الإخوان المسلمون في سوريّة 3
الإخوان المسلمون في سوريّة
مذكّرات وذكريات
(المجلد الثالث)
للداعية الإسلامي عدنان سعد الدين
عدنان سعد الدينالمراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سورية |
عرض: محمد علي شاهين* |
صفحات من النقد التاريخي الواعي، ورصد دقيق للوقائع والأحداث بين عامي (1963 ـ 1977) واستيعاب شامل للمرحلة بكل تفاصيلها، وجرأة نادرة، وصراحة في الطرح الموضوعي قل نظيرها في زمن الخوف، وصوت مدوّي في زمن الصمت والنفاق، وهمّة قعساء لا تعرف القعود، وقلم أنيق، وأسلوب جذّاب وتسلسل منطقي للأحداث.
واصل فيها الأستاذ عدنان سعد الدين ما انتهى إليه في مجلده الثاني، من تدوين لمذكراته الثريّة وذكرياته الخصبة عن جماعة كانت ملء العين والنظر، ولا تزال محطّ الآمال ومعقد الرجاء.
وتأريخ مدعّم بأقوال الشهود والوثائق للدولة السوريّة في فترة دقيقة وحسّاسة، عاش المؤلّف أحداثها، وخاض معاركها باحثاً نقّاباً، ومعارضاً عنيداً، ورائداً من روّاد الصحوة.
في الثامن من آذار لعام 1963 استيقظت دمشق على هدير دبابات ومصفّحات يقودها ضابط طموح للسلطة والمجد، ترك الجبهة السوريّة مع العدو الإسرائيلي مكشوفة وهو في غاية الاطمئنان، واتجه نحو العاصمة السوريّة فهدم الحياة الدستوريّة والنيابيّة، في حركة غبيّة، أدخلت سوريّة في المجهول، ولم يكن يدر أنّ وراء هذه الحركة مخطّطاً مريباً، بدأ بالتخلّص منه، ولجنة عسكريّة سريّة، أوصلت البلاد بعد أربعة عشر عاماً إلى هزيمة 1967، وانتهت بوضع مقدرات سوريّة بين يدي إيران.
ويتحدث المؤلّف عن الرتب العسكريّة التي منحها مجلس قيادة الثورة لأعضائه، وعن السلطات الثلاث التي قبض قادة الانقلاب عليها، وعن فرض الأحكام العرفيّة دون سند قانوني، وهو القانون الذي لا يزال سارياً بعد خمسة وأربعين عاماً، وعن التحالف بين البعثيين والناصريين وتقاسمهم كعكة الحكم، ويصف حجم البعث في المجتمع السوري، ونقص كوادره، ويعدّ عمر الحكومات الثمان التي تشكلت خلال السنوات الثلاث الأولى للانقلاب بالأيام، وكيف اخترقوا تنظيم الناصريين في الثامن عشر من تموز 1963، وأعدموا عدداً منهم، واتخذوا هذه الحركة ذريعة للتخلّص من الناصريين في الجيش فسرّحوا ألف ومائة ضابط، وصف ضابط.
وكشف عن مخططات اللجنة العسكريّة السريّة (عمران، والأسد، وجديد) عندما اجتاح أبناء الطائفة المناصب القياديّة المدنيّة والعسكريّة على حساب الأكثريّة السنيّة، وجعلوها خالصة لهم من دون الناس.
ولم يتورّعوا عن هدم مئذنة جامع السلطان في حماه عند أوّل احتجاج، ودكوا حرم الجامع والمعتصمين بداخله، ثمّ اقتحموه واعتقلوا العشرات، وساقوهم إلى المحكمة العسكريّة بحمص برئاسة المقدم مصطفى طلاس، ويدوّن موقف الجماعة وعلماء حماه من الصدام، فيذكر أنّ المكتب التنفيذي للإخوان أصدر توجيهاته إلى مركز حماه بعدم التورّط في الصدام تحت أي ظرف أو استفزاز، ويثني على دور علماء حماه في إيقاف المذبحة التي كانت تستهدف حماه.
ولم يراع هؤلاء قدسيّة جامع خالد بن الوليد في حمص، فاقتحموه، وساقوا نحو مئة مصل إلى المحكمة بعد تمزيق جلود المعتقلين في صيف عام 1964.
وكسر سليم حاطوم بدبابته باب المسجد، ودخلت قوات السلطة باحة الجامع الأموي، فسالت الدماء، وتناثرت أشلاء المصلين، واقتيد المصلون إلى محكمة صلاح الضللي، فحكمت على عدد منهم بالإعدام.
