بتلوموني ليه
تجريب ومتعة وفن وفكر
د. كمال يونس
على قاعة زكى طليمات بمسرح الطليعة بالقاهرة تعرض المسرحية التجريبية الكوميدية الغنائية بتلومونى ليه من تأليف وإخراج وبطولة د. أحمد حلاوة ( عبده الغلبان ) ، فاطمة محمد على ( زبيدة الحبيبة والابنة)، أحلام الجريتلى ( الزوجة) ، مع مشاركة بالتمثيل ، ولعب بالعرائس محمد حافظ ، حسام عبد الله ، أحمد إبراهيم ، سيد رستم ، محمود سيد ، نشوى إسماعيل ، محمد لبيب ، عادل عثمان ، نهاد نايل ، هشام على ، عبد الحميد حسنى ، رفعت ريان ، تصميم عرائس القفاز سهام ميخائيل ، ونحت عرائس الماريونيت رجال ( أحمد حلاوة ) ، ونساء ( محمد أمين ) ، تنفيذ ملابس العرائس روحية بدر ، وميكانيزم عرائس يوسف رجب ، وتصميم الديكور والأزياء البشرى د.محمود سامى ، أشعار محمود جمعة ، وألحان محمد عزت.
يدور زمن أحداث العرض منذ أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر وحتى الآن ،حول حياة عبده الغلبان المجذوب بمعاناتها وإحباطاتها منذ ولادته ، مرورا بفقدانه حبيبته ، وانكسار الحلم ، والتفكك العربى ، والإعلام المشوش الفاقد الانتماء المشوه الهوية والملامح ،وضياع أبنائه ضحية الإدمان ، وابنته الحاصلة على شهادة جامعية، وعملها في محل العرض يدور في أحد حارات القاهرة القديمة ( شق التعبان ) ، وتحت أحد كبارى حي سيدنا الحسين ، منذ أيام لمساعدة أبيها الفقير ، وزواجها العرفي من الولد المدلل ابن رئيس حزب الأمل ، وحملها منه دون علم والدها وعدم الزواج الرسمى الشرعى منها فتسليته ومتعته اللهو بالبنات ، ومطاردة الشرطة لعبده الغلبان متهمة إياه بقتل رئيس الحزب ، فانتهى به الأمر مجذوبا هائما في الشوارع مرددا يردد جنرال .. بكباشي .. شاويش.. كله منه ..عبده الغلبان ، وهى مسرحية تنتمي للكباريه السياسى ، معبقة بالدلالات والرموز ، وتفتح الباب على مصراعيه للتأويل ، كما كان يفعل مؤدو خيال الظل ، والأراجوزات ، وأرباب الأدب الشعبى.
في مسرح العرائس( الماريونيت ) تصنع الدمى غالبا على شكل بشرى أو حيواني على أن يتلاءم حجم العبوسة أو الدمية مع حجم المسرح الموظفة عليه ، وتتحرك تلك الدمى المفصلية بواسطة أسلاك أو خيوط يجذب اللاعبون أطرافها من أعلى الخشبة ، ويسجل حوار المسرحية كلاما ومؤثرات وأغان على أشرطة ، وتحرك الدمى كشخصيات ويرتب دخولها وخروجها طبقا للمشاهد التي تتطلبها التمثيلية ، وقد يتم تشغيل العرائس عن طريق إدخال أصابع اليد أو الكف في قفازات ,تسمى بالعرائس القفازية ، أو يتم تحريكها عن طريق قضبان حديدية رفيعة أو خشبية ، ولكن في مسرحية تلوموني ليه استخدم أحمد حلاوة كل تلك الأنواع ولكن العرائس مثل أولاد البلد المقهورون المهمشون ( العرائس التي تحركها خيوط ) أو الجندي الإنجليزي الذي يحركه جندي أخر بشرى بنفس الزي، لأنه مفقود الإرادة حين يساق إلى الحرب أو يحتل بلادا أخرى ، أو في نموذج الحمار الدمية ، أو البطل الدمية والتي تتماثل مع بطل العرض في الملبس وحتى النظارة ، أما العرائس القفازية فقد استخدمت للنسوة العجائز التي احترفن الخروج للنافذة لرؤية ما يحدث في الشارع بنظرة فوقية ، ولرئيس الحزب أيضا الذي لا يدرى بأحد ويتكلم من شرفة قصره ،مع أداء الحوار والأغاني على المسرح بأداء مباشر دون تسجي، مع المج بين مسرح العرائس وخيال الظل ، وهو عبارة عن ستارة بيضاء شفافة رقيقة مشدودة على قوائم خشبية ويقف اللاعبون أو المخايلون خلف الستارة ، ومعهم مجموعة من الدمى على هيئة الشخصيات المشتركة في العرض، إنسانا كانت أم حيوان أم جمادا ، ولهذه الشخوص مفاصل وثقوب يدفع فيها اللاعب أو المخايل عصيه لتحريكها ، وعند العرض تطفأ الأنوار في صالة المشاهدة التي يجلس بها المتفرجون ، ويلصق اللاعبون عرائسهم بالستارة ، ثم تضاء الأنوار خلف العرائس ، وهنا يرى المتفرجون ظلالها ، من الجهة الأخرى ، وبعد ذلك يبدأ اللاعبون في تحريك الشخوص وأداء حوارها ، كما يأخذون في الغناء والعزف والموسيقى تبعا للعرض الذي يروونه ، وأقدم إشارة تاريخية عن خيال الظل يرجع أصلها إلى عام عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي ، وأقدم نصوص ظلية في العالم نثرا مسجوعا لابن دانيال الموصلي ( 1238ـ 1321 ) الذي ولد بالموصل وهاجر للقاهرة، وأمتهن مهنة المسرح الظلى.
