رؤية معاصرة لمواقف من السيرة

عبد الله الطنطاوي

كتـــاب

رؤية معاصرة لمواقف من السيرة

بقلم : عبد الله الطنطاوي

مؤلف هذا الكتاب هو الدكتور محمد بن عبد الله الشباني، وهو فيما يبدو من لائحة الكتب التي ألّفها وألحق أسماءها في خاتمة الكتاب، مختص بالقضايا التنموية وله اهتماماته الاقتصادية والإدارية والاجتماعية، وقد جاء كتابه هذا في 154 صفحة من القطع المتوسط، تحدث فيه عن اثني عشر موقفاً من مواقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، هي المواقف التي اتخذها بعض (العلماء) مسوّغات تجيز لحكام المسلمين الاستعانة بقوى الكفر والضلال، من أجل التصدّي لحاكم مسلم يعتدي على شعب عربي مسلم هو له جار.. والمؤلف لم يصرح بأسماء المعتدين والمعتدى عليهم، ولا بأسماء الذين استعانوا بالقوى الكافرة، ولكن المسألة واضحة، والأسماء والدول معروفة.

وقد يقول قائل: ما الفائدة من هذا الكتاب ومن أمثاله، بعد أن وقع الفأس في الرأس، ودخلت القوات الأجنبية، وحصل ما حصل من دمار وتمزق وانحدار واندحار؟

فنجيب: لابدّ من توضيح الموقف السليم، لعلّنا نستطيع أن نتلافى ما يمكن تلافيه، ونتفادى في قابل الأيام ما يمكن تفاديه، أو لعل أبناءنا وحفدتنا يقتنعون بهذا الموقف، ويعملون على تصحيح الأوضاع في المستقبل، أو لعلهم لا يقعون فيما وقع فيه الآباء والأجداد. ثم.. لا بأس من مناقشة هذه القضية شرعاً.. أعني قضية جواز الاستعانة بالقوات الكافرة، ولكن لا لنبني على هذه الدراسة الشرعية، أن الذين استعانوا بالأجنبي كانوا ينطلقون من منطلقات شرعية، وقد اجتهدوا فأخطؤوا.. لأن القضية ليست من هذا الباب.. القضية من أبواب أخرى لا علاقة لها بشرع أو فرع.

ومؤلف هذا الكتاب مفكر ممتاز، يعرض الحادثة، ثم يستخلص منها ما يؤيد ما يذهب إليه من رأي، بلا تعسفٍ ولا ليٍّ لأعناق النصوص، كما سيتبيّن لنا من العرض التالي.

في المقدمة يقرر الكاتب هذه الحقيقة المريرة: "واقع الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر يمثل أسوأ المراحل التي مرت بها الأمة الإسلامية عبر مراحل تاريخها الطويل، سواء على مستوى الأفراد أو الدول" وهذا الواقع يقتضينا العمل على تغييره بجهد جماعي، وذلك بطرح مناهج واضحة، ودعوة الناس إلى تبنّيها، وفق منهج علمي عملي يأخذ في الاعتبار المعطيات المعاصرة التي تسهم في هذا التغيير.

في الموقف الأول (حماية أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم) يشرح الكاتب النظام الاجتماعي العربي في الجاهلية، القائم على العصبية القبلية، ثم يبيّن أن حماية أبي طالب لابن أخيه محمد –صلى الله عليه وسلم- كانت من هذا القبيل، ولم تكن من قبيل الأحلاف أو التناصر بين دولة وأخرى، حتى يتخذها بعض (العلماء) ذريعة تبرر لحاكم مسلم أن يستعين بالكفار، فالحالتان مختلفتان شكلاً وموضوعاً، والحماية التي حصل عليها الرسول الكريم لم تحدّ من حرية تصرفه، ولم تفرض عليه شروطاً لا يرغبها، بل وفيها دليل قوي على أنه لا يجوز للفرد المسلم قبول الحماية، إذا كان فيها تعدٍّ على حريته، أو مساس بجوهر قضيته، هذا في سياق الفرد المسلم، أما في حال وجود مجتمع ذي سيادة واستقلالية، فالحرمة أشدّ وأعمق، لأن ذلك يعدّ إخلالاً بمبدأ من أهم المبادئ التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية، وهو مبدأ الولاء والبراء.

