مقدمة الجزء الرابع من الإخوان المسلمون في سورية

د. عبد الله الطنطاوي

مقدمة

الجزء الرابع من كتاب:

الإخوان المسلمون في سورية

1977-1983

عدنان سعد الدين

المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سورية

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

تأليف: عدنان سعد الدين

بقلم الأديب الأستاذ: عبد الله الطنطاوي

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على مصطفاه..

الكاتب:

في كل جزء من أجزاء هذا الكتاب البديع، أحاول تقديم الكتاب، دون كاتبه، فيضعف القلم، ويستجيب لضمير صاحبه، ويأبى إلا الحديث عن المؤلف في اقتضاب تستدعيه المناسبة، ويوجبه الإنصاف، لرفع الغطاء عما استتر من جوانب شخصيته الفذة..

سألني أخ كريم، وهو كاتب له عشرات الكتب المطبوعة والمخطوطة:

- لماذا نطالع الكثير عن شخصيات مهمة عبرت تاريخنا العظيم، ولا نكاد نجد مثل تلك الشخصيات في حياتنا المعاصرة؟

فأجبت: لأن سلفنا الصالح منصف، ويحب أن يشيع حديث عظماء الرجال بين الناس، ليتخذوا منهم قدوات يتأسون بها، فكانوا يتتبعون حسنات الرجال، وينشرونها في كتب يتداولها القراء، أما نحن.. في أيامنا.. فالتنافس غير البريء، يغشى ألسنة الناس، ويكسر أقلامهم، لتسود قالة السوء، بدلاً من التحدث بنعمة الله الذي أنعم على هذه الأمة برجال هم ملء العين، والعقل، والقلب.. (وإن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها..) وإلا.. فإن الرجال الذين تعنيهم موجودون، وإن كانوا قلة، وهؤلاء لا يتحدثون عن أنفسهم، لأنهم لا يحبون أن يُحمدوا بما فعلوا، فيما غيرهم يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فشالت كفة هؤلاء..

وكان تساؤل ذلك الأخ الكاتب الأديب، حافزاً لي في العناية بسير الرجال في القديم والحديث..

كان لا بد من هذا التمهيد، من أجل الحديث في إيجاز عن مؤلف هذا الكتاب، بالرغم من كراهته لهذا الحديث..

الأستاذ عدنان -صاحب هذا الكتاب- متعدد المواهب والاهتمامات، فهو مثقف ثقافة سياسية متميزة، أكسبته حساً سياسياً  متميزاً، وثقافة شرعية، وثقافة أدبية، فهو خريج كلية اللغة العربية في جامعة القاهرة، وهو إعلامي، كتب في الصحافة السورية والعربية والإسلامية منذ شبابه، وقدم العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وكتب النشرات السياسية والدعوية لجماعة الإخوان المسلمين، لأنه تلميذ نجيب للأستاذ الدكتور عبد العزيز كامل، رحمه الله تعالى، وغفر لنا وله، وحاضر في المؤتمرات في بلاد الله الواسعة، وشارك في الندوات، وعقد العديد من المؤتمرات الصحفية في الشرق والغرب.

وهو رجل منهجي، شارك في كتابة المناهج المدرسية، وانتقد المناهج القائمة، لأن له تصوراً خاصاً منبثقاً من تصوره الإسلامي لما يجب أن تكون عليه المناهج، لتربية أبناء العروبة والإسلام، من أجل النهوض بأمتهم التي آدتها أثقال السنين بتراكماتها الشتى.. وتعليمهم ما ينفعهم وينفع أمتهم المثقلة بضروب التخلف..

والمؤلف كاتب، ومفكر، ومؤرخ، وراصد أمين للحوادث، وصاحب قلم يكتب بعفوية محببة، وبأسلوب رشيق وسهل، يرضى عنه العلماء والمثقفون، ويفهمه المتعلمون وأنصافهم، بلا تكلف ولا ادعاء.. إنه أسلوب أدبي رصين.. وهو صاحب رأي لا يستهان به، بل هو موضع تقدير وتأييد..