وقرّر مجلس قيادة الثورة أنّ من صلاحيته حل الجيش، وتركيبه من جديد، فصدرت قوائم طويلة بتسريح أكفأ الضباط، وكانت القائمة الأولى تضم سبعمائة ضابط، جرى إحلال ضباط علويين مكانهم.
وزحف الطائفيّون على الكليّات العسكريّة، وجرت حركة تنقلات واسعة في صفوف الضبّاط، وكان لهم النصيب الأوفر من البعثات والمناصب حتى فاحت روائح التكتل الطائفي، وصرخ محمد عمران منتشياً: إنّ الفاطميّة يجب أن تأخذ دورها.
ثم تنتقل البلاد إلى أيدي فريق آخر من الانقلابيين في الثالث والعشرين من شباط عام 1966، ويبدأ عهد جديد من الديكتاتوريّة، وتطهير الجيش من بقايا السنّة عندما أبعدوا 400 ضابط وموظّف من جماعة أمين الحافظ، وتتحوّل سوريّة على أيدي العسكر إلى حقل تجارب، ويتوقف العمل بالدستور، وتهدر كرامة المواطن وحقوقه الدستوريّة والإنسانيّة، ويتولى القضاء العسكري محاكمة المعارضين المدنيين، وتنفّذ فيهم أحكام الإعدام، ويتوارى أعضاء الحزب الحقيقيين ليحل المنافقون والنفعيّون محلّهم.
وجاء الدور على الدروز بعد السنّة، فجرى استبعاد وزير الدفاع حمد عبيد، وإحلال حافظ الأسد مكانه، وشعر سليم حاطوم بأنّه خدع، بعد إقصائه من القيادة القطريّة المؤقّتة، واتهمت القيادة حمد عبيد بتدبير محاولة انقلاب في حلب، ورافقت حملة التطهير الواسعة للدروز ضجّة كبيرة في جبل العرب، فقرّر جديد والأتاسي السفر إلى السويداء برفقة العضو الدرزي الوحيد في القيادة القطريّة جميل شيّا، وهناك تسلّم الوفد مطالب فرع السويداء للحزب، وانتهز حاطوم الفرصة فاحتجز الأتاسي وجديد ووضعهما تحت الحراسة، وجرّد الضبّاط العلويين من رتبهم وأسلحتهم، إلاّ أن قيادة الجيش رفضت المطالب، ودفعت كتيبة صواريخ إلى السويداء، وحلّقت الطائرات فوقها.
ولمّا أدرك حاطوم وأبو عسلي أنّهما خسرا المعركة قرّرا الهرب إلى عمّان يوم 13/9/1966 وعقدا مؤتمراً صحفيّاً اتهما فيه جديد والأسد بالطائفيّة وتصفية الضبّاط، وصرّح حاطوم: بأنّ نسبة العلويين في الجيش خمسة مقابل واحد من جميع الطوائف الأخرى، وحذّرا من وقوع حرب أهليّة.
وأرسل سلطان باشا الأطرش برقيّة مفتوحة لرئيس الأركان جاء فيها: أولادنا في السجون مضربون، نحملكم النتائج، لقد اعتاد الجبل ـ ولا يزال ـ أن يقوم بالثورات لطرد الخائن والمستعمر، ولكنّ شهامته تأبى عليه أن يثور ضدّ أخيه، وأن يغدر ببني قومه.
وتبع تصفية الدروز تصفية أبناء حوران في الجيش، ليصفو الجو للضباط العلويين.
وتحدث المؤلّف عن نهاية حاطوم المأساويّة على أيدي الرفاق البعثيين عندما ألقت السلطات السوريّة القبض عليه فور دخوله الأراضي السوريّة للمشاركة في حرب حزيران 1967، ونفّذت فيه حكم الإعدام مع السفّاح بدر جمعة بأسلوب همجي.
وأفاض في الحديث عن النفق المظلم الذي دخلته سوريّة فسفكت الدماء، واستبيحت الحرمات، وانتهكت حقوق الإنسان، وقمعت فيها المعارضة بقسوة، وارتكبت جرائم تقشعر لها الأبدان باسم القانون، وفي مقدمتها قانون الطوارئ الذي انعدمت في ظلّه صلاحيّات السلطة القضائيّة.
وفضح موقف الصهاينة من انقلاب الثامن من آذار، وشهر العسل الذي امتد عقوداً تحت دعوى الاستعداد للمعركة، والتوازن الاستراتيجي، وما انتهى إليه من شعار السلام الاستراتيجي، وممارسة المفاوضات غير المباشرة مع العدو الصهيوني.
