سيرة صلاح الدين الأيوبي

المسماة (بالنوادر السلطانية والمحاسن اليوسيفية)

للقاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد المتوفي سنة 632 هجري

صالح خليل

1_عرض الكتاب: يحتوي على مقدمة وقسمين كبيرين :

القسم الاول: في ذكر مولده وأوصافه وشمائله

القسم الثاني : في تقلبات أحواله وفتوحاته.

أما المقدمة: فيذكر المؤلف فيها دواعي هذا التأليف ، فوغراً إياها ما تجلت به أيام صلاح الدين من صفات جليله ومكارم عظيمة، فهو : ((جامع كلمة الايمان ، وقامع عبدة الصلبان ، ورافع علم العدل والاحسان صلاح الدين والدنيا، سلطان الاسلام والمسلمين ، منقذ بيت المقدس من ايدي المشركين ...)). إلى أن يقول : ((وكانت ع ذلك من قبيل لا يمكن الخبير بها اخفاؤها، ولا يسع المطلع  عليها إلا أن تروى عنه اخبارها وأبناؤها)).

ثم يسعى إلى بيان منهجه في جمع معلوماته فيقول : ((رأيت أن اختصر من ذلك على ما أملاه عليّ العيان ، أو الخبر الذي يقارب مضمونه درجة الايقان )). فهو لايروي معلوماته هكذا جزافاً وإنما يؤكد أنه إما ناقل لما يرى ويشاهد أو راوٍ لخبرٍ منقول عن الثقاة .

وفي معرض حديثه عن المنهج رأى المؤلف أن يكون كتابه في قسمين:

الاول : في مولده رحمه الله ، ومنشئه ، وخصائصه وأوصافه وأخلاقه المرضيه. والثاني: في تقلبات الأحوال به ووقائعه وفتوحه، وتواريخ ذلك أيام حياته .

أولاً)القسم الاول : فيذكر المؤلف أن صلاح الدين ولد في قلعة تكريت، حيث كان والده أيوب بن شاذي والياً بها سنة 532 هجري ، ثم انتقل والده الى الموصل ثم إلى الشام حيث أصبح والياً على بعلبك ، وفي الشام نشأ صلاح الدين وترعرع ، وهناك بدت عليه أمارات النجابة فقدمه الملك العادل نور الدين زنكي حتى بدا له أن يوجه عمه (( أسد الدين شيركوه)) في حملة إلى مصر يكون صلاح الدين رفيقاً له فيه_  وفي مصر يبدأ نجمه في الصعود.....

ثم ينتقل ابن شداد إلى بيان ما كان يتمتع به صلاح الدين من مواظبة على القواعد الشرعية ، وتمسك بالعقيدة ، فقد كان يأخذ عقيدته على الدليل ((بواسطة البحث عن مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء)). كما كان مواظباً على أداء الصلاة ولا سيما صلاة الجماعة حتى كان ((إذا مرض يستدعي الامام وحده ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة )) وكانت له صلوات يصليها إذا استقيظ في الليل وإلا أتى بها قبيل صلاة الصبح)).

وهو بعد ذلك مواظب على الصيام يقضي أياماً فائته عليه، كما أنه كان ينوي الحج إلا أن القدر سبق إليه ، وكان سبب تأخره عنه على ما يقول ابن شداد هو : ((ضيق الوقت ، وخلو اليد عما يليق بأمثاله)).

 وقد كان من شمائله أنه يحب سماع القرآن ، ويبكي عند سماعه، فقد كان غزير الدمعه، خاشع القلب وكان يحب أن يقرأ الحديث بنفسه . ولقد كان إلى جانب ذلك كله عادلاً((يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس ، في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصلوا إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوزٍ هرمة ، وشيخٍ كبير ، وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً)). أما  كرمه فقد كان شديداً حتى يقول ابن شداد : ((وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي ، وكنت أخجل من كثرة  ما يطلبون ، ولا أخجل من كثرة ما أطلبه لهم)).