وهو، بهذا وذاك وسواهما، شخصية عامة، استأثرت جماعة الإخوان المسلمين بمعظم اهتماماتها.. ولو أتيح له هامش مجزٍ من الحرية في بلده، في ستينيات القرن الماضي فما بعدها، مثلما أتيح له قبلها، لكان لسورية وللإخوان منه شخصية تعين على سد الثغرات، وملء الفراغ الذي حصل بوفاة القائد البارع الشيخ مصطفى السباعي، تغمده الله بفيض رحماته ورضوانه، ولكان في عداد السياسيين البارزين من اليسار واليمين، ولكن النظام البعثي القمعي حال دون ذلك، فقد شل كل الفعاليات الحية في بلدنا الحبيب، شل فعاليات الأحزاب، والجمعيات، والشخصيات، وشل الحياة السياسية، والحياة الاقتصادية، والحياة الفكرية، وأبعد رجالات سورية عن ميادينها الحيوية، سجناً، وقتلاً، وإبعاداً، وتشريداً.. وقد نال المؤلف مثل ما نال سواه من إبعاد، ومنع، ومطاردة، ومصادرة، وتشريد.. ولولا ذلك، لكان ملء السمع والبصر، ومع ذلك، تسامى على جراح الغربة ومواجعها ومعوقاتها ونوازلها ومتاعبها ومشاقّها، ومن ذاقها عرف ويلاتها وقيودها وإحباطاتها، وقاد الجماعة داخل حقول من الألغام الداخلية والخارجية، إقليمية ودولية، وحقق -مع إخوانه العاملين معه- بعض ما كان يصبو إليه من ألوان النجاح، وحالت ظروف قاهرة دون تحقيق المطامح الكبرى التي كان يخطط لها، ويسعى إليها، بدأب قل نظيره، وقل مقدروه.

 الكتاب:

كنت، وما أزال، أعجب من قدرة المؤلف الكبير على متابعة الخوض في هذا الموضوع الوجيع، فهو في كله أو جله: جراح وآلام وأحزان، دماء، وأشلاء، لم يتحمل قلبي الواهن سماع الحديث عنها، فكنت أقرأ بضع ورقات، ثم أنهض عن مكتبي لأقوم بعملية (تبريد) يهدأ فيه بعض خفقانه، ويقر بلباله، لأنه -في مجمله وفي تفصيله- ينكأ الجراح، ويثير السخط والغضب، ويدعو إلى فضح أولئك الأوباش، لتخليص الشعب والأرض والعرض، من أوزارهم وجرائمهم المتوحشة.. أقول هذا، على الرغم من درايتي المسبقة بالكثير مما جرى على أيدي الوحوش البشرية.. كنت أقرأ ثم أنصرف عن القراءة، رأفة بحالي، وإشفاقاً على قلبي وأعصابي، وكنت وما زلت أعجب لقدرة المؤلف على تحميل قلمه كل ما كتب.. وإلا.. فمن هو صاحب القلب الذي يستطيع أن يمر بفصول المآسي والكوارث والتعذيب الذي لا تتحمله الجبال الراسيات، ثم لا يتفطر قلبه، ولا يلعن لسانه أولئك..

إني ليحزنني أن أجد المؤلف وحده في هذا الميدان الذي يتطلب جهود العصبة أولي القوة من الرجال، فأعباء السنين التسعين التي ما ناء بها كاهل المجاهد العظيم أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنه وأرضاه، فانطلق يحمل سلاحه، مجاهداً في أرض الله الواسعة، حتى حطّ الرحال شهيداً في مثواه الأخير في هذه الدنيا الفانية تحت أسوار القسطنطينية، وليس في (البقيع) قرب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وإخوانه الصحابة الطيبين.. أعباء السنين الثمانين التي ألقت بثقلها على كاهل المؤلف الكبير، لم تستطع أن تحنيه، فهيهات هيهات، ثم هيهات هيهات أن يقعده المرض الذي أرخى بكلكله البالغ القسوة عليه.. فسنوات الجهاد المضني، وسنوات المرض الشديد، لم تتمكن من صموده وشموخه، ومن تصميم الرجال على التصدي لوحوش القرن العشرين، الذين مزقوا قلوب السوريين ببراثنهم وأنيابهم، بما فعلوه في سورية عامة، وفي مدينة أبي الفداء خاصة، فجاب الدنيا مستصرخاً ضمائر ذوي الضمائر، لاستدراك ما فات، ولإنقاذ ما بقي، من بين براثن أولئك الوحوش الذين أوغلوا فتكاً بكل ما يمت إلى عروبة سورية، وإسلامها، وقيمها، وإنسانها بصلة..

