الاستغراب.. الغرب في عيون أعدائه
الاستغراب.. الغرب في عيون
أعدائه
عرض/
كامبردج بوك ريفيوز
بعد 26
عاما على صدور كتاب "الاستشراق" (1978) للراحل إدوارد سعيد، لا تزال
أصداء
الكتاب تتردد بقوة في حقول الدراسات الأدبية والأنثروبولوجية
والتاريخية.
غلاف الكتاب
-اسم
الكتاب: الاستغراب.. الغرب في عيون
أعدائه
-المؤلف:
إيان بيوريوما وآفيشاي مارغاليت
-عدد
الصفحات:
165
-الطبعة:
الأولى 2004
-الناشر:
بنغوين، نيويورك
ويرى
كثير من
الباحثين
أن ذلك الكتاب شكل ولا يزال يشكل انعطافة تاريخية في
سياق تلك
الدراسات,
حيث صار يؤرخ لها بحقبتين: حقبة ما قبل كتاب إدوارد سعيد,
وحقبة
ما
بعده.
والكتاب
الذي بين أيدينا "الاستغراب" (أي دراسة الموقف من الغرب) الذي
وضعه
بيوريوما
ومارغاليت ليس سوى إضافة جديدة وأنيقة إلى مجموعة الكتب التي
تنتمي
إلى تيار
ما بعد كتاب "الاستشراق".
وإن كان
هذا الكتاب يعتبر نوعا
من
المعارضة الأدبية لكتاب سعيد فهو يعكس
المعادلة
الأصلية التي جاء بها إدوارد
سعيد ويقدم
لنا صورة "الغرب" كما تبدو في
نظر "أولئك
الذين يعلنون أنفسهم أعداء
لنا"، على
حد تعبير المؤلفين.
إن فكرة
"الاستغراب" ليست بالفكرة الجديدة.
فقد نسبت
في تسعينيات القرن الماضي
إلى مدارس
وكيانات مختلفة منها -على سبيل
المثال لا
الحصر- الصين في الفترة
التي تلت
حكم الرئيس ماو تسي تونغ، والفنون
الإسلامية،
والدراسات التي تناولت
المجتمعات
"البدائية".
إلا أن ما
يميز
كتاب بيوريوما
ومارغاليت ويثير حوله الاهتمام هو أنه يتناول
موضوعا
آنيا
وساخنا.
فالاستغراب أو الموقف من الغرب، الذي يقصدانه في هذا
الكتاب، هو
ذلك
الموقف الذي تسلط
عليه الأضواء في السنوات الأخيرة على نحو مكرر
وقاس وهو
الموقف
المعادي للغرب، أو بالأحرى حالة الكراهية المرضية له.
في هذا
الإطار
يعتبر الكتاب
مساهمة محمودة في الجدل الدائر حول "الاستشراق" وفي التعقيبات
المتوالية
حول تأثيرات "الحرب العالمية على الإرهاب"، وهي التعقيبات
التي يعكس
قسم كبير
منها رؤى تتعلق بمفهوم "صدام الحضارات" ويقدمها أصحابها دون
تحفظ
يذكر.
المنهج
الاستطرادي
”
الاستشهاديون ومنفذو الهجمات الانتحارية
المعاصرون
ليسوا ضحايا حالة مرضية
مقصورة
عليهم وحدهم إنما هم حملة أفكار نارية
تستمد
جذورها من تاريخ يتجاوز
الحدود
الجغرافية والزمنية”
وكما كانت
عليه الحال
بالنسبة لإدوارد سعيد، فإن بيريوما ومارغاليت يتبعان
المنهج
الاستطرادي: وكل همهما أن يلاحقا منشأ المشاعر المعاصرة المعادية للغرب
وما لها
من سابقات
تاريخية، وهي المشاعر التي اتخذت أوضح أشكالها وأشدها عنفا
في أحداث
الحادي عشر
من سبتمبر/ أيلول 2001.