ويسوق ابن شداد أمثلة كثيرة على شجاعته واهتمامه بأمر الجهاد، بل إن حياته كلها موقفه لهذا الأمر وكان لشدة حبه للجهاد ((إذا أراد الرجل أن يتقرب إليه يحثه عليه)) ويقول ابن شداد: (( وأن ممن جمع له كتاباً جمعت فيه أدابه وكل آية وردت فيه، وكل حديث روي في فضله وشرحت غريبها- وكان رحمه الله كان كثيراً ما يطالعه )).

وأما صبره ، واحتسابه وحلمه فكثيرة تعددت مناحيها ، وكثرت أخبارها ، تحدث ابن شداد عن الكثير منها على أننا نستشف من كلام ابن شداد فيما بعد أن صلاح الدين لم يكن يتمتع بهذه الصفات أو أكثرها قبل توليه الحكم وإنما كان يقارف بعض المعاصي ، لكنه تاب عن ذلك توبة نصوحاً بعد أن أصبح والياً على مصر ، يقول ابن شداد : ((وملك الرحال ، واهانته عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله عليه فتاب من الخمر وأعرض عن أسباب اللهو ، وتقمص بلباس الجد والاجتهاد وما عاد عنه وما ازداد إلا جداً ألا أن توفاه الله إلى رحمته )).

القسم الثاني : فإذا فرغ ابن شداد من الحديث عن مولده و اخلاقه وأوصافه وشمائله ، انتقل إلى القسم الأهم في حياة صلاح الدين وهو (تقلبات أحواله وفتوحاته وتواريخها ) منذ أن صحب عمه إلى مصر في المرة الأولى إلى أن توفاه الله في الشام ، عليه سحائب الرضوان والرحمة.

يروي ابن شداد أن صلاح الدين قد اشترك مع عمه شيركوه في حملة وجهها نور الدين كانت غايتها في المرة الأولى مساعدة شاور وزير المصريين بعد أن انقض ليه الضرام واستولى على منصبه وبعد أن استنجد شاور بنور الدين ، لكن أسد الدين شيركوه قد دخل قلبه الطمع في الاستيلاء على مصر على ما يقول ابن شداد بعد أن : (( شاهد البلاد وعرف أحوالها وعاد منه وقد غرس في قلبه الطمع وعرف أنها بلاد بغير رجال )). فعاد إليها بعد أن اقنع نورالدين بذلك _ وأيضاً برفقته صلاح الدين وكانت وقائع بينه وبين الصليبين اللذين أرادوا استغلال الفوضى في مصر وظهرت مزايا صلاح الدين ، وكفاءته القتالية ، وتم الظفر في النهاية لشيركوه باسم السلطان نور الدين زنكي .

ثم يوضح ابن شداد أن شيركوه لم يمهله القدر فتوفي في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة 564 هجري فيتولى السلطان ((صلاح الدين زمام الأمور ومنذ الأيام الأولى يعمل على"تقوية مذهب السنة" ثم يسير في الناس سيرة حسنة "لا يخيب قاصداً ولا يعدم وافدا" .

ثم يوضح ابن شداد أن الإفرنج ساءهم استقرار الأمور في مصر ، فخافوا أن يملك السلطان ديارهم ويقلع آثارهم فتوجهوا بالجيوش الكثيفة إلى الديار المصرية ،وقصدوا دمياط ، إلا أن صلاح الدين استطاع صدهم يعاضده في ذلك نور الدين الذي شغل الفرنج بحصار الكرك، وأمد صلاح الدين بالرجال والفرسان والميرة وآلات السلاح.

على أن العاضد لم يلبث أن توفي فقطع صلاح الدين خطبته ، وخطب للعباسيين وانتهى بذلك أمر الفاطميين وكان قبل ذلك قد استقدم والده من  الشام ،فلم بذلك الشمل سنة 565 هجري، وتهيئت لقدمه الاستقرار في مصر .

