منشد الشارقة ـ 2
علي الرشيد
بداية لا بد من الاعتراف أولا بأن اهتمام الجماعات الإسلامية التي تعبر عن تيار الصحوة الإسلامية المعاصر بالفن الإسلامي الراقي، لاسيما المسرح والسينما والمسلسلات التلفزيونية منعدم تماما أو يكاد لا يذكر، وكل ما صدر من أعمال جليلة ضمن هذا المجال في السنوات أو العقود الثلاثة الأخيرة كان بمساعي مؤسسات إعلامية وفنية خاصة أو بجهود فردية لبعض المنتجين مثل بعض الأعمال الدرامية التلفازية السورية " كليالي الصالحية" ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ التي أعادت الاعتبار للقيم والعادات الحميدة الأصيلة لمجتمعاتنا، أو الأفلام التاريخية العالمية التي أخرجها المخرج المرحوم مصطفى العقاد : "الرسالة" و"عمر المختار" وغيرهما.
ويتضح أن التيار الإسلامي لا موقف له مسبقاً من الأعمال الفنية التي تبتعد عن الإسفاف والقيم الهابطة في مجالات المسرح، السينما، الأعمال التلفزيونية الدرامية .. بدليل أنه أقبل وتفاعل مع الكثير من النماذج التي هي على شاكلة ما تمت الإشارة إليه سابقا، ولكن المشكلة في الغفلة والتقصير عن إعطاء هذه المجالات حقها رغم جماهيرتها الكبيرة، خصوصا بعد عهد الفضائيات التي فرضت نفسها على كل بيت، والاكتفاء حتى الآن بلعن ظلام الأعمال الفنية المبتذلة.
الاستثناء الوحيد الذي يمكن أن يقال في هذا الصدد يتعلق بفن الإنشاد، أو النشيد الإسلامي كبديل للغناء السائد، حيث تم قطع خطوات فيه منذ منتصف السبعينيات من القرن الفائت وحتى الآن، وإن كانت هذه المساعي في رأيي ما تزال خجولة ومتواضعة ولا تقارن بإنتاج الأغاني المتعارف عليها.
ويمكن الإشارة إلى أهم الخطوات التي قطعها النشيد الإسلامي حتى الآن والتي تحسب له وذلك على النحو التالي:
ـ إنتاج كمي يتمثل بعدد سنوي معقول من الإصدارات التي ترفد المكتبة التي تراكمت في هذا المجال الفني بدون انقطاع.
ـ تأسيس الفرق المتخصصة في هذا الفن، ودخول أصوات جديدة إلى هذه الساحة.
ـ إقامة مهرجانات سنوية أو دورية في عدد من الدول العربية والإسلامية لهذا الفن الأصيل.
ـ التركيز على الكلمة الهادفة.
ـ الاهتمام بتقديم الأنشودة المؤداة بالمظهر اللائق بدءا من إطلالة المنشد ومرورا بديكور مكان العرض أو الاستوديو، أو المؤثرات الأخرى، وانتهاء بأغلفة الإصدارات، بعيدا عن البساطة التي قد تصل حد (الدروشة) سابقا.
ـ التوجه لإنتاج الفيديو كليبات في السنوات الخمس الأخيرة.
ـ مواقع الكترونية مثل موقع (إنشاد كم)، ومواقع المنشدين وهي كثيرة.
ـ حصولها على موطء قدم جيد، ومساحة معقولة في عدد من القنوات التلفزيونية الإسلامية، حيث تبث الأناشيد المصورة، وتخصص بعض البرامج عن النشيد، وتجاوز الأمر ذلك لبث هذه الأناشيد على قنوات عامة مثل قناة الشارقة الفضائية، وسبيس تون للأطفال، (أناشيد هادفة للأطفال لشركة سنا على سبيل المثال لا الحصر)، بل وصل الأمر حد تأسيس قنوات خاصة بالنشيد وإن كانت ما تزال متواضعة حتى الآن كقناة (شدا) التابعة لقناة المجد السعودية.
ـ الجمهور الكبير لهذا الفن، وللتدليل على ذلك يمكن رصد حجم المبيعات من هذه الأشرطة، وحجم الإقبال على المهرجانات الإنشادية التي تقام من حين لآخر، والمتابعة الكبيرة للبرامج التي تعنى بهذا الجانب، حيث يتم التصويت للمشاركين فيها من المنشدين من قبل الجمهور.
ـ المنخرطون في سلك هذا الفن كلهم أو جلهم من الطاقات الشابة.
لكن بالمقابل فإن هذا الفن مازال يعاني من عدة إشكالات في جوانب الأداء والإنتاج والتوزيع ومن أهم الملاحظات التي يمكن أن تسجل في هذا المقام :
ـ إنه يخاطب تيار الصحوة الإسلامية في الأغلب الأعم، وبالتالي فهو متقوقع في هذه الدائرة، باستثناءات قليلة كأناشيد كالمنشد العالمي البريطاني المسلم سامي يوسف التي حظيت بقبول جماهيري عام، والأصل في هذا النشيد أن يخاطب الناس كلهم والعالم أجمع لأن رسالة الإسلام إنسانية عالمية.
