هل الدولة في الإسلام مدنية أم دينية ( تيوقراطية ) ؟ الحلقة الثانية
مقتطفات من كتاب “الدين و السياسة تمييز لا فصل” للدكتور سعد الدين العثماني
إن التصرفات النبوية ( بالإمامة ) بما أنها تصرفات بالسياسة الشرعية، تفتح باباً واسعاً لتجديد الفقه السياسي في الإسلام، وتمكن من إرساء وعي منهجي في مجال السياسة الشرعية .
ورغم أن التفرقة في الإسلام بين ما هو وحي وما هو اجتهاد بشري، بديهي ومعروف وخصوصاً ما يتعلق بالممارسة السياسية، إلا أن الوعي بالتصرفات النبوية بالإمامة يوفر أساساً منهجياً هاماً وصلباً للعديد من القضايا المطروحة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، نذكر منها :
1- تبين سمات التصرفات النبوية بالإمامة أن الدولة الإسلامية دولة مدنية، وليست دولة دينية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر السياسي الغربي .
لأن الإسلام ينزع القداسة والعصمة عن ممارسات الحكام وقراراتهم، وشؤون الإدارة، ولا توجد دولة دينية بدون عصمة .
كما أن الحاكم في الإسلام، لا يستمد مشروعيته من قوة غيبية، بل هو فرد عادي يستمد ولايته من الأمة التي تختاره وكيلاً عنها، وهو مسؤول عنها أمام الله و الناس، وأشار الإمام الماوردي إلى مسؤولية الإمامة بقوله: ( موضوعة لتقوم مقام النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ).
وقال ابن خلدون : الإمامة (نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به) .
وحتى لا تكون هناك شبهة بيّنَ العلماءُ أن خلافة الإمام للنبوة هي فقط بصفته البشرية الدنيوية السياسية التي تقوم على الاجتهاد غير المعصوم .
وهكذا نرى أن مصطلحات نظام الخلافة والسلطنة والمملكة ..ليس هو الصورة المطلوبة من المسلمين، وإنما عليهم إبداع نموذج يتوافق وحاجياتهم وتطورات مجتمعهم وظروف عصرهم .
لقد اتخذت العلاقة بين الديني والسياسي في فكرنا المعاصر صيغاً مختلفة ومتناقضة . وكذلك كان الأمر في الغرب مع وجود قواسم مشتركة .
ويجب الاستفادة من تجارب أمم الأرض بما يحقق الانسجام بين الشرعي والوضعي .
والعلاقة الأوفق بين الدين والسياسة في الإسلام ليس الفصل كما يذهب العلمانيون وليس الوصل والتماهي كما يرى غيرهم، بل (التمييز ) .
والدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافقة دافعة وقوة للأمة جامعة، لكن الممارسات السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين .
والأمة هي مصدر السلطات وأساس الشرعية وأكبر دليل على ذلك هو موت الرسول -صلى الله عليه وسلم - ، ولم يعين، أو يوصي لأحد بعده بالحكم . فترك الأمر للناس لكي يختاروا ما يريدون، ولكن بالنهج الذي يرتضون .
والأمة تختار الحاكم بالطريقة التي ترتضيها ، والبيعةُ أساسها الرضا بين الحاكم والمحكوم ..والحاكم واحد من الأمة ومسؤول عن الحكم ، فالمنصب تكليف لا تشريف، ولا يتصرف إلا بمقتضى عقده مع الأمة .
وقد أفاض العلماء بإيراد الأدلة، واستدل الإمام الشافعي (ت 204ه ) بحديث : ولا تقبل صلاة من أم قوماً ، وهم له كارهون .
وطرد هذا المبدأ على الأمر السياسي فكره للرجل أن يتولى قوماً، وهم له كارهون . وهذا قياس بديع منه - رحمه الله - .
وعبر التاريخ كانت الأمة في الغالب هي (مصدر المشروعية )، فتأسيس دولة على أنقاض دولة لم تنجح في تدبير شؤون الناس من عدل ورفاهية واستقرار أو عجز عن الدفاع عنهم، فيجتمع أولي الرأي لتدارك الأمر، فيجتمع حولهم الناس فهو يستمد مشروعيته منهم مادام قام ليدافع عنهم . وهو في ذلك مثل الدولة القومية، أو الثورية التي تستجيب لتطلعات الشعوب في التحرر، وقطع دابر التبعية، وإلى العدل الاجتماعي .
وبمعنى آخر الدولة في الإسلام مدنية ذات مشروعية شعبية مكلفة بحماية دين الأمة، كما أن الدولة الوطنية الحديثة مكلفة بحماية الوطن والدفاع عن مصالحه .
وإذا كان منطبقاً على أساس الشرعية في الدولة فهو من باب أولى أن ينطبق على القضايا الدستورية الأخرى مثل: ضبط المؤسسات السياسية، وانتخاب المسؤولين، وتحدد مدد ولايتهم .. وغيرها فهي أمور تخضع للاجتهاد البشري .
هناك مسألة أخرى جديرة بالتأمل ألا وهي الخلافة الراشدة، فهي على جلالة قدرها وضرورة الاقتداء بها كما هو الشأن في التصرفات النبوية .. ولكن الأشكال المؤسساتية والآليات الدستورية والاجتهادات التشريعية والسياسية للفترة الراشدية فهي نتاج بشري واجتهاد دنيوي محكوم بالسياق التاريخي والظروف الحضارية لتلك الفترة . ويجب ألا يلزم به المسلمون على اختلاف عصورهم ..فمقاصد القرآن متجددة لا تنفد عبر العصور.
وسوم: العدد 751