تحرك، وهو يعلم أن المؤامرة أكبر من أي تحرك، ولكن (معذرة إلى ربكم، ولعلهم يتقون) وهيهات لهم التقوى، وأنَّى تكون لهم؟

هذا الكتاب من أهم الكتب الفكرية والسياسية والدعوية التي صدرت في هذا القرن، والذين لم يدرسوه بعمق، قد يعجبون من هذا الكلام، وخاصة أولئك الذين لا يعنيهم من الكتاب سوى عنوانه واسم مؤلفه، ثم يتخذون الموقف المناسب لهم ولتوجهاتهم ومواقفهم من موضوع الكتاب وكاتبه، أما أن يحيطوا علماً بمحتويات الكتاب، وبتجرد وحيادية، فهذا ما يحرجهم ويخرجهم من الدائرة التي حشروا أنفسهم داخـلها تطوعـاً، أو تحت وطأة ظروفٍ ما كـان ينبغي لهم أن يقفوا عندها كل هذا الوقت؛ فالمؤلف الكريم -في هذا الكتاب وفي سواه- قدم للإسلام وللإخوان خدمات لا يستهان بها، فكراً، وتنظيراً، وتنظيماً.. خدم تاريخهم، وأنصف رجالهم، كما لم يخدم كل أولئك أحد من الإخوان ومن غير الإخوان..

أنا أدعوكم -أيها الأحبة- إلى دراسة هذا السفر القيم، للإفادة منه.. لمعرفة تاريخكم المشرف، تاريخ جماعتكم، تاريخ بلدكم، فكر جماعتكم، تاريخ رجالكم، فلن تجدوا في سواه ما تجدونه فيه، هذه شهادتي التي ألقى الله عليها، وسوف يحاسبني التاريخ عليها، ويسألني الله عنها، فقد أزف الرحيل، وشارف جيلي على الغروب، بعد أن ودعنا سبعة عقود، بكل ما حفلت به من أعمال فيها الخطأ وفيها الصواب، ما جعلت منا الصالحين ومنا دون ذلك.. قضينا تلك العقود بتعقيداتها التاريخية، وبعقدنا النفسية التي تزداد مع الأيام تأزماً لغير ما سبب، إلا سبباً واحداً أمسك عن البوح به، والله هو المطلع على ما في العقول والصدور..

أرجو من الأحبة، مخلصاً لهم رجائي، أن يعكفوا على قراءته، وأن يجعلوه ضمن مناهج الأسر، قبل فوات الأوان..

نحا المؤلف في تأليفه نحواً غير معروف ولا مسبوق في تبويبه، وفي فقراته، وفي قفزاته، حتى كأنه سيناريو ذو مشاهد ومحاور ليست متوازية، بل متقاطعة، يعضد بعضها بعضاً، لجلاء الفكرة التي يعالجها بأسلوبه الخاص، بحيث يحسبه القارئ المتعجل في قراراته، يحتوي على أشتات من الأفكار والمعاني دون رابط يربطها، فيما هو يقدم ويعالج ما يريد جلاءه، فيما يدعوه النقاد: وحدة عضوية موضوعية متماسكة، متساندة، بما فيه من شمول متسم بالروح العلمية، مشوبة بذائقة أدبية لطيفة..