* * *
وتحت عنوان الصراع على السلطة بين عامي: (1966 ـ 1971) استهل المؤلّف موضوعه بالحديث عن فرض عقيدة وسلوك الأقليّة عبر منهج تدميري التزمت به الحكومات المتعاقبة، واستهداف الإخوان المسلمين بألوان القمع والتعذيب، واستفزاز مشاعر المؤمنين، فألغوا كلمة مسلم من البطاقة الشخصيّة، وضمّوا موارد الأوقاف إلى الموازنة العامّة، واستولوا على أملاك الأوقاف بأسعار زهيدة، وشوّهوا مادة التربية الإسلاميّة ونكّلوا بمدرسيها، وحرّفوا مادة التاريخ وشوّهوا التراث، ومهّدوا لإلغاء المدارس الشرعيّة، واعتدوا على القرآن الكريم، وتطاولوا على الإسلام بأقلام مسمومة، وسخروا من العلماء وزجّوا بهم في السجون.
ثم تحدّث عن إعداد حافظ الأسد لهذا المنصب الخطير منذ اليوم الأوّل لتخرجه من الكليّة العسكريّة بحمص، وأسلوبه في النأي عن الصراع بين القوى المتنافسة، والانسحاب من المعارك الخاسرة، وعن لقاءاته السريّة، وعن ترفيعاته العسكريّة من نقيب إلى عقيد في عام واحد وإلى لواء في عام 1964، وتوليه قيادة قاعدة الضمير الجويّة، وتعيينه عضواً في القيادة القطريّة.
وأشار المؤلّف أن عدد الضباط المسرّحين قبل هزيمة حزيران 1967 يزيد عن ألفي ضابط، ومثلهم من ضباط الصف، ووصفهم بالكادر الحقيقي في الجيش السوري، وأنّ هؤلاء استبدلوا بمعلمين وموظّفين بعثيين غالبيتهم من العلويين، وأنّ هؤلاء الأكفياء لم يسلموا من السجن أو القتل، وذكر أسماء عدد منهم، فكان لإسرائيل ما تريد.
وتساءل المؤلّف هل كل هذا مجرّد مصادفة؟ أن تمزّق الوحدة الوطنيّة ويزج قادة الأحزاب والرموز الوطنيّة في السجون، وأن يجرّد الجيش من قادته ذوي الخبرة الفنيّة والقتاليّة، وأن يستخدم في حزيران كطعم لاصطياد السمكة الكبيرة (عبد الناصر).
ووصف المؤلّف ما حدث بأنّه تمهيد مفضوح ومكشوف لكارثة ما زلنا نتجرّع مرارتها حتى يومنا هذا.
وروى المؤلّف جانباً من فضيحة الجاسوس كوهين، وعلّل الإسراع في محاكمته وإعدامه يوم 18/5/1965 بقاء العلاقة بين كوهين ورموز الحكم مجهولة.
وينقل مقاطع من تصريحات الأسد قبل الحرب، فقبل أسبوعين من الهزيمة تحدث إلى جريدة الثورة فقال: إنّ سلاح الجو قد تطوّر تطوّراً كبيراً بعد ثورة 23 شباط 1966 من حيث الكميّة والنوع والتدريب.
وقال قبل الحرب: لا بد من تنفيذ ضربة تأديبيّة لإسرائيل تعيدها إلى صوابها، وتجعلها تركع ذليلة مدحورة.
وقال: إنّ الوقت قد حان لخوض معركة تحرير فلسطين، وأنّ القوات المسلّحة أصبحت جاهزة ومستعدّة لعمليّة التحرير.
وتبجّح يوسف زعيّن فقال: إنّ الظروف اليوم أفضل من أي وقت مضى لخوض معركة المصير.
وعندما بدأت المعركة واصل النظام تضليل الجماهير بنشر البلاغات الكاذبة، والتحدّث عن معارك وهميّة، كسيطرة الطيران السوري على سماء المعركة، وأنّ سوريّة أسقطت 150 طائرة في الخامس من حزيران، وأنّ الجيش السوري في طريقه إلى صفد وعكا وإلى الناصرة، ووصفت جريدتا البعث والثورة القتال مع العدو بأنّه أشرف قتال عرفه التاريخ الحديث.
وعندما حشدت إسرائيل طيرانها لضرب المطارات والمواقع المصريّة، ولم يبق في كل فلسطين إلاّ اثنتا عشرة طائرة، كانت الفرصة مواتية للطيران السوري لضرب مدرّجات العدو الصهيوني، وحرمانه من الهبوط وإلحاق هزيمة منكرة به، لكنّه لم يهتبل الفرصة، ولم يلب السوريون نداء الملك حسين لدخول المعركة الجويّة في الوقت المناسب، فضاعت الفرصة واستطاع العدو العودة إلى مطاراته والتزوّد بالوقود ومتابعة مهامه في تحطيم مصر ودول الجوار.
