حماس أسفل فلسطين

حماس أسفل فلسطين..

فيلم: لوفاء جميل

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

كان عنوان الفيلم في البداية هو ما أثار في ذهني التساؤلات حول المعنى خلفه، ومن يشاهد الفيلم يخرج باستنتاج واضح، أن الكل أسفل فلسطين، وفلسطين فوق الجميع، ولا أحد من الفصائل فوق الوطن وفوق فلسطين، وفي ظل التمزق الذي ساد فلسطين عبر العامين الماضيين، منذ إجراء الانتخابات التشريعية الثانية، وفوز حركة حماس بأغلبية مقاعد هذا المجلس، في ظل الاحتلال الإسرائيلي لكل فلسطين، وسيطرة على كافة منافذ قطاع غزة، سيطرة على المعابر والأجواء والماء والغذاء، في ظل الرعب والقتل وتكميم الأفواه، تمزق النسيج المجتمعي والنضالي والوطني، في ظل ارتفاع صوت الفصائلية المقيت على حساب صوت الوطن والمواطن، في ظل تمزق العلم الوطني الفلسطيني الذي حملته الأجيال عبر سنوات النضال الطويلة من مراحل كفاح الشعب الفلسطيني، ليحل مكانه العلم الفصائلي، في ظل هذه اللوحة الحزينة ورياح السموم التي هبت على الوطن، فأحيت النـزاعات الجاهلية في ظل غياب الوعي، جاء هذا الفيلم ليشكل مغامرة حقيقية لوفاء جميل، في الوقت الذي كممت الأفواه ورفعت الأقلام وجفت الصحف.

   وفاء جميل في فيلمها الرابع الذي أشاهده، أراها تنتهج منهجا مخالفا عما سبق، فأفلامها السابقة "البيت المفقود" و"الجذور" و"أبناء إبراهيم"، كانت تبحث عن الجذور، لتنتقل من الجذور إلى الواقع، فهل قادتها رحلة البحث عن الجذور، وبحثها عن بيتها المفقود، إلى هذا الواقع المر الذي نحياه في وطننا؟

   هذا هو السؤال الذي جال في نفسي وأنا أحضر فيلمها الوثائقي، فيلم امتد على مدى خمسين دقيقة، اعتمدت فيه المخرجة على بعض من أشرطة وثائقية مثبتة بثتها وسائل الإعلام، وشخوص رئيسة ترافقها المخرجة في نواحي حياتها، نشاطها اليومي وعملها، إضافة لأخرى فرعية تعبر عن وجهات نظر عفوية في الأحداث التي سادت الوطن المحتل، فاكتوى الوطن بنارها، ودفع المواطن الثمن من دمه ولقمة عيشه وما زال، وكان المستفيد الوحيد وما يزال هو العدو الإسرائيلي.

    كعادة وفاء في أفلامها، تعتمد على الصورة الرمز، تاركة للمشاهد أن يلتقط المعنى خلف هذه المشاهد، وقد بدأت فيلمها بهذه المشاهد الرمزية، فالفيلم يبدأ بلقطات لبداية يوم عمل لشخوص الفيلم الرئيسة..

   السيدة تغريد أبو حمده تستعد للخروج إلى عملها فتضع بعض من الماكياج، فتلتقط الكاميرا صور علب الماكياج بألوانها المختلفة، وكأنها تريد أن تقول لنا: لا يمكن للمجتمع أن يكون بلون واحد لا غير، فالتعددية هي التي تعطي لأي مجتمع وجهه الجميل، وتنتقل في الكاميرا إلى مشهد إعداد القهوة وسكبها في فنجانين، فالقهوة هي البداية الصباحية تقريبا لأي مواطن قبل أن يبدأ عمله.