وهو، في كل جزء، وفي كل فصل، يطالع قارئه بمعلومات جديدة مهمة، موثقة، تقشعر من أهوالها الأبدان، ويجفو الكرى عن أعين الوسنان، بعد أن يطالع ما فعله النظام الأسدي بسورية الحبيبة التي استباحها هو وعشيرته وجلاوزته، استباح الدماء في كل المدن والقرى، وفي الجامعات والمدارس والمصانع والمعامل والحقول والمساجد والكنائس.. استباح الحرمات، فنهب ونهبوا، واغتصب واغتصبوا، وارتكب وارتكبوا من الموبقات ما لم يرتكبه مجرم من قبل، أهدر دماء السوريين بعامة، والإسلاميين بخاصة، فكانت حمامات الدم، والمجازر الجماعية في كل مكان، حتى لم يبق بيت لم تدخله مأساة، ولم يفقد أحداً أو أكثر من أحبائه وبنيه..

وقدم لأبناء الشعب السوري الحر، ولكل أحرار الأمة، وثيقة تعد من أخطر الوثائق اللاإنسانية منذ محاكم التفتيش، بل ربما بزت محاكم التفتيش بهمجيتها (الستالينية العلمية الثورية التقدمية) أعني بها: خطاب رفعت أسد في المؤتمر القطري السابع الذي انعقد بدمشق، برعاية (الرئيس المؤبد) حافظ أسد، وكان ذلك الخطاب الإجرامي المشؤوم، قاعدة الانطلاق لوحوش الميليشيات الطائفية: سرايا الدفاع التابعة لرفعت أسد، وسرايا الصراع التابعة لعدنان أسد، والوحدات الخاصة، لصاحبها علي حيدر، والكتائب العمالية والطائفية المسلحة بأخطر أنواع السلاح، بالأحقاد التاريخية الدفينة، التي ابتعثها من قبورها، وسلَّح بها كل ميليشياته، لتنزل الأهوال بهذا الشعب الحر، برجاله ونسائه وأطفاله وشيوخه، حتى نسي هؤلاء، كل ما اجترحه المجرمون عبر التاريخ من الحركات الباطنية، من العبيديين، والحشاشين، والقرامطة، والزنج، ومن التتار والمغول والصليبيين، والمستعمرين الفرنسيين، إلى الصهاينة المجرمين وما فعلوه في فلسطين، فكل أولئك مجرمون، قتلة، مخربون، وأما هؤلاء الذين عراهم هذا الكتاب في مجلديه: الثالث والرابع، فلا أجد لهم وصفاً دقيقاً يعبر عن حقيقتهم، بما ارتكبوه من جرائم القتل، والتعذيب الذي يذيق الضحية ألف موتة وموتة في اليوم الواحد، حتى صار الشنق أمنية يهنأ الأخ المعتقل على الفوز بها، لما يلقاه الواحد منهم، من صنوف العذاب الذي لا يوصف.

كان حسن الصباح يغتال القادة والعلماء والمجاهدين، بخنجر مسموم لا يعذب الطعين إلا لحظات، ثم يستريح، أما هؤلاء الثوار التقدميون الأشرار، فغاية ما يتمناه ضحاياهم: أن يعلقوهم على أعواد المشانق، أو أن يقتلوهم بأي طريقة عجز عن ابتكارها أبالسة الإنس والجن، ليتخلصوا من أهوال التعذيب غير المسبوق على أيدي الطغمة الحاكمة بدمشق منذ أكثر من أربعة عقود.

وقد أعانهم على هذا، علماء السوء، أولئك الذين استخفهم الطاغية فأطاعوه، وزينوا له جرائمه، وكانوا في ركاب العبيد، من سفلة السفلة الذين سيلقون جبار السماوات والأرض بوجوههم السود، وقلوبهم الأشد سواداً..

وكذلك استخف الطاغية حزبه القميء، ومن سار معه من أبناء طائفته، فأطاعوه، وكانوا أدوات إجرامه، ورأس حربة في خاصرة الشعب السوري الذي تعرض لعقاب الطاغية، لأنه شعب حر على مدار التاريخ، وكان، وسوف يبقى، شعباً حراً مكافحاً يأبى كل أنواع العبودية لغير الله تعالى، وكما حارب الاستعمار الفرنسي الغاشم، سوف يتصدى لهؤلاء الأغراب عن المجتمع السوري المعروف بأخلاقه، وتسامحه، وحسن تعامله حتى مع الغرباء الوافدين..

