خزانة الألم
السينما في خدمة السياسة
بسام الهلسه
[email protected]
* لكي تمرر
الكذبة، يجب أن تتضمن عناصر وتفاصيل مستمدة من الواقع. لا يهم إن كانت حقيقية أم
لا، المهم أن تبدو كذلك لتوهم الآخرين بصدقها وتحقق الاقناع. وهذا ما فعلته بالضبط
كاثرين بيجِلو (kathryn Bigelow)
مخرجة فيلم " خزانة الألم" (The Hurt Locker).
فعَبر شريط يبدو أشبه بالافلام التجريبية, أو بالأفلام
التسجيلية التعبوية التي تنفذها الوحدات الإعلامية التي ترافق قطعات
الجيوش لتوثيق أعمالها، قدمت كذبتها الكبيرة
التي لم تجرؤ كل مؤسسات الولايات المتحدة على ادعائها:
تقديم غزو واحتلال الجيش الأميركي للعراق، كرسالة إنسانية انقاذية
تقوم بها مجموعة جنود أميركيين مهمتهم نزع الألغام والقنابل المفخخة الموقوتة!
وفي
الحقيقة، يتجاوز الفيلم حدود الكذب المعتاد في السينما الدعائية إلى
التزييف الكامل للواقع، ليس فيما يتعلق
بالحقيقة الأصلية المتعلقة باحتلال العراق فقط، بل وفي التفاصيل المتعلقة بأداء
الجنود الأميركيين الذين اظهرتهم على غير حقيقتهم إلى الحد الذي أدهشهم هم أنفسهم
عندما شاهدوا الفيلم كما ذكرت الأخبار!
لكن هذا كله
لا يهم! ولا يهم أيضاً ما عاناه بناؤه الفني والدرامي
من ركاكة بسبب ضعف القصة وخطوط تطورها، وبسبب الإطالة غير المبررة
للكثير من المشاهد، والثرثرة المجانية للكاميرا، وبسبب التكرار الممل للأحداث
وزوايا التصوير، والإيقاع البطيء، والتوليف (المونتاج) الاعتباطي.
فالمهم، هو
أن الفيلم جاء في وقته الضروري ليؤدي خدمة لدعاة الحرب
في واشنطن في مواجهة رأي عام أميركي وعالمي رافض لها مطالب بإنهاء
الاحتلال. فلا غرابة إذاً في حصوله على العديد من جوائز الأوسكار كمكافأة على هذه
الخدمة الكبيرة، خصوصاً إذا ما عرفنا أن المخابرات
المركزية الأميركية (السي آي ايه) شاركت في تمويله، حسبما ذكرت المخرجة
في كلمتها في حفل إعلان الجوائز، التي شكرت فيها الممولين دون أن تقول شيئاً عن
المساعدات والتسهيلات العديدة التي قُدِّمت لها.
وهو ما كان سيكشف الرعاة الآخرين، والتكلفة الحقيقية للفيلم الذي جرى التفاخر
بميزانيته المتواضعة، والتهليل لفوز أول مخرجة في تاريخ الأوسكار الممتد لأكثر من
ثمانين عاماً!
* * *
لا مجال هنا
للتساؤل عن التلاعب بالفن وتسييسه. فهذا
بديهي عند القوى الحاكمة وأصحاب المصالح في اميركا الذين يُسخِّرون كل شيء لخدمة
أغراضهم: الفن، الأدب، الدين، العلم، الرياضة، القانون والمساعدات الإنسانية..."
إضافة طبعاً إلى الأدوات المعتادة المعروفة: الدبلوماسية والاقتصادية والمالية
والإعلامية والعسكرية. فكما يخدعون شعوب وأمم العالم ويسعون لكسب عقولها وقلوبها،
فهم يخدعون أيضاً أمتهم بالذات ـ وربما بقدر أكبرـ لحاجتهم إلى تأييدها لقراراتهم،
وتمويل خططهم على حسابها، وإقناعها بأن ما يقومون به إنما هو في مصلحتها!
فنظراً
لأهمية السينما كوسيلة تعبير واتصال ذات تأثير واسع يطال ملايين الملايين من البشر
في أنحاء العالم، فقد تعامل معها أصحاب القرار والمصالح ووظفوها
كأداة في خدمة السياسة. وهو ما تشهد به خبرة
السنوات الطويلة من المتابعة، وما سبق للمؤلف والكاتب الدرامي الأميركي، وأحد ضحايا
لجنة مكارثي، جون هوارد لوسن (Jhon
Howard Lawson)
أن شرحه بشكل مستفيض ومُعمَّق في كتابه المُحلل الراصد: الفيلم في معركة الأفكار
(Film
In The Battle of Ideas…).
وفيلم
"خزانة الألم" هو من هذا النوع الذي يخدم السياسة المطلوبة، خصوصاً في الأوقات
الصعبة. وعلى هذا فقد استحق التكريم رغم تواضعه الفني والمهني, ومُنِح الجوائز
العديدة التي فاقت خيال وتصورات أعضاء فريق الفيلم انفسهم كما عبَّروا في كلماتهم.
لكن مانحي الجوائز لا يهدفون إلى مكافأة فريق الفيلم فقط، فهم يسعون من خلالها إلى
ترويج الفيلم والدعاية له ليحقق أقصى انتشار وتأثير في
المشاهدين، كما فعل الرئيس الأسبق "رونالد ريغان" في مطلع الثمانينيات
من القرن الماضي عندما استقبل بطل فيلم رامبو (Rambo)
كأنه يقول للأمة الأميركية العازفة عن الحروب بعد هزيمتها المُخزية في فيتنام: هذا
ما نريده!
* * *
في ختام
كلمتها في حفل الأوسكار، توجهت المخرجة كاثرين بيجلو بالتحية إلى الجنود الاميركيين
في العراق وأفغانستان. أهدتهم فيلمها وتمنت لهم العودة إلى الوطن سالمين..
وإذ نعرف أن
معظم الجنود هم من أبناء الفقراء الذين القى بهم قادتهم في حروب عدوانية جائرة،
فإننا نشاطر المخرجة أمنيتها بعودتهم، لكننا ندينها
بما روّجه فيلمها من تشويه. فلو أنها كانت صادقة، لما عرضت ما عرضته من
صور بشعة عن العراق والعراقيين الذين لم تُبدِ أدنى
إحساس بالتعاطف معهم، ولم تقم بأية محاولة للاقتراب منهم وفهمهم, في
مسلكٍ مُنحازٍ بل عدائي.
وبدل تجميل
مهمة الجنود الأميركيين، كان عليها أن تتساءل عن مبرر ومعنى وجودهم في العراق، وأن تطالب بوقف الحرب وسحبهم،
وتدين الذين أرسلوهم إلى هناك وسبَّبوا لهم ـ وللعراقيين
اولاًـ المعاناة.. لكنها لم تفعل، واكتفت بإحالة رغباتهم الإنسانية
الحقيقية بالعودة إلى الأهل والديار، إلى محض أمنِية مجردة ترِفُّ على البال!
وكان علينا ـ كمشاهدين ـ أن نتحمّل بذاءة الفاظهم السوقية النابية طوال مدة عرض
الفيلم، وتواطؤ أعضاء لجنة التحكيم المانحة لجوائز أوسكار، فهذه هي النتيجة
المتوقعة من فيلم مُجنَّد في معركة الأفكار..