باب الحارة
نساء ساذجات ومجتمع مرعوب
توفيق العيسى- رام الله - فلسطين
منذ انتصاف شهر رمضان، باتت قضية طلاق سعاد خانم زوجة الحكيم أبو عصام تشغل الشارع وأصبحت مثارا للجدل والتحليل، وما استعجال الكثير من الصائمين لأذان المغرب إلا لمتابعة مجريات القضية وتطورها على صعيد حارة الضبع كافة.
أما عن سبب المتابعة لهذا المسلسل على مدى سنتين بجزئيه الأول والثاني فتعود إلى المستوى الفني المميز الذي قدم به العمل وأبطاله المميزين والذي كان عامل جذب للمشاهد، حتى أصبح باب الحارة وعلى مدى سنتين المسلسل الأكثر متابعة وتفوقا.
وبغض النظر عن مقدمة هذا المقال إلا أننا نرى بعض الأمور الواجب الحديث عنها وعدم إغلاق باب حارتنا عليها، ففتح باب الحارة على مصراعيه لا يعني القبول بكل ما وراء الباب من تقاليد وعادات وأفكار ولكن لمراجعة هذه العادات ونقدها وعدم الوقوف عندها كمسلمات لا يجب الخوض فيها بحجة أنها تراث وتاريخ وصبغة قومية ودينية أو خصوصية وطنية.
فتعالوا نفتح هذا الباب (العثماني) على مصراعيه، ونتجول في أزقة الحارة، سنلاحظ أو سنسمع كلمات محددة ومكررة تفوح من داخل بيوت الحارة يصاحبها روائح المطبخ الشامي، أما هذه الكلمات والتي تكررت على امتداد جزئي المسلسل فهي ( يامو دلال اعملي قهوة) هذا صوت (ست الحارة) سعاد خانم( يامو لطفية اجلي الجليات) هل عرفتم صوت من هذا ؟؟ فريال خانم ( اسكبي الأكل، حضري الفطور، اشطفي البيت، اغسلي الغسيلات، يو يبعتلك حمى وداء النئرزان يا حق)- طبعا الحمى والنئرزان أمراض وليست أكلات شامية...-
وبهذا يكون المخرج بسام الملا قد اختزل دور المرأة في الطبخ والنفخ والخلف والعلف، فهل يعقل أن المرأة في هذه الحارة لم يشغلها أي هم أو أية قضية؟ وهل يعقل أيضا أنها وحتى لو لم تكن تملك من أمرها شيئا ألم تفكر للحظة بعبثية الحياة التي تحياها؟ ألم تفكر بالتغيير ولو قليلا؟ وإذا كانت المرأة العربية تقولبت في هذا الدور لفترات طويلة وما زال البعض حتى يومنا هذا ينظر و يجتهد ويفكر في إعادتها لهذا الدور مجددا، إلا أن باب الحارة لم يقل الحقيقة كاملة.
فأحداث المسلسل مبنية على فترة زمنية ممتدة من العشرينيات وحتى أواسط الأربعينيات وهي فترة الاحتلال الفرنسي حيث استقلت سوريا في العام 1946، وهي ذات الفترة التي بدأت المرأة السورية في بلورة شخصيتها النضالية والاجتماعية وقد لا أبالغ إن كانت حجتي بعض روايات حنا مينا، التي لعبت فيها المرأة دورا رئيسا في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وهنا تتناقض رواية بسام الملا مع رواية حنا مينا حول المرأة السورية وأدوارها، فبسام الملا يعرض لنا شخصيات نسائية لا هم لها سوى الطبخ والنميمة والأحقاد، وحنا مينا يعرض شخصيات أخرى مثل (غنوش الزرقا) بطلة رواية حارة الشحادين التي كانت إحدى قيادات المقاومة والتي كان الثوار والمتمردون يأخذون برأيها ، وشخصية الأم في رواية بقايا صور، المتحدية بفطرتها وغريزتها الظلم الاجتماعي وإهمال الزوج الماجن تعس الحظ للحفاظ على أسرتها، ناهيك عن أعمال درامية سورية تحدثت عن ذات الفترة الزمنية وكان للمرأة دورا غير الذي رسمه بسام الملا، مثل حمام القيشاني، ومسلسل أبو كامل للفنان أسعد فضة، ومنها ما يعرض حاليا كمسلسل حسيبة للفنانة أمل عرفة.
ويمضي بنا المسلسل إلى ما هو اخطر من ذلك، فليست الأعمال المنزلية ذات أهمية مقابل الصراع النسائي المحتدم بين نساء الحارة والذي يتجلى في معظمه على المفاخرة بالنظافة وحسن استقبال الضيوف، وكلما احتدم هذا الصراع نأى الرجال بأنفسهم عنه باعتباره شيئا تافها لا قيمة له و(حكي نسوان) (بسم البدن) وهذا ترسيخ لموروث شعبي يقضي ب(بقلة عقل المرأة) ولو سلمنا لرواية المخرج بأن هذا هو صراع المرأة وهذه هي عقليتها لكان الوصف المناسب هو ( قلة العقل) فعلا، فقد استخدم التسلسل الدرامي لخدمة هذه الفكرة من خلال عرض مشاكل سطحية وتافهة دون غيرها للوصول إلى هذه القناعة، وموروث أخر تم ترسيخه أيضا، وهو أن المرأة مصدر الإزعاج والمشاكل والشر، فلولا فريال وفوزية ما تطلقت سعاد وما انفضح أبو عصام ( المعتر) ، فسلطة الرجل على المرأة هي التي تحد من هذه المشاكل، وهنا قدم لنا العمل ثلاث شخصيات نسائية لعبن دورا هاما في تأجيج الخلافات ونقلها إلى الحارة كافة، فريال وفوزية والداية، فريال أرملة لا زوج لها وفوزية زوجة أبو بدر المهزوز والجبان الذي لا يجرؤ على مخالفة زوجته، والداية التي لا نعرف إن كانت مطلقة أو أرملة أو غير متزوجة أصلا، بالمحصلة الثلاث نساء لا رجل يحكمهن لذلك كنا الأقدر على إشاعة الفتن والضغينة.
وتعتبر المرأة في فكر هذه الحارة مصدرا للقلق والرعب، فالرجل غير قادر على التعامل مع المرأة بوصفها عورة، لا يجرؤ على محادثتها ولا النظر إليها حتى من باب المعاملة الإنسانية، وإذا حدث وكان التعامل فهو بكثير من التأفف والتململ، فعصبية الرجل (الحر) و(الزكرت) لا تطيق هذا التعامل.
فالخوف المبرر بالدين والعادات أنتج مجتمعا مرعوبا وهشا، يسقط أمام أول محنة، فلا عجب إذن أن رجال ونساء الحارة لم يتحدثوا ولو سرا فيما بينهم عن الاحتلال الفرنسي وعن مقاومته وكأن الاحتلال في نيكاراغوا، فمسألة الاحتلال ومقاومته كانت نخبوية مقتصرة على أبو شهاب وأبو عصام الثريين فقط، ولا علاقة للآخرين بها، أما شكل المقاومة التي يطرحها العمل فهي بمثابة ( فزعة عرب) لا تستند على التخطيط ولا إلى التنظيم وهذا يتناقض مع تاريخ المقاومة السورية وتاريخ أحزابها.