نسي أولئك المشايخ والحزبيون والطائفيون، تحذير الله وأمره (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) فاطر: 6.

لن يفيد رفعت أسد إطلاق لحيته، وارتياد بعض مساجد دمشق، قبل أن يطرد منها، فيداه الغارقتان بالدماء الطاهرة البريئة في سجن تدمر، وفي مدينة حماة، وفي سائر المدن السورية، وحياته المعجونة بالفساد والعدوان على كرامات الحرائر، وعلى أموال الناس، وثروات البلاد، وإذلال الناس، والعدوان على كرامة المحجبات والمتدينين.. ستبقى ماثلة للعيان، محفورة في الصدور، وسوف تحكي الأمهات والجدات، للحفدة والحفيدات، ما صنعت أنت وإخوتك وأقرباؤك وأتباعك، بسورية الشعب والأرض والعرض، مما لا يجوز أن يطويها التقادم، بأي حال من الأحوال.

تحدث الكاتب عن أمور خطيرة جداً لا يعرف حقيقتها كثير من الناس، مثل حادثة المدفعية، ومجزرة تدمر، ومذبحة التعليم، والمحاكمات الميدانية و(قضاتها) الجهلة، وخاصة ذلك (القاضي المؤبد) المعتوه: فايز النوري، والمجرم توفيق صالحة، والأرعن مصطفى طلاس، وأمثالهم من التافهين.. ووقف عند التعذيب وأنواعه التي زادت على الأربعين، وعند الجلادين، وتحدث عن الاغتيالات الخارجية، والاغتيالات الداخلية التي طالت العديد من العلماء المتميزين، ومنهم عالم الذرة الدكتور حسن محمد حسين والعديد من الأطباء والمهندسين والمحامين، والنقابات العلمية، والمثقفين عامة.. كما تحدث عن قانون الطوارئ، والأحكام العرفية التي فرضها النظام البعثي منذ انقلابه البائس في آذار 1963 وما يزال معمولاً بها حتى الآن...

وسوف يطالع قارئ هذا المجلد، الدور المشرف للمحامين السوريين الأحرار، ومحامي الإخوان في المهجر، وهذا الدور العظيم ينبغي أن يعرفه محامو سورية الأشراف، ومحامو الوطن العربي الأحرار الذين وقفوا إلى جانبنا ضد النظام القمعي بدمشق، واستنكروا ممارساته التي يأباها القانون والعدالة والروح الإنسانية، فيما كنا، وما زلنا، نرى الغرب (الديمقراطي) الرسمي، وزعيمته أمريكا، يشدون من أزر هذا النظام الذي ذبح الديموقراطية والحرية من الوريد إلى الوريد، والغرب الرسمي يعلم هذا علم اليقين، ويعلم عن ممارساته القمعية أكثر مما نعرف، ومع ذلك كان –الغرب- وما زال، يقف إلى جانب هذا النظام الاستبدادي الديكتاتوري، لا لشيء، إلا لمرضاة صاحبة العيون الكحيلة، والكيان المغتصب من أهله وذويه الفلسطينيين، ضحايا الإجرام الصهيوني اللئيم.. ولأنه –النظام- يحقق لها ولهم ما يريدون.. وقد كان الثمن باهظاً، دفعه الوطن السوري، والأرض السورية (الجولان العزيز) ليبقى النظام حامي حمى الكيان الغاصب الذي (خاض) معه )حربين) سلم في الأولى هضبة الجولان المنيعة كجبهة قتال، الغنية بثرواتها المائية، والمعدنية، والزراعية، وسلم في الثانية بضعاً وثلاثين قرية، وكان الثمن المدفوع لقاء الجولان: رئاسة الجمهورية، وثمن القرى في (الحرب) الثانية: تثبيت الحكم، ووقوف اللوبي الصهيوني في واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وبرلين وسواها، إلى جانب آل أسد، وجمهوريتهم الملكية، برغم أنوف أمريكا والغرب والشرق والدنيا كلها..

