يوميات الدكتور خليل الموسى
يوميات الدكتور خليل الموسى
•
ليس المقصود من هذا العرض
التقليل من أهمية العلوم التطبيقية او سواها في
مجالات البحث العلمي ، ولكن المقصود من ذلك
توضيح فكرة او مقولة خاطئة شائعة عندنا ، وهي ان مقولة
البحوث لاتنطبق إلا على الدراسات التطبيقية ، وهذا اجحاف
كبير بحق الدراسات الانسانية التي هي رائدة
في مجالات البحوث والتنافس والصراع،
فالعلوم التطبيقية ذات نتائج
دقيقة جداً ، وهذه صفة يعرفها القاصي والداني ،
والا لما كانت بحوثاً، والخطأ البسيط فيها
يلغيها او يقتلها، بل انه يخرجها من دائرة البحث، وذلك لان
وجهة النظر فيها غائبة تماماً ، فهي علوم موضوعية خالصة
، ولاتتصل بمن يقوم بها الا
من خلال دقتها للدلالة على موضوعيته وسعة علمه في
المجال الذي يبحث فيه ... اما احساساته
ورؤاه ومواقفه فهي لاحضور لها من قريب او بعيد ، وتتأتى دقة
هذه العلوم ووضوحها ووضوح تعليلاتها ونتائجها من انها
تتعامل مع موضوعات جامدة من جهة ، وتتعامل
مع مشكلات
وفرضيات محددة تحديداً
علمياً دقيقاً من جهة أخرى ،
ولكن ذلك لايكون على حساب العلوم الانسانية التي
تُعدّ بحق من اعقد العلوم كلها في بحوثها.
تحاول العلوم الانسانية منذ فترة ان تترسّم
خُطا البحوث التطبيقية في دقتها
وتحليلها ورصانة نتائجها ، ولكن هذا المطلب يظل عسير المنال
، وان كان التجريب
يخفف من حدّة جهات النظر المختلفة واشياء من هذا القبيل ،
ولذلك بتنا نسمع اليوم بـ«علم النّص»« و«
لسانيات النص» و« تفكيك النص »... الخ، وهذا ما سعت
اليه الدراسات الانسانية منذ /فرديناند دوسوسور وبيرس/ الى
الشكلانية الروسية الى البنيوية الفرنسية
الى مابعد البنيوية ، وقامت هذه الدراسات اولاً باقصاء
سلطة المؤلف وقصديته ، وخاصة في مقولة « موت المؤلف» عند
/رولان بارت/ ، ثم
عمدت - بعد ذلك- باقصاء سلطة النّص فيما بعد البنيوية
، وكأنها عودة الى مامضى
بطريقة او بأخرى بعد اخفاق هؤلاء الدارسين في الوصول الى
حالة التطابق التام بين الدراسات الانسانية
والدراسات التطبيقية ، ولكنهم لم يعودوا الى المؤلف
الذي قتلوه ، وانما نصبوا ملكاً بديلاً منه هو القارىء او
القراء .
إن الفروق بين العلوم التطبيقية والانسانية كثيرة
وكثيرة جداً ، واهمها في
النتائج التي تصل اليها البحوث في كلا النوعين ، فهي في البحوث
التطبيقية عادية ومقبولة ودقيقة ومقنعة،
لان الطرق التي اوصلت اليها سليمة ، ولذلك لاينشأ خلاف
حولها ، لكن الامر مختلف في البحوث الانسانية ، فثمة نتائج
يتخاصم حولها المتخاصمون ، ويتعارك حولها
فرسان البحوث، كل حسب اتجاهاته ووجهات نظره
والطريقة التي استخدمها للوصول الى هذه النتائج ، وهذا ناجم عن ان
الموضوعات التي يتناولها هؤلاء مصيرية
وحساسة ، ومن ذلك مثلاً حوار الحضارات ، او شعرية
قصيدة النثر، او ما يتصل بقضايا الهوية والعولمة وما
شابه ذلك ، ولايقلل ذلك
كلّه في أهمية هذه البحوث التي يختلف حول نتائجها المختلفون، بل هي
الاهمّ من وجهة نظري ، لانها تحرّك الساحة
الثقافية الراكدة ، وكلنا يتذكر كتاب «
في الشعر الجاهلي » لطه حسين الذي أثار
ضجةً في منتصف العشرينيات من القرن المنصرم
..ما تزال آثارها حتى يوم الناس هذا .