والذي يبدو من سرد ابن شداد للأحداث أن نور الدين لم يكن ينظر إلى صلاح الدين بعين الرضا، فلقد كان يخشى نفوذه واستقلاله بمصر ، ولذلك فإنه كان يهم بقصد الديار المصرية بجيوشه يقول ابن شداد: ((ولقد حكى لي السلطان قال : كان بلغنا عن نور الدين أنه قصدنا بالديار المصرية ، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نخالف ونكاشف ونشق عصاه، ونلقى بمصاف نرده إذا تحقق قصده ، وكنت وحدي اخالفهم وأقول لا يجوز أن يقال شيءٌ من ذلك، ولم يزل النزاع بيننا حتى وصل الخبر بوفاته.

وما أن توفي نور الدين زنكي ، واستخلف ولده الملك الصالح اسماعيل ، وكان صغيراً، حتى سارع صلاح الدين إلى دمشق وضمها إلى مصر سنة 570 هجري، ثم لم يلبث أن ضم إليها حمص وحلب وحماة والموصل .... في نفس الشهر الذي ضم فيه دمشق ، ومن هنا بدأت خطواته الأولى في توحيد الجبهة الداخلية ، وقد لقي في سبيل ذلك عناء كثيراً ، واصطدم جيشه بحيوش المخالفين الذي لم يخضعوا باللين وكان النصر حليفه في كل  مرة .

ثم إن السلطان صلاح الدين عاد إلى الديار المصرية ليتفقد أحوالها،واستخلف أخاه شمس الدولة على دمشق، وما إن أزاح شمس الدولة الجيش حتى تأهب للغزاة وخرج يطلب الافرنج على الرملة، إلاّ أن جيوش المسلمين اندحرت أمام الصليبين هذه المرة حتى رأينا ابن شداد يقول في وصف ذلك الانهزام (( وكان وهناً عظيماً جبره الله بوقعة حطين المشهورة ولله الحمد))-  وظل صلاح الدين يتردد بين مصر والشام كلما ظهر له خطر داهم يتهددها ، ولقد أنشاء غزوات مقدرة إلى الكرك ضد الصليبين وكذلك عين جالوت.

والتي أصيب فيها الفرنج ، وقتل منهم عظيمة : ((وأسر منهم زهاء مائة نفر وعادوا ولم يفقد من المسلمين سوى شخص واحد )). وعلى الرم من محاولات صلاح الدين استجرارهم إلى المواجهة إلاّ أنهم قرروا في النهاية الانسحاب فقفل صلاح الدين راجعاً بجيشه إلى ما وراء نهر الاردن.

تكررت غزوات صلاح الدين إلى الكرك في الوقت الذي كان يسعى فيه جاهداً إلى اعادة ترميم الجبهة الداخلية ولقد أفلح في ذلك على الرغم من أن الطريق لم يكن سهلاً أمامه ، ونلاحظ أن ابن شداد يروي لنا بشكل مفصل احداث الغزوات ولا سيما منها المتكررة إلى الكرك ويعلل ابن شداد سبب اهتمام صلا الدين بالكرك فيقول : (وكان على المسلمين منه (من الكرك) ضرر عظيم فإنه كان يقطع عن قصد مصر ، بحيث كانت القوافل لا يمكنها الخروج إلاّ مع العساكر الجمة الغفيره ، فاهتم السلطان بأمره ليكون الطريق سابله إلى مصر)).

لقد أفلح صلاح الدين ببناء الجبهة الداخليه والتي أصبحت مراكز امداد له في حروبه مع الصليبين ، فأخذ في مهاجمة الصليبين في عقر دارهم ، ومقر اقامتهم، وأخذ يغير على مدن الساحل اغارات سريعه وخاطفه ويعود إلى دمشق .