القضية الفلسطينية

ينسى الناس أو يتناسون ما فعله نظام أسد بالقضية الفلسطينية، وبرجالها، وقادتها، وجنودها، وعندما كنا نجلس إلى السيد ياسر عرفات -رحمه الله- كنا نسمع منه شكاوى مريرة، وتأوهات، ونشم الحرائق في صدره، مما فعله حافظ أسد بهم وبقضيتهم، وكان مما قاله وردده مراراً: إن ما قتله حافظ أسد من الفلسطينيين، أضعاف ما قتله اليهود منهم..

وهذا المجلد يوثق تلك المجازر، والتآمر الذي كان عرابه والمنفذ له: حافظ أسد،.. ولهذا لا بد من قراءة ما جاء في هذا المجلد بتأن، وتمعن، ليعي المغفلون والذين في قلوبهم مرض، طبيعة الدور الخسيس الذي نهض وينهض به هذا النظام، منذ جيء به إلى حكم سورية بالحديد والنار، ليحكم على كل من يفكر بمقاومة العدو الصهيوني، وليقوم بواجباته والتزاماته تجاهه، وليحمي كل منهما الآخر، حسب الاتفاقات السرية التي نرى آثارها العملية على أرض الواقع..

مجزرة حماة

أو مأساة العصر، كما أسمينا أول كتاب صدر عن مكتبنا الإعلامي عام 1983 بعد نكبتها بعام واحد.. نكبت حماة على أيدي الطائفيين خمس مرات، وكانت نكبتها الكبرى في شهر شباط 1982 تلك التي قتلوا فيها أكثر من ثلاثين ألف مواطن، أكثرهم من النساء والشيوخ والعجزة والأطفال.. وقد قارن بعض المسنين بين نكبة حماة على أيدي المستعمرين الفرنسيين المتوحشين عام 1945 وبين نكبتها على أيدي الطائفيين عام 1982 فوجدوا الفروق كبيرة جداً، إذ لم يجرؤ الفرنسيون على تهديم ثلث المدينة، كما فعلت ميليشيات أسد، ولم يعتدوا على الحرمات، ولم يهدموا المساجد والكنائس.. كما فعل الطائفيون، ولم ينهبوا ولم يسلبوا الناس أشياءهم، ولم يحرقوا ولم يدمروا عشر معشار ما فعل الطائفيون الأنذال خلال شهر واحد، كما قارن بعض الباحثين والدارسين بين ما فعلته قوات الاحتلال الصهيوني بغزة في كانون الثاني وشباط 2009 وبين ما فعله الطائفيون قبل سبع وعشرين سنة في حماة، فوجدوا أن الضحايا في حماة أكثر بثلاثين ضعفاً مما دمرته وقتلته وجرحته قوات الاحتلال الصهيوني الغاشمة المجرمة.. فهل أحقاد الطائفيين أعمق من أحقاد الفرنسيين على الشعب السوري؟ وهل أحقاد الصهاينة والمتصهينين على أهل غزة، أخف من أحقاد أولئك الطائفيين الأشرار الفجار أبناء الطائفيين الحاقدين الذين انضووا تحت راية الاستعمار الفرنسي، وكانوا أعوانه، فيما سمي بجيش الشرق الذي انخرطوا فيه، ليتصدوا للثوار في الغوطة، وجبل العرب، وجبل الزاوية، والحفة وجبل صهيون وفي حماة وحلب، وفي المناطق الشرقية؟

هل كانوا ينتقمون من تاريخ حماة؟ من بطولات أبنائها الذين تصدوا للفرنسيين المستعمرين، مثلما تصدوا من قبل لأجدادهم الصليبيين؟ فجاء هؤلاء ليثأروا لأجدادهم، ولسادتهم الفرنسيين المستعمرين الذين مَرَّغَ الحمويون أنوفهم بالتراب، وهزموهم شر هزيمة؟

في هذا الكتاب أجوبة على كل هذه الأسئلة..