وينطلق
المؤلفان من الافتراض أن "الصورة
اللاإنسانية التي تقدم للغرب من قبل
أعدائه"
ليست جديدة ولا تشكل حالة فريدة.
حيث يعتقد
المؤلفان أن "الاستشهاديين
ومنفذي
الهجمات الانتحارية المعاصرين
ليسوا
ضحايا حالة مرضية مقصورة عليهم
وحدهم إنما
هم حملة أفكار نارية تستمد
جذورها من
تاريخ معلوم. وهو تاريخ يتجاوز
الحدود
الجغرافية
والزمنية".
ويمكن
قراءة صفحات من ذلك التاريخ في هجمات الكاميكازي
الانتحارية
اليابانية
التي نفذها
الطيارون الذين اندفعوا صوب الأهداف الأميركية
في
الباسيفيك إبان
الحرب
العالمية الثانية غير عابئين بالموت الذي كان ينتظرهم
في أعماق
المحيط.
وقبلهم عرف
التاريخ "السلافوفيليي" أو "عشاق الوطن
السلافي"
الذين ظهروا في
روسيا
القرن التاسع عشر والذين دعوا إلى التمسك بالروح
الروسية
"العضوية" كنقيض
مضاد
لـ"العقل الغربي" الذي كانوا يجدونه متعجرفا،
باردا،
وخاليا من الروح.
كذلك عرفت
الساحة تلك التوجهات الإسلامية التي تدعو
إلى نوع
معاد من "الاستغراب
الديني"
الذي كان ولا يزال يصور الغربيين على أنهم
"عبيد
للمال والجشع" ويرى أن
ما يمكن أن
يلحق بهم من أذى ليس سوى عقاب الله
الذي
استنزلوه على أنفسهم.
حالات معممة
في عدد من
الفصول الموضوعية
المتميزة
بلغتها البليغة، يقدم المؤلفان مجموعة من
الحالات
الدراسية المطعمة
هنا وهناك
بالملاحظات الذكية. ويتناول كل فصل من تلك الفصول جانبا مختارا من
"الاستغراب".
وهي حين تؤخذ مجتمعة تقدم "فكرة، أو قل
رؤية،
لمجتمع آلي خال من
الروح
الإنسانية" هو المجتمع الغربي المنزوع الإنسانية
إلى الحد
الذي يبرر
الهجمات
المميتة التي يمكن أن تشن على الغرب وساكنيه.
وإذا ما
بدت هذه
الانتقادات مألوفة
بالنسبة للقارئ الغربي فإن هذا هو بالضبط ما
سعى إليه
المؤلفان.
إذ تقوم نظرية بيوريوما ومارغاليت على الاعتقاد بأن "الصور
النمطية"
التي باتت
تستخدم للتعبير عن معاداة الغرب كانت قد أنتجت أصلا من قبل
الغرب
نفسه.
ويجد
القارئ في الكتاب حكايات الرومانسيين والثوريين والمفكرين
والمعلمين
من
الأوروبيين تتمازج
وتتقاطع مع الخطاب المعادي للغرب كما أطلقه
الماويون
والقوميون
الهندوس وغيرهم.
تبعا
لمؤلفي الكتاب، لم يكن من باب
المصادفة
أن متطوعي الكاميكازي كانوا
"يعتبرون
أنفسهم ثوارا ثقافيين ضد ما كان
يشكل، في
نظرهم، الإفساد الغربي
لليابان،
والجشع الأناني للرأسمالية، والخواء
الأخلاقي
لليبرالية، والضحالة
التي تميز
الثقافة الأميركية".