والذي يبدو أن صلاح الدين ظل دائم التفكير في حصن الكرك، وفي سنة 83 هجري ، طلب العسكر من حلب ومصر ثم سار وأمر العساكر بشن الغارات في طريقهم من البلاد الساحلية ، وأقام بأرض الكرك حتى وصل الحاج الشامي وأمن غائله العدو.

ومن هنا يؤرخ ابن شداد لمعركة حطين المشهورة التي كانت بداية لفتوحات القدس ، والتي جاءت في أعقاب توحيد الجبهة الداخلية والتفرع لأمر الجهاد مع العدو. حيث أمر صلاح الدين باجتماع العساكر من كل البلاد فاجتمعوا بعشرا ثم عرضهم ورتبهم وقصدوا ديار الاعداء – وكان الاعداء اجتمعوا في مرج صفورية بأرض عكا ، فسار صلاح الدين ونزل صلاح الدين ونزل بحيرة طبريه ثم استقر به المقام غربي طبريه على سطح الجبل منتظرا ان يتقدم اليه الافرنج – لكن لم يفعل الأمر الذي جعله يتوجه نحو طبريا فيهجم عليها " فهجم عليها وأخذها في ساعة من نهار وامتدت الأيدي إليها بالنهب والأسر والحريق والقتل"الأمر الذي دفع العدو إلى التحرك نحو الجيوش الاسلامية " والتقى  العسكران على سطح الجبل طبريه الغربي وذلك في اواخر الخميس الثاني والعشرين".

ثم يروي بن شداد أن تحقق لهم " أن من ورائهم الاردن ، ومن بين أيديهم بلاد القوم وأن لا ينجيهم إلاّ الله تعالى" فحملواعلى العدو حملة أذهلتهم وكثر القتل والأسر فيهم وكان الواحد منهم يقول ابن شداد " وكان الواحد العظيم منهم يخلد إلى الأسر خوفاً على نفسه ولقد حكى لي من ظاثق به أنه نفي بحوران شخصاً واحداً معه طنب خيمه فيه نيف وثلاثون أسيراً أخذهم وحده لخذلان وقع فيهم".

وفي هذه الموقعه قتل الكثير من قادتهم ومقدميهم ومن أبرزهم الملك جفري وأخاه البرنس ارناط ، فقتل البرنس ارناط وذلك أنه غدر بقافله من قوافل المسلمين وقتلهم فناشدوه الله والصلح الذي بينه وبينهم فقال كلاماً يتضمن الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولما بلغ ذلك السلطان نذر ان ظفر به أن سيقتله .

والحق أن احتلال طبريا وقلعتها في هذه المعركة الفاصلة كان بداية انهيار القوة الصليبية أمام القوة العسكرية الضاربة والمزودة بالإيمان العميق بالله لصلاح الدين فقد رحل إلى عكا ففتحها واستنقذ ما فيها من أسارى المسلمين وكانوا "زهاء أربعة الآف نفر واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر" وما أن استقرت قواعده في عكا حتى سار إلى تبنين ثم صيدا ، ثم بيروت ثم توجه إلى عسقلان ، وترك صور (وأرجأ صور) ، لأن الفرنجة كانوا قد اجتمعوا بها – ثم سار إلى عسقلان ، فالرملة ، فغزة، وبيت جبرين والنطرون وحمان .

بعد هذه الفتوحات شمر عن ساعد الجد والاجتهاد ، وجمع العساكر التي تفرقت في الساحل ، ونزل في الخامس عشر من رجب سنة 83 هجري واستطاع أن يستولي عليها صلحاً حيث طل أهلها الأمان بعد أن حاصرها بجيوشه : " وكان تسلمه القدس _قدس الله روحه_ يوم الجمعه السابع والعشرين من رجب وليلة كانت المعراج المنصوص في القرآن المجيد" .