ولقد شاء الله أن يكتب المؤلف هذا الفصل الحزين الطافح بالدماء والأشلاء والدموع، في شهداء المأساة، في شباط الرعيب، بعد سبع وعشرين سنة على شباط المأساة، شباط المجازر، فهل جاء هذا من قبيل المصادفة، أم أن الله شاء أن يكتبه المؤلف، لتكون المأساة التي تتجدد كل عام، حية في قلب المؤلف، وفي قلوب مئات الألوف من أبناء الشعب السوري، وأبناء الأمة العربية والإسلامية، الذين سمعوا بالكارثة، ولم يقفوا على تفاصيلها، نتيجة التعتيم الإعلامي الذي فرض على وسائل الإعلام، بقدرة القادرين على الأمر والنهي، لمن لا يملك حيلة في فضح ما كان يجري، كما هو الشأن في سجن صيدنايا، فكل الشعب السوري لا يدري شيئاً عما يجري فيه من مجازر منذ بضعة أشهر..

 إن مأساة حماة حية، وسوف تبقى حية على الزمان، يتوارثها الأبناء عن الآباء والأمهات، والحفدة والحفيدات عن الأجداد والجدات، يتوارثها ويورثها كل من في قلبه ذرة إيمان، وفي ضميره ذرة من مروءة أو حس وطني أو إنساني، ولن يفلت المجرمون المتخلفون من العقاب ولو بعد حين، حتى ولو كانوا في حانات ماربيا وباريس، ومواخير أوربا وأمريكا.. لن يكون لهم عاصم من أمر الله المنتقم الجبار..

ترى.. بعد أن يطلع السوريون والعرب والمسلمون والناس أجمعون، على هذه المجازر.. هل سيبقى فيهم من لا يلعن هذا النظام الطاغوتي؟

لقد أثرت هذه المأساة على بعض الكتاب والمثقفين، أذكر منهم الأديب الكبير حسيب كيالي، رحمه الله تعالى، فقد هزته مجازر حماة، فانطلق لسانه وقلمه يلعنان هذا النظام، ويصمانه بما يستحقه من صفات، وقد كتب كتاب: (الحكم النصيري في سورية) الذي أصدرته (رابطة الصحفيين السورين الأحرار) وفضح فيه ممارسات النظام، وسياسته الطائفية قبل مأساة العصر، كما نشرت له مجلة النذير عدداً كبيراً من المقالات، والقصائد، والقصص، وكلها تفضح سياسة النظام، وتعري وطنيته الزائفة، وتشيد ببطولات بعض أبناء حماة، كالملحمة التي نظمها في الشهيد مهدي العلواني رحمه الله تعالى.

 والأديب الثاني، هو الكاتب الإعلامي الساخر: شريف الراس، وكان يسارياً مثل الأستاذ حسيب كيالي، ثم لعن اليسار السائر بخنوع في ركاب الطغيان، وكتب عشرات المقالات، وألف رواية (طاحون الشياطين) ومسرحية (مهمة سرية جداً) وكتاب (من الجرح السوري) الذي قدمه له الأستاذ الكبير صاحب هذا الكتاب..

ومع هذا أقول: إن ما كتبه الكتاب والأدباء والشعراء والمؤرخون والفنانون عن مأساة العصر أقل من القليل، فالمصاب فادح عميق، ولن يعذر الناس المقصرين مهما كانت الأعذار التي سيقدمونها للناس.. للشعب السوري.. لأبناء مدينة حماة..

بيان الثورة ومنهاجها

بعد كل الممارسات الاستفزازية، والقمعية التي طالت جماعة الإخوان المسلمين في سورية، وبعد أن أهدر النظام دماء الإخوان، واستحر القتل بهم في الشوارع، والمدارس، والجامعات، وفي كل مكان، ناهيك عن السجون والمعتقلات التي غصت بشيوخ الجماعة، وشبانها، وبالأخوات، والمحاكمات الميدانية، والتصفيات الجسدية على الشكل وعلى الهوية، وبعد مصادرة بيوت الإخوان، وتشريد أسرهم، واعتقال أقربائهم حتى الدرجة الرابعة فما بعدها.. بعد كل هذا وغيره، أعلن الإخوان الثورة على النظام، دفاعاً عن أنفسهم، وعن أعراضهم، وأصدروا بيان الثورة ومنهاجها الذي قدم تصورهم للحكم، في إيجاز يحتاج إلى تفصيل، وبه سبق إخوان سورية سائر الحركات الإسلامية الأخرى بربع قرن على الأقل.