وفي الموقف الثاني (الهجرة إلى الحبشة) قدّم الكاتب الملابسات التي صاحبت تلك الهجرة، وأنها لم تكن أكثر من (لجوء سياسي) كما نقول في زماننا، لجأت مجموعة من الأفراد الفارين بدينهم من اضطهاد الزعماء المتسلطين عليهم، إلى حاكم عادل لا يُظلم عنده أحد، أمّا أن تُصوّر على أنها نوع من التعامل بين دولة إسلامية ودولة غير إسلامية، فلا، واستخلاص حكم شرعي بجواز استعانة الدولة الإسلامية بالدول غير الإسلامية، فيه تعسف وجور وتحريف، إذ لم تكن الهجرة إلى الحبشة بناء على اتفاق أو تعامل بين مجتمع إسلامي قائم، له سيادته ونظامه واستقلاليته، وبين نجاشي الحبشة، كلّ ما هنالك، أن المسلمين كانوا قلة مستضعفة في مجتمع ظالم يسومهم سوء العذاب، أراد الرسول القائد أن يخفف عنهم ما يلقونه من ضنك واضطهاد، فأرشدهم إلى الهجرة إلى الحبشة، وهذا كله ضمن إطار الأفراد، وهذا مغاير لموقف الدولة أو المجتمع المسلم، فهذا لا يمكن اتخاذه دليلاً على جواز الاستعانة وطلب النصرة من الكفار الذين ساهموا قولاً وفعلاً في تشريد المسلمين من بلادهم، والاستهانة والاستهزاء بهم وبدينهم، في فلسطين وفي سواها من بلاد العرب والمسلمين.

والموقف الثالث (رفض طلب بني عامر بن صعصعة) عندما عرض عليهم الرسول الكريم الإسلام في أحد مواسم الحج، فاشترطوا لمناصرته ومتابعته أن يكون لهم الأمر من بعده، فقال لهم نبي الله: الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء. فرفض بنو عامر متابعة الرسول والإيمان به، ولم يأبه رسول الله لإعراضهم، لأن مصلحة الدعوة لا تكون على حساب قاعدة عامة مهمة من قواعد التنظيم الاجتماعي الذي سوف تتضح معالمه في المدينة المنورة بعد الهجرة، واكتمال بناء الدولة الإسلامية، وهي أن الحكم والولاية في المجتمع الإسلامي للأمة التي تختار حاكمها، حسب قاعدة الشورى.

من هذا الموقف –على حدّ تعبير المؤلف- يتضح أن القواعد والمبادئ الاعتقادية والتشريعية لا يجوز للمسلمين مصادمتها أو التحاور حولها، مهما كانت الضرورة، حتى لو كانت الضرورة تمسّ وجود المسلمين.

وفي هذا الفصل قضايا اجتهادية قابلة للنقاش، قد يكون مكانها في مقال تالٍ بإذن الله.

والموقف الرابع (حلف الفضول) الذي يستند إليه بعض المنهزمين نفسياً وروحياً، كدليل على جواز تحالف المسلمين مع أعدائهم من اليهود والنصارى والوثنيين، وطلب نصرتهم لردّ الظلم وردع الظالم المعتدي على مجتمع مسلم غير قادر على ردّ البغي والعدوان عليه. وهذا الفهم لا يستند إلى أساس علمي أو شرعي، لأن التوجيه النبويّ للأمة، وهو توجيه لرسم سياسة يمكن أن تنتهجها الأمة، ممثلة في قياداتها، بقبول المعاهدات والاتفاقيات التي تخدم الحقّ والعدل، وهذا لا يعني إمكانية اعتبار حلف الفضول دليل إجازة لتحمل المذلة والمهانة، كما لا يمكن جعله مبرراً شرعياً لقيام التحالف والتناصر بين بعض المسلمين والكافرين، ضد البعض الآخر من المسلمين.

لقد حدّد الإسلام الأسلوب الذي ينبغي اتباعه عند حدوث التنازع، وهو أن يجتمع المسلمون لإصلاح ذات البين وفق القواعد الشرعية، وليس في حلف الفضول الذي امتدحه الرسول القائد ما يجيز ضرب مفهوم الآية الكريمة: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا.." ولا ما يجيز الاستعانة بالكفار لضرب المسلمين.

والموقف الخامس المتمثل في لجوء الرسول الكريم إلى ثقيف في الطائف، وطلب النصرة منهم، لا ينهض دليلاً على جواز طلب النصرة والحماية من الأعداء، لأن الرسول القائد لم يذهب إلى الطائف ليحمي نفسه، بل للبحث عن مكان ينتقل إليه، لبث دعوته منه، أو يجد النصرة للإسلام، وليس في هذا الموقف ما يوحي بجواز قيام الدولة المسلمة بطلب التحالف والتناصر من دول تحارب الإسلام وما يمتُّ إليه بصلة.