ولم يحرّك الألوية التي طلب عبد المنعم رياض قائد الجبهة الأردنيّة السوريّة بموجب معاهدة الدفاع المشترك، تحريكها لنجدة الأردن.
وجرى تسليم أمنع جبهة مع العدو بعد صدور بلاغ سقوط القنيطرة رقم 66 في العاشر من حزيران، قبل وصول العدو إلى القنيطرة بأربع وعشرين ساعة، وتحوّل الانسحاب الكيفي إلى هزيمة منكرة، رافقها نزوح مائة وعشرين ألف مواطن عن ديارهم.
وصرّح بعض الحزبيين في أعقاب الهزيمة: إن ضياع الأرض ليس بذي قيمة طالما ظلّ الحكم بأيدي التقدميين الثوريين.
واستعرض الأستاذ سعد الدين والألم يعتصر فؤاده وقائع هزيمة الخامس من حزيران 1967 فقال: إنّ شعوري بالمرارة الشديدة من هذا العبث والاستهتار بمصير أمّتنا من قبل الظلمة والمتسلّطين على مصائرها يجعلني أمسك عن التعليق الذي أعجز عن وصفه، وتعجز الكلمات عن تشخيصه والتعبير عن فظاعته.
ورجع الكاتب إلى المؤلّفات التي كتبت عن الهزيمة والمراجع والوثائق، ونقل أقوال عدد من المطّلعين على بواطن الأمور ومنهم: خليل، والجندي والأكتع، والمفتي، والبارودي، وجمعة، والزعبي.
ونقل عن أمين الحافظ تساؤل الجنرال ديغول عن حرب الخامس من حزيران: كم كان ضحايا الحرب لدى السوريين؟ فقيل له: نيّف ومئة عسكري، فقال: إذاً لم تنشب الحرب بين البلدين.
وهكذا رفّع حافظ الأسد إلى رتبة فريق، وفتح الطريق أمامه ليكون رئيساً للجمهوريّة إلى الأبد بصلاحيّات غير مسبوقة.
ويتحدث المؤلّف عن العلاقة التي أقامها حافظ الأسد بإيران الشاه والخميني، بدوافع طائفيّة، وعن تلقيه 300 مليون دولار من حكومة الشاه، حتى أنّه كان يعقد صفقات السلاح لصالح إيران في حربها مع العراق.
وأنكر الأسد على المقاومة وجودها ونشاطها، ورأى أن الصراع مع إسرائيل صراع جيوش، ومع هذا فقد أقام باسم الحزب منظمة الصاعقة.
ونقل المؤلّف عن الجزء الثالث من مذكرات كيسنجر قوله لإسرائيل: إنّ أسد سيدخل لبنان، لا ليحاربكم، بل ليقضي على أعدائكم.
وكلّف أسد شريكه في الانقلاب مصطفى طلاس بالترويج له بين التجّار والأثرياء والمتدينين السنيين، وقدمه إليهم على أنّه الليبرالي والمخلّص من صلاح جديد البعثي الاشتراكي العلوي، فاستقبلوه في كل المدن بعد نجاح انقلابه.
ولعب أوراقه بدهاء، وأنجز ما يسمى بنصر تشرين 1973 غسلاً لعار 1967، وتوقيع اتفاقيّة الجولان.
وينقل المؤلّف من مذكرة كتبها المعارض العلوي المقيم في كندا توفيق دنيا، ناقش فيها الأزمة الطائفيّة في سوريّة، وما تركته من احتقانات داخل المجتمع، حيث استطاع النظام أن يضع المجتمع في مواجهة بعضه بعضاً، وأن يحي بنى التخلّف من عائليّة وعشائريّة ومناطقيّة في زرع الأحقاد بعد أن تراجعت في العقود الأخيرة قبل وصول الأسد إلى السلطة.
وقال توفيق دنيا: من راقب مسيرة حافظ أسد خلال فترته الطويلة منذ عام 1964 يكتشف أنّ ما سعى إليه، ويسعى إليه هو بقاؤه في السلطة، واستمرار صعوده الدائم، وطموحه الذي لا حدود له، لا يهمه في ذلك حزب أو طائفة أو نظام أو أي نوع من العلاقات الإنسانيّة.
ويختم دنيا مذكرته بالقول: لقد بدأت دائرة المعارضة للنظام وطائفيّته تتسع في صفوف العلويين، وتزداد إدانة لسياساته، وترتفع الأصوات احتجاجاً على الطريقة التي يتعامل بها النظام مع بقيّة المواطنين، غير أنّ رفضهم هو أقل من المطلوب، ودون المستوى اللازم لإسقاط النظام، ذلك لأنّ كثيراً من المعارضين العلويين مسكونون بالخوف من دفع الثمن مرّتين.