أما خيال الظل فقد استخدمه أحمد حلاوة فى عرض بتلومونى ليه كرمز لمنولوجاته ( أحاديثه الذاتية ) في مناجاة حبيبته التي فقدها، وتعيش في ذاكرته مفضلة عليه الحلاق ، وهو ماسح أحذية بسيط رقيق الحال، فكان استخدام خيال الظل تجسيما وتجسيدا لحواراته الذاتية ، ومكامن الألم في ذكرياته وخلاصة مشاعره .
وفى هذا العرض التجريبي بحق ابتكر شخصية دمية الحمار ( حمار حلاوة )، والتي ترمز للمواطن المقهور من ولادته لمماته بالحياة ، لتضاف إلى قائمة الحمير الفاعلة دراميا المشهورة في الموروث العربي قديمه وحديثه ( حمار الحكيم وحمار جحا )، ولقد مزج أحمد حلاوة بين العرائس بكافة أشكالها فانصهرت في بوتقته الفنية المتأججة بتقنية فنية عالية ، جعلت المتفرج يقبلها كأحد الأشخاص الفعليين المشاركين في العرض ، وتارة اللاعب يحرك العروسة التي تؤدى الدور ، وتارة يؤدى دورا مشابها مع فروق ( الجندي الإنجليزي الدمية والجندي الإنجليزي البشرى ، وتارة رمزا للقهر الشديد عند تحريك الحمار الذي يرتدى ملابس بشرية ، تدلل على أنه عبده بطل العرض ،ويضغط عيه ويطأه اللاعب بقدمه للتعبير عن معاناته ، أو القواد البشرى الذي يحرك الراقصة الغانية اللعوب .
نجحت سينوغرافيا العرض في ابتكار وتجسيد الفضاء الزمان والمكان، نظرا لما حوته من ديكورات دالة معبقة بالدلالة والرموز من غير تعقيد ، بخلفية لشمس القاهرة ومبانيها القديمة مثل القلعة والمآذن ، مع الزخارف المتنوعة بتيماتها الشعبية، مستخدما جناحي المقدمة على هيئة قوسين يمينا ويسارا لاحتواء المشاهد قلبا وعقلا وفكرا، لتجعله يتوحد مع الأحداث في حميمية متفردة ، فتبعث فيه الاهتمام والتوتر والتشويق والرغبة في متابعة العرض بشغف ودون ملل ، ويصدق كل ما يدور من حوله، متقبلا تفاعل العرائس والبشر في العرض ،مع تنوع الصورة المسرحية من خلال 13 ( لوحة ) مشهدا ، متغيرة الديكورات ولا يتكرر ظهور الديكور مرة أخرى سوى الغرفة فوق السطوح ، وكوبري الحين ، عارضا أيضا للشق قديما وحديثا ، مع التركيز على مشهد بعينه عند التكرار ، مما أتاح للمخرج سهولة التنقل بين الزمان والمكان بالحدث بحرفية فنية عالية ،وثراءها اللوني والإيحائي الفاعل المعبق دراميا ، مع حرفية الخروج من المشهد بديكوراته إلى مشهد آخر ، والعودة فيما بعد لذات المشهد مع ما تقتضيه الأحداث ، شق الثعبان .. قديماً .. في وقت الاحتلال الإنجليزي لمصر، والمقهى على اليمين والوكالة التجارية على اليسار ، والحارة الضيقة ، والبيوت المتلاصقة بالمشربيات ، بألوانها الداكنة ، والشبابيك المتلاصقة ، باستخدام المقاطع الديكورية الرأسية على مستويات فيه تتابع الرؤية ، بوعي وإدراك للمنظور الهندسي للمنظر المسرحي ، الحارة المتسعة عند مدخلها ، والتي يقل اتساعها كلما نظرنا للداخل ، غرزة تحت كوبري الحسين .. في القرن 21 بالرصيف ، والشارع الضيق التي تمر منه السيارات ( عرائس )، ثم التركيز على جانب من الشق القديم تحت شباك زبيدة ،حجرة عبد الله فوق سطوح منزل بالشق حديثا ، المراكب وشط النيل ، شرفة وسور القصر مقر الحزب الجديد ، مكان منعزل ( خرابة ) ، تحت كوبري الحسين .والانتقال بين المشاهد بتقنية المونتاج السينمائي في سلاسة وسرعة وحرفية ، ومشاهد الفلاش باك ( الاسترجاع ) ، إما بتغيير المشهد في الخلفية مع وجود البطل ، أو بتغيير الإضاءة ، أو بأغنية ، أو بانتقال الأداء التمثيلي على الجناح الأيسر لمقدمة المسرح أو يمينها ، حيث توجد الفرقة الموسيقية والكورال ، أما إكسسوارات العرض المستمدة من مفردات البيئة الشعبية وأدواتها ، الهون ، الشيشة السبت ، الصفيحة كراسي المقهى الأباريق الحلل ، المبخرة ، قربة السقا ، والإضاءة واكبت مشاهد العرض متنوعة اللون والشدة ، من مختلف تقنيات استخدامها المباشر ، وغير المباشر ، ومن أعلى لأسفل ، وتوزيعها حسب بؤرة أحداث كل مشاهد طبقا للضرورة الدرامية ، الأزياء المتناسبة وكل شخصية سواء من العرائس أو البشر وانسجامها مع ملابس باقي المشتركين في العرض ، وخاصة ملابس عبده جاكيت كاكى قديم عليه سدادات زجاجات المياه الغازية من مختلف الأنواع ، صافرته بيده ، ممسكا بخيزرانة في يده مثل مجاذيب حي الحسين ، أو بعض ممن يجوبون شوارع القاهرة القديمة وقد ذهب عقلهم ، مع تنوع رائع وثراء في عرض الشخصيات الشيوخ ، أهل الريف ، الراقصة ، المهمشين من أولاد البلد .