والموقف السادس يتمثل في استجارة الرسول القائد بالمطعم بن عدي المشرك، بعد عودته الحزينة من الطائف التي ردّه أهلها ردّاً قبيحاً، وهذا الموقف ليس فيه ما يدلّ على جواز استعانة الدولة الإسلامية بالكفار، فليس ثمة جامع بين طلب فرد مسلم الحماية الشخصية من فرد مشرك، وبين طلب التحالف والتناصر من دولة كافرة مخالفة في العقيدة والتوجه السياسي والفكري.

كما لا يمكن اتخاذ استعانة الرسول الكريم بعبد الله بن أريقط ليكون دليلاً له ولصاحبه الصدّيق في هجرتهما إلى المدينة المنورة، دليلاً على جواز الاستعانة بالدول الكافرة ضدّ دولة مسلمة معتدية بأي حال من الأحوال (الموقف السابع) لأن منطق الاستدلال يعارض ذلك، وإن فقهاء المسلمين الأوائل لم يفهموا ذلك الفهم السقيم الذي يفهمه بعض (فقهاء) هذا الزمان الذي تُحرَّف فيه حوادث السيرة، لتوافق الأمزجة والهوى، لأن مواقف الرسول من الأحداث هي مواقف تشريعية ذات تأثير على تصورات المسلمين وعقائدهم، فاستئجار عبد الله بن أريقط إنما كان من أجل خبرته في معرفة الطرق الأمنية التي توصل إلى المدينة بسلام، لا أن يتولى ابن أريقط حماية الرسول وصاحبه من الأعداء.. فالحادثة تعني جواز استخدام المشركين والكفار في الأعمال التي لا يوجد في المسلمين من يقوم بها، كالتعاقد مع الخبراء من المهندسين والأطباء وغيرهم كأفراد يعملون تحت إشراف الدولة وحمايتها.

ويثير المؤلف شبهة قد ترد على هذا الاستئجار، فما دام يجوز استئجار الكفار لبعض الأعمال، يمكن استئجارهم للقتال نيابة عن المسلمين، فالقتال نوع من الخدمة أو المنفعة التي يستفيد منها المسلمون.

ويردّ الكاتب على هذه الشبهة ببعض أحداث السيرة التي تؤكد رفض الرسول القائد الاستعانة بمشرك في غزواته، ثم يقول: "حتى لو قيل بإجازة ذلك، فإن الاستعانة بالمشرك تكون وفق شروط وقيود، أهمها أن تكون القيادة والسيطرة والقرار في الحرب بيد المسلمين، وأن لا يكون للمشركين الكثرة والقوة بحيث يكون المسلمون هم القلة، والمشركون هم أهل الغلبة والمنعة، وهم أصحاب قرار بدء الحرب وإنهائها، وفق شروطهم وحساباتهم ومصالحهم الآنية والمستقبلية".. وهذا ما لم يكن فيما حدث من قريب.

وكذلك كان الموقف الثامن (سراقة بن مالك وحادثة الهجرة) لا يخرج عن إطار اتخاذ الحذر من قبل القيادات السياسية للأمة الإسلامية، والتعامل مع سنن الله الكونية تعاملاً إيجابياً عند إرادة تغيير مسار الأحداث، أو الاحتفاظ بالواقع والنجاة من الأخطار، لأن الرسول القائد لم يستعن بسراقة للدفاع عنه، بل إن سراقة نفسه طلب الأمان لنفسه، وهذا كله لم يكن اتفاقاً مسبقاً، بل عاملاً طارئاً.

والموقف التاسع (مفاهيم ودروس من عقد الموادعة مع اليهود) يتحدث عن البداية العملية لتحديد علائق الأمة الوليدة، كما يمثل نوعية التعامل الذي ينبغي اتباعه من قبل الأمة مع اليهود والنصارى وغيرهم ضمن الظروف التي تشابه الظروف التي مرت بها الأمة الإسلامية في بداية تكوينها، وهذا العقد منهج سياسيّ لأيّ تجمّع يرغب في ممارسة نظامه في مجتمع مختلط يجمع بين المسلمين وغير المسلمين، والمسلمون في مرحلة الضعف. وأهم ما تبرزه وثيقة الموادعة هذه، أن على المسلمين أن يكونوا مستقلين غير مستذلين ولا تابعين، وطلب النصرة من الكفار يمنح العزة للكفار على المسلمين، كما أن الضرر النفسي الذي تصاب به الأمة يفوق الأضرار المنادية التي قد تفقدها في حال عدم الاستعانة بالقوى الكافرة.

