"باب الحارة" والرجال الحق
"باب الحارة" والرجال الحق!
سحر المصري
طرابلس لبنان
نعم.. سيدي وتاج راسي.. ويأمر ابن عمي عليّ أمر..
كلمات فتّقت عقدة الذكورة عند الرجال الذين تابعوا المسلسل السوري "باب الحارة" وتمنّوا لو عاشوا تلك الحقبة حيث كانت المرأة تؤمَر فتُطاع وتركن في البيت لإنجاز الواجبات "الأنثوية" المتعارَف عليها.. دون بلادة أو تأفّف أو تذمّر..
وللرجال حقّ في أن يحنّوا إلى تلك الأيام فقد تمادت النساء اليوم في مطالبتهنّ للمساواة والخروج والعمل واثبات الذات، كل ذلك على حساب البيت ورعاية الأطفال.. وليس هذا موضوعنا الآن وإنما زاويتنا تختلف بعض الشيء..
فكما أن الرجال قد تاقوا لتلك النوعيات من النساء فكذا النساء قد تلهّفت لتلك الفئة من الرجال التي عرضها المسلسل وباتت تبكي فقدان خصائص غابت عن رجال اليوم..
حقيقةً ليس من عادتي أن أتابع المسلسلات العربية وخاصة تلك التي تطول حلقاتها من دون حوادث مهمة تُذكَر في كل حلقة وإنما تم تمطيطها لتناسب طول شهر فضيل أو موسم للفرقعة والترف الفني لعرضها على من يملك الوقت والقدرة على تحمّل حضور مسلسل تتخلله الدعايات نفسها في أكثر من عشر انقطاعات يحتاج المشاهِد بعضها الى حبة تهدئة أعصاب وحلف يمين أن لا يقرب كل السلع التي يُروَّج لها في تلك الدعايات من شدة قهره وضيقه..
وهذا المسلسل تابعته –قليلاً- كآلاف غيري شدّتهم القصة والحنين إلى تلك الأجواء الشامية.. وسأتحدّث في خواطري هذه عن الفئة من النساء التي تابعت المسلسل لأنها شُغِفَت بشخصيات رجاله والتي افتقدتها على أرض الواقع..
وقبل استعراض بعض هذه المميزات لرجال المسلسل استوقفتني حقيقة طريقة عيش نسائهم والتي قد يرفضها الكثيرون ممّن ينادون بحرية وكرامة وحضور المرأة..
ولئن كنتُ من أولئك اللواتي لا يستطعن تصوّر مهمّة المرأة في البيت فقط لخدمة من فيه إلا أنني تمنيت لوهلة أن أكون واحدة من تلك النسوة التي يكتنزها أبوها لتكون درّة مكنونة لا يراها الا زوجها فتُبقي على لمعانها ورونقها كزهرة في الروض لا تنشر عبيرها الا لمن يستحقها ويحلّ لها!
ان المسلسل يعرض حقبة تاريخية معيّنة تميّزت بشكل أساس بدور الرجل المعيل ودور المرأة الراعية لبيت زوجها..
فالمرأة منقبة لا يراها الرجال ولا ترى الرجال وهذا من شأنه أن يُبقي القلب طاهراً فكم فتك الاختلاط بقلوب البنات.. فعاشت في الخيال قصصاً وهمية يحسبها الظمآن ماءاً حتى اذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الألم عنده!
والمرأة مطيعة لأهلها واخوانها وزوجها من بعدهم.. فيأتي الزوج من عمله ليجد قلباً ساكناً يحويه وكل ما يحتاجه في البيت قد عملت المرأة على تحقيقه له.. فلا عمل لها يشتّتها عن بيتها فتعود مسرعة لتقوم بأعباء البيت الزوجي وتهرول لتُنهي ما عليها ولعلها تسهر ليلاً لتخفّف من واجبات النهار فتكون حياتها عبارة عن سعي متواصل وعمل مكوكي ما بين عملها وبيتها ومسؤولياتها والتي غالباً ما تكون على حساب أعصابها وراحتها وعباداتها..
والمرأة راضية بما قسم لها ربها جل وعلا.. فالذي يختاره لها أهلها ترضى بالعيش معه على سنّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. وتكون متطلباتها متواضعة فلا ترهقه وتكلفه ما لا يطيق.. ولا ترفض الذين يتقدّمون لخطبتها بسبب وبلا سبب.. فهذا طويل وذاك قصير وهذا أقرع وهذا أصلع! فهذه لم ترَ الا محارمها ثم زوجها الذي ترضى به وتحاول اسعاده بكل ما أوتِيَت من طاقة ليرضى عنها.. فقد تعلّمت أن جنّة المرأة رضا زوجها..
