قادة فتح الأندلس

وقصتنا في الفردوس المفقود

عبدالله زنجير

محمود شيت خطاب

عندما نصبح فريسة سائغة لكل أنواع التشويه والاستلاب، ويكثر الهرج والمرج ويلتبس الحق بالباطل.. لا بد من العودة إلى مربع البداية، لنعرف من نحن وما هي رسالتنا وما هو تاريخنا، حتى نقرأ الحاضر بعين البصيرة والوعي، ومن ثمَّ نستشرف المستقبل بكل الأمل والثقة والسبق. فالمستقبل لن يكون لغير الإسلام قولاً واحداً:

(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت 53.

إن ما يحصل في بعض بلداننا من تفخيخ وتفجير للسيارات، وقتل وتقطيع للرؤوس وتخريب وتدمير للمنشآت الاقتصادية، ليس أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر.. ولا يمكن أن يمت لمقاصد الجهاد بصلة.

وهنا تذكر كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل الحارث بن عمير الأزدي إلى هرقل يدعوه للإسلام، فقتله شرحبيل بن عمرو في الطريق.

ومن بعد أرسل وفداً إلى ذات الطلح –قرب دمشق- يدعو أهلها للإسلام، فقتلوا جميعاً وعددهم 15 رجلاً إلا رئيسهم. وخشي النبي أن يتجرأ الأعداء المتربصون على المسلمين، فأرسل جيشاً من ثلاثة آلاف إلى مؤتة جنوب الشام، وأوصاهم:

(ألا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً، أو امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا معتصماً بصومعة، ولا تقربوا نخلاً، ولا تقطعوا شجراً، ولا تهدموا بناءً..).

وهذه الوصية كررها أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع جيش أسامة بن زيد حين قال: (لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً فانياً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه.. ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم إليه، وسوف تأتون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها.. وسوف تلقون أقواماً قد فحصوا "كشفوا" أواسط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله).

هكذا هي مبادئنا وهذا هو شرفنا وهذه هي حروبنا ، وقد صدق جوستاف لوبون عندما قال:

"لم يعرف العالم فاتحاً أرحم من العرب".

ولعل من أهم ما نشر في هذا المجال، تلك الكتابات العسكرية الموثقة للبحاثة العراقي اللواء الركن محمود شيت خطاب (1919 -1998) فقد كتب رحمه الله أكثر من 126 كتاباً و228 بحثاً مستنيراً، تجلى في مجموعها جوانب هامة من حضارة الإسلام العسكرية، وأخلاق الجنود والقادة، ومقاصدهم ومعاركهم النبيلة:

(إن الفاتحين حملوا إلى الناس الإسلام بالفتح ولم يحملوا الناس بالفتح على الإسلام).

ومؤخراً صدر الكتاب الموسوعة (قادة فتح الأندلس) عن دار القبلة للثقافة الإسلامية في جدة ومؤسسة علوم القرآن في دمشق وهو الجزء التاسع من سلسلة قادة الفتح الإسلامي، ظهر للنور في غياب صاحبه الذي ندعو الله أن يتقبله في الصالحين. إنه يسلط الضوء على قضايا في الأندلس من الألف إلى الياء، كما يعرض لصفحات غير ذابلة من تاريخنا العسكري والسياسي في ذلك الفردوس المفقود الذي لم يتبق منه سوى الأطلال والموشحات.. وبالتالي ليؤكد بأن:

(عقيدتنا المستمدة من رسالة السماء، وتاريخنا الذي هو التطبيق العملي لتعاليم الإسلام ورجالنا الذين هم الترجمة العملية لروح الإسلام، وتراثنا الذي هو حصيلة الفكر الإسلامي، هي أعظم وأرفع وأنصع وأروع وأنقى وأطهر وأسمى وأبهر من كل ما وجد على الأرض من عقائد وتواريخ وتراث..).

وعلى مدى 900 صفحة في مجلدين نمضي في نزهة علمية وثقافية ماتعة مع الكاتب الراحل الذي قدم له الداعية الإسلامي د. محمد فاروق البطل، معرفاً بالمؤلف وجهوده الخيرة في كتابة (تاريخ الإسلام وفتوحه وحضارته وقادته بأسلوب جديد ومتميز ومتخصص) وهذا ما نشاهده من خلال بانوراما شاملة، تتحدث أولاً عن المدن والثغور والجبال والأنهار والسكان، ثم تنتقل لتاريخ الأندلس قبل الفتح وفي أيامه الأولى، وكذلك عبر الفتح وحضارة العرب والمسلمين في الأندلس ويستنتج المؤلف بأن (الهدف من فتح الأندس هو ترصين الفتح الإسلامي في شمال إفريقية بعامة، وفي ولايتي طنجة وسبتة بخاصة) إضافة لنشر الإسلام فيها.

وقبل أن يحكي لنا عن قادة الأندلس أمثال طارق بن زياد وموسى بن نصير والسمح بن مالك وغيرهم بأسلوب مبتكر يتوزع على أربعة أجزاء هي:

1–نسبه وأيامه الأولى/ 2 – الفاتح/ 3 – الإنسان/ 4 – القائد.. نراه يعرض للمعارك الحاسمة التي خاضها المسلمون هناك ضمن العهود التي توالت على تلك البلاد منذ معركة طارق في 5/رجب/ 92هـ الموافق 711م وحتى سقوط غرناطة في سنة 897 هـ التي توافق 1492م، وهي عهد الفتح، وعهد الولاة، وعهد الإمارة، وعهد الخلافة، وعهد الطوائف، وعهد المرابطين والموحدين ومملكة غرناطة، استغرقت أكثر من ثمانية قرون ما بين مد وجذر، لتنتهي بعدها دولة الإسلام في الأندلس، على يد الملكين العاشقين: فرديناند وإيزابيلا. بعدما تجمعت عوامل الفناء وأغلق باب العودة وتحكمت سنن الله التي لا تتخلف، فالأندلس (كانت تنتحر ببطء ولم تصغ لتوقعات المفكرين مثل ابن الخطيب وابن خلدون وسواهما. أما أرباب محاكم التفتيش وكما يؤكد اللواء الركن محمود شيت خطاب فـ (على نفسها جنت براقش فقد كانت الأندلس أستاذة الدول الأوروبية علماً وحضارة وفكراً وصناعة وزراعة وثراء، فأصبحت إسبانيا بدونهم في الدرك الأسفل من دول أوروبا).

