«حدوثة صغيرة».. تجسيد ساخر لحق العودة
يوم الثلاثاء في حيفا:
«حدوثة صغيرة».. تجسيد ساخر لحق العودة!
هلا بطرس
*فيلم من إنتاج قناة الجزيرة للأطفال*
*حيفا- "تفانين"- وجهت قناة "الجزيرة للأطفال" دعوة عامة، لحضور العرض الأول والخاص لإنتاجها الجديد، الفيلم الروائي القصير "حدوتة صغيرة" للمخرج الفلسطيني/ العالمي، ازيدور مسلـّم، وذلك بحضور المخرج الذي سيناقش الجمهور بعد العرض للتعرف أكثر عن ظروف انتاج الفيلم، وسيكون العرض يوم الثلاثاء 8/7/2008، الساعة السابعة والنصف في قاعة "رابابورت" في سينماتيك حيفا.. وفيما يلي مقالة بقلم هلا بطرس حول الفيلم:
تتداخل أصوات أهل البلدة، وتتردد بأسى وألم كلمتا «مصيبة.. كارثة».. فيخال لمشاهد فيلم «حدوثة صغيرة» أن مجزرة مرعبة قد وقعت في هذا الجانب من الضفة الغربية. لكن في الواقع، إن القلوب تتألم على حمار غادر البيت الذي كان يعيش فيه، وترك فراغاً في نفوس أصحابه الذين يرون فيه «أحسن رفيق» وأكثر وفاءً من الإنسان. وفي وقت يتعاون أهل القرية على إيجاد هذا الحمار الذي يمثل جزءا من عائلة كبرى تشردت بحكم الاحتلال، يسعى الهارب للعودة إلى بيته الأصلي في حيفا، ويقول للطفل سامي الذي يعثر عليه في إحدى الغابات: «بيتي في حيفا، وهذا هو المكان الوحيد الذي سأعود إليه». وبالتأكيد، فإن الحمار، الذي يُضرب به المثال على المستوى الشعبي كرمز للعناد، ينجح أخيراً في تخطي المعابر والحواجز التي ينصبها الجيش الإسرائيلي، ورائحة البيت «الحبيبة» تجره إلى المنزل الذي أصبح مسكونا من قبل عائلة غير فلسطينية، ويدخل الغرفة التي كانت سابقاً لوالده ليرتاح فيها غصباً عن الجميع ودون استئذان أحد.. والعبارة في الفيلم ليس فقط في القصة، بل في الرمزية التي يحملها هذا الحيوان. فكما يقول سامي في أحد المشاهد: «أنت حمار، والحمار حمار، هكذا يعرفك الناس». فهوية هذا الحيوان هي التي ساعدته على تخطي الحواجز ومواجهة التحديات واستغفال الإسرائيليين عند العبور إلى حيفا. واختيار الحمار من قبل كاتب السيناريو والمخرج الفلسطيني أزيدور مسلم ليس فيه استخفاف بحق العودة، بل على العكس، هو نوع من تشديد على الأمل الموجود باستعادة الحق، وعلى أن كل شيء هو ممكن، حتى العودة. فكما قال أحد الأطفال إثر مشاهدته العرض الأول غير الرسمي لهذا الفيلم: «حتى الحمار لم يستغنِ عن بيته، فكيف الحال بالنسبة للإنسان؟».
باختصار، إن فيلم «حدوثة صغيرة» الذي أنتجته قناة الجزيرة للأطفال، رغم بساطة أسلوبه وبعده عن العظات والتعقيدات، يعكس مزايا عديدة من طبيعة عيش الفلسطينيين المهجرين من أراضيهم. فعلى سبيل المثال، عندما يبدأ سامي بالبحث سراً عبر جهاز الكمبيوتر عن خريطة للطريق توصله إلى حيفا ليساعد الحمار في رحلة العودة، تدخل والدته إلى الغرفة، فينتقل الفتى سريعاً إلى صورة لهيفاء وهبي.. وكأن المراد فهمه أن البحث عن حيفا ممنوع وتأمل «هيفا» مسموح..
ولا شك أن الرسالة من هذا الفيلم الموجه أولاً للأطفال، قد وصلت بشكل ممتاز. وهذا ما بدا جلياً من خلال التعليقات التي أدلى بها بعض الأولاد إثر العرض الأول غير الرسمي الذي جرى في الغراند سيني سنتر بالدوحة. فقد قال أحدهم: «فهمنا من هذا العمل أن الحمار عاد إلى بيته غصباً عن الجميع.. وهكذا علينا أن نفعل».. كما ذهبت طفلة إلى القول: «تماماً كما يتمتع الحمار بحق العودة، يجب أن ينطبق الأمر علينا أيضاً»..