ويقول ابن شداد أن قاعدة الصلح كانت "  إنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرة دنانير وعن كل إمراءة خمسة دنانير وعن كل صغير ذكر أو انثى ديناراً.

وقد كان الأسرى " وكان خلقاً عظيماً زهاء ثلاثة الآف أسير" ممن دفع قطيعته أوصله إلى مأمنه في صور.

يوضح ابن شداد أن صلاح الدين اتجه بعد ذلك إلى صور لينهي أمرها ويحررها ، وضرب حولها حصاراً برياً وبحرياً وبواسطة الاسطول البحري القادم من مصر ، لكنه اضطر إلى فك الحصار بسبب هجوم الشتاء وتراكم الامطار ، والرغبة في إراحة العسكر.

 وما إن أخذت جنوده قسطاً من الراحة حتى رأى أن الاشتغال بالحصون الباقية يضعف قلوب من في صور وينهي أمرها فنزل على كوكب وأخذها، ثم أخذ طرطوس وكان لها برجان على البحر ، وتسلق العرب أسوارها وفتحوها عنوة ودمروا حصونها، وقصدت جيوشه بعد ذلك جبلة فحررتها ، واتجهت إلى اللاذقية فاستسلمت بعد قتال شديد ، ومنها  انطلق صلاح الدين إلى صهيون فحررها ، ثم قلعة بكاس على جانب العاصي وفتحها عنوة_ إلى غير ذلك من القلاع .... وعاد إلى دمشق ، وما أن استقر قليلاً يرتب أحوال دمشق حتى ترامت إليه الأخبار بأن الصليبين بدءوا يحتشدون بأعداد كبيرة حول عكا  يريدون اغتصابها مرة ثانية فكتب " إلى سائر أرباب الأطراف يتقدمون بالعساكر الاسلامية بالمسير إلى المخيم وعاد فجدد الكتب والحث ، واجتمع "خلق كثير وعدد وافر ورتب العسكر ميمنة وميسرة .... وكان آخر الميسرة على طرف نهر الحلو ، وآخر الميمنة مقابل تل العياضة ، فاستدار الجيش الإسلامي بالعدو " وكان جيشهم كثير العدد فكانوا على ما يقول ابن شداد (عدد راكبهما لفي فارس ، وعدد راجلهم ثلاثين الفاً ما رأيت من أنقصهم عن ذلك" ويبدو أن الروح المعنوية للمسلمين كانت عالية بحيث كان المسلمون :" يتهافتون على قتالهم والسلطان يمنعهم من ذلك إلى وقته ، ولقد ضاق صدر صلاح الدين بمهاجمة الصليبين لعكا لكنه استطاع في النهاية "فتح الطريق إلى عكا لتستمر السابله عليها بالميرة والنجدة"

ويصور لنا ابن شداد حاله الحصار المضروب على عكا من قبل الصليبين ، ثم استدارة المسلمين بهم ، وكيف كان المسلمون يهاجمون الجيوش الصليبية كلما هو بالدخول إلى عكا من الحصار ، كل ذلك بصفة ابن شداد بدقة فائقه .... ثم يتحدث بن شداد عن الامدادات البحرية التي استمرت تتدفق على عكا ، بالاضافه إلى النجدات الصليبية الهائله ، والتي تمثلت بجيش فرنسا يقوده فيليب اوغوسطوس ملك فرنسا ، وجيش انجليزي يقوده ريتشارد المعروف بقلب الاسد ملك انجلترا ، وجيش الماني بقيادة فريدريك ولكن هلك في طريق البر ولم يصل منه إلا عدد ضئيل .

والحق أن المتتبع لأحداث سيرة ابن شداد يرى أن الصليب كله قد  تجمع لحرب الاسلام وأنهم كانوا نظرون إلا أن هذه الحرب مقدسة ، وقد اندفعت حتى النساء للقتال إلى جانب الرجال والحقيقة أن هذه المرحلة كانت مرحلة التكافؤ والتوازن في القوى، حتى رأينا صلاح الدين يتراجع بعد أن استمات الصليبيون في محاصرة عكا ، واجهد المسلمون ، واستطاعوا في ذلك دخولها في مذبحة المسلمين 165/3000 من أهل عكا.

