رأس المال والرذائل الجديدة

كامبردج بوك ريفيوز

عرض/ كامبردج بوك ريفيوز

    هل الرذائل هي سبب تطور المجتمعات الأوروبية أم الفضائل؟ هذا هو السؤال المستفز والمفاجئ الذي قد يصدم قارئ هذا الكتاب, حيث يواجه أطروحة قلما يطالعها بمثل هذه المباشرة, وربما الفجاجة.
 

غلاف الكتاب
-
اسم الكتاب: رأس المال والرذائل الجديدة
-
المؤلف: أمبيرتو غالمبرتي
-
عدد الصفحات: 128
-
الطبعة: الأولى 2004
-
الناشر: فلترينيلي

يقول أمبيرتو غالمبرتي في المقدمة القصيرة التي صدر بها كتابه هذا:

إن فكرة الكتاب جاءته من قراءة مقالة قديمة كتبها عام 1724 برنارد دي ماندفيل تحت عنوان
"
دفاع متواضع عن المواخير العمومية".
يشترك غالمبرتي مع ماندفيل في كون الرجلين قد أنفقا حياتهما في محاولة لفهم المجتمع الذي عاشا فيه.
وقد اشتهر من بين أعمال ماندفيل الأخرى عمل قصير آخر حمل عنوان "خرافة النحل".
لكن كتابه الثالث "رذائل خصوصية.. مزايا عمومية" هو الذي ثبّت فيه ماندفيل مطلع القرن الثامن عشر استنتاجاته التي تفيد بأن الفضائل والمشاعر الطيبة لا يمكن أن تعتبر أساسا لأي مجتمع، في حين أن ما نعتبره "رذائل" -وهي الحطة الأخلاقية والاجتماعية- هي التي مكنت البشر من العيش في جماعات منظمة قائمة على العلاقات المتبادلة.
أما غالمبرتي وهو أستاذ الفلسفة وعلم النفس في جامعة فينيسيا، فقد بحث في الكثير من أعماله المنشورة الوجوه المتعددة للروح الإنسانية.
وفي كتابه "رأس المال والرذائل الجديدة" -وهو آخر ما صدر له من أعمال- يركز تحليلاته على قضيتين مختلفتين.
ففي القسم الأول من الكتاب يركز جهده على محاولة فهم الكيفية التي ينظر بها المجتمع الحديث إلى الكبائر السبعة التقليدية وهي: الغضب، والحسد، والكبرياء، والجشع، والشهوانية، والكسل، والنهم.
أما في القسم الثاني فينتقل إلى ما يعتبره الكبائر السبعة الجديدة في عصرنا، وهي الكبائر التي يحددها غالمبرتي بما يلي: النمطية، والاستغراق في الجنس، والإنكار، والوقاحة، والخواء، والاختلالات العصبية، وثقافة المستهلك.
قديما أقام ماندفيل حجته على اعتقاده بأن الرذائل الإنسانية -وليست الفضائل- هي التي تتمتع بأهمية جوهرية بالنسبة لاقتصاد أي بلد. وفي نظر ماندفيل لا يمكن اعتبار الفضائل إلا إذلالا وإخضاعا لحاجات الناس وآمالهم، وهو أمر لا يساعد على
نمو الاقتصاد الذي يستند إلى إشباع حاجات الناس ورذائلهم.
هذا المبدأ الذي استخدمه ماندفيل لتوصيف المجتمع الأوروبي في القرن الثامن عشر يعاد بعثه على يد غالمبرتي في كتابه الجديد الذي يعمل فيه على توصيف المجتمع الأوروبي الحديث.
وقبل أن يتناول بالتفصيل والتحليل الكبائر الأربعة عشر: التقليدية منها والجديدة، يطرح غالمبرتي سؤالا مثيرا للاهتمام انطلاقا من حجج ماندفيل التي حركت أفكاره، فيتساءل بدهشة عن الطريقة التي أصبح يمكن بها الجمع بين التعاليم
المسيحية والمستوى العالي من الرفاهية الذي بلغته المجتمعات الأوروبية اليوم.
وبكلمة أخرى كيف أمكن الجمع بين أخلاقيات التواضع والخضوع التي جاءت بها الديانة المسيحية وبين ثقافة الاستهلاك التي تعم مجتمعات اليوم؟ فرغم المحاولات التي بذلت لتبرير قيام مجتمع استهلاكي مسيحي، فإن التعاليم المسيحية وثقافة
المستهلك ظلا موضوعين مختلفين وبالتالي غير قابلين للتعايش معا، على الأقل من الناحية النظرية.
ويرى المؤلف أن ما تم على صعيد الواقع هو أن المجتمع الأوروبي قام بتصدير القيم المسيحية إلى الدول الأفقر بمجرد عبوره من واقع الحاجة إلى حالة الرفاهية. على أن المثير مما يراه المؤلف يظل مسألة اعتبار هذه الرذائل الوقود غير المباشر للجموح التطوري الذي شهدته المجتمعات الأوروبية.
فالانفكاك من "أسر" الفضائل الدينية ومحدداتها وضوابطها هو الذي ترك للإنسان أن ينطلق بلا حدود في كل الاتجاهات محققا ما حققه في العصر الحديث.
تناقض هذه الأطروحة الكثير من الرؤى الأخلاقية التي تنظر إلى مسألة الحضارة والتقدم نظرة أخلاقية وتربط بين صمود الحضارة وبلوغها رقيا ما ومدى التزامها بأخلاقيات معينة، وبأن أفول الحضارة -أي حضارة- إنما يرتبط بمستوى انحدارها
الأخلاقي، عكس ما نقرأه في هذا الكتاب!
رذيلة ثقافة الاستهلاك