وتحدث عن ممارسات النظام بعد خلو الساحة الداخليّة من المنافسين والمعارضين إثر انقلاب 23/2/1966، ودور عبد الكريم الجندي الذي أخذ الناس بالشبهة والظنّة والدسّ الرخيص، فلم يعد المواطن آمناً على دمه أو ماله أو عرضه أو كرامته، فلمّا انتحر الجندي أو نحر، توسّع الأسد في الأجهزة الأمنيّة، ومنحها صلاحيّات واسعة في الاعتقال والسجن والقتل، ولم يكن لسلطتها حدود.
ثم يتحدث المؤلّف عن القوة الباطشة التي لا تسأل عمّا تفعل بالمواطن، فتستبيح جسده ودمه وماله وعرضه، وكلّ من يمت له بصلة القربى أو الصداقة أو الجوار.
وأعطى الأسد الأب الأجهزة الأمنيّة العسكريّة الهيمنة على الأجهزة الأمنيّة الخمسة عشر الأخرى، وأسّس في عام 1971 سرايا الدفاع، وجعل قيادتها بيد شقيقه رفعت، وأعطاها صلاحيات واسعة في الاعتقال والسجن والمحاكمة والقتل، وتشكيل فرع مخابراتي خاص بها، وكان أفرادها مدجّجين بالسلاح، مدرّبين على العمل الفدائي.
ثمّ أسّس حرساً إمبراطوريّاً بقيادة أحد أنسبائه، في عام 1976 عرف فيما بعد بالحرس الرئاسي، وتنحصر مسؤوليته بسلامة الرئيس وأمنه الشخصي.
وكانت هذه الأجهزة تنتمي إلى دائرة النظام المغلقة، ويتراوح عدد أفرادها بين (150 ـ 200) ألف، وتشكّل عبءاً ثقيلاً على الميزانيّة.
واستقبلت أقبية المخابرات التي بلغ عددها 76 قبواً أعضاء الإخوان المسلمين، ونفّذت فيهم أحكام الإعدام، وخاصّة بعد صدور القانون 49 لعام 1980 الذي يقضي بالموت على كل منتسب إلى الإخوان، وقدّر عدد الذين رفعوا على المشانق بين عامي (1980 ـ 1982) اثني عشر ألفاً من الشهداء، عدا الذين قضوا في التعذيب، واكتفت منظّمات حقوق الإنسان بالشعور بالقلق المتزايد لهذه الانتهاكات الخطيرة التي تقشعرّ لها الأبدان.
ثم تحدث المؤلّف عن تدمير الاقتصاد السوري بدعوى التحوّل الاشتراكي، والقضاء على البورجوازيّة والرأسماليّة، حيث صودرت وأمّمت في عام 1965 حوالي مئة شركة منتجة، وتمت السيطرة على تجارة الاستيراد والتصدير ووضعت بأيدي من لا خبرة له، فعطّلت المشاريع الإنمائيّة، وقتلت روح المبادرة لدى المواطن السوري، وهرّبت الأموال، ونشأت طبقة طائفيّة جديدة من الأثرياء الجدد، وقدّرت ثروة رفعت الأسد وحده بسبعة عشر مليار دولار.
وعدّد المؤلّف القوانين التي صدرت في سوريّة لتقنين القتل وسفك دم المواطن على النحو التالي: قانون حالة الطوارئ، وقانون حماية الثورة، قانون إحداث محاكم الميدان العسكري، قانون إحداث محكمة أمن الدولة، وقانون إحداث إدارة أمن الدولة.
ويبكي الأستاذ سعد الدين سوريّة، وينعي على العرب سكوتهم، ويتهم الحكومات بالتآمر على سوريّة، ويرثي لحال الشعب السوري ويحمّله المسؤوليّة بسبب هوانه واستكانته.
* * *
وفي فترة ثالثة تمتد بين عامي: (1971 ـ1977) أحكم فيها الأسد سيطرته على البلاد، انتخب الأسد رئيساً للجمهوريّة بنسبة 99% وأكّد انتماءه للإسلام، ووعد بإطلاق الحريّات، وشكّل الجبهة الوطنيّة التقدّميّة التي كانت بمثابة شاهد زور على ما ارتكبته السلطة.
