قراءة في "باب الحرية" لناصيف نصّار
قراءة في "باب
الحرية" لناصيف نصّار
نهضة ثانية مدخلها
الانخراط في حضارة العولمة
-I-
بين "طريق الاستقلال الفلسفي"
(1977)
و"باب الحرية"(2003)
يتابع الدكتور ناصيف نصّار رحلة البحث عن الحرية تفكّراً وتفكيراً وابتناءً ونقداً وفلسفة. أما لماذا يعود الى الحرية، ولماذا يكرّس نهائياً الانتماء الى منهجها، فلسبب أساسي واحد (على الأقل) انها مصدر كل وجود الفعل. ورغم الطابع الفلسفي النظري للعنوان الفرعي "انبثاق الوجود بالفعل"، إلا أن المؤلف إنما رمى، على ما أظن، من وراء التأسيس النظري ليشير مباشرة الى الترجمة العربية الملموسة لحقيقة غياب الحرية في ما شهدناه منذ حزيران 1967 من اختلالات ثم انهيارات ثم زلازل بدأت ولم تختتم فصولاً بعد.
-II-
يتوزع عمل ناصيف نصّار الجديد على واحد عشرين
فصلاً. يبدأ الفصل
الأول "في أن
الشعوب العربية تحتاج الى نهضة ثانية"، ويختم في الفصل
الأخير بلون جديد يضاف
على ألوان كتابات نصّار. واللون الجديد لا أجد اسماً آخر
له غير "الأدب
الفلسفي" أي المضمون الفلسفي في المعنى الكامل للكلمة،
والأدب في المعنى
الأكثر حلاوة
ونفاذاً وتأثيراً للكلمة. لون الأدب الفلسفي هذا، ولا أقول
جنساً أو
نوعاً، لطالما كان وفي غير مرة - إن لم تخنّي الذاكرة - موضع
مناقشة بين نصّار
وبيني من زاوية عدم حماسة المؤلف لهذا اللون من الكتابة
في الفلسفة، كي لا
أقول عدم اعتباره شكلاً للكتابة الفلسفية.
لفتني في الكتاب الفصل
الأخير هذا - والمؤلف على حذره، إنما يضعه على لسان أحد
كبار المتصوفة الذين "أزورهم
أحياناً" والذي "أرسل إليّ كتاباً قصيراً قال انه
مقاطع مأخوذة من
مخطوط يحتفظ به وعنوانه [كتاب آدم]" - تلك "الرمزية"
التي "أعجبتني" في تعبير
نصّار، أمر مرحّب به، ونكتشف يومياً مثلما اكتشف قبلنا
كبار أساتذة هذا
اللون، أن لجوء
الفلسفة الى بعض ألوان الأدب شكلاً أضافياً ولغة
سهلة ممتنعة، جميلة،
أمران يمنحان الخطاب الفلسفي جمهوراً أوسع وأداة أكثر
نفوذاً، تبدو الفلسفة
اليوم في أمسّ الحاجة اليهما مع اتساع رقعة الإحباط
والاغتراب
والتشيّؤ.
إن اتساع عدد الفئات والأفراد الذين ينضوون يومياً، في
زمن العولمة والقوة
هذا، يلزم الخطاب
الفلسفي بأن يقدم الى هؤلاء أشكال فهم ومقاربة
اضافية - أي قوة
الفلسفة - بينما هم يظنّون واهمين أن هذه الحرفة المدعوة
فلسفة هي لخاصة
القوم في أبراجهم
العاجية، ولا يمكن اكتناه سرّها، ولا تصبح بالتالي
سلاحاً بين أيدي
المهمّشين والفقراء والمستلبين في زمن العولمة
والامبراطوريات.
الفلسفة في المعنى
السقراطي تحديداً هي أداة تصحيح وتغيير، وأملي أن يفرد ناصيف
نصّار في
أعماله اللاحقة مساحة أكبر "لكبير المتصوّفة" الذي زاره ولنصحه
الرائع.