ثقافة الاستهلاك رذيلة كبرى لأنها تقوم على شراء الأشياء التي سنرميها بعيدا حين يروق لنا ذلك

إن المساحة المخصصة لهذه المراجعة لا تسمح بتقديم استعراض تفصيلي لكل واحدة من الرذائل التي يدرجها غالمبرتي، لذا يمكن الاكتفاء باستعراض ثلاثة فقط من الرذائل الجديدة من أجل إعطاء القارئ فكرة وافية عن وجهة نظر المؤلف.
فإذا ابتدأنا بالرذيلة الجديدة الأولى وهي "ثقافة الاستهلاك" لوجدنا أننا محاصرون أولا بالتساؤل عن السبب الذي يجعل من هذه الثقافة رذيلة في نظر غالمبرتي، رغم كونها علامة على الرفاهية والتقدم.
يقول المؤلف في معرض الإجابة على هذا التساؤل إن ما يجعل ثقافة الاستهلاك رذيلة كبرى في نظره هو أنها تقوم على شراء الأشياء التي سنرميها بعيدا حين يروق لنا ذلك. ومن خلال ثقافة شراء الحاجيات ورميها بعيدا، أقام المجتمع الاستهلاكي هويته الخاصة به وحدد وضعه الاجتماعي، وعرف فكرته الخاصة عن الحرية.
ويستطرد غالمبرتي مؤكدا أن مبدأ استهلاك المواد وطرحها جانبا لا يمثل النهاية الطبيعية لتلك المواد، إنما بات يحدد الغرض الرئيسي منها.
يضاف إلى ذلك أن التكنولوجيا الحديثة قصرت من عمر أي منتوج، إذ سرعان ما يتحول إلى بضاعة غير مفيدة أو يتجاوزه الزمن في بحر سنوات أو شهور قليلة. عندها يجد المستهلك نفسه "مضطرا" إلى تغيير ما لديه من منتوج وشراء الجديد الأكثر كفاءة أو الأفضل نوعية.
وكان الفيلسوف كانت قد أدان ما أسماه عدم احترام الأشياء واعتبره موقفا مضادا لمبادئ الأخلاق الجوهرية. ومن هنا فإن غالمبرتي يجادل بأن الأشخاص الذين ينشَؤون على قيم المجتمع الاستهلاكي لا يكونون قادرين على اعتناق مجموعة مغايرة
من القيم عندما يتعلق الأمر بذواتهم أو بالناس المحيطين بهم.
رذيلة الوقاحة

رذيلة الوقاحة هي حالة انعدام الحياء وعدم الشعور بالحرج عند عرض الجوانب الشخصية من ذواتنا

أما الرذيلة الثانية في نظر المؤلف فهي الوقاحة. فثقافة الاستهلاك عندما اقترنت برذيلة النمطية، أصبحت مسؤولة عن ظهور رذيلة جديدة ثالثة هي الوقاحة.
ويعرّف المؤلف هذه الرذيلة بأنها حالة انعدام الحياء وعدم الشعور بالحرج عند عرض الجوانب الشخصية من ذواتنا. ويتبع هذا المنهج أولئك الأشخاص الذين يريدون الظهور أو التماهي مع الأفراد من ذوي الشأن في المجتمع.
وهكذا سنجد أنفسنا في نهاية المطاف بمواجهة أفراد لا يخجلون من شيء. لكننا سرعان ما نكتشف أن ما يتبقى لهؤلاء من خصوصياتهم هو ذلك الجانب الذي يبعدهم في النتيجة، عن ذلك المجتمع الذي يريدون أن يكونوا جزءا منه. وغالبا ما يتمثل هذا الجزء في الألم، والمرض، والفقر.
ومما يبرهن على ذلك ازدياد عدد حالات الانتحار التي ارتكبت خلال العقود الماضية مقارنة بمثيلاتها في الماضي الأبعد. فالشيء الذي قرر الناس الإبقاء عليه لذواتهم لم يكن الخصوصية والجوهر الأساسي لشخصية كل فرد وحريته، إنما المرض
والآلام وهي الأمور التي لا يرغب أحد في معرفتها أو مشاركتهم فيها.
رذيلة الخواء