تحدث المؤلّف عن السيرة الذاتيّة لحافظ الأسد، وتعبئة الطائفة، وحجب قادة حزب البعث، وعودته إلى سوريّة بعد الانفصال من مصر، وتسريحه من الجيش، ثم عودته برتبة نقيب، وترفيعه إلى رتبة عقيد خلال 22 شهراً.
ويخرج المؤلّف بنتيجة مفادها: إن أخطر أشكال الباطنيّة هي التي تمتزج فيها الباطنيّة الدينيّة بالباطنيّة السياسيّة.
* * *
وتحت عنوان: الحكم الاستبدادي المطلق بين عامي: (1971 ـ 1977) تحدث المؤلّف عن شروع النظام بصياغة المجتمع السوري صياغة جديدة، سخّرت لها كلّ أجهزة الحزب والدولة، في ظل قوانين جديدة، وتنظيمات إداريّة ومؤسّسات اقتصاديّة.
فصدر دستور استبدادي علماني يكرّس الطائفيّة، ويعطي الأسد صلاحيّات واسعة وغير مسبوقة، ويعطي قيادة الحزب التي عيّنها حق قيادة الدولة والمجتمع.
وعندما ثارت الجماهير السوريّة وعلى رأسها العلماء والإخوان المسلمون، والجمعيّات والنقابات، احتجاجاً على هذا الدستور، ووجهت بقمع وحشي، وزجّت بالقادة والناشطين الإسلاميين في السجون.
وشغل النظام الناس بانتخابات الإدارة المحليّة، والاستفتاءات المزوّرة، التي قاطعها الإخوان وفضحوا تزييف نتائجها.
وينقل قول الصحافي باتريك سيل: بقيت القضايا التنفيذيّة محصورة بأمين فرع الحزب بالمحافظة، وبالمحافظ البعثي، وضابط للأمن برتبة عقيد يكون بعثيّاً وعلويّاً.
ويتحدث المؤلّف عن واقع الإخوان في ظل النظام القمعي بعد وفاة الدكتور مصطفى السباعي وانقسامهم إلى ثلاث كتل: الأوّلى بزعامة الأستاذ عصام العطار الذي منع من دخول سوريّة بعد رحلة الحج في عام 1964، واتخذ مدينة آخن بألمانيا مقراً له، والثانية بزعامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة، والثالثة محايدة.
وتمخّض الانقسام عن حل توافقي حظي بموافقة مكتب الإرشاد العام، تجلّى بانتخاب الأستاذ عدنان سعد الدين مراقباً عاماّ للجماعة، وهو الحل الذي رفضه إخوان دمشق، وبعض الكتل الصغيرة، وسافر المراقب الجديد إلى القاهرة لإعطاء البيعة للمرشد، ودخل سوريّة سرّاً.
وعرّج على اشتراك سوريّة في حرب تشرين عام 1973 مع مصر، في ظل وضع داخلي متأزّم، حيث خسر الوطن 36 قرية إضافة إلى ما خسره في عام 1967، وثمّن الكاتب موقف العراق في دعم الجيش السوري وحماية دمشق من السقوط، ونقل عن طه ياسين رمضان الذي قاد تلك القوّات قوله: كانت كفّة العدو راجحة وزحفه متواصلاً، فعقدنا اجتماعاً مشتركاً ضم القيادات العسكريّة السوريّة والعراقيّة، ووضعنا خطّة للقيام بهجوم معاكس، وحددنا ساعة الصفر، وذهب الجميع إلى مواقعهم متحفّزين ومتلهّفين لمعركة الثأر ضدّ العدو الذي كان يعربد ويصول في ساحة المعركة، ولم تمض ساعات قليلة، وقبيل أن تحين ساعة الصفر بقليل، إذ بي أسمع من الإذاعة في منتصف الليل أن حافظ الأسد قد وافق على وقف إطلاق النار مع العدو الذي احتل ذرا جبل الشيخ، واحتفظ بالقرى التي احتلّها، وصار الطريق أمامه إلى دمشق مفتوحاً.
وأضاف طه ياسين رمضان: كان موقفاً صعباً ومعقداً، بل وخطير جداً، لأنّ وقف إطلاق النار الذي قبله السوريّون لا يشملنا، ولا يحمي قوّاتنا من أي هجوم مباغت بعد أن أضحت في حالة حرب مع الصهاينة، فكان علينا أن نحمي وحداتنا العسكريّة من أي مفاجأة مدمّرة، فعملنا على لم شتاتها، وسحبها من مواقعها إلى أمكنة مأمونة نوعاً ما، بعد أن فوجئنا بهذا التصرّف حيال قوات جاءت لخدمتهم.