ومن اهم الفروق بين
الدراسات التطبيقية والانسانية ان الاولى تتعامل مع موضوعات
جامدة ، هي موضوعات جسدية ، ولذلك لابد من
ان تكون النتائج سليمةً ، وهذا يعني انها تنطلق من
الثابت والمعاين الى النتائج ، او من المقدمات الى الخلاصات ، في
حين ان العلوم الانسانية تتعامل مع موضوعات
متحولة باستمرار ، او هي تتعامل مع الروح ، فاللغة
اليومية هي لغة العالم والفيلسوف والمؤرخ وسواهم ، في حين ان
اللغة الادبية انزياحيّة بطبيعتها ، ومن
هنا ذهب /فرديناند دوسورسوس/ في ثنائيته الى الفرق
بين اللغة والكلام، فاللغة في المعاجم هي ما يستخدمه العالم
والاديب ، وهي تظل بعد استعمالها معجميةً
في العلوم التطبيقية ، في حين تتحول بين يدي الاديب الى
لغة نصية ، فالمفردات تخرج من دلالاتها المعجمية الى آفاق
نصيّة رحيبة، ولذلك يصير على الباحث ان
يتعامل مع اللغة ضمن مبدأ ي الثوابت والمتغيرات، ولذلك
يتعذر على الباحثين في هذا المجال ان تتطابق نتائجهم كل
التطابق ، لان المادة التي يشتغلون عليها
ليست جامدة او ثابتة ًاو مستقرةً ، وانما هي حية متحركة
متحولة ، ومن هنا ذهب الفلاسفة المثاليون الالمان ، ومنهم
/هرد شليغل ، وغوته،
وكانط، وشلنغ، وهيغل/ الى أن الابداع مقتصر على الشعر
وحده.
وتبقى هنا
ملاحظة هامة لابد من ذكرها لكي نقطع حبل الظن باليقين عند القارىء ،
وهي ما يختص بالدراسات الانسانية او خمودها
وضعفها عندنا ، وأن نبحث عن الاسباب التي
افضت الى هذه الحالة.
والحقيقة التي لاتحتاج الى مجاز ان وضع الدراسات
الانسانية في بلادنا في حالة لاتْحسد عليها
،وهي دراسات لاتقول ولاتقدم في معظمها شيئاً ، ويعود ذلك من
وجهة نظري الى أمرين: الاول طريقة القبول في
الجامعات في الدراسات الانسانية، ولنكن
اكثر جرأة ، فانه يفرز الى هذه الكليات الطلاب الذين لاتقبل
بهم اية جهة من الدولة ، فينضمون الى صفوفها مكرهين وفاقد
الشيء لايعطيه،وان كان الشذوذ لايقاس عليه
كما يقال ، والثاني ان الدرجة العلمية، التي تمنحها كليات
الآداب مغرية لكثير من اصحاب الجاه ، وقد اقدموا
عليها ، وهم لايحتاجون إلا الى اللقب الجليل
، كالناشر الامي ّ الذي يتزوج من
كاتبة كبيرة ليكون محترماً في انظار الناس، ان
هذين العبئين جعلا الدراسات الانسانية
تتراجع باستمرار الى الوراء او الهاوية ، وهذا ما افضى
بالكثيرين من اصحاب الدراسات الاخرى الى ان ينعتوا هذه
الدراسات بالعقم ، ولكنهم لو نظروا في
طبيعة هذه البحوث التي تجري في بلاد الناس لصمتوا
طويلاً طويلا.•