من بين صيغ الخواء الأكثر شيوعا الخمول وعدم الفاعليةوهي حالة تتميز بالشعور بالاستسلام وبنوع من الخنوع يعرف "بطراز ما يكفي"

الرذيلة الأخيرة هي الخواء، وهي رذيلة يمكن رصدها بشكل خاص بين الشباب، وإن كانت غير مقتصرة عليهم. ومن بين صيغ الخواء الأكثر شيوعا الخمول وعدم الفاعلية، وهي حالة تتميز بالشعور بالاستسلام وبنوع من الخنوع يعرف "بطراز ما يكفي".
إلى هذه المجموعة من الناس ينتمي الشبان الذين يتحدثون مع والديهم على قدر "ما يكفي"، والذين تنتابهم رغبة في النضوج ولكن على قدر "ما يكفي" وحسب. وهم أشخاص ليست لديهم خطط للمستقبل لعدم وجود "ما يكفي" من الفرص المتاحة لهم، وليست لديهم قدوة يقتدون بها لأن النماذج التي يعرفونها ليست جيدة بالقدر "الكافي".
وبهذه الطريقة يجد الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين أنفسهم في عالم خاوٍ ليس للعائلة دور فيه، وليس للزمن قيمة فيه، الأمر الذي يؤدي إلى فقدانهم الاحترام لذواتهم.
والخلاصة فإن المؤلف يعتقد بشدة أن الرذائل لا الفضائل، هي التي توصّف المخلوقات البشرية. وكان أرسطو أول من وصف الرذائل بأنها نوع من "الطبيعة الثانية" للإنسان، وهي الصفات السيئة التي تنشأ عند البعض نتيجة اتباعهم منهجا
خاطئا في الحياة.
أما في العصور الوسطى فلم تعد الرذائل الكبرى توصف بأنها عادات سيئة، إنما باتت تعتبر مظهرا لموقف خاطئ يتخذه البشر من الله.
وفي عصر التنوير حين ساهمت الرذائل الكبرى في نمو الاقتصاد، لم تعد تعتبر سلوكاً شائناً في المجتمع كما يظهر ذلك في كتابات ماندفيل.

الرذائل التقليدية تعبر عن شخصية قوية لدى صاحبها في حين أن الرذائل الجديدة تعتبر شاهدا على انحلال شخصية الفرد وذوبانها في الهوية الجمعية


وفي القرن التاسع عشر كان الفيلسوف "كانت" المبادر بالإشارة إلى الرذائل بوصفها جزءا من الشخصية الإنسانية. أما بالنسبة لسيغموند فرويد فلم يعد أن للرذائل علاقة بعالم الأخلاق، وصارت تعتبر أمراضا حقيقية واختلالات تصيب الروح على وجه التحديد. ليس للرذائل الجديدة مثل هذه الخلفية التاريخية، ولهذا السبب يطلق المؤلف عليها صفة "الجديدة".
وبالنظر إلى اختلافها عن الرذائل التقليدية، فإن بالإمكان تعريف الرذائل الجديدة بأنها "نزعات جماعية". ويعني ذلك ضمنا أن الرذائل التقليدية تعبر -بطريقة أو بأخرى- عن شخصية قوية لدى صاحبها، في حين أن الرذائل الجديدة تعتبر
-
على العكس من ذلك- شاهدا على انحلال شخصية الفرد وذوبانها في الهوية الجمعية.
على أن هذا التحديد لرذائل جديدة ومحاولة تعريفها بالعصر الحديث والتطور الأوروبي، يظل محط تساؤل وشك. فالرذائل التي يشير إليها المؤلف ليست جديدة بالكلية, وقد وجدت مع الإنسان وحضارته على مر العصور.
إضافة إلى ذلك فإن السؤال الأخير الذي يطرح نفسه مع نهاية الكتاب هو ما إذا كان يمكن اعتبار هذه الرذائل الجديدة علامة على الحداثة؟ كلا، يقول المؤلف في نهاية الكتاب، ولكن يمكن النظر إليها بوصفها ضررا شنيعا من مضار الحداثة.