحة من الحركات الوطنية جاء فيها: نحن الأنديين والهنود الأميركيين عقدنا العزم على أن نعيد إليكم كتابكم المقدس لأنه طوال خمسة قرون لم يقدم لنا الحب والسلام والعدل، نرجو أن تأخذوا كتابكم المقدس وأن تعيدوه إلى مضطهدينا لأنهم بحاجة إلى تعاليمه الخلقية أكثر مما نحتاج إليها نحن، فمنذ أن قدم كرستوفر كولومبوس فرض ثقافة وديانة ولغة أوروبا بالقوة، وكان الكتاب المقدس السلاح العقدي لهذه الهجمة الاستعمارية.
الاستعمار وجنوب أفريقيا
ولجأ المستعمرون الهولنديون في تسويغ الفصل العنصري الذي اتبعوه إلى تفسير الكتاب المقدس ونصوصه وبخاصة سفر التثنية. وقد بدأ الهولنديون في بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر إقامة مستوطنات لهم في رأس الرجاء الصالح لحماية سفنهم وتزويدها بالمؤن، ثم انضم إليهم الهاربون من الاضطهاد الكاثوليكي في فرنسا، ثم استولى البريطانيون على الكاب في أوائل القرن التاسع عشر.
واختلقت القومية الأفريقانية القائمة على الأوروبيين المهاجرين إلى أفريقيا، ودعم اللاهوت الإصلاحي الهولندي ركائز الفصل العنصري، وجرى ربط ثقافي وتاريخي بين بني إسرائيل وهجرتهم واستيطانهم الأرض المقدسة وبين البوير )الأوروبيين المستوطنين الذين يسمون أيضا الأفريقان، وهو مصطلح مختلف بالطبع عن الأفارقة.(
واستخدم سفر التثنية لصياغة التاريخ المأساوي لجنوب أفريقيا، وذلك بالأساليب التأويلية والقراءة الخاطئة للكتاب المقدس التي استخدمت للاضطهاد والفصل والتمييز العنصري. وربما يكون برأي بعض الدارسين أن سفر التثنية بحد ذاته هو سفر خطير يؤكد الميول العنصرية وكراهية الغرباء والعنف وتصوير القوة وكأنها إرادة الرب.
ويتساءل الأفارقة السود الذين اعتنقوا المسيحية ولكن استمرت المعاملة الوحشية والقاسية بحقهم والقائمة على الكراهية والاستعلاء والتمييز: كيف يستخدم الكتاب المقدس الذي يؤمنون به لاضطهادهم واستغلالهم؟!
الاستعمار وفلسطين
بدأت فكرة دولة إسرائيل عمليا عام 1897 على أساس القومية اليهودية، وكانت مسألة الدولة اليهودية قومية أكثر منها قضية اجتماعية وحقوقا مدنية أو دينية، ويمكن حلها فقط بجعلها مسألة سياسية عالمية، وكان لجوء هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية إلى الباعث الديني خفيفا.
ولكن جرى صياغة وتطوير خطاب ديني قائم على التطرف والفصل وقتل غير اليهودي وطرده من فلسطين، مما جعل الصهيونية ذات طابع ديني وليس قوميا أو علمانيا كما سوقت في بداية تكوينها، وأصبحت كلمة صهيون ذات دلالات دينية، وتحولت المعارضة الدينية للصهيونية إلى مرجعية ومصدر إلهام.
ولاقى المشروع الصهيوني الاستعماري دعما دينيا واسع الانتشار -مسيحيا ويهوديا- ونظر إليه في معظم الدوائر اللاهوتية والدينية على أنه متوافق مع النبوءة التوراتية، أو على الأقل لم يكن أكثر مما يستحقه الشعب اليهودي بفضل وعود الرب الواردة في الكتاب المقدس.
واستمدت الصهيونية كثيرا من زخمها من التفسير الحرفي لنظرة الكتاب المقدس للأرض وبعض نصوصه المسيحية الخاصة بالمسيح المخلص المنتظر، مع التفات قليل جدا لحقوق السكان الأصليين.
