ثلاثية الحكم العباسي والمعتصم وعسكرة الخلافة

فواز دحروج / لندن

ثلاثية الحكم العباسي والمعتصم وعسكرة الخلافة
دراستان لعثمان سيّد احمد اسماعيل البيلي


ضمن سلسلة "تاريخ العرب والاسلام" صدر كتابان للدكتور عثمان سيد احمد اسماعيل البيلي تحت عنوان رئيسي واحد "دراسات في تاريخ الخلافة العباسية" وعنوانين فرعيين، "ثلاثية الحكم في العصور العباسية، الخلافة والسلطة والدولة"، والثاني "المعتصم، وعسكرة الخلافة العباسية" (*)، ينفرد الاول، كما يتضح من عنوانه، بدراسة الثالوث الذي توصلت اليه هيكلية الحكم في الحقبة العباسية التي اتخذت من بغداد عاصمة لخلافة بني العباس، ومن ثم انتقل بها المعتصم، الخليفة الثامن، الى سامراء لأسباب سنأتي على ذكرها لدى استعراضنا للكتاب الثاني المخصص لحقبةالمعتصم.

يكاد الثالوث الذي بلغته الخلافة أيام العباسيين ينطبق على ما يسمى في زماننا بالمَلَكية الدستورية وفصل السلطات، لأن "المقصود بالخلافة هنا هو الإمامة الكبرى عند المسلمين التي تنبثق منها شرعية الحكم"، وهي وراثية منذ ايام بني امية في الشام حيث تم الاستغناء عن مبدأ الشورى (اتفاق الجماعة على اختيار الخليفة) وحصرها وراثيا بالعائلة المالكة الاموية، واذا كان الادعاء السائد آنذاك ان الخلافة لقريش (سادة العرب) بدعوى طبقية لا تدين بقرابة النبي محمد، فان العباسيين ينتسبون الى العباس عمّ النبي والعائلة الهاشمية.

 وثانية الثالوث، السلطة، فهي "الجهات التي لها الامر الفعلي في ممارسة الحكم والمباشرة على جهاز الدولة"، اي في مصطلحات حديثة هي الحكومة التي تدير شؤون الناس وتسوسهم، وتعرّضت هذه لتغيّرات دراماتيكية ايام الخلافة العباسية لم تشهد لها عصور الدولة الاسلامية السالفة مثيلاً، وبدأت مع المعتصم الذي انتقل بعسكره الى سامراء التي اضحت عاصمة الخلافة ومنها بدأ نفوذ العناصر غير العربية في التنامي حتى بلغوا مرحلة تعيين الخليفة نفسه او خلعه. وثالثة الاثافي الدولة "فالمقصود بها ما يمكن ان نسميه بأجهزة الخدمة المدنية والمالية والاجتماعية وسواها، من دون الوزراء والكتّاب والجيش، والمتمثلة في الدواوين والنُظٌم الاخرى كمؤسسات القضاء والمظالم والحسبة والامن والتعليم والصحة والاصناف والحِرف"، واستمدت هذه قوتها نسبيا من رسوخ العاصمة بغداد في شؤون الادارة وتصريف امور الناس التي ارسى قواعدها مؤسس العاصمة ابو جعفر المنصور الذي استعان برجالات افذاذ كلٌ في مجال اختصاصه وشهدت العاصمة في ايامه، رغم المرحلة التأسيسية، ما عرفته عواصم الامبراطوريات الكبرى، وكانت فعلا كذلك لترامي اطراف العالم الاسلامي "الممتد من شبه الجزيرة في الغرب الى حدود الصين في الشرق، ومن آسيا الصغرى الى المحيط الهندي، ومن البحر الوسيط الى الصحارى الكبرى في افريقيا"، وبلاد هذه حدودها كان لا بد من ان يتمتع بعض اطرافها بخصوصيات اهل هذه الاطراف الاتنية والاجتماعية وحتى اللغوية ولحداثة دخولهم الاسلام او اكتفائهم بدفع الجزية، بشيء من لا مركزية الحكم، وتتلاءم هذه عكسيا مع قوة المركز (عاصمة الخلافة) او ضعفه، وما ان رحل المعتصم بعسكره من بغداد الى سامراء حتى شرعت الاطراف والامصار البعيدة في الاستقلال الذاتي وحكم نفسها بنفسها عبر الامير او الوالي الذي عيّنه الخليفة نفسه، ومن ثم بالانفصال نهائيا وتكوين هيكليات حكم خاصة بها. واذا كان عهد المعتصم اتسم بالقوة وترجيح كفة العسكر وانشغاله بقمع المتمردين والمتآمرين وصد الهجمات البيزنطية عن حدود دولة الاسلام فان الطامعين بالاستقلال بولاياتهم البعيدة، اجلوا العصيان لما بعد عهد المعتصم وحتى تكون الدولة (المركزية) انهكت تماما وتمكنت منها ايدي الغلمان (القادة) الذين استعان بهم المعتصم على اعدائه.
تؤكد كتب التاريخ التي تناولت بالبحث عهد المعتصم أنه لم يهجر بغداد الا بعد اعتراض اهلها على تصرفات جنوده الذين لم يقيموا وزنا لحرمة سكان العاصمة بل كانت سنابك خيولهم تخترق الاسواق وتطأ النساء والاطفال، واهل بغداد بما عرف عنهم من اعتزاز بأنفسهم كونهم سكان عاصمة الامبراطورية ودار الخلافة ما كانوا ليرتضوا بأفعال عساكر المعتصم، وجلّهم هجين من ابناء المولدات والجواري، لكن المؤلف الدكتور سيد احمد اسماعيل البيلي، ولسبب مجهول، لا ينسب جنود المعتصم هؤلاء الى الاتراك وحدهم، بل ينفي التهمة القائلة ان المعتصم ولد لأم تركية لذا
استعان بأخواله الاتراك قادة للجيش ومتنفذين في شؤون الحكم، ويرجح الكاتب ان ام المعتصم كانت سعدية، او "لهذه الاسباب، وأخذاً من مصادر اخرى، فقد قيل ان ام المعتصم كانت جارية من اصل غير عربي - مولدة - من الكوفة، وكان اسمها ماردة".
والحق ان من الصعوبة في مكان معرفة اصول امهات الخلفاء العباسيين العرقية والاثنية، عدا الامين، لأن اباهم الرشيد قيل انه افتضّ خلال مدة حكمه اربعة آلاف عذراء، ولا بد من ان يكن من كل الالوان والاجناس... فيا سعده!
الا ان المؤلف لا يخفي اعجابه بشخصية المعتصم اذ يعتبر الاستعانة بقادة من غير العرب وتأميرهم تركة اورثها المأمون لخليفته المعتصم، ويصرّ على ان قوات الاخير واعوانه لم يكونوا من الاتراك. ورغم ان المؤلف افرد فصلا من كتابه للامر الا ان كون غلمان المعتصم من الاتراك او سواهم لا تعني شيئا في سياق الدراسة وبالتأكيد لا تخدم غرضها اذا خلصنا الى نتيجة مؤداها ان جل هؤلاء لم يكونوا من العرب، وقضية نسبهم ينطبق عليها تماما ما تقدم من نسبة ام المعتصم، وبالتالي المعتصم نفسه، الى العنصر التركي او غيره، ما دامت سوق النخاسة كانت رائجة ذلك الزمان، والحقيقة ان الاستعانة بالعناصر الاجنبية بدأ مع المنصور، باني بغداد، الذي استقدم من الحرفيين والصنّاع والبنائين كل بارع فيها من غير النظر في اصله وفصله.
المتتبع لسيرة الخليفة الثامن، المعتصم، والمؤلف لا يبخل على قارئه بشرح الخلفية التي جاءت بالمعتصم خليفة ولم يكن الرشيد أوصى له بشيء منها، ولم يهتم بأمر تعليمه وتثقيفه، بل قيل إنه شبه أميّ لم يأخذ بشيء من اسباب المعرفة وإدارة الحكم. واتصف بميله الشديد الى الفروسية والقتال في حين كانت بغداد مِرجلاً يمور بالافكار والجدال الذي أشعل أواره المأمون الذي اتخذ من المعتزلة وأفكارهم وسيلة لمهاجمة السلفية واصحاب النصوص الجامدة، وكانت قضية خلق القرآن التي نادى بها المعتزلة وفسح المأمون لهم المجال في التعبير عنها، خلقت حالة أشبه ما تكون ببداية حرب أهلية بين علماء الدين التقليديين من ناحية والمجددين من ناحية ثانية، وحركة من شأنها إثارة البلبلة في مركز الخلافة وربما الحرب.