لقد كانوا،
في
غالبيتهم، شبانا يدرسون الآداب والفلسفة، وكانوا مشبعين بأفكار
نيتشه
وهيغل
وكارل ماركس. كما
لم يكن مصادفة، أيضا، أن يكون سيد قطب، وهو واحد
من أقوى
الأصوات
الثورية الإسلامية في مصر، قد أمضى عامين في الولايات المتحدة
في منتصف
القرن
العشرين حيث دفعه اطلاعه المباشر على "الفردية العمياء" و"عبادة
اللذة"
المستشرية
في المجتمع الأميركي إلى أن يصبح "استغرابيا" حقيقيا.
يقدم هذا
التحليل
إطارا واسعا لفهم آليات الفهم المتبادل بين الغرب وبقية
العالم,
ويفك
حصريتها الراهنة
بالنظرة العدائية المتبادلة بين الغرب والعالم
الإسلامي.
فما
ينطبق على التطرف
الإسلامي الراهن في نظرته للغرب ينطبق أيضا على
"تطرفات"
الآخرين,
والمسؤولية ليست محصورة في المجتمعات التي ينشأ فيها ذلك
التطرف, بل
يشترك فيها
الغرب بالتساوي, سواء عن طريق السياسات التوحشية أو
التوترات
الإنسانية
والحضارية التي فجرها مشروع الحداثة بشكل عام.
تداخل
الخطابات
النقدية”
الطريقة المثلى لفهم الاستغراب هي اعتباره تفرعا فكريا نشأ عن
التاريخ
السياسي
والفكري للغرب”
لا يقل عن
ذلك أهمية في تحليل المؤلفين
التقاطتهم
المبدعة لتداخل النقد الذاتي
الغربي
للحضارة الغربية مع النقد
الخارجي,
وكيف أن النقد النابع من داخل
الدائرة
الغربية صار يستغل, وأحيانا
ببشاعة, من
قبل خصوم الغرب.
ولعل أكثر
الشواهد النظرية على هذه الصيرورة
-وإن لم
يتوقف المؤلفان على عمقها
النظري
بالشكل المطلوب- هو سجالات الحداثة
وما بعد
الحداثة. إذ إن مشروع ما بعد
الحداثة
يقوم على تقويض قاس ونقد لا يرحم
لمشروع
الحداثة نفسه, لكنه متساوق مع
التطور
والسياق الغربي لتحولات الفكر
الغربي.
لكن ما حدث
على صعيد العالم غير الغربي, وخاصة في دوائر المثقفين
العالم
ثالثيين هو
أن معظم نقد ما بعد الحداثة تم تبنيه وتوجيهه نحو الغرب
عموما, أي
تم استخدام
النقد الذاتي الغربي كأدلة على فشل المشروع الغربي. لكن
تلك
الاستخدامات والتوظيفات لم تكن دائمة موفقة أو دقيقة, بكونها خارجة عن
السياق,
وقادمة من
فضاء آخر.
لهذا, فإن
حجة المؤلفين، التي يدعمها
نثرهما
السلس الدفاق، مقنعة إلى حد ما.
فالاستغراب، كما يقدمانه، قد نشأ
بطريقتين
متداخلتين: أولا من خلال الاطلاع على
النقد
الذاتي التاريخي الذي كتبه
الأوروبيون. وثانيا كردة فعل ضد الأنظمة
السياسية
والثقافية السائرة على النسق
الغربي في
بعض دول الشرق الأوسط.
ومن هنا
تبدو الدراسة التي قام بها
المؤلفان
والتي كشفت عن العلاقة القائمة بين
أنواع
الخطاب التي تبدو متعارضة في
الظاهر
إنجازا يستحق الثناء. لكن تعريفهما
الضيق
للاستغراب على أنه "مجموعة من
المشاعر
والصور والنماذج النمطية المعادية
للغرب كما
يبدو في نظر أعدائه" يثير
بعض
التساؤلات عن طبيعة الاستنتاجات التي
توصلا
إليها.
