الفنانون التائبون والبديل المرجو
عبد العزيز كحيل
لا يختلف عاقلان في انسحاب الاهتمام الإسلامي عن الميدان الفني حتى غدا حكرا على العلمانيين واليساريين وأمثالهم يعربدون فيه،يبثون أفكارهم ويفسدون الأخلاق ويعادون القيم ويمجدون العفن،ومازال رد الفعل الإسلامي يقتصر عموما على التنديد والتحريم مما كرس واقعا سلبيا مأساويا تتطلب معالجته تجديدا فكريا جذريا وتخطيطا علميا وعملا مؤسساتيا ناجحا،ومما لا شك فيه أن هجر السينما والمسرح خطأ فادح حرم المشروع الإسلامي من وسائل فعالة خطيرة أحسن غيرها استعمالها في باطل كثير حين تقاعسنا عن توظيفها لخدمة الحق،وقد انتبهت التيارات الإسلامية المستنيرة في نهاية المطاف إلى مكمن الخطإ وما فتئت تدعو إلى تداركه،لكن ظروفنا المتدهورة على أكثر من صعيد مازالت تحول دون اقتحامنا للميدان الفني،ولا تكمن المشكلة في الصيغ الملائمة لاستخدام السينما والمسرح مثلا،ولكن في الغياب الكلي للعنصر الإسلامي فيهما إنتاجا وإخراجا وتمثيلا.
وتشاء الأقدار أن تهب ريح التوبة على الساحة العربية منذ مدة قصيرة نسبيا،وتبرز ظاهرة جديدة عرفت بظاهرة الفنانين التائبين والفنانات المعتزلات،وهذا يعد في حد ذاته حدثا ضخما بإمكانه أن يفتح الباب لتسلل الإسلاميين إلى الميدان التمثيلي والتمكين للفضيلة إلى جانب كونه انقلابا واعيا ينقذ الفنانين ومعجبيهم من الرذيلة والخطايا ويخدم الإسلام أخلاقا ومشروعا حضاريا،والغريب أن رد فعل الساحة الإسلامية لم يتعد الشعور الفياض والعاطفة الجياشة،حيث استحسن تحجب الممثلات واحتجابهن عن الأضواء،لكننا نظن أن التوبة تكتمل ليس بالانسحاب من المجال الفني وإنما بالمكث فيه من أجل الإصلاح بعد الفساد والدعاية إلى الخير والفضيلة بعد نشر الشر والرذيلة.
إننا – كما قلنا – نشكو من غياب تام ونقص فاحش في الميدان التمثيلي،وهذا انعكس سلبا على شمولية مشروعنا،و لن يتأتى لنا الحضور والتدارك إذا ابتدأنا من الصفر في معترك لا يسمح بذلك ألبتة،وهؤلاء الفنانون الذين استردوا وعيهم وثابوا إلى رشدهم وتابوا ويريدون أن يصلحوا ينبغي أن يعملوا،ونعلم جميعا أن إصلاحهم غير ذي جدوى-بل ليس من قبيل الإصلاح أصلا-إذا أثروا الانعزال والقبوع في البيوت مع دموع الندم وأخبار الاستهزاء والغمز التي تصلهم(ونحن نقدر بكاء كل مذنب على نفسه) بل يجب أن يكون إصلاحا ميدانيا،تتبع الممثلة خطى التضييع التي خطتها فتمحوها بإنتاج جديد يرضي الله ويريح ضميرها وينفع أمتها،ويهجر المخرج قصص العفن ويستبدلها بمواضيع تاريخية وواقعية وخيالية هادفة فيكون بإخراجه لفيلم بديل أو مسرحية بديلة جنديا حاذقا نشيطا يصلح ذوق المجتمع ويقدم بذكاء النماذج الإسلامية للاقتداء،ويعمد كاتب السيناريو إلى تراثنا الغني من جهة،وإلى واقعنا بالأمه وأماله من جهة أخرى فيجد معينا لا ينضب من المواضيع،فإذا أدركت الساحة الفنية وجود الفنان الملتزم –سواء كان ممثلا أو مخرجا أو كاتب سيناريو- فسيخرج منها منتجون ينبتون الفن النظيف،وهذا لا يتم طبعا بسهولة.
غير أنه ممكن بشرط واحد هو أن تحظى هذه الفكرة ذاتها بالقبول في الوسط الإسلامي العلمي والشعبي لأننا لانعاني في أزمنة الانحطاط من عقبة أضخم من أنفسنا،لقد طغت على قطاعات إسلامية عريضة حرفية نصوصية قاتلة وروح بدوية أعرابية غليظة تعادي الحس الجمالي ولا تعير اهتماما للبعد الحضاري،بل تحسبه رجسا من عمل الشيطان،تفرح إذا كسر غزال مغزله وتحزن اذاترك مسلم حصيف مباحث الضوء وأحاديث الصفات ليشتغل بالفن الرفيع والإبداع المنعش.هؤلاء هم العقبة،غير أن التيار المستنير -جيل النصر المنشود كما يسميه الدكتور القرضاوي- سيقوى إن شاء الله على تخطي العقبة واحتضان التائبين والتائبات والسير معهم في برنامج يجعلهم يحسون أنهم يريحون ضمائرهم ويكفرون عن أعمالهم السابقة،ويضعون اللبنات الأولى لفن أصيل نظيف يدخل القلوب فيحمل إليها دفء الإيمان وبشاشة الرجاء وبشرى الفوز كما يصل إلى العقول فيفرغها من الشبهات والأوهام،ويطعمها باليقين والحقيقة...إن الذي سبق يحثنا على تكثيف العمل الدعوي في اتجاه نجوم الوسط الفني في بلادنا،فكثير منهم يصلي ويصوم ويحب الله ورسوله ويرجو الإقلاع عما هو فيه،وعلينا أن نقترح عليهم الخلاص لا في صورة اعتزال وتقوقع ولكن في شكل توظيف المواهب في أعمال يبيحها الشرع وتمكن للشرع...إن شياطين الإنس يحتضون أصحاب الفن ويزينون لهم الرذيلة ويسحرونهم بالشهوة والمال ويغدقون عليهم الألقاب ويسخرون لهم جرائد ومجلات ومحطات،وعلينا أن ننازل هؤلاء الشياطين في الميدان ليس بالفتاوى الجاهزة وإنما بالبديل الجذاب،فإذا صدقنا وبذلنا كل الوسع تولى الله الأمر ورجح كفة الطهر والعفة والخير.
نحن نشكو من فراغ ساحتنا من الفن الرفيع وننسى أن ممثلين وممثلات ومطربين ومطربات ونجوما كثيرة يعيشون في حيرة وقلق،يترقبون من ينقذهم،أفلسنا نحمل رسالة الخلاص ونبحث عن البديل؟فإلى العمل بثقة وحسن وظن بالناس وفق المرحلية والتدرج مؤثرين البناء على الهدم عارضين على الناس فرص العمل لا أوامر القعود.