-III-
نعود الى باب الحرية، بل أبواب الحرية، التي لا سبيل
الى نهضة عربية مرجوة من
دونها. ناصيف نصّار ليس بالتأكيد، أول من ألحّ على
الحرية باباً للنهضة. فهي
العنوان الجامع لمعظم نهضويي القرن التاسع عشر ومطلع
القرن العشرين، وبخاصة
بطرس البستاني وسليمان البستاني واليازجيين وفرح انطون،
وصولاً الى كبير
النهضويين الراديكاليين في مصر، طه حسين، وكبيرهم عندنا،
عبد الله العلايلي.
إلا أن الجديد الذي يضيفه ناصيف نصّار هو محاولة "إعادة
بناء حقل الحرية في
ضوء مستجدات
العولمة". في هذه البقعة تحديداً يتحرك عمل ناصيف
نصّار بأكمله. ورغم
تبرّمه بالثنائيات، فلا مناص من أن يواجه، كسائر
النهضويين، ثنائية
التراث من ناحية
والمعاصرة من ناحية ثانية. لكن للمعاصرة الآن اسماً
محدداً، وإن غير محدد في دقة، هو العولمة.
ينطلق نصار من قاعدة أن هناك "ازمة
حضارية عامة، أي أزمة غير منحصرة في بعض
الجوانب التاريخية لتلك الشعوب (ص20).
وما الحروب الأهلية والهزائم أمام
اسرائيل والولايات المتحدة غير وجوه
لتلك الأزمة الحضارية العامة.
وينتقل نصّار الى التساؤل عن "النمط الفكري
الأكثر تأهيلاً للتعبير عما تحتاج
اليه الشعوب العربية لتجاوز أزمتها؟ (ص21)
وبين الأنماط الفكرية التي لها كلها
ان تكون أدوات تعبير، "تتقدم الفلسفة على
غيرها (...)" لنهجها المنطقي،
ولنقدها، وهما بعض ما تحتاج اليه النهضة العربية
الثانية.
وامتداداً لثنائية الشرق والغرب، يرى نصّار ان الصيغة
الجديدة لهذه
الثنائية إنما تكمن
في التقابل بين التراث والمعاصرة، الصيغة الأكثر راهنية في
التعبير
عن خريطة العالم الحالية. يرى المؤلف ان الحاجة ماسّة وملحّة
الى الافلات "من
التناقض الحاد بين التراث وبين الاندفاع نحو المعاصرة"
عبر البحث عن مسالك
جديدة تشعر فيها الذات بأنها غير فارغة، بل فاعلة وتؤسس
لأفق أعلى من
التناقض السابق.
أما طريق الخلاص من الأزمة فهي طريق المواجهة
والمجابهة، طريق التصدي
والاقتحام، طريقة تحمّل المسؤولية التاريخية أمام
المشكلات التي تطرحها الحياة
علينا واختراع الحلول المناسبة لها بقوة عقولنا
وسواعدنا" (ص28).
أما كيف نحوّل هذه الشعارات الى مضمون ووقائع فيكون،
بحسب المؤلف، بخروج
"الذات المريدة،
المفكرة، الذات الفاعلة، من علاقة الانسحاب
والتبعية الى علاقة
التعامل الراشد المسؤول، علاقة الاستملاك والنقد
والغربلة، حيث يمكن
مع التراث، وعلاقة
المواكبة والنقد والمشاركة حيث يمكن مع القوى
المتفوقة في العصر" (ص29).
من يقرأ ناصيف نصّار لا بد أن يوافقه على صحة
الاشارة الى الأزمة الحضارية،
وعلى ان الخروج منها لا يكون بغير ذات جديدة
فاعلة. إلا أن القارئ لا يقع على
مضمون هذه الذات التي لا تستطيع ان تبقى
بالتأكيد ذاتاً مجرّدة، هيولية، بل هي
ملزمة ان تتموضع في الوقائع، وأن يكون
لها مضمون ومعنى ومواقف من الاسئلة
والتحديات.