الموسيقى والألحان التي صاغها الملحن ذو الحس الوطني الشعبي الشجي محمد عزت في تيمات ( أنماط ) شعبية بحتة ، قديمة وحديثة ،بأداء حي مباشر وليست مسجلة ، يسهل ترديدها لكونها مألوفة للأذن، متوافقة والوجدان الشعبي ، موزعة على ال100 دقيقة مدة العرض الشيق ، 24 أغنية بين طويلة وقصيرة ، فردية ، وثنائية ( دويتو ) ، وجماعية ، وكلام مغنى ريستاتيف ، تحمل أيضا في طياتها الروح المصرية الميالة للسخرية والتهكم مثل أغنية حزب الأمل ،أغنية خدوا من براحنا ، وأغنية كل يوم بأموت ،وأغنية يح ، تناسبت والجو العام والمكان والحدث ، مع أصوات المؤدين وخاصة فاطمة محمد على بصوتها الذي يمزج بين صوتي المطربتين حورية حسن وسعاد مكاوي، فأعطاها ووهبها نبرة شعبية أصلية ، وأحمد حلاوة بأدائه الصادق لأغاني العرض ، والمقاطع الغنائية الخاصة به حملت بين طياتها عبق الصبر والإخلاص ومطلق الحب للوطن ، و مع أشعار محمود جمعة التي نبعت من صميم العمل ، شكلت الموسيقى والغناء بطانة وخلفية للعمل استحوذت به على مشاعر الجمهور ، مثل أغنية ماسح الأحذية والتي تقول كلماتها :مساح جزم .. وأنا الممسوح / والدنيا سروح / ألطف يا لطيف / أحلامي راحت قدامى / مع أيامي سرقها من عمري حرامى / له سلطة مخيف ، والأغنية آلتي يوجهها للفرقاء من العرب وتقول كلماتها : منشنين على صدرنا /وإحنا هنا / ومفروطين من بعضنا /وإحنا هنا/ وأيدينا خدها مننا/عدونا وبخطرنا /ضربنا طولنا في عرضنا / وقع لوحده وسطنا / خدوه هناك الرقاصات /في عز ..عز ..حزننا /أتهز بيه عود الوطن /خدوا منى حلمي وقدرتي / وعجزوني.
من أجمل المشاهد مشهد الولادة والسبوع ، ومشهد اللقاء برئيس الحزب ، ولاعب العرائس يضغط على دمية الحمار الذي يرتدى ملابس البطل ، ومشهد المجذوب في الختام وهو يردد جنرال .. بكباشي .. شاويش.. كله منه عبده الغلبان.
العرض شهد تجاوبا جماهيريا عاليا من المتفرجين لأنه لمس العصب المكشوف ، وعرض لهموم الناس ، وتفجرت فيه طاقات فنية ، ووظف رسالة المسرح فيه كأحسن ما ينبغى ، كاشفا في وضوح وجلاء عن طاقات الفنانين المشاركين فيه ، وعمق الموهبة المصقولة بالخبرة والدراسة لمؤلف ومخرج العرض د.أحمد حلاوة، الذي حقق إيقاعا عاما رائعا للعرض حين أجاد اختيار ممثليه كل في دوره ، ووظف إمكاناتهم خير توظيف ، وحتى العرائس على مختلف أنواعها أجاد تصميمها وأشكالها وأنماطها التقليدية والكوميدية ، في رحاب سينوغرافيا رائعة ساهمت في تعميق التفاعل مع العرض ، وألحان وأشعار أغان بثت الدفء والتجاوب القلبي والعقلي في جمهور العرض.