   تنتقل عدسة التصوير إلى الشخصية الرئيسة الثانية في الفيلم، السيدة سلوى هديب وكيل وزارة شؤون المرأة في السلطة الفلسطينية، وهي تعبر معبر قلنديا الذي زرعته إسرائيل لتفصل القدس عن رام الله والمناطق المحيطة بها، فتمر المعبر كأي مواطن عادي سيرا على الأقدام، فالاحتلال لا يمنح مزايا خاصة، لتصل إلى سيارتها في الجانب الآخر، فتستعيد صورة المسئول، حيث يقوم السائق يفتح باب السيارة لها لتجلس، ثم يلتف ليسوق بها إلى مكان عملها، وصورة الجدار الذي يلتهم الأرض ويمزقها، تبرز بلونها الرمادي الأسمنتي وأبراجها العسكرية المدججة بالسلاح، التي لا يرحم رصاصها مواطنا فلسطينيا بغض النظر عن لون رايته.

   مروان العلان التشكيلي والكاتب الفلسطيني، هو الشخصية الرئيسة الثالثة في الفيلم، نراه في مرسمه يرسم مآذن مساجد بجوار قبة الصخرة الشريفة.

   تنتقل عدسة التصوير مباشرة إلى صورة لممارسة المواطنين حقهم في انتخابات المجلس التشريعي الثانية، ومن ثم إلى صورة لأطفال يحملون رايات حركة فتح والأعلام الفلسطينية ويهتفون باسم فتح، وصورة أخرى لأطفال يحملون راية حماس وشعاراتها ويهتفون لها، بدون وجود علم وطني واحد، ومن ثم مشهد لرجال حركة حماس في مسيرة كبيرة يحملون رايات حماس وأعلامها، ومن ثم رفع راية حماس بديلا للعلم الفلسطيني على مبنى المجلس التشريعي بعد فوز حماس بالانتخابات، مما أدى إلى حدوث اشتباكات بين مؤيدي حماس وفتح، وكأن بالمخرجة تقول لنا: ها هو التمزق ينعكس على الأطفال وينتقل للكبار، فأصبح الوطن بشق رأسي بين حركتين، لتنقل لنا بذكاء صورة للاشتباكات بين المواطنين العزل إلا من الحجارة وصدورهم العارية، في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي وآلياته العسكرية، برمز واضح كيف انتقل نضالنا من مواجهة الاحتلال إلى مواجهة بعضنا.

   كانت هذه هي مقدمة الفيلم، وهي تعطي صورة واضحة عن واقع نحياه، عبر مرحلة زمنية، انتقلنا فيها من مواجهة الاحتلال إلى مواجهة بعضنا، وتركنا الاحتلال يتفرج علينا ويذكي من نار هذا الصراع، لتنتقل المخرجة إلى الفيلم بمشهد الثلوج وهي تهطل وتغطي رام الله، والسيدة تغريد تغادر بيتها إلى عملها كمحاضرة، وصورة لاثنين يضعان أيديهما بأيدي بعض تحت الثلوج، وكأن المخرجة تقول أنه رغم البرد الذي حل على القلوب وجمد فيها المحبة، إلا أن الحياة ستستمر، والثلوج لا بد أن تذوب ويأتي الماء دم الحياة، ولا بد أن نضع أيادينا بأيدي بعض حتى نتمكن من أن نعيد الدفء إلى القلوب.