وضع (البيان) النقاط على الحروف في صراع الشعب السوري -والإخوان شريحة مهمة منه- وأهمها: طائفية النظام، وفساده، ومنهجة الإفساد في سياساته الداخلية، والخارجية، وسعيه إلى تجهيل الشعب في كل المجالات الحيوية.

 وكان (المنهاج( على مستوى رفيع من الوعي، ولو هيئ له أن يطبق على أرض الواقع، لتسنمت سورية ذروة الحضارة التي عرفتها وعرفت بها منذ القدم، ولعادت إلى موقعها في طليعة دول العالم الثالث على أقل تقدير..

لم يترك المنهاج مجالاً حيوياً إلا تعرض له، وعالجه بحكمة.. فقد تحدث -فيما تحدث- عن حرية الأحزاب، واشترط لقيامها شرطين: ألا تخالف الإسلام وتعاديه، وألا يكون لها ارتباطات خارجية.. والقضاء المدني العادل النزيه، هو الذي يفصل في هذه الأمور، بعيداً عن الأجهزة التي أفسدت كل شيء مدت أيديها الأخطبوطية إليه، وبعيداً عن وزارة الداخلية.. وبهذا سبقنا من عاصرنا من الأحزاب والهيئات السياسية في التأكيد على الديموقراطية والحريات السياسية، وحرية تشكيل الأحزاب، في تعددية حقيقية، لا مجرد ديكور يضحك حتى الثكالى، كما هو حاصل في التركيبة الكرتونية لما أسموه (الجبهة الوطنية التقدمية) وتركيبتها الحزبية الذيلية التي تأتمر بأوامر الديكتاتور، ولا تجرؤ على إبداء أي رأي لا يرضى عنه..

كان هدف المنهاج، تفعيل الطاقات، والقضاء على الفساد، والمساواة بين المواطنين أمام القانون، وفي سائر أحوالهم، وإنصاف المظلومين الذين سحقهم النظام وميليشياته وعناصر مخابراته القمعية، وخاصة الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين وصغار الكسبة، الذين صاروا يترحمون على أيام الإقطاعيين والبرجوازيين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ضباط الجيش وأفراده -من غير الطائفيين- ورجال التربية والتعليم- والمرأة، والأمن، والكرامة، والعيش الحر الكريم.. فقد سحق النظام كل هؤلاء، و(المنهاج) يعمل لإنصافهم، وتخليصهم من ظلم هذا النظام الشمولي، القمعي، الطائفي، الذي صار الناس اليوم، يتبرؤون منه بعد ثلث قرن من تبرئنا منه، وسعينا الحثيث لإعادة الإشراقة لوجه سورية الحبيبة، بعد أن غشاها ما غشاها من نظام الأقلية الطائفية المقيتة..

إنني أدعو كل سوري، وكل عربي، وكل مسلم، وكل أحرار العالم، إلى قراءة هذا الكتاب قراءة واعية، ليعرفوا أي نظام هذا الذي يجثم فوق صدور الأحرار من أبناء هذا الشعب السوري الأصيل.

 وأدعو الأدباء، والفنانين، والمفكرين، إلى توعية الدنيا بجرائم هذا النظام المخرب، وكتابة القصص، والروايات، والمسرحيات، وإنشاء المقالات، وعمل سيناريوهات لمسلسلات وأفلام تفضح أعمال القتل، والتعذيب، والنهب، والسلب، والاغتصاب، ونهجه الفاسد المفسد.. فالمادة بين أيديكم غزيرة، ودراسة هذا الكتاب سوف تقدم لكم الكثير من الأفكار..

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدي رسول الله وآله وصحبه أجمعين.. 8/3/2009