والقراءة المتأنية لهذه الوثيقة تبرز تحقيق الاستعلاء للأمة الإسلامية، وتوضح أن اليهود هم الذين طلبوا النصر وليس المسلمون، كما توضح أن التحالف كان نتيجة للوضع الذي وجد المسلمون فيه أنفسهم في بداية تكوين الدولة، وهو وضع صعب، ومع ذلك، أكدت الوثيقة على جعل القيادة السياسية للمسلمين، لأن الهدف من تلك الموادعة، حماية الإسلام والمسلمين، ولهذا فإن الاحتجاج بعقد الموادعة على جواز الاستعانة بالقوات الكافرة، احتجاج في غير محله، خاصة إذا عرفنا ما تنص عليه الموادعة من أنه في حال قيام أي تحالف أو تساند، يجبي أن يكون للتشريع الإسلامي الهيمنة على التشريعات الأخرى، وأن القيادة والقرار ينبغي أن يكونا للمسلمين.

ويتحدث الكاتب في الموقف العاشر عن (إعلان الجهاد من أجل جهاد المشركين وبناء الأمة) ويبيّن التحريف الذي لحق معنى الجهاد والشهادة في سبيل لله، ويوضح مفهوم الجهاد والاستشهاد في سبيل الله ويحدّده فيقول: إن مفهوم الجهاد يقتصر على الجهاد لإعلاء كلمة الله، بالدعوة إلى الإسلام، وإقامة حكم الله، وأن ذلك هو السبب الدافع للقتال، وأن غير ذلك من الأسباب الداعية إلى القتال لا تعدّ جهاداً في سبيل الله.

ويتحدث المؤلف عن بعض الضوابط التي هي إسقاطات على الواقع المعيش، حتى لا يتيه المسلمون وينخدعوا بالشعارات والطروحات المفاجئة، من تلك الضوابط" تبيُّنُ المنهج الفكري للداعي إلى الجهاد، وهل هو منهج إسلامي أم غير إسلامي؟

وهل ذلك الداعي يمارس الإسلام قولاً وسلوكاً وتنظيماً ونظاماً؟ أم أن الدعوة جاءت للتضليل وكسب الأنصار؟ وأن مناهج التفكير في نظامه تتعارض مع الإسلام؟ كما ينبغي معرفة التاريخ الشخصي له، لأن المؤلف يخشى من خداع الأدعياء الكذابين، وهذا حقّ، فقد طالما خُدع المسلمون بالكاذبين من الزعماء والقادة المضلِّلين.

ويخلص الكاتب في الموقف الحادي عشر (الاستعانة بالمشركين) إلى أن سيرة الرسول الكريم خلال مراحل جهاده تؤكد أنه لم يقبل أن يستعين بمشرك، ويضرب لذلك الأمثال، ويردّ على الشبهات في ذكاء لا يخلو من (التذاكي) أحياناً، وكان الأولى بالكاتب أن يجعله آخر فصل أو آخر موقف، لكنه أتبعه بالموقف الثاني عشر (غطفان وتمر المدينة) وعدّ هذا الموقف ردّاً واضحاً وصريحاً على كل من يقول بجواز الاستعانة بالكافرين، ولو جاز ذلك، لاستعان الرسول ببعض القبائل العربية المقيمة على شركها، في أخطر غزوة تعرّض لها المسلمون، وهي غزوة الخندق التي تعدّ قمة التحدي للنظام الإسلامي الجديد في المدينة المنوّرة.

وهكذا ينتهي هذا الكتاب القيّم الذي جهد مؤلفه في توضيح فكرته، وبيان رأي الإسلام في الاستعانة بالقوات الكافرة، وحشد لذلك ما استطاع من أحداث السيرة العطرة، والتحليلات الذكية.

وتبقى كلمة حول العدد الكبير من الأغلاط المطبعية والنحوية والإملائية التي حفل بها هذا الكتاب الصادر عن دار عالم الكتب في الرياض..

ترى.. أما آن الأوان لنتخلص من عار هذه الأغلاط الشنيعة التي تسيء إلى المؤلف، كما تسيء إلى الدار الناشرة؟

إن ذلك لا يكلف إلا جهداً يسيراً ومالاً قليلاً، فهل من مستمع؟