   تنقلنا المخرجة عبر عدسة التصوير بمشاهد حوارية بين شخصيتها تغريد، وبين الذين تحاورهم في محاضراتها، وهم في مشاهد عدة أكثر من شخصية تمثل شرائح المجتمع المختلفة، فمن محجبات إلى أعضاء يمثلون تيارات مختلفة بما فيها حماس وفتح، إلى أفراد عاديين لا تربطهم بهذه الفصائل رابطة، في مناطق مختلفة كأريحا وجنين ورام الله، نجد نفس المواطن العادي الذي يرفض هذا الصراع، ويراه صراعا بين فصيلين على سلطة في ظل احتلال، فالمواطن الذي انتخب أبو مازن رئيسا، هو من انتخب أيضا حماس، فيكون قد انتخب برنامجين متعارضين تماما، ويرى أن باقي القوى السياسية لا دور حقيقي لها، لننتقل معها إلى عمليات حرق جرت لمؤسسات تجارية من خلال أصابع مجهولة، تحت دعوى أن هذه المؤسسات أصحابها من حماس وممولين لها، فيدين المواطن والرئيس هذه العمليات الإجرامية، ويبقى السؤال من وراء هذه العمليات التي جرت، والتي خربت الاقتصاد وزادت من شقة الخلاف بين الطرفين، ويبقى حس المواطن من خلال فكرة أن هويتنا هي هوية وطنية، وليست هوية فصائلية علينا أن نعمل من أجلها.

   مهرجان في المقاطعة مقر الرئيس يلقي فيه الرئيس خطابا سياسيا هاما، الحضور يرفع فقط العلم الفلسطيني ورايات حركة فتح، السيدة سلوى هديب تحضر وتتحدث أمام امرأة أخرى عن أداء حكومة حماس وتنتقدها بقوة، تتحدث عن محاولة خلق واقع جديد من خلال اضطهاد الأخر حسب انتمائه السياسي وفكره الديني، بينما يتحدث مروان العلان عن بداياته في مخيم البقعة للنازحين في الأردن مع حركة الإخوان المسلمين وانتمائه إلى التيار المتشدد فيها الذي سار على نهج سيد قطب، حتى وصل الأمر به إلى الخروج ومجموعة كبيرة معه من رحم الإخوان، إلى جماعة أخرى هي جماعة المسلمين والتي عرفت باسم "التكفير والهجرة"، حتى وصل إلى قناعات أخرى، فهو حالة خارجة من رحم الإخوان، وهو يستطيع أن يشخص فكر حركة حماس من قلب حالة عاشها وانتمى إليها، وخلال الحديث توظف المخرجة صور لوحات مروان العلان بشكل واضح بما تحمله من رمزية مباشرة، فمن رسمه للمساجد وقبة الصخرة، إلى الوجوه الحائرة وخيوط الدماء، إلى المنقبة الحسناء ولوحات الزهور البيضاء التي ترمز لمستقبل قادم، إلى العيون التي تسيل منها الدموع، بينما تستمر تغريد في ورشات الحوار في حوارات مختلفة لتشخيص الواقع، البحث عن الحل.

      مسيرات في الشوارع تؤكد على فلسطينيتها، تدعوا لتحريم الاقتتال الداخلي، تحريم الدم الفلسطيني، إنه حس المواطن المتدين وغير المتدين، المواطن الذي يأكل الفلافل في ظل أزمة اقتصادية رهيبة، توقف رواتب الموظفين والعاملين في مؤسسات السلطة، وفي نفس الوقت يتظاهر هذا المواطن مطالبا بسيادة القانون، يقف على الحواجز ضد تهويد القدس، متحملا القمع الإسرائيلي في سبيل الوطن، فهو يدرك أن المستفيد الوحيد من الصراع هو العدو، ولا بد من الوقوف بوجه الاقتتال الداخلي، وفي وجه إجراءات الاحتلال في نفس الوقت، يرفع العلم الفلسطيني فقط بعد أن أدرك أن فلسطين هي فوق الجميع، فوق كل الفصائل.