يتراجع صلاح الدين ويقوم بهدم مدينة عسقلان الحصينة خوفاً من وقوعها بيد الصليبين مرة ثانية وهي معقل مكين ، ويوضح تألم بن شداد تألم صلاح الدين لخرابها، لكن الضرورة العسكرية أملت عليه ذلك ، كما أمر صلاح الدين بهدم أسوار الرملة وقلعة اللطرون .. .

ونرى من خلال حيث ابن شداد أن المعارك ظلت سجالاً بين الطرفين واستطاع صلاح الدين استعادة يافا ثم تفاوض الطرفان على عقد الصلح ، وكان الذي تحرك بأمره الملك العادل اخو صلاح الدين – والفرنجة ريتشارد قلب الاسد- واتفق الطرفان على أن تبقى القدس بيد العرب على أن يسمح صلاح الدين للنصارى بزيارتها للحج وهم عُزّل السلاح ، كما احتفظ الصليبيون بأكثر المناطق الساحلية – والحق أن هذه المرحلة هي مرحلة بدية التراجع الإسلامي .

بعد هذا الصلح عاد السلطان  إلى دمشق – وقد أصيب بالمرض الذي أخذ يزداد ويشتد حتى توفي رحمه الله " بعد صلاة الصبح من يوم الاربعاء السابع والعشرين من شهر صفر 589 هجري.

والواقع أن أهمية هذا الكتاب تكمن في عدة أمور أبرزها :

1.    يعتبر هذا الكتاب من أهم مصادر سيرة صلاح الدين ، فقد سجل أحداث الفترة التي عاصرها وخدم فيها صلاح الدين بأمانة تامة كما رآها ، أما الفترة السابقة لعام 583 هجري فقد اعتمد على المعلومات التي تلقاها شفاهاً من الثقاة.

2.    تعرض  ابن شداد إلى ذكر كثير من فنون القتال ، كنصب الكمائن ، ونقب الأسوار، وخفة الجيوش الإسلامية  وقد  رتبها على تسلق جدران القلاع – كما تحدث عن الآت القتال المستعملة : السيف ، والرمح ، والنشاب ، والمنجنيقات.

3.    نلاحظ دقة وصف ابن شداد للأحداث التي مرت ، والدوافع  التي كانت تدفع صلاح الدين لاتخاذ أي قرار – كما نلاحظ نزاهة في وصف الأحداث وبعده عن المبالغة .

4.    سرعة وصول المعلومات إليه كانت تساعده على التحرك مباشرة لمواجهة الخصوم، فأنت تلاحظ يقظة صلاح الدين الدائبة واستعداده المستمر لمواجهة أي طارئ ، وهذه غاية لا تتوفر إلا لمن أوقف نفسه ووقته حكم للجهاد .

5.    كان يغتنم أيام الجمع – حين يتحرك بجيشه التماساً لأوقات دعاء الخطباء على المنابر وفي هذا ما فيه من سلامة العقيدة ، وحسن اليقين بالله.

6.    العيون والجواسيس التي يستخدمها صلاح الدين في مقدمة اعماله العسكرية والمراقبة الدائمة لجيش العدو، ووصول الأخبار إليه واستغلالها.

7.    ملاحظة أن العرب لم  يكن لهم مشاركة لصلاح الدين في حروبه بل ربما شكلوا مصدر جاسوسية للعدو فقد كان الصليبيون على ما يقول ابن شداد يترقبون أخبار الجيش الصلاحي من خلال العرب المفسدين : قال " واتصل خبرهم بالعدو ثم ساروا طالبين البلاد والعدو يترقب أخبارهم ويتوصل إليها بالعرب المفسدين".