ففصول
الكتاب
جميعا تدور حول
صورة أساسية للغرب بصفته "مجتمعا آليا خاليا من
الروح
الإنسانية"، وهو انتقاد طالما وجهه العديد من المفكرين والكتاب
الأوروبيين
والأميركيين للمجتمعات الصناعية الغربية. فإذا كانت هذه الفكرة وما
نشأ عنها
من
خطابات متفرقة هي
التي تكمن وراء تعريفهما للاستغراب، أفلا يعني
ذلك أن
الاستغراب
نفسه قد نشأ من أصول غربية؟
إلا أن
الاستغراب يشمل أمورا أخرى
تتجاوز
مجرد الخصومة المعادية للغرب. إن
اعتماد
التعريف الذي جاء به بيوريوما
ومارغاليت
للاستغراب يعني شمول أطياف
كاملة من
الحالات العشوائية التي تمثل
معاداة أي
شيء يمكن أن يرتبط بالغرب كما
هي الحال
بالنسبة للمعارضة الداخلية
الموجودة
في عدد من دول الشرق الأوسط
وغيرها
للأنظمة السياسية التي تتبع المنهج
الغربي.
كما أن هذا
التعريف يستبعد، في الوقت ذاته، مجموعة من المواقف
الواعية
والمنظمة
من الغرب والتي لا
تصدر عن الكراهية. ففي ميلانيزيا
-على سبيل
المثال-
تقوم
العلاقة بين
السكان العاملين في قطاع النقل وبين "الرجال البيض"
على نوع من
الروابط
التبادلية التي تستفيد مما يأتي به الآخر من معرفة وبضائع
تشمل
الأسماك
المعلبة والطائرات
وأجهزة المذياع وغيرها.”
هل نظر
بيوريوما
ومارغاليت إلى الغرب حقا من خلال عيون الآخرين أم أن كل ما
فعلاه لا
يعدو أن
يكون مجرد إملاءات لما يعتقدان بأن تلك العيون قد رأته؟”
إن هذه
العلاقة
غالبا ما قامت وتكرست على أسس من التبادل والتناظر. وعند إمعان
النظر
في هذه
العلاقة نجد أن الإطار الذي حدده بيوريوما ومارغاليت لا وجود له
فيها.
فهل نستطيع
أن نعتبر هذه العلاقة نوعا من أنواع الاستغراب أيضا؟
يكشف لنا
هذا
النموذج عن تحفظ مهم يكاد أن يحجبه النثر البليغ والمقنع للكتاب.
ذلك
التحفظ
يكمن في أن الكتاب لا ينصف مجموعة كبيرة من المواقف المتنوعة التي
يتخذها من
الغرب أناس وشعوب على امتداد العالم كله.
ففي نظر
مؤلفي
الكتاب، تكون
الطريقة المثلى لفهم الاستغراب هي اعتباره تفرعا
فكريا نشأ
عن
التاريخ السياسي
والفكري للغرب. ومن هنا نجد أن المصطلحات التي
يستخدمانها
والأطر
التي يفسران من خلالها الغرب تعامل، في النهاية، على أنها
غربية بغض
النظر عن
درجة انتسابها إلى مؤلفات الاستغرابيين وأعمالهم.
فالكتاب لا
يعنى
كثيرا بالفكر
والثقافة المحليين، ولا يتوقف طويلا عند الاحتمال
القائل بأن
المواقف
الاستغرابية المختلفة يمكن أن تكون قد نشأت بطرق مختلفة.
فالغرب هنا
يعامل
كمصدر للاستغراب وكهدف له ضمن إطار مقرر مسبقا يميل إلى
اختزال
الظاهرة
كلها في عدد من
التعاريف المبسترة. ولا يملك القارئ، في نهاية
المطاف،
إلا أن
يتساءل عما إذا
كان بيوريوما ومارغاليت قد نظرا إلى الغرب حقا
"من خلال
عيون
الآخرين"، أم إن
كل ما فعلاه لا يعدو أن يكون مجرد إملاءات لما
"يعتقدان"
بأن
تلك العيون قد رأته؟