   تمكنت وفاء جميل من خلال شخوصها وضعنا بصورة كيف وصلت حماس للسلطة بفوزها بالانتخابات، وكيف أصبح الحال بعد ذلك، من خلال مشاهد تصور كيف وصل الحال لاستخدام القمع والقمع المضاد، قتل الفرح في النفوس، استخدام القوة العسكرية لفرض الفكر الواحد، نقلت نبض الشارع وآلامه من الحال الذي اصبح الوطن فيه، حديث المواطن وحديث المسئول مثل أبو علي شاهين الذي تعرض لمحاولة اغتيال ويتهم حماس بها، ويحلل كيف وصلت حماس للسلطة، مواطنين يشيرون بوضوح أن ما يجري لا علاقة له لا بالدين ولا بالوطن، فالمواطنة المحجبة ترفض استغلال الدين، والمواطن العادي يصلي ويلتزم بالدين ويرفض استخدام الدين لأهداف فصائلية، كما يرفض استغلال الوطن لنفس الأهداف، يرفض الدم الذي بدأ يسيل، يسقط الفلسطينية والإنسانية عن كل من يستبيح الدم الفلسطيني، لتنقلنا في حوار بين تغريد وبين المفكر محمود العالم في القاهرة، فتبين كيف يرى حتى العربي ما يجري في فلسطين، تأثره بالإعلام الذي يصور الحالة بشكل خاطئ.

 ومن خلال رموزها وضعت المشاهد بوقائع أخرى، فصور الحواجز والجدار تتكرر في المشاهد، تقول لنا من خلالها: نتصارع على مقعد سلطة تحت الاحتلال، مشهد للعلم الفلسطيني يرفرف ممزقا وكـأنها تقول: نحن مزقنا الوطن بخلافاتنا، ورغم ذلك سيبقى الوطن من خلال العلم الوطني يرف عاليا فوق الجميع، مشهد للوحة رقمية لمصعد، صورة لصاج الفلافل والزيت يغلي فيه، فالفلافل طعام الفقراء وسواد الشعب، الشعب الذي بدأ يغلي كالزيت، مشهد للوحة مصعد تنتقل الأرقام فيها من الصفر إلى متوالي العدد، وكأنها تقول لنا: لقد عدنا للصفر في تاريخنا، فلنبدأ مرحلة الخروج من هذه الحالة والصعود من جديد، وفي مشهد للقردة الثلاثة التي تمثل حكمة هندية، تقول: هل المطلوب منا أن لا نسمع ولا نرى ولا نتكلم؟ وفي القاهرة حيث تصل تغريد للتسجيل لإكمال الدكتوراه، نرى الأهرامات ترمز أن الحضارة هي التي تترك بصماتها عبر التاريخ وليس الدم، وسهول فلسطين وزيتونها قبل نهاية الفيلم رمزا لبقاء الوطن.

   توظف وفاء الموسيقى بشكل متميز، فهي تستخدم ألحان الفنان باسل زايد في مقطوعته "حرب أهلية" كخلفية للمشاهد وخاصة التي شهدت الاقتتال والخلاف، وموسيقى "موطني" للفنان رائد جورج  في المشاهد التي تؤكد على الوطن، ومقطع لأم كلثوم وهي تغني: "ليه نضيع عمرنا هجر وخصام ونحن نقدر نخلق الدنيا الجميلة"، وقبل النهاية تستحضر لوحة للدم على شكل إشارة اكس بالانكليزية، تتموج ألما  على صوت الرصاص، تسقط منها قطرات الدم تحمل نفس الإشارة، بإشارة واضحة أن الدم الذي يسيل يأخذنا إلى المجهول الدموي.

   تنهي وفاء الفيلم بحلم الانتخابات التشريعية الثالثة، ترى فيها الحل الذي سيكون، فتصور فتاة ترتدي العلم الفلسطيني ممثلة "لفلسطين"، وأمامها ورقة الانتخابات تحمل اسم دولة فلسطين وعاصمتها القدس في أعلى القائمة، تليها أسماء باقي القوى السياسية جميعا، فتختار "فلسطين" انتخاب دولة فلسطين وعاصمتها القدس فقط، تضعها في صندوق الانتخابات على أنغام أغنية موطني، بدعوة واضحة للمواطن.. كن مع فلسطين فهي الوطن، هي الفكرة، وكل الفصائل أسفل فلسطين وليس أعلاها.