في هذه المواقف التي تصلح
لأن تكون جزءاً من المضمون، يرى نصّار انه لا بد "من
التعامل الخلاّق مع
العولمة".
هذا الموقف ينسحب على معظم مناقشات نصّار الحذرة والمرنة
في مسألة التراث،
والحاسمة في ضرورة التأقلم في فاعلية مع مستجدات
العولمة.
مقدمات هذه الايجابية من العولمة تبدأ بنفي اعتبار
الحداثة والتحديث
والعصرنة... ثم العولمة ملكاً لحضارة بعينها، دون سواها:
"الحقيقة ليست حركة
الحداثة في التاريخ حكراً على اي حضارة (...) وفي إمكان
اي شعب، مبدئياً،
أن
يشارك في حركة الحداثة، شرط أن يبذل الجهد ويدفع
الثمن".
يمكن بالتأكيد التأسيس على هذه النافذة التاريخية
الفلسفية لدفع
المناقشة الى أمام
في بناء شروط التحديث الذي نحتاج اليه وآلياته، والذي فشل
مشروعنا له في
النهضة العربية الأولى، وهو ما يعوزه بنجاح مشروع النهضة
العربية الثانية.
كيف يكون التعامل الايجابي مع العولمة؟
هوذا سؤال نصّار.
ونحن معه في صحة السؤال، فوضوح السؤال بحد ذاته خطوة
متقدمة.
ونحن معه كذلك في
أنه "لا يوجد جواب واحد عنه".
إلا أن القارئ الذي كان يتوقع ان يقوم المؤلف
باستعراض الأجوبة، أو بعضها، ولو
إلماعاً، لتكتمل عناصر فرضية الكتاب، لا يجد
ما يتوقعه. ما يلي ذلك هو اعادة
طرح المبادئ التي كنا سلّمنا بها من قبل، ثم في
تحول بدا في السياق نفسه "في أن
الليبرالية بوضعها نظاماً اجتماعياً قائماً على
مبدأ الحرية الفردية، لا تنحصر
في الأشكال التي عرفتها المجتمعات الغربية حتى
الآن" (ص45).
في وسع القارئ أن يقوم بعملية الربط ليقوّل المؤلف أن
التجديد في معنى
اللييبرالية الذي اكتسبته في مناخ "المجتمعات الغربية"
هو أحد أشكال
الابداع في التعامل
الايجابي مع العولمة. هل هذا حقاً ما أراد المؤلف قوله؟
الجواب ليس
واضحاً. أما إذا كان الجواب نعم، فلا بد من التذكير بأن
الحداثويين العرب
على تنوّع ألوانهم
- عدا القلّة التي حافظت على اخلاصها لليبرالية
الغربية - اجتهدت
على الدوام في تقديم ليبرالية ليست من النمط الغربي
(بالضرورة). هكذا فعل
اليساريون بعامة، والقوميون، والاسلاميون. لكن الذي
فعلوه، وفق المعيار الذي
يرسمه نصار - بدا مهزوماً، ضعيفاً، وادرج في خانة ازمة
النهضة العربية الأولى.
لم نضع اليد بعد على علة
ضعفنا.
-IV-
سؤال الحرية هو الخيط الذي يجمع فصول عمل ناصيف نصار،
وهو الخيط الذي سيغدو
محوراً للنهضة العربية الثانية العتيدة.
لكن ألم
تكن الحرية كذلك مطلباً من الدرجة الأولى في لائحة مطالب
النهضويين العرب
منذ رفاعة الطهطاوي
الى طه حسين؟ ان "الانقلاب" على الحرية، حتى في
مفهومها
الليبرالي، انما حدث بعيد الحرب العالمية الثانية، بل بعيد نكبة
فلسطين 1948 التي كانت زلزالاً
أفقد الجميع (وفيهم المنظرون) توازنهم، فجرى تحميل
الليبرالية (مع الحبل السري الذي يربطها بالغرب) مسؤولية
الأوضاع والأنظمة
العربية التي لم تستطع ان تحفظ فلسطين. وكانت بعد ذلك البدائل الكاملة
(الماركسية الشيوعية والديكتاتوريات الأخرى) أو غير
الكاملة، يميناً، أو
يساراً، ديناً ودنيا، إسلاماً أو علمنة. لم يُسقط حتى هؤلاء
الذين انقلبوا بعد
حين مطلب الحرية،
أو لم يجهروا بالعداء له. كان الخلاف والصراع على المضمون او
على مفهوم الحرية، لا على المفردة نفسها.