(طارق والسفن)

يناقش المؤلف الخطبة الشهيرة لطارق بن زياد والتي مطلعها: العدو من أمامكم والبحر من ورائكم. ويستعرض مختلف الروايات والأقاويل التي وردت فيها، ليرجح بعدها حقيقة تلك الخطبة الرائعة (إنني مع الذين ينسبون هذه الخطبة لطارق) إلا أنه يستبعد حكاية حرق السفن رغم رواجها وتكرارها لا سيما من بعض الأقلام المستشرقة، وذلك لأن حرق السفن يخالف (مبدأ الاقتصاد بالقوة، أحد مبادئ الحرب المهمة، ولا يتفق مع المنطق والعقل) وقد كان طارق قائداً حصيفاً ذا مزايا قيادية، لا يتناسب أن يقدم على ذلك العمل المتهور، وطارق كان يبدأ أعماله بالاستطلاع المفصل ليكون على بينة من أمره فلا يضع خطوته إلا في موضع أمين، فهو يعمل دائماً بالنور.

(التجربة)

كان عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشدي الأموي، يفكر في إقفال المسلمين من الأندلس (إذ خشي تغلب العدو عليهم) لكنه عدل عن مشروعه، لأن المسلمين قد تكاثروا واستقروا. وهذا من بعد نظره وسداد سياسته، فلم يكن ينبغي أن يغرق المسلمون في الترف ومحيطهم يعج بالجهل والكفر (والدرس الذي ينبغي أن نتعلمه من مأساة الفردوس المفقود أن المسلمين انتصروا بعقيدتهم الراسخة ووحدتهم الصلبة، فلما تهاونوا بعقيدتهم وتفرقوا شيعاً خسروا بلادهم وخسروا أنفسهم) ومن العجب قول المؤلف رحمه الله (إن من فضائلهم أنهم تجاهلوا الزهد والتقشف، وتمتعوا في  حياتهم بجميع اللذات التي يقضي بها الاستعمال الحكيم للنساء والموسيقى والشعر) ثم يتحدث عن زرياب القرطبي الموسيقي الشهير ( الذي كان مرتبه 40000 دينار ذهبي في كل سنة، وكان يعرف عشرة آلاف صوت من نغمات الغناء) وأحسب بأن هذا يختلف مع ما انتهى إليه من أن (المسلم الذي أهمل عقيدته، أصبح مشغولاً بالترف والمال. لذلك تخلخلت نخوتهم وأصبحوا مسلمين جغرافيين لا مسلمين حقيقيين!) ثم هو يعيب على بني الأحمر ما ذهبوا إليه.. (لقد كان موقف أبي عبد الله مريباً، يدل على الأثر والخور والضعف الإنساني والتعلق بأسباب السلامة وانتهاز الفرص وهي ليست سمات المسؤول حقاً عن أمة وشعب ووطن).

إن مدرسة الأندلس لم تأخذ حظها من الرواية والدراية، على رغم (غارات المجاهدين على الثغور والشواطئ الإسبانية طوال القرن السادس عشر) والتي لم تسترجع مجداً غبر هناك كما أن (استحقاق دول للزوال لا ينشئ لغيرها حق الظهور والبقاء) والنقد التاريخي يتطلب الفصل المنهجي في عناصر ومسببات الهزيمة، سواء أكانت اجتماعية أو نفسية أو ثقافية أو أخلاقية أو سياسية أو عسكرية أو سواها، وذلك ضمن نسبية الأمور وميكانيكيتها. والمؤلف الكبير يحدد في النهاية 12 سبباً للهزيمة تحتاج إلى 12 سِفراً لتحليلها وتفكيكها، منها تهاون المسلمين في دينهم، وتعاونهم مع أعدائهم، واهتمامهم بالترف على التدريب والإعداد، وضعف قياداتهم العسكرية والدينية، وتفرق كلمتهم، وتناحرهم على السلطة، وانتشار الاضطرابات الداخلية، واتحاد النصارى الأوروبيين تحت إشراف البابا إلخ..

(الخاتمة)

لقد نجح المؤلف في التأريخ لقصتنا المكتنزة مع ذلك الفردوس الذي تخلى عنا لما تخلينا عن هويتنا ومُراد الوحي منا، فقبل سقوط غرناطة بأربعين سنة تقريباً فتح المسلمون القسطنطينية من المشرق وهذا النصر إنما حصل لتوفر أخلاق النصر، وتلك الهزيمة إنما حصلت لتوفر أخلاق الهزيمة وفي كل ذلك يبقى الإسلام العظيم سيد الموقف ونور الله الذي لن يُطفأ. وفي سرده لأخبار أولئك القادة نتعرف على النماذج الحقيقية للجهاد المقدس، بعيداً عن المغالاة والمراءات والغش والغبش، فهم خير قدوة في فهم العسكري وسموهم الإنساني..

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان والله تعالى من وراء القصد.