والمرأة مطيعة لأهلها فمهما فعلت أمها بها تبقى تحت امرتها وتصاحبها في الدنيا معروفا.. وتحتسب إن أوقعت الأم ظلماً عليها.. أما إن أخطأت البنت فلا يطمئن لها بال حتى يكتحل قلبها برضا أهلها..
أقرّ أنني – كالكثيرات – لا نستطيع أن نتقبّل كل هذا في زمننا الذي نعيش وهذا أكثر من طبيعي لأننا لم نعتد على تلك الأمور بل نشأنا في مجتمع منفتح أعطى كل الحرية للمرأة وأخرجها من دارها وساواها بالرجل فتعلّمت وسافرت وأثبتت وجودها في ميادينٍ شتّى حتى أنها بدأت تتململ من قوامة الرجل عليها..
ما سطّرته هنا هو ليس محاولة الانقلاب على مجتمعنا والعودة الى تلك الحقبة ولكنها قراءة نسائية لمسلسل عربي من امرأة تحمل بين جوانحها ثورة على زينة الحضارة التي تعيش فيها فحنّت الى عشٍّ صغير أو بيتٍ شامي رائع كما في الحارة تحيا فيه مع رجل بحق يحميها ويهتم بها ويصونها ويؤمّن لها ما تريد ويحفظ لها كرامتها دون منٍّ أو أذىً!
أما لِم أقول رجل بحق؟ فلأن ما يعرضه المسلسل من نماذج ذكورية يدغدغ أنوثة كل امرأة فقدت لمعاني حثّ عليها الاسلام كالنخوة والشهامة والغيرة والشجاعة والحميّة وغيرها والتي لم تعد موجودة في الكثير ممن يدّعون الرجولة!
فأين نخوة أبي عصام والفران حين وقف بشير بباب البيت يعطي الخبز لجميلة دون أن يدير بنظره الى الجهة الأُخرى حتى لا يلمح أصابع يدها وهي تأخذ الخبز منه؟
وأين غيرة الحكيم على أرملة المحمصاني وحرصه على حمايتها وحفظه السر ولو على حساب صيته في الحارة؟
وأين جرأة معتز في الحق؟ وأين شجاعة عبدو وثوار الغوطة؟ وأين طاعة ابراهيم لأبيه ولو في أمر يخالف هواه ومعتقده؟
أين رجولة أبي شهاب؟ ذاك الأسد الجسور الذي لا يهاب؟
وأين هبّة "الرجال" حين دعا صوت الحمية لفك العقيد من أسر الانكليز؟
في المشهد الأخير حين يعتلي الرجال صهوة الجياد للهجوم على المحتل لم أتمالك دموعي من الانهمار.. وتخيلت لو شبّ رجال أمّتي الذي يتعدّى تعدادهم الملايين وهبّوا لتحرير الأرض والعرض مستمسكين بالعروة الوثقى متوكلين على القوي الجبار غير آبهين بنار الظلم والخيانة فما سيكون حال فلسطين؟ والعراق؟ وسائر الأراضي المغتصبة إن من محتل الخارج أو من خائني الداخل؟!!
جال بعينَيْ صور الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني وحكام الأنظمة العميلة الخائنة من لهم؟ ومن سيستنفر لنجدتهم من العرب؟
أليس من حقي – كغيري من النساء – أن يكون لنا وقفة متابعة مع هذا المسلسل لنشمّ نسيم رجولة افتقدناها في زمن الأشباه – الا من رحم ربي- وقليل ما هم؟!
أرجو أن لا يعتبر القارئ كلامي هذا انتقاصاً من قدر الرجال فيسلّط عليّ سيوف الحرب.. فما زلت أؤمن بوجود الرجال الحقيقيين.. ولكني أيضاً أؤمن أنهم قلائل.. وأن الأغلبية انجرفوا في تيار الحضارة الزائفة واستسلموا للغزو الفكري الذي هدّم القِيَم وانبهروا بأشعة العولمة الزائفة..
فمتى يتململ المارد ويعي الناس ما يُكاد لهم.. ليعود كل امرءٍ منا يستوي على عرشه ويتمتع بمميزاته وخصائص جنسه.. حينها فقط يفرح الرجال بكلمات باتوا يحلموا بها "أمرك سيد راسي" ولعلي يومها أول من تقولها لرجلٍ بحق!