هنا لا يسعني قبول التفسير الذي أورده المؤلف في الفصل الاول من كتابه الآنف: "لم تكن هناك أزمة دينية تهدد الاسلام، ولكن كانت هناك أزمة سياسية تهدد الخلافة". لكن الحركات الفكرية التي سمح بها المأمون وانشاءه "دار الحكمة" وتشجيعه لحركة الترجمة، كان مقدراً لها أن تؤدي الى حراك مجتمعي يطوّر الدين ومفاهيم الناس للحياة ومستجداتها، والحقيقة أن الشخصية الاشكالية في مجمل تاريخ الاسلام عامة والخلافة العباسية خاصة هو المأمون، اذ درج جميع مَن سبقوه من خلفاء بني العباس وقبلهم خلفاء الدولة الأموية على استرضاء رجال الدين التقليديين لما لهم من سطوة على العامة في تأييد الخليفة او معارضته في كل ما يفعل، ولعل الدكتور عثمان سيد أحمد اسماعيل البيلي يُتحف المكتبة العربية والفكر العربي بكتاب عن هذه الشخصية، ولاسيما أن الدكتور البيلي يعترف في ما يخص المحنة التي أطلقها المأمون بـ"إن النتيجة الحتمية لتلك السياسة فيما لو نجحت ما كانت لتصحّح عقيدة خاطئة فقط، ولكنها كانت ستؤدي الى صراع بين الخليفة والقيادات الدينية للمجتمع".
بالغ المعتصم في إكرام قادته الاتراك، مثلما كان سلفه المأمون يبالغ في إكرام العلماء والمفكرين والمترجمين، وكل بحسب منطلقاته، والخلفية التي جاء منها والمحيط الذي نشأ فيه، حصد ما زرعه، مع فارق أن المأمون ترك بذرة فكرية لو وجدت من يرعاها لكانت كفيلة بتصحيح "عقيدة خاطئة"، فيما رأى المعتصم في الجيش وقادة الألوية درعاً لملكه سرعان ما انقلب الى حربة مزّقته، وشتان ما بين زارع وزارع.
 

         

حاكم مردان
(*) صدرا في منشورات "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر"، .2004