ويبقى السؤال: اذا كانت الحرية
هي المعوّل عليها في النهضة الثانية فإن المحدد
النهائي لاتجاه النهضة هو، من
جديد، ماذا نعني بالحرية؟
في هذا المكان انشقت النهضة العربية الأولى، وفيه
كذلك، كما أظن، ستنشق النهضة
العربية الثانية وتذهب مذاهب شتى.
نحن مع
المؤلف حين يقول: "في المنطلق لا بد طبعاً من الحسم، وقبول
الانخراط في حضارة
الحرية، لا بوصفها حضارة الغربيين، بل بوصفها نمطاً
راقياً في وجود
الانسان التاريخي
وفي تقدمه الحضاري" (ص83).
هذا الموقف من الحرية كان نفسه موقف
النهضة العربية الأولى من الحرية ولن يزيد
كثيراً استحضار نصوص النهضويين في
الحرية التي ظلّت فوق كل مناقشة أو تحفّظ حتى
نهاية الأربعينات على
الأقل.
النهضة العربية الثانية التي ستتأسس على مقدمات الحرية
ملزمة ان تكمل
الجواب عن السؤال
الأساسي: الحرية نعم ولكن أي حرية؟ حرية الحداثة أم
الليبرالية؟ حرية
الحداثة (كذلك) أم الحرية الماركسية؟ حرية ما قبل
الحداثة أم الحرية
اللاهوتية؟ أم حرية
ما بعد الحداثة، حرية النيوليبرالية؟ او تحديداً
وعياناً حرية العولمة؟
لا يفي التحديد الميتافيزيكي للحرية بالمطلوب. بل ليس
الإجابة "الاجتماعية" في
الأصل. ما ينفع التقدم نحو النهضة الثانية المطلوبة
هو، مرة أخرى، ماذا نعني
بالحرية اليوم.
ناصيف نصّار يدرك ذلك حتماً،
لذا يتقدم بالإجابة الصريحة الحاسمة: المطلوب
الانخراط في حضارة
العولمة.
هذا الجواب المتقدم خطوة أساسية نحو حسم خيارات المشروع
النهضوي العربي
العتيد. وهو كذلك
جواب متقدّم حين يكمل ناصيف نصّار الاجابة بالقول إن
الانخراط في خيار
العولمة يجب ان يكون من موقع التعامل الخلاّق مع
العولمة. أما كيف
يكون التعامل
الايجابي الخلاّق مع العولمة فذاك مدار القول والاجتهاد
والعمل لدى المشتغلين
في الفلسفة، فهم الأكثر قدرة على تقديم التحليلات
المناسبة، ونقد ما يجب نقده،
واعادة توجيه بوصلة الشعوب العربية بعدما أفلست
البوصلات غير الفلسفية.
-V-
خارج هذه المناقشة، بل الاجتهاد والخلاف في
الاجتهاد، تبقى شذرات الأدب الفلسفي الرائعة في الفصل
الأخير من الكتاب، اختار منها:
"- أوقفني في التراب وقال لي:
يا آدم، هل نسيت انك من التراب؟
فقلت:
لا، ولكنني لست تراباً.
فقال:
يا آدم، هل نسيت انك الى التراب تعود؟
فقلت:
لا، ولكني لن أعود كما كنت.
فقال:
وما الفرق بين ما كنت وما أنت وما ستكون؟
فقلت:
اسأل الحرية".
محمد شيّا
(*) صدر في منشورات "دار الطليعة"،
.2003