فيلم «حدوثة صغيرة» يستحق كل التقدير، لأنه يجري مقاربة غير مسبوقة لقضية حق العودة، بأسلوب كاريكاتوري ساخر لا يقلل أبداً من شأن الموضوع، بل على العكس، يحمل في طياته الكثير من الأمل والإيجابية وحتى الثورية غير المباشرة والدعوة للتمسك بحق أصبح موضع مساومة بين الدول الكبرى.. فعلى حد قول مدير قناة «الجزيرة للأطفال محمود بوناب: «إن هذه التجربة الرائدة تعالج بشكل ساخر جزءا محوريا من تاريخ القضية الفلسطينية، وهو حق العودة الذي أصبح محل مساومة في ما يسمى بالتسوية السياسية». وقد تم تنفيذه بمناسبة الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية. وأي فلسطيني أو عربي يتابع هذا العمل يشعر وكأن لحظة الحسم لن تكون بعيدة، وأن النجاح يأتي من الإصرار ومن رفض الرضوخ. وهذا واضح عندما يجد الحمار نفسه أمام حاجز للجيش الإسرائيلي، فيكون أمامه خياران: إما أن يعود أدراجه ويؤجل تحقيق حلمه، أو أن يتابع طريقه وصولاً إلى بيته الأصلي. لكنه يأبى الاستسلام، ويقول للولد: «كل حياتي وأنا أتلقى الضربات.. لن أقبل بذلك هذه المرة»..
وفي الواقع، أُريد من هذا العمل أن يكون مختلفاً، وأن يعكس جانباً براقاً من حياة الفلسطينيين، رغم آلامهم. ووفقاً لرئيس إدارة التسويق والاتصال في الجزيرة للأطفال مليكة علوان، كان هناك إصرار على الابتعاد عن النمطية وعن البؤس، بل التركيز على الجانب الإيجابي حتى من خلال العائلة الفلسطينية التي بدت بأفضل أحوالها. ولنشر الرسالة بالشكل الأفضل، من المتوقع أن يتم توزيع هذا الفيلم على القنوات والمحطات الإعلامية المختلفة في الوطن العربي. وأوضحت علوان أنه سيتم عرض الفيلم في حيفا لأن الفكرة قد أحدثت ضجة هناك أثناء التصوير، وطالب الأهالي بمشاهدة هذا العمل الذي يعنيهم بشكل مباشر.
ولا شك أن عملية التصوير كانت محفوفة بالمخاطر، لاسيما أن كل المشاهد اتخذت في الأراضي المحتلة. ويروي المخرج أزيدور مسلم هذه التجربة الرائدة فيقول: «قررت التصوير في تلك المنطقة، وهكذا حصل، دون أن أسأل أي أحد. وأكثرية أعضاء فريق العمل هم فلسطينيون، إلى جانب أربعة أو خمسة من الإسرائيليين. وجرى كل شيء كما كان مخططاً له. الحادثة الوحيدة حصلت معنا بقرب الشريط العازل، حيث شاهدنا الجيش و «كبسونا»، لكننا تمكنا من تهريب الكاميرا. ولم تحصل أية مشكلة».
وفي ما يتعلق بمساهمة عناصر إسرائيلية في فيلم يدافع عن حق العودة، أوضح أزيدور أنه كسيناريست ومخرج اختار أعضاء الفريق حسب كفاءاتهم المهنية، دون أن يسأل أي أحد عن موقفه السياسي. وأكد المخرج أن الفيلم ببساطته يحمل طبقات كثيرة، وقد وصلت الرسالة بالشكل المطلوب للأطفال الذي يتمتعون بوعي سياسي هام.
وهذا الفيلم دون أدنى شك يستحق الانتشار وكل الدعم للوصول إلى أوسع رقعة ممكنة من الجمهور. وعن إمكانية تحويله إلى فيلم طويل وعرضه في الصالات السينمائية حول العالم، قال مسلم: «صورت القصة كما جاءت إلى ذهني. لا مجال لإطالتها. لكن لدينا خطة ترويجية لهذا العمل ليصل إلى أكبر جمهور ممكن».
باختصار، وسط فورة الأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية، يتميز فيلم «حدوثة صغيرة» بأسلوبه البسيط والمبطن في الوقت نفسه، وببطليه الطفل الرقيق المندفع سامي والحمار الذي يمثل التشبث بالحلم بأسلوب كاريكاتوري رمزي. ولعل المشهد الأخير هو أجمل تجسيد لحلم أي فلسطيني على وجه الأرض، حيث يدخل الحمار بيته الأصلي دون استئذان السكان، ويتوجه إلى غرفة والده، ويصدر شهيقاً يعكس شعوره بالراحة والتحرر وكأنه تخلص من عبء يثقل كاهله.. ويبتسم الولد المرهق وهو جالس في المدخل مع سكان البيت، في وقت يحاول هؤلاء الآخرون الاستعانة بالطوارئ، لكن لا محال، فخط الطوارئ مشغول باستمرار..