الدولة والمجتمع
جدل التوحيد والانقسام في نسيجنا الاجتماعي
هشام منور
كاتب وباحث فلسطيني
عنوان الكتاب: الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر.
المؤلف: عبد الإله بلقزيز.
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، طبعة أولى، 2008م.
عدد الصفحات: 165.
استدعت حالة الانسداد السياسي والتأزم الاجتماعي التي تعرفها مجتمعاتنا العربية، على تنوع عناصرها وطوائفها ومكوناتها، واختلاف تموضعاتها الجغرافية، إعلان حالة الطوارئ البحثية والفكرية (لا السياسية بالطبع) واستنفرت مفكري الأمة وباحثيها لدراسة أسباب التأزم الحاصل ومظاهر واكتناه جوهره وظروفه، بغية تجنب نتائجه التي باتت وشيكة الحدوث الانفجار، سيما أن بعض نذر تلك النتائج قد تفجرت بالفعل في بعض العواصم والمجتمعات العربية على شكل صراعات ونزاعات طائفية وعرقية وقومية وحتى مذهبية وحزبية.
وكتاب الدكتور المفكر عبد الإله بلقزيز يدرس حالة الانسداد السياسي هذه ملاحظاً استفحالها ومنعها للمجتمعات والدول العربية من التقدم، وضغطها على حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها. ويقدم رؤية جديدة في جدلية حادة تحكم الاجتماع العربي المعاصر، هي جدلية التوحيد والانقسام التي تعتمل في نسيجه الداخلي، وتضعه في حال من المراوحة بين التماسك النسبي والتشظي. ويدعو إلى ضرورة تدشين تفكير نظري جديد في مسائل الدولة والسلطة والمجتمع المدني.
يرى المؤلف أن التفكير في هذه الجدلية يستدعي التفكير في قضايا الدولة والمجتمع في البلدان العربية المعاصرة، والبحث في إنتاج دينامياتها، والجهة التي ترتد عليها نتائجها إيجاباً، وسلباً في معظم الحالات. ويبحث في إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع بوصفها الإشكالية التي تندرج في نطاقها بحث الجدلية محل الدراسة.
وتتلخص جدلية الكتاب في توضيح خطورة الاستفحال المتزايد للانسداد السياسي الذي تعرفه البلدان العربية ويضغط على حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها؛ مما يؤدي إلى التعبير عنها في صور من العنف الأهلي تنذر بالانفجار الكلي بعد أن جرى شيء منه جزئياً في بعض من تلك البلدان. وملاحظة أثر طغيان التفكير الأيديولوجي الانتقائي لظاهرة الانسداد السياسي واستسهال من يتناولها انطلاقاً من مقدمات مبسطة للوصول إلى استنتاجات تصدر عنها حكماً بإدانة الدولة وحدها وتحميلها وحدها وزر هذا التدهور في الاجتماع العربي. أو إدانة المجتمع القروسطي المتخلف الذي استمر متخفياً في صورة مجتمع «حديث».
ويدعو الكتاب بعد تحليل مواقف المفكرين والباحثين العرب إزاء هذه الجدلية إلى تفكير حقيقي عميق في مسألة الدولة على الأصول النظرية والارتفاع عن مستوى العموميات، والكف عن الثرثرة الأيديولوجية في مسائل الاجتماع السياسي. كما يدعو إلى توجيه نقد مزدوج، للدولة والمجتمع على حد سواء، وإلى أن تتنبه النخب السياسية العربية بعض الخيارات السياسية الانتحارية من فتن وحروب أهلية والتي تدمر ما تبقى من تلك المجتمعات.
ويؤكد المؤلف أن المجتمع قد ولد مرتين في تاريخ النوع الإنساني، مرة بوصفه مجتمعاً طبيعياً التحم فيه الأفراد بروابط النسب والجوار فقامت جماعات طبيعية كانت، في سلم التطور، دون مرتبة المجتمع لغياب مبدأ التنظيم الذاتي فيها، دون أن يعني ذلك غياب أشكال بدائية من تقسيم العمل فيه. وولد المجتمع ثانيةً حين قامت فيه الدولة؛ وتلك كانت ولادته الحقيقية له، لأنه من خلالها فقط أمكنه أن يحقق تنظيمه الداخلي، وتقسيم العمل، وتوازع السلطة بين أفراده، فكانت الدولة ثورة في تاريخ المجتمع بمقدار ما كانت تأسيساً جديداً لمعنى المجتمع ولوجوده التاريخي ككيانية اجتماعية جديدة مسيطرة على ذاتها ومقررة لمصيرها. وكانت تلك الثورة تنتكس كلما دب الوهن في الدولة، أو استبدت بها أزمة، أو أصابها سقوط تحت قبضة عدوان من الخارج.
ثم ينتقل بلقزيز للحديث عن الديمقراطية كنظام سياسي، فيدعو إلى التفكير في العلاقة السياسية التأسيسية الحاكمة لهذا النظام، وهي علاقة المواطنة ومن يمثلها من مواطنين. وهؤلاء ما هم سوى أفراد أحرار متساوين أمام القانون في حقوقهم السياسية؛ لأنهم متكافئون في أداء ما عليهم من واجبات للدولة، كدفع الضرائب، وأداء الخدمة العسكرية، ويقضي بالمقابل تفويضهم الدولة للقيام على أمرهم وتأمين الخدمات العامة والحماية للمجتمع.
ويشدد على ضرورة أن تفضي الحرية إلى تحقيق الحقوق المدنية والسياسية للأفراد في الدولة الحديثة، وهي حقوق لا تعترف بها الدولة فحسب، بل تكفلها لهم وتضمنها بالتشريعات والقوانين، حتى إن العدوان عليها لا يستوجب تحصيل الفرد حقه المنتهك بمقتضى القانون كحق فردي، بل يستوجب أن تأخذ الدولة نفسها حقها أو الحق العام ممن انتهك ذلك الحق، فتبدو مركزية الفرد واضحة عندما يتعلق الأمر بالحرية. وهذا الكلام لا يستقيم في المجتمع المدني دون التسليم بمكانة الفرد في المجتمع.
والحال أن الكتاب قد حاول رسم ملامح الأزمة التي تعرفها مجتمعاتنا المحتقنة تارة، والمتفجرة تارة أخرى، وإذا كان إعادة التفكير والنظر في المحددات المعرفية لمفاهيمنا السياسية المشوشة سبيلاً أولياً لاجتراح الحلول المستعجلة لمجتمعاتنا المتأزمة، إلا أن الممارسة العملية والتخلي عن النزعة التنظيرية في التحليل من قبل بعض الباحثين والمفكرين باتت مطلباً ملحاً ومسانداً لما طالب به المؤلف من بحث نظري بعيد عن الحزبية والفئوية والأدلجة.