وكان قيام دولة إسرائيل عام 1948 -كما نص إعلان قيامها- استجابة لأمر السماء وكما تخيلها أنبياء بني إسرائيل، ونجم عنه إجلاء غالبية السكان الفلسطينيين وتدمير قراهم والاستيلاء على مدنهم. وكان أشد ما يبعث على الأسى من المنظور الديني والخلقي هو أن الدعم العقدي الرئيسي للإمبريالية الصهيونية والعقبة الكأداء التي تقف في وجه معاملة السكان الأصليين باحترام يأتي من الدوائر الدينية التي ترى في القصص التوراتية عن الأرض أمرا ملزما، حتى إن أحد فلاسفة اليهود قال عام 1913 -وهو يرى التصرفات السيئة للصهاينة بحق الفلسطينيين- إنه يخشى المستقبل إذا وصل اليهود إلى السلطة، وأضاف: إذا كان ذلك هو المسيح المنتظر فإني لا أرغب في رؤيته آتيا.
ويبدو اليوم أن أي شخص يشكك في حق إسرائيل في أرض كنعان إنما هو في الواقع يعارض الرب وعهده المقدس الذي قطعه مع الآباء الأولين الذين ورد ذكرهم في التوراة، وأنه يكافح ضد كلمات ووعود الله المقدسة والمحرمة التي حلف بأن يحفظها.
ولفق مؤرخو الصهيونية تاريخا يتماشى مع ممارسات الأمم والحركات السياسية، وقاموا بتزييف خرافة الحنين اليهودي الدائم من أجل التخلي عن المنفى وتأسيس دولة يهودية خالصة في وطن الأجداد وسلموا بها كأنها النموذج عند كل جيل، وصمدت الآراء القومية الاستثنائية للحاخامات.
إن تكديس النصوص من فترات وأماكن مختلفة يعكس عزلة معينة عن الأرض المقدسة وإزعاجا في أماكن الشتات، ولا يصل إلى حد تقديم الدليل على الاضطهاد المستديم لليهود في كل مكان، فالخطر الجسيم لم يكن موجودا في كل مكان وفي كل وقت، ويدل على ذلك بقاء اليهود.
وكان حنين يهود الشتات إلى أرض إسرائيل مرتبطا بالعبادة، وظلت مجلدات الأدب اليهودي تناقش موضوع الهيكل والقرابين ولم تتناول القدس كمدينة.
أحدثت صحيفة هآرتس صدمة لقرائها عام 1995 عندما ذكرت أن الإصرار على توظيف التعامل مع قرابين الهيكل يفسد الحنين الدنيوي إلى القدس.
ومبعث الحج إلى القدس مرتبط بموقع الهيكل، ولم تكن القدس طموحا صهيونيا استعماريا، فالحجاج أساسا يزورون الأماكن المقدسة ويعودون من حيث أتوا، وبإصرارهم على تقديم سجل ناصع عن الإنجاز الصهيوني لم يعاود المؤرخون الرسميون للصهيونية ولدولة إسرائيل كتابة تاريخهم فقط، بل وأيضا الوثائق التي يقوم عليها مثل هذا التاريخ.
واستبعدت الإشارات الواردة والمتعلقة بأهداف الاستيطان وبالترحيل والاعتداء الذي وقع على السكان العرب، وحذفت من اليوميات والمذكرات والوثائق الأساسية كل ما كتب عن الوحشية والقتل الذي مارسته قوات الهاغاناه، مثل ذبح المئات من الرجال والنساء في طبريا وبيسان بعد استسلام المدينتين. وتساءل يوسف نحماني الذي شهد هذه المذابح: من أين أتوا بمثل هذا الإجراء البالغ القساوة الشبيه بالنازية؟
ولعل من أبرز آثار القراءة الصهيونية الشاملة للتاريخ اليهودي اختصار التنوع الغني في التجربة التاريخية اليهودية إلى نوع واحد من الدينامية العقائدية التي تؤكد بعض أكثر العناصر الانكفائية والوضعية في التقليد اليهودي، ألا وهو ذلك التقليد الذي تعتز به بانفصالها عن باقي الأمم وتقرير مصير الدولة اليهودية بغض النظر عن الغبن الذي يلحق بالآخرين.
فتلك النزعة الإثنية القائمة على كراهية الغرباء وخشيتهم والمبنية على مواقف الهيمنة والعنصرية والاستبعاد لا ترقى بهدف التقاليد الأخرى داخل اليهودية، وبذلك تدعو الجماعة اليهودية إلى أن تكون منارة للأمم.