ـ الموضوعات التي يطرحها في الغالب تنحصر في مجالات معينة (القضايا الجهادية، الابتهالات، المدائح النبوية، الأعراس والزفاف، التحديات الإسلامية المعاصرة ..) ورغم أهمية هذه الموضوعات فإنه لابد أن يلامس النشيد كل الاهتمامات الإنسانية ويعالج كل قضايا الناس.
ـ غياب الاحترافية والتفرغ لهذا العمل إلا ما ندر.
ـ قلة خبرة ودراية المنشدين في المجال الموسيقي، وعلم الأنغام والمقامات، وكثير من ألحان أناشيدهم ارتجالية أو تقليد لأناشيد سابقة، وقلة المقتدرين على التلحين في هذا المجال.
ـ ندرة الأعمال الإبداعية ضمن كم الإصدارات المنتج، وغلبة النفس التجاري على كثير مما يوزع في الأسواق.
ـ شركات الإنتاج والتوزيع الموجودة على الساحة في أغلبها شركات صغيرة، وكلها مؤسسات قُطرية عاجزة عن إنتاج أعمال كبرى؛ فغاية طموحها شريط كاسيت توزعه، ولا مجال للمقارنة بينها وبين شركات إنتاج الأغاني الكبيرة كـ "روتانا" مثلا، والتي بإمكاناتها تسوق المغنين الشباب، وتحتكر إصداراتهم لعدد من السنين.
ـ جهل أو تقصير المشتغلين بالفن الإسلامي بفنون صناعة النجم وتوفير الدعاية اللازمة لأعمالهم، وضعف قدراتهم التسويقية لبضاعتهم، رغم وجود طاقات إبداعية متميزة وخامات صوتية لا تقل عما هو موجود في سوق الفن والغناء عموما.
ـ ندرة أعمال الفيديو كليب للمنشدين حتى الآن رغم أنها صارت البضاعة الأكثر رواجا في المجال الغنائي اليوم.
إن برنامج (منشد الشارقة 2) الذي يعرض للسنة الثانية على التوالي من خلال قناة الشارقة الفضائية المعروفة ببرامجها الجادة والممتعة، والذي حقق نجاحا جماهيريا كبيرا، يعد تظاهرة مهمة للفن الإسلامي، وقيمة مضافة على طريق تطوير أداء وإنتاج النشيد الإسلامي في منطقتنا العربية، تقوم فكرة البرنامج على التنافس بين 15 منشدا اختيروا من 14 بلدا عربيا، على يد لجنة فنية من بين مئات المتقدمين للمشاركة بالبرنامج، ليتم من خلال التصفيات على مدار شهر رمضان اختيار أفضل المنشدين ويسهم في الاختيار لجنة محكمة متخصصة وتصويت الجمهور، ويحسب لهذا البرنامج غير المسبوق في فكرته ما يلي:
ـ تقديم هذا الفن الجميل للناس جميع الناس من خلال قدرة البث الفضائي المباشر بقوالب متميزة بدلا من حصره في زوايا معينة، أو قصره على شرائح فكرية معينة.
ـ إعادة الاعتبار للفن الهادف، وإظهار الجماهيرية الواسعة التي يحظى بها من خلال حضور فعالياته في المسارح المغلقة أو المفتوحة، أو من خلال متابعي البرنامج، والتصويت لمنشديه .
ـ الكشف عن خامات صوتية شبابية غاية في الروعة، وإن شئتم فاسمعوا لمنشدي الأردن والمغرب والسودان والجزائر والعراق ..
ـ التأكيد من خلال النقد الفني العلمي الذي تقدمه لجنة التحكيم بعد كل إنشاد للمتسابقين والتصفيات التي تتم تباعا وبصورة أسبوعية، على أهمية الأداء الفني المتميز وفق ضوابط الألحان المعروفة ـ بعيدا عن الارتجال ـ، وعلى أهمية اختيار الكلمات الهادفة، فضلا عن حضور المنشد على المسرح، وتفاعله مع نصوصه المقدمة ومع الجمهور.
ـ يظهر البرنامج الدور المطلوب من وسائل الإعلام والمؤسسات التجارية العربية لدعم الفنون الراقية، فقناة الشارقة الفضائية لا تكتفي بتقديم هذا البرنامج فقط، بل تقوم بدعم المنشدين من خلال تبني إنتاج ألبوماتهم الفنية على مدار العام، وتقوم بالدعاية اللازمة لها، وعرض هذه الأعمال من خلال ساعات بثها.
ثمة أشياء أخرى تحسب أيضا لبرنامج (منشد الشارقة) لا يتسع المقام لذكرها في هذه العجالة، وحتى لا يكون الأمر من قبيل الدعاية المجانية الرخيصة لهذا العمل، أو الإطناب في مديحه، أو المبالغة في الإعجاب به والثناء عليه، فإنني أدعو كل محبي الفن والإنشاد والطرب أن يتابعوه مساء كل جمعة من أمسيات هذا الشهر الفضيل، ليدلوا بآرائهم في مستواه، ويشاركوا في تقويمه، جمعا بين المتعة والفائدة وترويح القلوب.