قال المؤلّف معقباً: أدى هذا الموقف تجاه العراق الذي هبّ لنجدة أشقائه في سوريّة إلى جفاء كبير بين البلدين، وإلى أزمة ثقة حادّة بين دمشق وبغداد، انتهت إلى صراع مكشوف وكيد متبادل بين بعث سوريّة وبعث العراق.
ثم تحدّث عن حصار العراق، والتمهيد لاحتلاله واجتياحه، ونهبه تحت دعوى إعادة بنائه، وعن المقاومة التي جاءت أكبر مما توقعه المحتل.
وقال: أصاب المسخ كلّ معالم الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والفكريّة السوريّة، وأصبح البرلمان السوري موضع التندّر والسخريّة.
وأنّه عندما عرض القانون 49 لعام 80 على المجلس العتيد، والذي يقضي بإعدام كل من ينتسب لتنظيم الإخوان المسلمين، تبارى أعضاء مجلس الأسد في خطبهم، وهم يحثّون على إعدام الإخوان بخطب قرأتها في الجريدة الرسميّة، وهي تشكّل مصدر خزي لهذا العهد.
وأفاض المؤلّف في فضح الفساد ورموزه، ثمّ تحدّث عن الرقابة المفروضة على الصحف والمجلات والكتب، وعن تماديها في الرقابة على الكتّاب والصحافيين والإعلاميين في سوريّة ولبنان عندما كان خاضعاً لسطوة النظام.
ولمّا أسكت الأسد جميع الأصوات، ونال رضا القوى الكبرى، شرع بتصفية الإسلاميين، والتنكيل بهم، وزجّهم في السجون، واغتيالهم، رغم إصرار الجماعة على عدم الانجرار إلى الصدام مع السلطة، مهما بلغت الاستفزازات.
وتزامنت الحملة الشرسة ضدّ الإسلاميين مع الانفراج مع اليهود، والقبول بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 338 المؤرّخ في 22/10/1973 الخاص بوقف إطلاق النار، وقرار فك الارتباط في 30/5/1974، ومرسوم العفو عن 23 جاسوساً إسرائيليّاً رقم 385 الذي لم ينشر في الجريدة الرسميّة، والقاضي بسفرهم إلى فلسطين المحتلّة مع أنّهم سوريّون من الطائفة اليهوديّة.
واندفع المتسلّطون إلى جمع الثروات الطائلة والمال الحرام، وعقدت الصفقات مع التجار ورجال الأعمال، وتبخّرت مساعدات دول الخليج باسم الصمود والتصدّي ومواجهة إسرائيل، وذهبت إلى جيوب الثوريين، بينما كان الشعب السوري يتضوّر جوعاً.
ثم تحدّث المؤلّف عن هدم صرح القضاء، وتفشي ظاهرة الفساد والرشوة، وتعطيل القضاء المدني، واتساع دائرة المحاكم الاستثنائيّة والعسكريّة والميدانيّة، وتحسّر على المجلس الأعلى للقضاء السوري، وأثنى على عدالة واستقامة مشاهير قضاة سوريّة.
وعرّج المؤلّف على لبنان فتحدث عن المقاومة التي أصبحت مصدر تهديد للكيان الصهيوني، وعن مساندة الشعب اللبناني للمقاومة الفلسطينيّة، وروى فصولاً في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وعن إطلاق يد الأسد في لبنان مقابل القضاء على المقاومة الفلسطينيّة والجبهة الوطنيّة المساندة لها، واسترسل في الحديث عن مأساة ومعاناة الفلسطينيين واللبنانيين خلال فترة الوصاية السوريّة على لبنان، وحرب إبادة المخيّمات، ووصفه بالكارثة، وتحدّث عن موقف إسرائيل من التدخل السوري فنقل تصريح دايان: إنّ غزو سورية للبنان ليس عملاً موجّهاً ضدّ أمن إسرائيل.
واعتبر إشعال الحرب بين الأكراد والعراق عقاباً للعراق بسبب مساندته سوريّة في حرب تشرين الأوّل عام 1973، وأشار إلى التعاون العسكري وتبادل المعلومات القائم بين الأكراد وإسرائيل، واستغرب أن يصدر هذا الموقف من شعب اشتهر بالصدق والوفاء وحب العرب والمسلمين، وأكّد أنّ ظاهرة الطالباني والبرزاني لا تمثّل حقيقة الأكراد ولا تاريخهم البطولي، وأنّها ظاهرة شاذّة.
وبعد هذا العرض المؤلم والمحزن لما آلت إليه أحوال البلاد في هذا العهد، تساءل المؤلّف قائلاً: هل من العقل أو المصلحة العامّة أو تكافؤ الفرص أو مصلحة الطائفة نفسها، أن تدفع الطائفة بسياسة حمقاء في مواجهة الأكثريّة بروح العداء والتسلّط؟ وهل يستطيع المهيمنون على مفاصل السلطة والحياة برمتها أن تظل أيديهم على الزناد إلى ما لا نهاية؟ ألا يخشون من سوء المصير، أو سوء الخاتمة السياسيّة؟
وقال: إنّ عقلاء الطائفة يشعرون بذلك، وانّه لا بدّ من تعاون المخلصين من كل أطياف الشعب السوري لترسيخ الوحدة الوطنيّة، ودعا لإدراك المركب الذي يحمل الجميع قبل غرقه.
واستعرض المسيرة الإسلاميّة في سوريّة، وأعلامها، وجمعياتها، وتحدّث عن ولادة التنظيم السوري للإخوان المسلمين وانتشاره، واقتحامه العمل السياسي، وصحافته، وتحدث عن نشاط الجماعة التعليمي والثقافي، وأزماتها التنظيميّة، ولم يخض في تفصيلات الخلاف لأنّه لم يجد أسباباً جوهريّة له.
واستعرض جانباً من تاريخ الإخوان في سوريّة وانتخابه مراقباً عامّاً للجماعة، وعن رحلته إلى مصر ومبايعته المرشد.
وعن السنوات الثلاث بين عامي (1976 ـ 1977) أو الفترة الذهبيّة من تاريخ الإخوان المسلمين السوريين المعاصر، تحدّث المراقب العام الأستاذ عدنان سعد الدين عن مرحلة التكوين الرباني، وتركيز الجهود على التوجيه والتأديب، والذكر والعبادة، والأخذ بالعزائم، والتأكيد على النوافل، وأقيمت خلال هذه المرحلة علاقات ود وتعاون مع العلماء، وجرى الأخذ بسياسة المحاسنة وإحلال الثقة والمودّة محل النزاع، وتشكّل وفد إخواني لحل الخلاف مع الأستاذ عصام العطار، إلاّ أنّه لم يصل إلى نتيجة نهائيّة، وجرى ربط تنظيم الخارج بالداخل من خلال ممثّليه في مجلس الشورى، وزادت صلة التنظيم السوري بالحركات الإسلاميّة في الخارج، وطرح مشروع الإخوان المسلمون في بلاد الشام، ورفض أي تشكيل عسكري داخل الجماعة، وبقي العمل العسكري وقفاً على جماعة الشيخ مروان حديد الأمر الذي سبّب حرجاً لتنظيم الإخوان في حماه، ونفى أي اتفاق حصل بين الإخوان وجماعة الشيخ مروان.
وأورد فقرات من القانون الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، الذي حمل صورته معه إلى سوريّة مذ كان طالباً، ليؤكّد نضج ما كانت عليه الجماعة منذ نشأتها، فجرت دراسته من قبل مجلس شورى الجماعة، والأخذ ببنوده بعد إقرارها، في السنة الأولى بعد تكليفه بمهمّة المراقب العام عام 1976 .
وفي ختام الكتاب تحدّث المؤلّف عن القفزة النوعيّة التي حقّقتها الجماعة في سوريّة، عندما انتقلت بالتنظيم إلى مرحلة البرمجة والتخطيط، ورأى أنّ من الواجب نشر خطّة الجماعة التي صادق عليها مجلس الشورى واعتمدها المراقب العام الأستاذ عدنان سعد الدين، في رمضان 1397/1977 لتطّلع عليها الأجيال، بعد أن أصبحت جزءاً من الماضي.
وألحق بالكتاب سيرة المرحوم محمد المبارك، والشهيد مروان حديد.
يعتبر هذا الكتاب بسبب إحاطته بموضوعه وصراحته وتجرّده وتسليطه الضوء على فترة تاريخيّة دقيقة وحرجة، بوثائق نادرة قل نظيرها، مصدراً أميناً، وسجلاً حافلاً للأحداث، لا يستغني عنه باحث أو دارس مهتم بشؤون العالم العربي عامّة، وسوريّة خاصّة.
الأستاذ عدنان سعد الدين فتح عقولنا على الحقائق، وكشف الغطاء عن المستور، ووضعنا أما مسؤوليّاتنا، فجزاه الله مثوبةً من عنده، ومتّعه بالصحّة والعافية، وبارك له في عمره.
صدر المجلّد الثالث عن دار عمّار في تسع وستين وخمسمائة صفحة من القطع العادي في حلّة أنيقة، جعلتنا نترقّب صدور المجلّد الرابع من هذه الموسوعة التاريخيّة الرائعة بمزيد الاهتمام.
* أديب سوري يعيش في المنفى.